الفصل العاشر

الخداع

تخيل أنك رئيس تحرير تنفيذي لصحيفة يومية من صحف العاصمة. يعكف مراسل مخضرم في الطاقم الذي يعمل معك على دراسة مستفيضة عن نظام السجون في الولايات المتحدة، وقد أمضى شهورًا في التحري عن السجون وأماكن الاحتجاز، يتفقد العشرات منها، ويجري مقابلات مع العديد من السجناء وخبراء في النظام العقابي. ومع ذلك لا يزال يعتقد أنه غير قادر بالفعل على وصف الأثر السيكُولُوجِي الناجم عن التواجد بداخل السجون وأماكن الاحتجاز، من مجرد الحديث مع السجناء. فهو يريد أن ينتحل هو نفسه صفة مجرم، ويقضي بضعة أيام في إحدى المؤسسات العقابية التابعة للولاية؛ ليكتشف الحال من الداخل. هذا، بالطبع، سيعني أنه سيتعين عليه أن يخدع بعض الناس؛ لأنه إذا كان مأمور السجن يعرف من يكون فسيلقى معاملة خاصة، وإذا كان السجناء الآخرون يعرفون من يكون فقد تصبح حياته في خطر عظيم. غير أن المراسل يعتقد أنه يستطيع أن يُرتب لأن يُحْبَس دون أن يعرف الأشخاص الموجودون بالسجن أنه صحفي في حقيقة الأمر.

هل توافق على أن يتظاهر مراسلك بأنه مجرم لبضعة أيام، بافتراض أن سلامته يمكن أن تكون مكفولة؟ هل يساورك القلق لأنه لن يكشف هويته كمراسل؟ هل يزعجك أن الناس سيفترضون أنهم يجرون أحاديث خاصة مع سجين زميل بينما في الحقيقة تُجرَى معهم مقابلات من أجل موضوع صحفي؟ هل ستبرر المعلومات التي سيعرفها في السجن كل الخداع الذي يتطلبه إنجاز مخططه؟

تلك هي أشكال المشكلات التي جابهت محرري صحيفة «ذا واشنطن بوست» في عام ١٩٧١م عندما أراد بن إتش باجديكيان دخول مؤسسة هنتينجدون الإصلاحية التابعة لولاية بنسلفانيا كسجين. قرر محرره أن يسمح له بأن يُنفذ الفكرة. رتَّب باجديكيان لحبسه من خلال مكتب المدعي العام للولاية، وانتحل هوية زائفة واسمًا زائفًا وتاريخًا زائفًا. لم يعرف مأمور السجن ولا زملاء باجديكيان من السجناء بهويته الحقيقية قبل مرور خمسة أسابيع من إطلاق سراحه حينما قرءوا عن تجربته بداخل هنتينجدون في الجزء الثاني من سلسلة من ثمانية أجزاء سُميت «عار السجون».1
عندما التقى باجديكيان مصادفةً بمأمور السجن في مؤتمر عن السجون بعد شهور عديدة، اتهمه مأمور السجن «بأنه تصرف تصرفًا لا أخلاقيًّا بقدومه إلى سجنه في ظل ادعاءات كاذبة». قال باجديكيان إنه حاول أن يوضح له الأمر، لكن مأمور السجن كان غاضبًا غضبًا شديدًا؛ «فلا يود أي مأمور سجن أو موظف إداري كبير أن يتعرض للتجسس من أجل المنفعة العامة.» على حد قول باجديكيان.2
ومن العجيب أن المحرر الذي وافق على انتحال باجديكيان لشخصية مجرم مُدانٍ بدأ يعيد النظر في استخدام صحيفته للخداع، وتوصل إلى نتيجة تشبه كثيرًا النتيجة التي توصل إليها مأمور السجن: لم يعد يمكنه تبرير استخدام «ادعاءات كاذبة» للحصول على موضوع صحفي. المحرر الذي كان باجديكيان يعمل معه هو بنجامين برادلي، الذي لعب دورًا رئيسيًّا في تحقيق ووترجيت الذي قامت به صحيفة «ذا واشنطن بوست». بدأ برادلي يعتقد أنه إذا كانت وسائل الإعلام الإخباري ستنتقد الناس بسبب الكذب واستخدام حيل قذرة، فينبغي أيضًا على المراسلين ألا يكذبوا ويخدعوا الناس.3 تزامن تغير موقف برادلي مع تزايد الاعتقاد وسط الصحفيين العاملين بالصحف بأن النقل الأمين للأخبار نادرًا ما يحتاج إلى أن يبدأ بانعدام الأمانة.
في المقابل، ومع بدء الصحف في القيام بتراجع واسع النطاق عن استخدام أساليب الخداع في ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الأخبار التليفزيونية في استخدامها باستمتاع؛ فما زال ممكنًا أن تُثير الجوانب الأخلاقية للخداع جدلًا حادًّا في أوساط الصحفيين المتحلين بالجدية ووسط الجمهور. في أحد استطلاعات الرأي، كان الجمهور منقسمًا بالتساوي حول استخدام الكاميرات المُخفاة واستعمال عدسات الكاميرات ذات المدى الطويل للحصول على صور دون علم صاحب الشأن. إلا أن ٧١ بالمائة قالوا إنهم استنكروا عدم تقديم المراسلين لأنفسهم كمراسلين، مثلما فعل باجديكيان في السجن.4

(١) وجها الخداع

ما فعله باجديكيان عند تصويره لنفسه على أنه سجين يطلق عليه عادةً الصحافة الاستقصائية «المُتَخَفِّية». يُولِّد هذا المصطلح صورة مشوقة في أذهان الناس عن مراسلين يتظاهرون بأنهم أعضاء عصابات سرية ومجرمون. ومع ذلك، ليس كل الصحافة الاستقصائية المُتَخَفِّية تتوافق مع هذه الصورة. وحتى عندما يتظاهر الصحفيون بأنهم أفراد من الجمهور العادي، يظل دافعهم هو الحصول على خبر؛ فهم يعطون فكرة خاطئة عن نواياهم؛ فالصحافة الاستقصائية المتخفية بكل أشكالها تشتمل على خداع ما. هذا الخداع يتخذ صورتين: إيجابية وسلبية.

(١-١) الخداع السلبي

لا يتطلب الخداع السلبي أي تهيئة أو تشكيل لحيل خداعية؛ فالمراسلون الذين يستخدمون هذه المقاربة لا يقدمون أنفسهم على أنهم مراسلون فحسب. هم يدَعون الآخرين يفترضون أنهم مجرد أفراد من الجمهور. ولعل الاستخدام الأكثر اعتدالًا للخداع السلبي هو عندما لا يُبْلِغ نقاد المطاعم نُدُلهم أنهم يتعاملون مع صحفي، أو عندما يتظاهر المراسلون الذين يعملون في موضوعات استهلاكية بأنهم مستهلكون ليتحروا أمانة محلات التصليح والمتاجر الأخرى.

ثمة مثال أكثر تفصيلًا عن الخداع السلبي قدمه نيل هنري، وهو مراسل من صحيفة «ذا واشنطن بوست»؛ فقد كان يعد تقريرًا إخباريًّا في عام ١٩٨٣م عن استغلال الرجال العاطلين الذين غالبًا ما يكونون بلا مأوى في واشنطن؛ فوقف على ناصية شارع مع مجموعة منهم حتى عرض عليهم رجل في شاحنة أعمالًا في جني الخضروات في الجنوب مع وعود برواتب جيدة وأحوال معيشية حسنة. صعد إلى الشاحنة مع الآخرين، وعرَّف نفسه باسمه الحقيقي، ولكنه لم يذكر أنه كان يعمل لحساب صحيفة «ذا واشنطن بوست». ما لاقَوْه بعدما نُقِلوا بالشاحنة إلى الحقول كان عملًا مضنيًا، ومساكن عمال قذرة، ووجبات غالية الثمن تتضمن أطعمة شهية مثل آذان الخنازير. وفي بعض الأحيان، بعد يوم عمل، ما تقاضَوْه لم يكن يكفي سوى تغطية ثَمن وجباتهم ومُكث ليلة في سكن العمال.

