الفصل الثامن

الرقابة الحكومية

عندما ذهبت جيرالين جراهام لزيارة حفيدتها، وجدت أن الطفلة تعيش في وضع غير إنساني. وقالت لصحيفة «ذا ميامي هيرالد» إن الطفلة ذات الخمسة أعوام كانت «تجلس وسط أرضية المنزل، بجانب وجوه بشرية، محاولةً أن تأكل قطعة من الخبز. لقد تعلمت كلمات السباب، وليس الكلام العادي.»

اتصلت الجدة بإدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بفلوريدا «دي سي إف»، وهي الوكالة التابعة للولاية المسئولة عن إنقاذ الأطفال من الاعتداءات المنزلية. على الفور أخذ الباحثون الاجتماعيون الطفلة من أمها — التي وُصِفَت بأنها مدمنة للمخدرات — ووضعوها في رعاية جدتها. ولكن سرعان ما بدأت الجدة تواجه مشكلات مع حفيدتها. أخبرت الجدة الأخصائيين الاجتماعيين بأن الطفلة «تتصرف بغرابة» وأنها بحاجة إلى تقييم نفسي. في أحد الأيام جاءت إلى بيت جراهام امرأة قالت إنها من إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بفلوريدا، وذهبت بالطفلة. كانت تلك آخر مرة رأت فيها جراهام البنت الصغيرة، حسبما أخبرت الشرطة.

اتصلت جراهام بإدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بفلوريدا وطمأنها الباحثون الاجتماعيون إلى أن الطفلة كانت تلقى رعاية طيبة، إلا أنهم أبلغوها بأنها لا يمكنها زيارة الطفلة. وكلما سألت عن الطفلة، كانت تتلقى نفس الرد.

بعد مرور خمسة عشر شهرًا على أخذ الطفلة من جدتها، أتت باحثة اجتماعية مختصة بالتبنِّي إلى منزل الجدة، وطلبت أن ترى الطفلة. أصبح واضحًا لجراهام أن الوكالة لم تكن تعرف أين كانت حفيدتها؛ فطبقًا لسجلاتها، كانت الطفلة لا تزال تعيش مع جدتها، حتى إن الملفات اشتملت على تقارير من باحثين اجتماعيين قالوا إنهم زاروا الطفلة في منزل الجدة، وإنها كانت «في أتم الصحة والسعادة.»

عندما سألت صحيفة «ذا هيرالد» رئيس إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة، وصف الأمر بأنه «أكثر الأوضاع التي رأيتها تعقيدًا.» أكد أحد مسئولي الولاية أن تلك كانت «واقعة فردية»، ووصف أحد القضاة طريقة التعامل مع المسألة بأنها «بالغة الحقارة»، واتهم الإدارة بالكذب على المحكمة مرارًا وتكرارًا.

أرادت صحف عديدة أن ترى سجلات الواقعة، إلا أن الوكالة رفضت؛ فقدمت الصحف التماسًا إلى المحكمة، وحصلت على تصريح بالاطلاع على الملفات. غَيْرَ أَنَّه عندما سُلِّمَت السجلات، اكتشف المراسلون أن إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة قد أدخلت عليها تنقيحات بلغ من كثرتها أنه كان لزامًا على الصحف أن ترجع إلى المحكمة.

مع تزايد الضغط من وسائل الإعلام والقادة السياسيين، أُمِرَت الوكالة بحصر جميع الأطفال الموجودين في كَنَفها. أقرت الوكالة أنها لا تعرف مكان تواجد ٥٣٢ طفلًا، وقالت إن معظمهم مراهقون كانوا قد هربوا من دُور الرعاية، أو وُضِعوا في دُور خارج الولاية، أو اختُطِفوا على يد والديهم اللذين لم يكن لديهما وصاية عليهم.