يرى كثير من الصحفيين أن الخداع السلبي اختيار أصعب من الخداع الإيجابي. وأقر جيمس سكوَيَرز — حينما كان محرر صحيفة «شيكاجو تريبيون» — أن الخداع السلبي يمكن أن ينطوي على «احتيال مثله في ذلك مثل الكذب. ومع ذلك فقد قال: «إنني أشعر بارتياح أكبر في حالة ما إذا كان يمكنني أن أكون مخادعًا بالسكوت ولا أكذب عامدًا وأعطي بيانات مضللة عن نفسي.»5 ويتخذ المحررون في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» على ما يبدو موقفًا مماثلًا؛ إذ وافقوا على طلب المراسلة جين لي بأن تذهب لتغطية موضوع صحفي متخفيةً، إلا أنهم ذكَّروها بأنها «كانت تخضع لتعليمات صريحة بألا تقوم بأي شيء مضلل.» هذا الأمر لم يمثل لها أي مشكلة. وعندما رأى القائمون على إحدى ورش تصنيع الملابس المستغلة للعمالة بأجور بخسة امرأة شابة بدا من ملامحها أنها آسيوية، عرضوا عليها على الفور عملًا كان يتطلب ١٥ ساعة يوميًّا من العمل القاسي مع استراحة غداء مدتها ١٥ دقيقة فقط.6
لا يُبدي معظم المراسلين ارتياحًا إزاء الخداع السلبي. ووجدت مراسلة أخبار الشرطة المُحنكة ماري ميرفي التي تعمل لحساب صحيفة «ذا بورتلاند برس هيرالد» في ولاية ميَن أن أُناسًا كثيرين يتحاشَوْن المراسلين؛ لذا عندما تذهب إلى مسرح جريمة ما، فإنها غالبًا تبدأ في إجراء محادثات مع الناس دون إخبارهم عمن تكون، لكنها تستدرك قائلةً: «رغم ذلك، فإنني لن أستخدم في موضوعي الصحفي كلمةً واحدةً مما يتفوهون به قبل أن أُعرِّف نفسي، فإذا لم يرغبوا في التحدث إلى مراسل، فإنني أبحث على شخص آخر.»7

(١-٢) الخداع الإيجابي

كثيرًا ما تُروى الحكايات عن هاري رومانوف الذي كان يعمل بالصحيفة التي كانت تصدر قديمًا تحت اسم «شيكاجو أمريكان» والذي كان ينتحل شخصية ضابط شرطة أو طبيب شرعي أو حتى حاكم كي يحصل على خبر صحفي.8 ذات مرة تمكن من أن يجعل والدة السفاح ريتشارد سبيك تتحدث معه بأن قال لها إنه محامي ابنها.9 مات رومانوف في عام ١٩٧٠م، ولكن أساليبه ما زالت باقية.

كان كثيرون من الصحفيين القدامى يعرفون مراسلين ممن كانوا يجرون مكالمات من الغرفة المخصصة للصحفيين في مراكز الشرطة، ويُعَرِّفُون أنفسهم بهذه الطريقة: «مرحبًا، أنا مايك جونز، إنني أتصل من مركز الشرطة.» وغالبًا ما كانت الخدعة تفلح؛ فكان الناس يفترضون أنهم يتحدثون إلى ضابط شرطة.

ما زالت هذه الحيلة تعاود الظهور من حين لآخر. عندما خُففت التهمة الموجهة إلى متهم بالقتل من القتل العمد إلى اعتداء من الدرجة الأولى في اتفاق تفاوض لتخفيض العقوبة، أرادت مراسلة تعمل لحساب صحيفة «فاريبولت ديلي نيوز» في ولاية مينيسوتا أن تحصل على ردود أفعال أفراد أسرة القتيل، لكنها كانت تخشى أن يرفضوا التحدث إلى مراسل؛ لذا قدمت نفسها على أنها موظفة في المحكمة. افترض أحد أفراد الأسرة أنه لا بأس في الحديث بصراحة معها، وقال لها إن الاتفاق «جنوني». بعدما نُشر التقرير الصحفي في الصحيفة، قدم أفراد الأسرة احتجاجًا إلى مجلس أخبار مينيسوتا.10

واستخدم مراسلون آخرون تدابير مدروسة على نحو أوسع؛ فذات مرة طبع مراسل في صحيفة «نيوزداي» بطاقات تعريف، وجعل مراسلة أخرى تتظاهر بأنها سكرتيرته، بل إنه أعد وثائق قانونية لينتحل صفة محامٍ حتى يمكنه الحصول على معلومات عن شبكة لتجارة المخدرات في جزيرة لونج آيلاند. أراد مراسل بصحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أن يتحدث إلى رجل كان يعيش في حي سكني مُسَيَّج به نشاط للفروسية؛ لذا استأجر حصانًا ولوازم ركوب الخيل، ومر على حارس البوابة الذي لم يعترض طريقه.

في بريطانيا، يمارس بعض مشجعي كرة القدم قدرًا كبيرًا من العنف وتدميرًا للممتلكات؛ حتى إنهم يُوصفون في أنحاء أوروبا بأنهم «مثيرو الشغب في كرة القدم» و«أجلاف اللاجير» (لاجير هو شكل معروف من أشكال البيرة). ولكي يحظى مراسل يعمل لحساب شبكة «بي بي سي» من الدخول إلى هذا العالم، ادعى أنه تاجر مخدرات ورسم وشمًا يشير إلى أنه مشجع لفريق تشيلسي لكرة القدم. وأمكنه أن يحظى بدخول إحدى المستويات العليا لإحدى المجموعات التي يُطلق عليها «هيدهنترز» (وتعني صائدي الرءوس)، وهي مجموعة معروفة بهجماتها العنيفة على مشجعي فرق الخصوم. وأسفر تقريره السري عن القبض على أشخاص عديدين، من بينهم رجل — يعمل سمسارًا للأسهم بسوق الأوراق المالية ويعول أسرة — حُكِم عليه بالسجن ست سنوات.

واستعان صحفيون آخرون بوسائل تخفٍّ على نفس القدر من النجاح. عندما كان ليستر بيجوت — الفارس الإنجليزي الكبير — يمتطي جوادًا في سباق في فلوريدا عام ١٩٩٢م، سقط جواده، ملقيًا به على الأرض ومهشمًا العديد من عظامه. ومع أن موظفي المستشفى كان قد طُلِب منهم إبعاد الزوار عن الفارس لأنه كان بحاجة للراحة، فإنهم سمحوا لقس، ومجهز جنازات، وفني مختبر بالدخول إلى غرفته. لكنهم لم يكونوا الأشخاص الذين كان مظهرهم يدل عليهم؛ فقد كانوا مراسلين لصحف تابلويد بريطانية، يريدون الحصول على صور للفارس وربما حتى اقتباسٍ أو اثنين.11
الصحفيون الأمريكيون تخفَّوْا هم أيضًا في صورة موظفي مستشفى لكي يختلسوا السمع إلى حوارات لم يكن من المفترض أن يسمعوها. عندما كان يوجين روبرتس — المحرر السابق لصحيفة «ذا فيلادلفيا إنكوايرر» — يغطي واقعة قتل بصفته مراسلًا لصحيفة «ذا نيوز آند أوبزرفر» في مدينة رالي، بولاية كارولاينا الشمالية، التقط سماعة طبيب من مكتب في مستشفى، ودلف بلا مبالاة إلى داخل غرفة الطوارئ حيث كانت الشرطة تستجوب مشتبهًا به قد اعترف. بعد أعوام من الحيلة، ما زال روبرتس يعتقد أن فعلته كانت مبررةً. يقول روبرتس: «أنا لم أكذب على أحد؛ نحن لسنا ملزمين بارتداء لافتة نيون.»12
إلا أن بعض المراسلين يعتقدون أن إخبار الناس بمن تكون هو أمر مهم، إلى حد ارتداء لافتات. قال ديفيد هالبرستام — الذي نال جائزة بوليتزر على نقله للأخبار من فيتنام لحساب صحيفة «ذا نيويورك تايمز» — إنه عندما كان في فيتنام، هو وهورست فاس من وكالة «أسوشيتد برس»:
جئنا بهذه الشارات الصغيرة التي خِطناها على ستراتنا العسكرية والتي كُتِب عليها «هالبرستام، ذا نيويورك تايمز» و«فاس، أسوشيتد برس»». وبدأ غالبية المراسلين يفعلون هذا. لم نُرد لأحدهم أن يخاطبنا بناءً على أي انطباع خاطئ يتعلق بهويتنا.13
تشير الاستقصاءات إلى أن غالبية الصحفيين في الوقت الحاضر يتفقون مع هالبرستام: ٧٠ بالمائة من أولئك الذين اسْتُطلِعَت آراؤهم قالوا إن انتحال المرء صفة آخر لا يمكن تبريره مطلقًا. وزهاء نفس النسبة من الجمهور أخبروا القائمين على استطلاعات الرأي بأن لديهم نفس الإحساس.14

(٢) من نيللي بلي إلى ديان سوير

طوال قرابة ١٠٠ عام استخدم الصحفيون تنويعات من هذين النوعين من الخداع، ونادرًا ما ألقَوْا بالًا للجانب الأخلاقي منهما. عندما سأل باجديكيان برادلي عما إذا كان بإمكانه أن يتظاهر بأنه سجين، «لم يكن الجانب الأخلاقي للأمر هو الشاغل الأكبر لدى برادلي»، على حد قول باجديكيان.15
يعود تاريخ الصحافة الاستقصائية المتخفية على الأقل إلى تسعينيات القرن التاسع عشر عندما تظاهرت نيللي بلي (اسمها الحقيقي كان إليزابيث كوشران) بالجنون لتكتشف الطريقة التي كان المرضى يُعاملون بها في مصحة جزيرة بلاكويل للأمراض العقلية. وحملت مقالاتها الثلاث التي نُشرت في صحيفة «نيويورك وورلد» التي كانت تصدر قديمًا عُنوان «عشرة أيام في مأوى للمجانين».16
بلغت الصحافة الاستقصائية ذروة التخفي كوسيلة لإعداد تقاريرها في ثلاثينيات القرن الماضي، ولربما كان ذلك لأن غالبية المدن كان بها صحيفتان أو أكثر تتصارعان فيما بينها على دولارات الكساد المتناقصة. تقرير نيللي بلي الداخلي عن مصحة عقلية تكرر عام ١٩٣٣م بواسطة صحيفة «شيكاجو تايمز» التي كانت تصدر في الماضي، وهذه المرة تحت عنوان «سبعة أيام في مأوى للمجانين».17 وعندما بدأ مؤرخ تاريخ الصحافة فرانك لوثر موت نشر مختارات لأفضل القصص الخبرية في ثلاثينيات القرن العشرين، شكلت التقارير الاستقصائية السرية الأساس الذي استند عليه.18
استمرت الصحافة الاستقصائية المتخفية خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بل إن موضوعَ نيللي بلي الصحفيَّ عن مأوى المجانين كان له نسخة على منواله في عام ١٩٧٥م عندما دخل مراسل في صحيفة «كابيتال» — التي تصدر في مدينة أنابوليس — عن طريق التحايل، إلى مستشفى للأمراض العقلية في ولاية ماريلاند، وكتب عن أيامه الستة هناك.19 ومُنِحَت جوائز بوليتزر لصحيفتي «شيكاجو تريبيون» و«نيويورك ديلي نيوز» عن موضوعات صحفية استقصائية سرية في سبعينيات القرن العشرين.

(٢-١) حانة «ميراج»

بُغية اكتشاف أمر وقائع الابتزاز من قِبَل المفتشين الحكوميين للمشروعات التجارية الصغيرة المُبلغ عنها، اقتحمت صحيفة «شيكاجو صن تايمز» عالم الحانات. تظاهر المراسلان باميلا زيكمان وزاي إن سميث بأنهما زوجان غريبان عن المدينة، واشتريا حانة سمياها «ذا ميراج». وقد أفسدا عمدًا بعض أعمال السباكة والكهرباء في الحانة، كذلك بنيا مخابئ صغيرة أمكن للمصورين أن يلتقطوا منها صورًا بينما كان عشرات من مفتشي الكهرباء والمباني يطلبون رشاوى ليغضوا الطَّرْف عن العيوب. سمح سميث وزيكمان لمسئولي الولاية أن يُشَكِّلوا فريقًا خاصًّا لمراجعة الحسابات في الحانة لكشف التحايل الضريبي من قِبَل محاسبين متخصصين في الحانات والمطاعم والأعمال التجارية الأخرى ذات التعاملات النقدية.

أتاح كشف صحيفة «صن تايمز» أربعة أسابيع من الموضوعات والصور الصحفية المشوقة والمثيرة. وُجهت أصابع الاتهام إلى عشرات من مفتشي الكهرباء والمباني بأنهم يحصلون على رشاوى. اعتبر رالف أوتويل — الذي كان آنذاك محرر صحيفة «صن تايمز» — هذه التغطية أنجح تحقيق سري أجرته الصحيفة طوال ٤٠ عامًا. وقال أوتويل: «إنها وثقت شيئًا كان دومًا من الأمور المسلم بها في شيكاجو، ومع ذلك لم يكن قد وُثِّق مطلقًا من أي شخص بقدر ما فعلنا.»20 سعت كليات الصحافة خلف زيكمان وسميث لاستضافتهما كمتحدثَيْن زائرَيْن.
على الرغم من أن التغطية جذبت الانتباه في أنحاء البلاد، فإنها لم تُمكِّن صحيفة «صنت تايمز» من اقتناص جائزة بوليتزر جديدة. لماذا لم يفز عمل صحفي جريء كهذا بجائزة بوليتزر؟ كحال برادلي في صحيفة «ذا واشنطن بوست»، كانت المخاوف تتزايد لدى الكثير من المحررين بشأن الجانب الأخلاقي لاستخدام الخداع. قال يوجين سي باترسون — الذي كان عضوًا في اللجنة الاستشارية لجائزة بوليتزر في عامي ١٩٧٩م و١٩٨٢م — أن التغطية الخاصة بقضية «حانة ذا ميراج» أثارت جدلًا في اللجنة. وأوضح باترسون — الذي كان آنذاك الرئيس التنفيذي لصحيفة «سان بيترسبرج تايمز» — أنه كان ضمن أولئك الذي عارضوا منح جائزة بوليتزر إلى التغطية الخاصة بمشروع «حانة ذا ميراج»، واعتبر أن الصحافة الاستقصائية السرية «اتجاه دارج لا أود أن أراه يتلقى تشجيعًا»، وقال إنه ارتأى أن «الصحافة بمجملها تدفع ثمنًا من مصداقيتها عندما تظهر صحيفة تدعو في مقالاتها التحريرية إلى حكومة تعمل في العلن، وإلى المصارحة في العمل؛ استعدادًا لحجب الحقيقة أو إخفاء دوافعها …» قال باترسون إن الصحافة الاستقصائية المتخفية ينبغي أن تُقصر على «ظرف استثنائي يتطلب اتخاذ المحرر قرارًا يتعلق بالسياسة العامة للصحيفة.»21
عندما لم تمنح لجنة بوليتزر الجائزة لصحيفة «صن تايمز» عن موضوع حانة «ذا ميراج» في عام ١٩٧٩م، وبعد ذلك رفضت موضوعًا صحفيًّا استقصائيًّا سريًّا آخر في عام ١٩٨٢م، بدأ أغلب الصحفيين العاملين بالصحف في إعادة النظر في الجانب الأخلاقي للصحافة الاستقصائية المتخفية. واستقر رأي محررين كثيرين على الحد من استخدام الخداع من قِبَل المراسلين. ومنذ ذلك الوقت، أوقفت صحيفة «صن تايمز» تلك الممارسة.22

(٢-٢) الصحافة الاستقصائية المتخفية تنتقل إلى التليفزيون

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان معظم محرري الصحف يُظهرون ازدراءً للخداع وإعطاء بيانات مضللة. رغم ذلك، بدأت الكاميرات المُخفاة والهويات المزيفة تصبح وسائل نمطية لدى برامج إخبارية تليفزيونية كثيرة. وكانت برامج تابلويد (إثارة وفضائح) التليفزيونية مثل «إيه كرنت أفِّير»، و«هارد كوبي»، و«إنسايد إديشن» تحقق معدلات مشاهدة كبيرة بتوليفتها التي تتضمن فضائح الكاميرات المُخفاة، والأحداث الإخبارية المعاد إذاعتها، والأخبار المعتادة عن الراقصات المتعريات وجرائم القتل المثيرة. وفي الوقت نفسه، كانت البرامج ذات الموضوعات المتنوعة على الشبكات الإخبارية مثل برنامجي «٢٠/٢٠» و«برايم تايم لايف» على شبكة «إيه بي سي»، وبرنامج «سيكستي مينتس» على شبكة «سي بي إس»، وبرامج مشابهة على شبكة «إن بي سي» تستخدم كاميرات مُخفاة لكشف الاحتيال في مجال التأمين وعمليات الاستغلال في ورش تصليح السيارات، والمعاملة السيئة للأطفال في الحضانات. وحصل برنامج «ديت لاين إن بي سي» على معدلات مشاهدة جيدة في عامي ٢٠٠٦م و٢٠٠٧م بسلسلة من التحقيقات المخادعة حملت عنوان «تو كاتش أبريديتور» (أي: الإمساك بمنحرف جنسي)، التي كشفت رجالًا كانوا يتعقبون الشابات في غرف الدردشة على الإنترنت.