قرر المراسلون في صحيفة «ساوث فلوريدا صن سنتينل» أن يحاولوا التأكد مما إذا كان بإمكانهم العثور على بعض الأطفال المفقودين؛ فاختاروا ٢٤ طفلًا — كلهم تحت سن الرابعة عشرة — كانوا مسجلين في موقع إلكتروني مخصص للأطفال المفقودين الذين هم تحت رعاية الولاية. وعلى الرغم من أن الصحيفة لم يكن لديها الملفات المفصلة التي كانت لدى الباحثين الاجتماعيين التابعين لإدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة، فقد تمكن المراسلون من العثور على اثنين من الأطفال في أقل من ثلاث ساعات. وخلال شهر واحد، كانت الصحيفة قد حددت أماكن تواجد ثلث الأطفال، وتأتَّى ذلك في كثير من الأحيان بمجرد استخدام مساعدة دليل الهاتف والاتصال بأقاربهم. ووجدوا طفلًا واحدًا كانت الوكالة قد وضعته في قائمة «المعرضين للخطر» الخاصة بها؛ لأن والديه كان لديهما سجل طويل من السوابق الجنائية يتعلق بالمخدرات وتهم أخرى. كان الطفل قد وُضع في دار رعاية في جورجيا بعد أن قُبِض على والديه على خلفية اتهامات بالدعارة هناك.

اكتشف مراسلو صحيفة «صن سنتينل» حقيقة مروعة أخرى؛ وهي أنه مع أن تعليمات إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة تُلزِم الباحثين الاجتماعيين بإبلاغ الشرطة عندما يُفْقَد أحد الأطفال، فإن كثيرين منهم كانوا يتباطئون في الإقرار بأنهم قد فقدوا طفلًا كان في كَنَفهم. كان من الممكن في بعض الأحيان أن ينتظروا شهورًا — بل وصل التباطؤ في إحدى الحالات إلى سبع سنين — قبل إبلاغ الشرطة أن ثمة طفلًا مفقودًا. من المحتمل أن بعض الأطفال قد يكونون اختفَوْا دون حتى إبلاغ الشرطة. (لاحقًا، أوردت الصحف أن الباحثين الاجتماعيين في أحد مكاتب منطقة سنترال فلوريدا كان لديهم ملفات مُخْفاة في أحد الأسقف حتى لا يعرف أحد أن ثمة حالات لم يُتحرَّ عنها.)

أحدثت اكتشافات صحيفة «صن سنتينل» تغييرات حثيثة؛ فبعد يومين من ظهور الموضوعات الصحفية، استقال رئيس إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة. وفي أقل من أسبوع، غيرت السلطة التشريعية القوانين المتعلقة بكيفية الإبلاغ عن أطفال مفقودين. واستقر رأي المشرعين على أن ثمة سرية مبالغًا فيها في عمل الوكالة. ثم قال جيب بوش — الذي أصبح فيما بعدُ حاكمَ ولاية فلوريدا:

ليس من المقبول أن يكون لدينا أطفال قد فروا في بعض الحالات لأكثر من سنة حسبما يُزْعَم، وأن يُعْثَر عليهم بواسطة صحيفة؛ إن هذا يدل بالفعل على أننا نحتاج إلى نهج جديد.

ثم اتخذت الأحداث منحًى مختلفًا.

قالت الوكالة إنها ما زالت غير قادرة على العثور على بعض الأطفال الذين أبلغت صحيفة «صن سنتينل» بأنها حددت أماكنهم. طلب مسئولو الإدارة من الصحيفة أن تُسلِّم كل ملفاتها عن الأطفال. كما قال الحاكم بوش: «يجب أن يكونوا شركاء في هذا لأنه إذا كان ثمة أطفال معرضون لخطر ما فإنه يقع عليهم واجب تقديم المعلومات. لقد طلبناها، وآمل أن يسلموها.»

إلا أن صحيفة «صن سنتينل» لم تكن على استعداد لأن تفعل ذلك. قال رئيس تحرير الصحيفة، إيرل موكير:

شغلنا الشاغل مُنْصَبٌّ أيضًا على الأطفال. ومع ذلك، فإننا لن نسلم كل تحرياتنا وملفات مراسلينا لأي وكالة. بصفتنا صحيفة مستقلة، من الأهمية البالغة ألا نصبح فرع التحقيق التابع لأي وكالة، أو ألا يُنْظَر إلينا على أننا كذلك.