تراجع عدد التقارير الاستقصائية السرية المعروضة على شاشة التليفزيون الأمريكي مع تصاعد شعبية المجلات الإخبارية. وليس الأمر كذلك في المملكة المتحدة، حيث تعرض كل من محطتي «تشانل فايف» وشبكة «بي بي سي» عمليات سرية كبرى وأخرى متوسطة. افتتح برنامج «ذا بيج ستينج» الشهير على محطة «فايف» أحد المواسم بفضح الأشخاص الذين يبيعون حقائب يد وساعات لمصممين مشهورين على ناصيات الشوارع. والأمر الذي ربما لم يمثل صدمة لمعظم اللندنيين أن تلك الحقائب التي تحمل علامة «برادا» والساعات التي تحمل علامة «رولكس» لم تكن أصلية.

لعل أكبر ضربة أحدثها تقرير إخباري سري لشبكة أمريكية كانت من صنيع تقرير ديان سوير في برنامج «برايم تايم لايف» على شبكة «إيه بي سي» حول متاجر «فود لايون» الكبرى.23 زود اتحاد عمال كان يحاول تنظيم عمال متاجر «فود لايون» بمعلومات حول ممارسات غير صحية في بعض محال هذه السلسلة التجارية؛ فقرروا أن يجعلوا باحثة تحصل على عمل لدى أحد محلات «فود لايون»، وأن تصطحب معها كاميرا مُخفاة. في أول الأمر لم تتمكن الباحثة من الحصول على عمل؛ لذا لزم على معدي البرنامج أن يضاعفوا مستوى الخداع؛ فأعطى أعضاء الاتحاد للباحثة تدريبًا مكثفًا في كيفية تغليف اللحوم، واصطنعوا لها سيرة مهنية مزيفة، وزودوها بتوصية حارة من «رئيسها السابق» في متجر للبقالة خارج الولاية. وكتبت في استمارة طلب العمل الخاصة بها: «إنني حقًّا أفتقد العمل في متجر للبقالة، وأحب تغليف اللحوم.» وأوضحت أنها تأمل في الحصول على عمل لدى متاجر «فود لايون».

ما إن صار اسمها على كشف الأجور، حتى بدأت تصور بالفيديو زملاءها من العاملين وهم يقدمون لها النصيحة بشأن كيفية أداء عملها، بما في ذلك طرق بيع اللحوم البائتة والمنتجات المُعلبة كما لو كانت طازجة. فكانوا في بعض الأحيان يغمسون اللحم البائت في صلصة الشواء، ويبيعونه بسعر مرتفع لكونه جاهزًا للشواء. ولم تشهد بنفسها أكثر ادعاء صادم أدلى به العاملون؛ فقد قالوا إن بعض العاملين على طاولة عرض اللحوم قد ينقعون اللحوم منتهية الصلاحية في مواد مبيضة ثم يعيدون تعبئتها. دعت شبكة «إيه بي سي» متاجر «فود لايون» للرد على الاتهامات، ولكن المسئولين رفضوا ذلك.

كان رد فعل الجمهور تجاه الفقرة بالغًا؛ فانخفضت على الفور مبيعات متاجر «فود لايون»، وهبطت قيمة أسهم الشركة، وأرجأ المسئولون خطط التوسع، وأغلقوا بعض المتاجر؛ مما نتج عنه تسريح العمالة. وجابهت الشركة ذلك عن طريق إعلانات تليفزيونية تؤكد على نظافة محلاتها، وتشير إلى أن سلسلة متاجرها حاصلة على تقييم «فوق المتوسط» من مفتشي الصحة التابعين للولاية.

وقاضت السلسلة شبكة «إيه بي سي» لكنها لم تتهم شبكة «إيه بي سي» بالتشهير، ولا ادعت بأن التقرير الإخباري كان مُضلِّلًا. عوضًا عن ذلك، اتهمت سلسلة «فود لايون» شبكة «إيه بي سي» بالاحتيال عندما كذبت الباحثة في استمارة طلب العمل الخاصة بها. ووافقت هيئة المحلفين على ذلك، وحكمت لسلسلة «فود لايون» بمبلغ ٥٫٥ ملايين دولار في عام ١٩٩٧م. وخفض القاضي الحكم إلى ٣١٥ ألف دولار. ولاحقًا أسقطت محكمة استئناف الجزاءات التأديبية، وانتهت إلى إلزام شبكة «إيه بي سي» بدفع مبلغ دولارين لسلسلة «فود لايون».24

(٣) طريقة مثيرة للجدل

طوال ٣٠ عامًا على الأقل، كان أشخاص من داخل وخارج مجال الصحافة يتجادلون حول ما إذا كان استخدام وسائل الإعلام الإخباري للصحافة الاستقصائية المتخفية مُبرَّرًا. وكان الصحفيون العاملون في الإذاعة والتليفزيون هم المؤيد الأكبر للصحافة الاستقصائية المتخفية، بوجود نحو ٧٠ بالمائة من مديري الأخبار الموافقين على استخدامها عندما يُسَوِّغ الموضوع الإخباري ذلك. حسب استطلاعات للرأي أجرتها جمعية مديري أخبار الإذاعة والتليفزيون، نحو ٦٦ بالمائة من الجمهور يرغب في حظر استخدام الكاميرات المُخفاة ومكبرات الصوت.25
يتركز الجدل عادةً حول هذه الأسئلة:
  • هل تُستَخدم الكاميرات المُخفاة لمجرد إحداث فرقعة إعلامية؟

  • هل تبرر الغاية (فضح فعل خاطئ) الوسيلة (استخدام الخداع وربما انتهاك القوانين)؟

  • هل يوجد اعتبارات متعلقة بالخصوصية؟

  • هل الكاميرات المُخفاة هي أفضل طريقة للحصول على الخبر؟

  • ما مدى أهمية وتداوُل المسألة موضع التحقيق؟

(٣-١) فرقعة إعلامية أم أخبار؟

يمكن أن تسفر الصحافة الاستقصائية المتخفية باستخدام الكاميرات المُخفاة عن موضوعات إخبارية مشروعة. تحرى المُعِد مايكل روبنشتاين والمراسل ديف سافيني بشأن تقارير حول إساءة المدارس استخدام غرف «العزل المؤقت». فبدلًا من فصل التلاميذ السيئي السلوك، وجدوا أطفالًا محبوسين في مقصورات ضيقة بلا نوافذ لساعات في المرة الواحدة. تصوير الأطفال بالفيديو جعل الموضوع الإخباري أكثر إقناعًا بكثير من مجرد اقتباس أقوال تلاميذ يشكون من معلميهم. وسرعان ما سنت السلطة التشريعية قوانين أكثر صرامة بشأن استخدام غرف العزل المؤقت. قال فرانك ويتاكر — نائب رئيس قسم الأخبار في محطة «تشانل فايف» — لصحيفة «شيكاجو تريبيون»: «إننا نستخدم كاميرا مُخفاة في أكثر من موضع، عندما لا يوجد سبيل آخر لتصور الموضوع الإخباري.» وصرحت محطته أيضًا لمراسل بأن يتظاهر بأنه طالب جامعي في حرم جامعة وسكنسن لإظهار مدى سهولة شراء الطلاب لمخدر «ريتالين» من طلاب آخرين.26

وضبطت محطات تليفزيونية أخرى موظفين حكوميين يهدرون أموال دافعي الضرائب. فبعد فترة وجيزة من تخفيض شركة النقل العام في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا للخدمة بسبب نقص التمويل، أرسلت الشركة ٢١ موظفًا إلى مؤتمر في لاس فيجاس. تتبعتهم محطة «دبليو كيه إم جي» عن قرب بكاميرا مُخفاة، وضُبط الموظفون على طاولات القمار وماكينات اللعب في الوقت الذي كان المؤتمر فيه منعقدًا. أظهر مقطع الفيديو غير الواضح واحدًا منهم يجلس أمام طاولة للعب الورق مرتديًا ساعة ذهبية وسوارًا، ويدخن سيجارًا كبيرًا، ويقول لسيدة الحظ: «أظهري لي بعض الحب، يا حبيبتي.» تحت ضغط سياسي مكثف، راجعت شركة الحافلات قواعد السفر لديها، وبدأت عملية فحص لإنفاقها.