بدلًا من ذلك، قال إن الصحيفة من الممكن أن تساعد الوكالة على أساس كل حالة على حدة.

فيما بعد، تكشَّف المزيد من التفاصيل المُحْزِنة لتخبُّط إدارة رعاية الأطفال وشئون الأسرة بشأن هذه المسألة؛ فالمرأة لم تكن الجدة من جهة الأب — كما كان موظفو الوكالة قد أشاروا — ولم تكن حتى تَمُتُّ بصلة قرابة للفتاة. أيضًا، أخفق التحري الذي أجرته الوكالة لمعرفة خلفية الجدة في اكتشاف أن حالتها قد شُخِّصَت بأنها اضطراب عقلي، وأنه كان لديها سجل جنائي طويل من التوقيفات على خلفية جرائم احتيال. ووقت كتابة هذه السطور، كانت في انتظار محاكمة بتهمة قتل الطفلة، ولم تعثر الشرطة على الجثة.

تتسم العلاقة بين وسائل الإعلام الإخباري والحكومة بالتوترات المستمرة. تعطي حالة الطفلة المفقودة مثالًا لاثنين من هذه التوترات؛ أحدهما: هو التضارب بين الحاجة للسرية الحكومية والالتزام بالمصارحة في نظام ديمقراطي؛ فلا أحد يشكك في ضرورة احتفاظ الحكومة بسرية بعض المعلومات التي تجمعها وكالاتها عن المواطنين، وخاصة الأطفال المعرضين للاعتداء أو الذين تخلى عنهم أهلوهم. ومع ذلك، يجب أن يعرف الجمهور ما تفعله الحكومة. عندما تباشر الوكالات الحكومية عملها في سرية، يمكن للعواقب أن تكون بالغة السوء. في هذه الحالة — كما عبرت صحيفة «أورلاندو سنتينل» في افتتاحيتها — لم تساعد السرية التي انتهجتها الوكالة الأطفال؛ إذ إن «جُلَّ ما فعلته أنها أخفت ما تعانيه الوكالة من انعدام الكفاءة.»1

التوتر الثاني: ينبع من تحديد الدور الذي ينبغي أن تلعبه وسائل الإعلام الإخباري في إدارة الحكومة. ارتأى الحاكم بوش أن وسائل الإعلام ينبغي أن تكون ذراعًا للحكومة تساعدها على تحقيق أهدافها، وخاصةً إذا كان الأمر يتعلق بالأطفال. لكن إيرل موكير رئيس تحرير صحيفة «صن سنتينل» اعتقد أن وسائل الإعلام ينبغي أن تكون مستقلة عن الحكومة. وكما كانت رعاية الحكومة للأطفال الذين تحت وصايتها هي من صميم عملها، كان صميم عمل وسائل الإعلام هو مراقبة الحكومة.

(١) السرية الحكومية

ينقل الصحفيون أخبارًا عن معظم مجالات الحياة الأمريكية، بما في ذلك الأعمال التِّجارية، والرياضة والترفيه. إلا أن المدن والمقاطعات والولايات والحكومات الوطنية هي التي حظيت في المعتاد بالرقابة الأكثر كثافة وقوة. والأسباب الثلاثة الرئيسية لهذا هي:
  • أن الحكومة تسيطر على الكثير من مناحي الحياة؛ فبمقدورها أن تسلب الحريات، وتسجن الناس، وتنظم الأعمال التجارية، وتفرض الضرائب والتعريفات، بل أن ترسل المواطنين ليموتوا في ساحات القتال.

  • أن الحكومة تُدار بدولارات الضرائب، وعندما تهدر الحكومة الأموال، فإنها تهدر الأموال التي جمعتها من المواطنين. وعندما تعتمد برامج جديدة، فإن هذه البرامج يُنْفَق عليها بالأموال التي تأخذها من المواطنين من خلال الضرائب.

  • في أي نظام ديمقراطي، فإنه في مقدور المواطنين أن يُحدِثوا فارقًا، ويمكنهم التأثير على الحكومة عن طريق التصويت، وحضور جلسات الاستماع العلنية، والتعبير عن آرائهم. ولكن يتعين أولًا أن تنبههم وسائل الإعلام إلى ما يجري.