على الرغم من أن إعداد تقرير إخباري بكاميرا مخفاة يمكن أن يخدم مصلحة عامة، يُبدي كثيرون قلقًا إزاء استخدام هذا الأسلوب في أغلب الأحيان من أجل الفرقعات الإعلامية وحسب. قال روفن فرانك — الرئيس السابق لشبكة «إن بي سي» الإخبارية — لمراسل صحيفة «شيكاجو تريبيون»:
لم يعد أي شيء ذا أهمية سوى المنافسة على المشاهدين والقراء؛ فالجميع يتصارعون في هذا المجال تنافسًا على المشاهدين والقراء؛ لذا فإن المعايير الأخلاقية متدنية؛ فالمعايير لا بأس بها، إذا لم تؤدِّ إلى خسارة المشاهدين والقراء.27
لا شك في أن بعض المحطات قد استخدمت التقارير المعتمدة على الكاميرات المُخفاة لخلق أحداث درامية مؤثرة وزيادة نسب المشاهدة. أثناء إحدى فترات المسح، أذاعت محطة «كيه إي إن إس-تي في» في مدينة سان أنطونيو تقريرًا عن عمل جنسي مثلي في حديقة عامة، وأُعْلِن عنه تحت اسم «منحرفون في الحديقة». حسب مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، عرضت المحطة مقطع فيديو مصورًا بكاميرا مُخفاة يُظهر «رجالًا يمارسون على نحو واضح لا لبس فيه جنسًا فمويًّا» مرتين أثناء التقرير. اعتذر المذيع للمشاهدين بعد ذلك موضحًا: «أعتقد أن هذا على الأرجح ناتج عن محاولة مستمرة لتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة.»28
بعض التقارير السرية أشبه بالمقالب. جهز برنامج تليفزيوني بريطاني سيارة فارهة بزجاج وأبواب ضد الرصاص، وأوقفها في منطقة ذات معدل جريمة مرتفع. التقطت كاميرا مخفاة تسجيلًا لمقاطع فيديو تصور أشخاصًا يحاولون الاقتحام وسرقة جهاز كمبيوتر محمول غالي الثمن كان موضوعًا على الكرسي الأمامي. وقال المراسل في نهاية الفقرة: «أعتقد أن ثمة درسًا مستفادًا هنا.» على ما يبدو فإن الدرس هو أن مالكي السيارات الفاخرة ينبغي عليهم توخي الحذر بشأن المكان الذي يوقفون فيه سياراتهم. اقتفت الشرطة أثر ستة لصوص محتملين؛ غُرِّم واحد منهم ١٢٠ دولارًا، ووُجهت تحذيرات للآخرين.29

(٣-٢) الغاية مقابل الوسيلة

عندما يناقش الصحفيون أخلاقيات الخداع، عادةً ما يتورطون في جدل أُثير على مدار قرون: هل الغاية تُبرر الوسيلة؟ أو كما صاغتها الصحافية التليفزيونية السابقة ومُدرسة علم الأخلاق في معهد بوينتر، فاليري هيمان:
إذا كان الإفصاح عن الحقيقة هو أحد القيم التي نتمسك ونعتز بها كصحفيين، فإنه يتعين علينا أن نفكر مليًّا بشدة قبل أن نقرر أن نكون مخادعين في سعينا وراء الإفصاح عن الحقيقة.30
يرى دون هيويت — معد برنامج «سيكستي مينتس» — أن الغاية غالبًا ما تبرر الوسيلة. ويحتج بقوله: «إنه جُرْم صغير في مقابل المصلحة العليا. إذا أمسكت بأحد ما ينتهك الوصية القائلة «لا تسرق» بانتهاكك للوصية القائلة «لا تكذب»، فتلك مقايضة حسنة جدًّا.»31 في المقابل، خَلُص رئيس التحرير التنفيذي السابق لصحيفة «ذا واشنطن بوست»، بنجامين برادلي إلى أنه:
في يوم ننفق فيه آلاف ساعات العمل لكشف الخداع، لا يليق بنا أن نكون مخادعين؛ فكيف يمكن للصحف أن تحارب في سبيل الأمانة والنزاهة في حين أنها هي نفسها ليست أمينة في حصولها على الخبر؟ عندما يتظاهر الشرطيون بأنهم صحفيون، نشعر بحرقة شديدة، وهذا أمر نحن محقون فيه تمامًا؛ فكيف يمكننا أن نتظاهر بأمر لسنا عليه؟32
يشير آخرون إلى أنه عندما يعمل الصحفيون متخفين، فإنهم يُخِلُّون بالقانون؛ فليس مسموحًا للناس بالتسلل إلى قواعد عسكرية محظورة، أو بالكذب على مسئولي المدارس، أو بتقديم طلبات للحصول على جوازات سفر بأسماء وهمية. ومع ذلك فإن الصحفيين السريين قد فعلوا كل هذه الأمور. أرسل المحلفون في قضية سلسلة متاجر «فود لايون» رسالة واضحة أفادت بأنهم يعتقدون أن القانون ينبغي أن يُطبق على باحثي شبكة «إيه بي سي». لقد رأَوْا أن الصحفيين ارتكبوا احتيالًا بالكذب في طلبات التقدم للوظائف، وينبغي معاملتهم كسائر الناس.33

(٣-٣) اعتبارات الخصوصية

أيضًا يواجه المراسلون الذين يعملون متخفين تهمة انتهاك خصوصية الناس، وجوهر الجدل لا يتمثل في أن المراسلين السريين يُخالفون بالضرورة أي قوانين خصوصية؛ فمعظم المؤسسات الإخبارية لديها محامون يرشدونها عبر متاهة قوانين الولايات والأحكام القضائية. فعلى سبيل المثال، تُجري المحطات التليفزيونية بمدينة شيكاجو تحقيقاتها التي تستخدم فيها الكاميرات المُخفاة في ولاية وسكنسن؛ لأن ولاية إلينوي تلزمه تلك المحطات بالحصول على تصريح من الشخص الذي تريد إجراء التسجيل الصوتي معه.34
على أن ما يبعث على القلق هو أن المراسلين يتعدَّوْن على الخصوصية من ناحية أخلاقية؛ فالناس يخال لهم أنهم يتحدثون على انفراد مع زملائهم من العاملين أو مع معارف جدد، وفي الحقيقة أن ما يقولونه قد يُعاد قوله لآلاف من القراء أو يُذاع على ملايين من الناس الذين يشاهدون التليفزيون. قال توم جولدشتاين، عميد كلية الصحافة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي لصحيفة «ذا واشنطن بوست»: «إنني أعتقد بلا شك أن هذا يُعد تصرفًا خاطئًا. ينبغي على الصحفيين التصريح بهويتهم. لا يمكنني أن أشعر بالارتياح إن كنت أعيش في عالم لا تعرف فيه هوية من تتحدث إليه.»35
انْتُقِدَت صحيفة «ذا وول ستريت جورنال» عندما سمحت للمراسلة بيث نيسين بالحصول على عمل في أحد مصانع شركة «تكساس إنسترومنتس» لتتبين كيف حاولت تلك الشركة منع عامليها من تشكيل اتحاد عمال. وتعمدت المراسلة أن تتحدث إلى زملائها من العاملين عن الاتحاد.36 أوضح المنتقدون أنها بإشراكها لزملائها العاملين في حديث عن أنشطة مناهضة للاتحاد، تكون قد عرضت وظائفهم للخطر. قال لورانس أودونيل، المحرر المساعد لصحيفة «جورنال» آنذاك: «لا يعرف الناس هويتك الحقيقية وهم يُفضون إليك بما في داخلهم، وبعد ذلك تلوث سمعتهم بالتعدي على خصوصيتهم.»
وضع المحررون في صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» قواعد أساسية صارمة قبل أن يسمحوا لمراسلة بأن تتظاهر بأنها طالبة في المرحلة الثانوية حتى يتسنى لها كتابة تحقيقات خاصة عن الحياة المدرسية في تسعينيات القرن العشرين؛ فلم يقتصر الأمر على أنها كان يجب عليها الحصول على إذن من المسئولين عن المدرسة قبل البدء في المشروع، بل كان لزامًا عليها كذلك أن تتأكد من كل طالب ومعلم ورد ذكره في موضوعاتها أنه لا يرغب في حذف اسمه من موضوعاتها تلك.37 ووضع المحررون في صحيفة «ستار تريبيون» في مدينة مينيابوليس اشتراطًا مماثلًا عندما سجلت إحدى مراسلاتهم اسمها في مقرر دراسي جامعي من أجل موضوع صحفي يطرح تساؤلات حول الصرامة الأكاديمية في برامج الدراسات الخاصة بالنساء.

(٣-٤) أفضل السبل إلى الحقيقة؟

لعل التساؤل الأكثر جوهرية يتعلق بما إذا كان الخداع هو أفضل السبل للحصول على الموضوع الصحفي. ترى زيكمان — أحد مراسلَي سلسلة تحقيقات حانة «ميراج» — أن الأمور تسير دائمًا على هذا النحو. وقالت إن الصحافة الاستقصائية المتخفية هي «سبيل أنجع كثيرًا من أي أسلوب آخر للوصول إلى حقيقة الأمور.»38 ويرى آخرون أن الخداع ينبغي أن يكون ملاذًا أخيرًا؛ فالصحافة الاستقصائية المتخفية يمكن أن تكون «سبيلًا رائعًا للحصول على الموضوعات عندما لا تكون ثمة سبل أخرى ممكنة»، كما قالت هيمان، الصحافية التليفزيونية السابقة التي تدرس حاليًّا علم الأخلاق:
عندما تكون البدائل الأكثر مباشرة، والأكثر تقليدية قد نُظِر في شأنها واستُبْعِدَت لأسباب مشروعة، وعندما يكون الموضوع الصحفي نفسه من الأهمية بمكان بحيث يجعل من الواجب سرده، حينئذ يكون الخداع جائزًا. إن مهمتنا — كصحفيين — هي أن نُعْلِم، لا أن نُواري.39
في الواقع، تتمثل المشكلة في محاولة الجزم بأن الأساليب التقليدية لن تفلح. زعمت زيكمان أن جعل صحيفة «صن تايمز» تشتري حانة «ميراج» كان السبيل الوحيد لكشف الفساد في شيكاجو. ورفضت استخدام الوسائل التقليدية أو العمل متخفية في حانة شخص آخر. لقد قالت: «كان لزامًا أن نمتلك الحانة لنكتشف إذا ما كان رجال الأعمال يتعرضون للابتزاز من قِبَل مفتشي المباني.» إلا أن يوجين باترسون — وهو من الصحفيين المرموقين — احتج بأن صحيفة «صن تايمز» كان يمكنها كشف الفساد في شيكاجو دون المغالاة بشراء الحانة. وقال إن «العمل الجاد والسعي الدءوب كان من الممكن أن يكشفا عن المصادر اللازمة لإعداد موضوع حانة «ميراج».»40
اسْتُخْدِمَت الصحافة الاستقصائية المتخفية كذلك لاختبار فاعلية أمن المطارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. في مدينة براج، تسلق صحفي تشيكي سياج المطار ليتبين هل في استطاعته الوصول إلى الطائرات. وسرعان ما قُبِض عليه. قال شرطي: «إننا نعتبر هذا تصرفًا أحمق.»41 في مدينة مونتريال، حقق صحفي كندي نجاحًا أكبر؛ فبينما كان يرتدي بنطالًا من الجينز وقميصًا قصير الكُمَّين، وجد أن باستطاعته الوصول إلى معظم مناطق المطار — بما في ذلك مهبط الطائرات حيث تستقر الطائرات النفاثة — عن طريق قوله للناس إنه حِرَفي، وحمله شريط قياس. وقال بعد ذلك: «لقد كان الدخول بالغ السهولة، إنه أمر مخيف.»42
فطنت صحف أمريكية كثيرة إلى أنه يمكنها الحصول على موضوعات صحفية عظيمة عن أمن المطارات دون استخدام أساليب التخفي. عندما منع الأمن الركاب من حمل سوائل على متن الطائرات، تحدثت صحيفة «ذا واشنطن بوست» إلى المسافرين، واكتشفت أن التنفيذ كان على أحسن الأحوال عشوائيًّا. في مدينة دنفر، أجرت قناة «سفن نيوز» الإخبارية لقاءات مع حراس أمن الطائرات، واكتشفت مشكلات خطيرة جعلت من السهل كشف أي الطائرات يكون هؤلاء الحراس على متنها. بعد التقرير، أُجريت تغييرات في الإجراءات.43

(٣-٥) شخص شرير أم مشكلة شائعة؟

يكاد يتفق جميع من يدافعون عن الصحافة الاستقصائية المُتَخَفِّية على أنه ثمة إجراءات وقائية يلزم إدماجها في الطريقة، وأنها ينبغي ألا تشكل سوى جزء واحد من التحقيق؛ فمن دون إجراء بحث وافٍ قبل الشروع في المخطط السري، لا يستطيع المراسلون توفير معلومات أساسية كافية. ولا يملك الجمهور وسيلة لمعرفة هل الموضوع الصحفي قد كشف بضع تفاحات فاسدة أم مشكلة مستمرة وواسعة الانتشار. لهذا كان باجديكيان — المراسل الذي أراد الدخول إلى أحد السجون في المثال الذي أوردته في بداية هذا الفصل — قد أمضى بالفعل وقتًا طويلًا يبحث في المشكلة قبل سؤاله عما إذا كان في استطاعته أن يقوم بالأمر متخفيًا. كان قد تحدث إلى مختصين، وزار سجونًا، ودرس سجلات عامة كانت متاحة. متسلحًا بهذه المعلومات، عرف ما كان من المرجح أن يلاقيه، وعرف أن باستطاعته أن يحكم إذا ما كانت خبراته في السجن مماثلة لخبرات معظم السجناء. وكان عمله السري يشكل تقريرًا واحدًا فقط في سلسلة من ثمانية أجزاء. وعلى نحو مماثل، قبل أن يفتتح برنامج «سيكستي مينتس» العيادة المتخصصة، علم المعدون أن العمولات غير القانونية كانت مشكلة متنامية تكلف دافعي الضرائب ملايين الدولارات، وأنها كانت شائعة في شيكاجو.

يساور البعض القلق من أنه ليس كل الموضوعات الصحفية تلقى هذا البحث المدقق قبل البدء في العمل السري، إلا أن ثمة بعض المخاوف لدى أشخاص من داخل وخارج مجال الصحافة التليفزيونية على السواء بشأن تقرير برنامج «برايم تايم» عن متاجر «فود لايون.» فقال جو بيرونين — النائب الأول لرئيس شبكة «سي بي إس» لشئون المجلات الإخبارية — لصحيفة «شيكاجو تريبيون»: «لا أستطيع أن أصدق أن تقريرًا كهذا يمكن إعداده بتلك الطريقة في أي برنامج من برامج شبكة «سي بي إس».»44
كتب رَس دبليو بيكر في مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو» أن برنامج «برايم تايم» ربما يكون قد سقط «في فخ تقليدي؛ وهو التركيز على شرير في حين تكون المشكلة عامة».45 أظهرت الحلقة بضعة عاملين في عدد قليل من المتاجر ضمن سلسلة واحدة. وتُرِك المشاهدون دون أي دراية بمدى انتشار المشكلة. هل توبعت هذه الممارسات في كل فروع سلسلة متاجر «فود لايون» أو في كل المتاجر الكبرى؟ بالتركيز على سلسلة متاجر كبرى واحدة فقط، قد يكون تقرير برنامج «برايم تايم» قد تسبب في توقف بعض الناس عن التسوق لدى متاجر «فود لايون»، وتحولهم إلى متجر يقوم بممارسات أسوأ.
إحدى الطرق لتجنب هذا الانتقاد تتمثل في توسيع نطاق البحث. لاحظ بيكر أنه في نفس الوقت الذي كان يجهز فيه برنامج «برايم تايم» تقريره عن متاجر «فود لايون»، كانت محطة محلية في أتلانتا — وهي محطة «دبليو إيه جي إيه-تي في» — تُجري تحقيقًا مستقلًّا وأوسع نطاقًا عن سلامة الغذاء. وجدت المحطة الكائنة في أتلانتا أن كل متجر من المتاجر الكبرى التي اختبرتها كان يعيد تعبئة اللحوم البائتة. شملت المتاجر سلاسل وطنية ومحلية على السواء.46 وعلى غرار ذلك، عندما أجرى برنامج «ديت لاين إن بي سي» تقريرًا عن اللحم البقري المفروم المغشوش، جمع المراسلون عينات من متاجر مختلفة من أماكن شتى من البلاد، وأرسلوا بعد ذلك أكثر من ١٠٠ عينة لمختبر مستقل أظهرت اختباراته أن ما يدعوه الملصق «١٠٠ بالمائة لحم بقري مفروم» قد يحتوي على مقدار يبلغ ٢٠ بالمائة من لحم الخنزير أو لحوم الدواجن. وفيما يختص بتقرير برنامج «ديت لاين إن بي سي» عن المتاجر الكبرى التي تعيد وضع ملصق تاريخ انتهاء الصلاحية على منتجات اللحوم، أخذ المراسلون مجموعة متنوعة من العينات من السلاسل السبع الأكبر في البلاد، ووجدوا أن هذه الممارسة شائعة على نطاق واسع.

(٤) تحسين المهنة

في كُتيب جمعية الصحفيين المحترفين الذي بعنوان «انتهاج المنهج الأخلاقي في الصحافة»، اقترحت الجمعية هذه المبادئ التوجيهية من أجل اتخاذ القرار حول الوقت الذي يكون فيه الخداع من جانب الصحفي مبررًا:
  • عندما تكون المعلومات التي حُصِل عليها ذات أهمية بالغة. يجب أن تكون متعلقة بمصلحة عامة أساسية؛ مثل الكشف عن «فشل ذريع في النظام» بالمستويات العليا، أو من شأنها أن تحول دون وقوع ضرر بالغ للأفراد.

  • عندما تكون كل البدائل الأخرى للحصول على نفس المعلومات قد استُنْفِدت.

  • عندما يكون الصحفيون المعنيون على استعداد للبوح بطبيعة الخداع وسببه.

  • عندما يسعى الأفراد المعنيون ومؤسساتهم الإخبارية إلى التميز، من خلال مستوًى مرتفع من الحرفية فضلًا عن الالتزام بالوقت والتمويل اللازمَيْن لمتابعة الموضوع الإخباري متابعة كاملة.

  • عندما يفوق الضرر الذي تمنعه المعلومات التي تُكشَف عن طريق الخداع أي ضرر يسببه الفعل المخادع.

  • عندما يكون الصحفيون المعنيون قد اضطلعوا بعملية اتخاذ قرار هادفة وتشاركية ومتأنية يتدبرون فيها:
    • عواقب الخداع (القصيرة والبعيدة المدى) بالنسبة إلى أولئك الذين تعرضوا للخداع.

    • مدى تأثر المصداقية الصحفية.

    • الدوافع المؤدية إلى تصرفاتهم.

    • الفعل المخادع من ناحية علاقته بمهمتهم التحريرية.

    • الآثار القانونية المترتبة على التصرف.

    • اتساق منطقهم وتصرفهم.

اقترح كتيب جمعية الصحفيين المحترفين أيضًا بعض المعايير التي «لا يمكن» استخدامها لتبرير الخداع:
  • الفوز بجائزة.

  • الوصول إلى الموضوع الصحفي بكلفة أقل من ناحية الوقت والمصادر.

  • إجراء الموضوع الصحفي لأن «آخرين أجروه بالفعل».

  • كون الأشخاص المعنيين بالموضوع الصحفي أنفسهم لا يتبعون منهجًا أخلاقيًّا.47

(٥) سيناريوهات للمناقشة

هذه السيناريوهات تعتمد على خبرات المراسلين والمحررين. ولقد عُدِّلَت لدواعي المساحة والتأثير. في غالبية هذه المواقف، سيلتمس المراسل المشورة من محررٍ، وسيكون من شأن المحررين أن يتخذوا القرار النهائي. بَيْد أن المُدخَلات الرئيسية ستأتي من المراسل، والمحررون الجيدون سيستمعون مليًّا للمراسلين قبل اتخاذ قرار. في بعض الحالات، يمكنك أن تُراجع لترى ما فعله المحررون الحقيقيون. ذلك لا يعني أنهم فعلوا الصواب، ولكن يمكنك مقارنة أفكارك بأفكارهم.

(٥-١) سيناريو الخداع الأول: إرهابيون نوويون في الحرم الجامعي

لقد قرأتَ العديد من التقارير الإخبارية عن إرهابيين يحاولون الحصول على الأغراض اللازمة للأسلحة النووية، وهم — حسب التقارير — ليسوا بحاجة إلى صنع قنبلة نووية قياسية على النحو المتعارف عليه؛ فبمقدار صغير من المواد النووية يمكنهم صنع ما يُطلَق عليه القنابل القذرة (الإشعاعية)، التي غالبًا ما تكون عبارة عن أصابع ديناميت محاطة بنفاية نووية؛ ويؤدي الانفجار في هذه الحالة إلى تناثر وانتشار مواد مشعة على مساحة واسعة.

ربما تندهش عندما تعلم أن جامعة ولاية كبيرة في منطقتك لديها مفاعل نووي. عن طريق القليل من التدقيق، تكتشف أن الجامعة تُنظم جولات للطلاب إلى المنشأة الكائن بها المفاعل. عندما تمر بسيارتك بجانب المبنى الذي يحوي المفاعل، ترى حارسًا يجلس على كرسي قابل للطي يَغُطُّ في نوم عميق.

إذن، ما مدى صعوبة وصول عصابة من الإرهابيين إلى المفاعل وسرقة مواد نووية كافية لواحد من هذه الأجهزة؟ أو ربما يمكنهم دخول المنشأة بقنابل يضعونها في حقائب الظهر الخاصة بهم وتفجير المفاعل وتلويث منطقة الجامعة.

يمكن لهذا أن يكون موضوعًا صحفيًّا مهمًّا.

أول ما يخطر بذهنك هو أن تحزم كاميرا في حقيبة، وتطلب الاشتراك في جولة، وترى هل يمكنك توثيق كم سيسهل على الإرهابيين دخول المنشأة، ومعرفة ما من شأنه أن يكفي ليصبح في استطاعتهم تعريض أمن المنشأة للخطر. عادةً ما تكون الجولات لطلاب العلوم. تَفَكَّرْ في أنه يمكنك البحث على موقع «جوجل» عن «المفاعلات النووية» لتعرف ما يكفي من أجل التحايل كي تتمكن من الدخول. لن تفعل أي شيء غير قانوني أو تعرض نفسك أو أي فرد آخر لأي خطر.

هل تتناول الموضوع الصحفي بتلك الطريقة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الخطوات التي قد تتخذها قبل وصولك إلى مرحلة العمل كمراسل صحفي سري؟ هل ينبغي أن يكون مبعثًا للقلق لديك أنك بذلك تمنح الإرهابيين خارطة طريق للمواد النووية؟ (القرار في نهاية الكتاب.)

(٥-٢) سيناريو الخداع الثاني: ضابط الشرطة السرية الميت

عُثِر على ضابط شرطة سرية ميتًا في حانة قذرة في قسم خطر من المدينة. تظهر أنت في موقع الحادث، وتطلب أن تتحدث إلى المحققين الذين يباشرون القضية. تسمح لك الشرطة بالمرور عبر شريط مسرح الجريمة التحذيري. تتحدث إلى المحققين خارج الحانة، الذين يقولون إنه ليس هناك الكثير مما يستطيعون إخبارك به في الوقت الحالي، وبعد ذلك يُسْتَدعَون إلى زقاق جانبي. تنتهز الفرصة لتدون بضع ملاحظات في مفكرتك. تخطو ضابطة شرطة خارجةً من الحانة، وتشير إليك كي تتبعها؛ فتفعل؛ فتبدأ في توضيح بعض الأدلة التي عثرت عليها، وتوضح كيفية اتصالها بالجريمة. من الواضح لك أنها تحسبك محققًا، وتوحي ملاحظاتها بأن الشرطة تعتقد بأن ضابط الشرطة السرية ربما كان يدير مشروع اتِّجار بالمخدرات خاصًّا به.

هل تستمر في الاستماع أم تكشف لها عن هويتك؟ (القرار في نهاية الكتاب.)

(٥-٣) سيناريو الخداع الثالث: زهور في دار رعاية المسنين

كانت امرأة عجوز جريئة تُفصح عما تؤمن به. أحبها الناخبون وانتخبوها لمجلس المدينة ثلاث مرات وللمجلس التشريعي مرتين. وكانت كذلك سيدة أعمال عنيدة ورثت وكالة بيع السيارات الخاصة بزوجها، وحولتها إلى سلسلة من مُنْشَآت خدمة السيارات الجديدة والمستعملة. منذ عامين، عدَّتها إحدى المجلات واحدة من أغنى عشر نساء في الولاية.

في العام الماضي، أعلنت أنها ستحتفل بعيد ميلادها السبعين بأن تتزوج ثانيةً. كان خطيبها يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، ويعمل مندوب مبيعات في إحدى ساحات بيع السيارات المستعملة المملوكة لها. لم يبدُ أن النكات كانت تزعجها؛ فكانت تقول: «إنهم يشعرون بالغيرة فحسب.» لم يرُق الأمر لأيٍّ من ابنتيها؛ فحسب قوانين الولاية، سيكون الزوج مؤهلًا لأن يرث ثروتها. رفضت طلب ابنتيها بأن تجعل الزوج يوقع اتفاقًا قبل الزواج.

قبل أسبوعين من الزفاف، أُدْخِلَت السيدة إلى المستشفى، وبعد الإقامة بها ليومين، نُقِلَت إلى مركز علاج سكني للمسنين؛ فانتشرت الشائعات. الأمر الوحيد الذي تعرفه يقينًا هو أن الابنتين لن تسمحا لخطيبها بزيارتها. تريدُ أن تتحدث إليها. تتصور أنك إن دخلت المركز وأفصحت عن هويتك كمراسل، فسيُطْلَب منك المغادرة؛ فتقرر أن تشتري باقة ضخمة من الزهور، وتسير متجهًا نحو مكتب الاستقبال. هناك حارس أمن يقف قريبًا. تسأل عن رقم غرفة السيدة. ينظر موظف الاستقبال إلى الزهور، ثم يعطيك رقم الغرفة. تطلب من حارس الأمن أن يدلك على الطريق إلى الغرفة.

ما إن تبلغ غرفتها، حتى تُعرِّفها بنفسك وبعملك. تبدو السيدة متماسكة، ولكنها شديدة الغضب من ابنتيها، وتقول إنها على أتم الاستعداد للتحدث؛ فهل تُجري معها مقابلة؟ هل تستخدم المعلومات في موضوعك الصحفي؟

(٥-٤) سيناريو الخداع الرابع: «انتقام بلوتو» (بلوتوز ريفينج)

فيلم «انتقام بلوتو» (بلوتوز ريفينج) — وهو أشبه بتتمة لفيلم «حظيرة الحيوانات» (أنيمال هاوس) — هو من الأفلام المتصدرة لشباك التذاكر. يتناول الفيلم قصة شاب يذهب إلى الكلية التي تلقى والده دراسته فيها، ويؤسس أخوية على غرار الأخوية التي انتمى إليها جده قبل أن توقفها الكلية. تدَّعي الأخوية أن لديها أكثر الحفلات جموحًا، وأكثر المقالب إتقانًا، وأقل قدر من الدراسة بالحرم الجامعي.

تقرر أنت إعداد موضوع إخباري عن إقامة الحفلات في بيوت الأخوية. هل الأخويات هي حقًّا مثل الأخوية التي في الفيلم؟ مستعينًا بكاميرا مخفاة، تذهب إلى منطقة الأخويات التابعة للكلية المحلية. أنت والمصور تخرجتما منذ وقت قريب جدًّا من الكلية؛ لذا من السهل عليكما دخول العديد من الحفلات دون دعوة. بعض هذه الحفلات يجعل تلك التي عُرضت بالفيلم تبدو لطيفة وهادئة. تلتقط مقطع فيديو رائعًا.

بعد عودتك إلى الأستوديو، تنشغل بإعداد المشاهد التي كانت ستصبح — لولا ذلك الإعداد — مفرطة الفجاجة بالنسبة إلى التليفزيون المحلي. يشاهد أحد الزملاء جزءًا من مقطع الفيديو، ويتساءل بصوت مسموع عما إذا كان ذلك يُعد استخدامًا جيدًا للكاميرات المخفاة.

استعن بصندوق بوتر وقرِّر إذا ما كان هذا يُعد استخدامًا مناسبًا للخداع وللكاميرات المخفاة. إذا ما قررت استخدامه، فهل ثمة أي خطوات قد تتخذها قبل أن يُستَخْدَم؟ هل هناك أي أجزاء من مقطع الفيديو لن تستخدمها؟

هوامش

(1) Ben H. Bagdikian, “No. 50061, Inside maximum security,” The Washington Post, January 31, 1972.
(2) Letter to Goodwin, November 14, 1981.
(3) David Shaw, “Deception—Honest tool of reporting?” Los Angeles Times, September 20, 1979.
(4) “Different news values,” Examining Our Credibility, August 04, 1999, www.asne.org.
(5) Interview by Goodwin, February 19, 1986.
(6) Russ Baker, “Damning undercover tactics as ‘fraud,’” Columbia Journalism Review, March/April 1997, p. 32.
(7) Interview by Smith, March 17, 1997.
(8) Michael Salwen, “Getting the story by hook or crook,” Quill, January 1981, pp. 12–14.
(9) Daniel Anderson and Peter Benjaminson, Investigative Reporting, Bloomington: Indiana University Press, 1976, p. 109.
(10) “Determination 119,” Minnesota News Council, www.news-council.org.
(11) Tony Case, “In disguise,” Editor & Publisher, November 14, 1992, and Richard Harwood, “Knights of the Fourth Estate,” The Washington Post, December 5, 1992.
(12) Interview by Goodwin, November 4, 1981.
(13) David Halberstam in his essay in “Dangerous liaisons,” Columbia Journalism Review, July/August 1989.
(14) David Weaver and LeAnne Daniels, “Public opinion on investigative reporting in the 1980s,” Journalism Quarterly, Spring 1992.
(15) Letter to Goodwin, November 14, 1981.
(16) Linda Mainiero, ed., American Women Writers from Colonial Times to the Present: A Critical Reference Guide, New York: Frederick Ungar 1979, pp. 381–383.
(17) Silas Bent, Newspaper Crusaders: A Neglected Story, New York: Whittlesey House, 1939, p. 198.
(18) Frank Luther Mott, News Stories of 1934, Iowa City: Clio Press, 1935, pp. 258–260, 264–271.
(19) Doug Struck, “Inside Crownsville,” Annapolis Evening Capital, October 6–25, 1975.
(20) Interview by Goodwin, September 9, 1981.
(21) “Undercover,” research report of the Times Publishing Co., St. Petersburg, Fla., and the Department of Mass Communication, University of South Florida, Summer 1981.
(22) Howard Kurtz, “Hidden network cameras: A troubling trend,” The Washington Post, November 30, 1992.
(23) Details are taken from ibid.; “Another missing union label at ABC,” The Washington Times, April 27, 1993; and Diane Kunde, “Food Lion roars back at critics in ad blitz,” The Dallas Morning News, November 5, 1992.
(24) “First Amendment decisions; The press wins,” The New York Times, October 23, 1999.
(25) RTNDF Journalism Ethics and Integrity Project, 1999, p. 21.
(26) “TV stations’ investigative units open up on hidden camera use,” Chicago Tribune, July 2, 2000.
(27) Kenneth Clark, “Hidden meanings: Increasing use of secret cameras and microphones raises ethical questions about TV journalists,” Chicago Tribune, June 30, 1992.
(28) “Darts and laurels,” Columbia Journalism Review, March/April 1997, p. 22.
(29) Tim Howard, “Donal MacIntyre’s new series trivialises crime,” Time Out, August 23, 2006.
(30) Clark, op. cit.
(31) Quoted by Colman McCarthy, “Getting the truth untruthfully,” The Washington Post, December 22, 1992.
(32) Shaw, op. cit.
(33) Associated Press, “ABC must pay Food Lion $5.5 million,” Orlando Sentinel, January 23, 1997.
(34) “TV stations’ investigative units open up on hidden camera use,” Chicago Tribune, July 2, 2000.
(35) Kurtz, op. cit.
(36) Details are taken from Beth Nissen, “An inside view,” The Wall Street Journal, July 28, 1978; interview with Lawrence O’Donnell, Journal associate editor, by author, February 22, 1982; and a letter to Goodwin from Ed Cony, then publisher of the Journal, June 10, 1984.
(37) Kurtz, op. cit.
(38) Interview by Goodwin, September 8, 1981.
(39) Clark, op. cit.
(40) “Undercover,” op. cit.
(41) “Czech police detain journalist testing airport security,” Agence France Presse, August 11, 2006.
(42) Fabrice de Pierrebourg, “It’s so easy to get in, it’s scary,” The Toronto Sun, September 11, 2006.
(43) “Air marshals across country warn passengers aren’t safe,” thedenverchannel.com, July 20, 2006.
(44) Pat Widder, “Playing with fire: Blur of fact and fiction costs NBC,” Chicago Tribune, February 11, 1993.
(45) Russ W. Baker, “Truth, lies and videotape,” Columbia Journalism Review, July/August 1993.
(46) Ibid.
(47) These criteria came from participants in an ethical decision-making seminar at the Poynter Institute for Media Studies, reported in Jay Black, Bob Steele, and Ralph Barney, Doing Ethics in Journalism, Greencastle, Ind.: Sigma Delta Chi Foundation, Society of Professional Journalists, 1993, pp. 112-113.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