يفهم غالبية المسئولين المنتخَبين السبب في تفحص ومراقبة المراسلين للحكومة بتدقيق شديد، إلا أن كثيرين منهم لا يروق لهم الأمر عندما يُوَجَّه ذلك التفحص الدقيق نحوهم. في بعض الأحيان، يكون سبب ذلك هو تورطهم في مخالفات. ولكن في أغلب الأحيان، يكون السبب أنهم يريدون تجنب النقد والجدل اللاذعَيْن؛ فتقريبًا كل قراراتهم قد تغضب بعض المواطنين. قليل من الناس يروق لهم أمر زيادة ضرائبهم أو إغلاق مدارسهم المحلية. أحيانًا لا تئول أفضل خطط الوكالات الحكومية إلى ما كانت تأمل، ولديها برامج فاشلة ونفقات مهدرة، وعادةً تفضل هذه الوكالات التعاطي مع هذه الموضوعات بعيدًا عن أنظار الجمهور.

«كل حكومة من مصلحتها الكتمان، وكل شعب من مصلحته زيادة فرص الحصول على المعلومات.» كما كتبت الفيلسوفة سيسيلا بوك، وأضافت أن قادة كثيرين «لم يأتوا إلى المنصب عاقدين العزم على العمل لأجل حكومة أكثر انفتاحًا، لينتهي بهم الأمر إلى الانشغال بإيجاد وسائل جديدة وأكثر أمنًا» لإبقاء المعلومات المتعلقة بالإجراءات الحكومية بعيدًا عن متناول الجمهور.2

يشير الكثير من الصحفيين إلى التعديل الأول للدستور، ويعتقدون أنه يتطلب أن يمدهم المسئولون الحكوميون بالمعلومات التي يرغبون في الحصول عليها. غير أن المحاكم وفقهاء القانون لا يرون الأمر بهذا المنظور. بوجه عام، يتيح التعديل الأول للدستور لوسائل الإعلام الإخباري أن تنقل المعلومات الصادقة التي كشفتها، إلا أنه لا يمنحها بالضرورة أي حقوق استثنائية أثناء جمعها للمعلومات. ولحسن الحظ، أصدرت معظم الولايات والحكومة الفيدرالية قوانين تقضي بأن تكون الاجتماعات الحكومية علنية، وأن تكون السجلات العامة متاحة للجمهور.

(١-١) السجلات العامة

في مجتمع ديمقراطي، يجب أن يعرف المواطنون الحالة التي عليها أداء الحكومة إذا ما أُريد لهم الإدلاء بأصواتهم بطريقة واعية. السجلات العامة هي إحدى الوسائل التي يمكنهم بها متابعة أعمال الحكومة. واللفظة نفسها؛ «السجلات العامة»، توحي بأنها متاحة للجمهور.

إلا أنه كثيرًا ما لا يكون الحال كذلك. توجه مراسلون من سبع صحف في ولاية إنديانا إلى مكاتب حكومية محلية، وطلبوا الاطلاع على الوثائق التي كانت مفتوحة أمام الجمهور بموجب قانون ولاية إنديانا. وبدلًا من أن يجد المراسلون موظفين عموميين متعاونين يمدونهم بالمعلومات، قوبل كثيرون منهم بالعدائية. وفي بعض الحالات، حاول المسئولون ترهيب المراسلين بأن أجرَوْا عليهم تدقيقات جنائية ومالية. فوجئت إحدى المُراسِلات — التي كانت تطلب على نحو قانوني الاطلاع على السجلات العامة — عندما سألها مفوض أمن المقاطعة: «لماذا لا تقودين سيارتك الخاصة؟» في أكثر من نصف المقاطعات، لم يكن بمقدور المراسلين الحصول على التقارير الشُّرطيَّة عن الحوادث وسجلات الجرائم. وفي بعض المقاطعات مُنعوا من الحصول على المحاضر الرسمية لاجتماعات مجالس إدارات المدارس وشهادات الوفاة وأرقام أجور مدربي كرة السلة في المدارس الثانوية، التي تعتبر كلها سجلات عامة في ولاية إنديانا. عندما أُظهِر تشريع ولاية إنديانا لأحد المسئولين، كان الرد: هو «اذهب وأحضرْ أمرًا قضائيًّا، وبعد ذلك يمكنك الحصول على السجل العام الذي تريده.»3 عندما حاول طلاب في جامعة ولاية كاليفورنيا في تشينو القيام بتجرِبة مماثلة، وجدوا أن نحو نصف الوكالات التي اتصلوا بها فقط كانوا على استعداد للالتزام بقانون ولاية كاليفورنيا بشأن السجل العامة.
ومع الأسف فهذه التجارِب ليست حالات نادرة. قال كريستوفر ويلز — مراسل وكالة «أسوشيتد برس» في مدينة سبرينجفيلد بولاية إلينوي — لمجلة «أمريكان جورناليزم ريفيو»:

اطلب وثائق عامة في ولاية إلينوي وستنال أسئلة عدوانية ومعوقات بيروقراطية، بل تهديدات من مفوض أمن أو اثنين. ما لن تناله — في معظم الحالات — هو المعلومات التي أردت الحصول عليها.

عندما طلب مراسل في ولاية آيوا الحصول على وثائق عامة، أرسل مفوض أمن نشرة إلى هيئات إنفاذ القانون محذرًا إياها من المراسل المزعج. تضمنت النشرة اسمه وعنوانه ورقم رخصة القيادة الخاصة به.

وحتى السجلات الأساسية حُجِبَت. عندما طلب مراسل يعمل بمقاطعة فوند دو لاك، بولاية ويسكونسن، أن يطَّلِع على سجل توقيف، قيل له: «إذا ما جرى توقيفك، فلن تود أن يُنْشَر اسمُك، أليس كذلك؟» في تكساس، حُرِم مراسل من الحصول على معلومات عن مفوض أمن أقر بارتكابه جريمة امتلاك ما يزيد على طن من الكوكايين في مقطورة الخيول الخاصة به. قال المسئولون للمراسل إن الكشف عن المعلومات من شأنه أن ينتهك خصوصية مفوض الأمن.

بعض الهيئات الحكومية لا ترفض صراحةً طلبات الاطلاع على السجلات العامة، ولكنها تتلكأ في ملئِها. طلب تشارلز لايتون — مراسل يعمل لحساب صحيفة «ذا فيلادلفيا إنكوايرر» — وثائق مستعينًا بقانون حرية الحصول على المعلومات (إف أو آي إيه)؛ فاستلمها، بعد ١٧ عامًا.4 وتجربته ليست تجربة استثنائية؛ فقد وجد استطلاعٌ أن ٣٥ هيئة فيدرالية لديها كم ضخم من الملفات المتأخرة المتراكمة حتى إن الكثير من الطلبات التي لم يُرَد عليها ترجع إلى أكثر من عَقد من الزمن. على الرغم من أن قانون حرية الحصول على المعلومات يُلزم الهيئات الفيدرالية بالرد على الطلبات الخطية خلال ٢٠ يوم عمل، عادةً ما تمنح المحاكم للهيئات مهلة. تساءل تيموثي بَن — نائب رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «ذا بوست ستاندارد» في مدينة سيراكوز بولاية نيويورك — قائلًا: «إنني أتفهم أن الحكومة الفيدرالية لديها فيض من الطلبات، ولكن ما جدوى القانون إذا كان لا يُلزم أحدًا بالاستجابة له من الأساس؟» وقال لوكالة «أسوشيتد برس» إن صحيفته قد انتظرت ١٥ عامًا للحصول على سجلات تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية حول تفجير الطائرة التابعة لخطوط بان أمريكان فوق إسكتلندا، الذي قتل على إثره ٣٥ طالبًا من جامعة سيراكوز.5
أحيانًا، لا تكون النتائج بطيئة في ورودها فحسب، وإنما يتعرض قدر كبير جدًّا من المحتوى للتنقيح (طمس معالمه) لدرجة أن السجلات تكون بلا قيمة تقريبًا. بعدما أعلنت إدارة بوش أنها لن تكشف عن صور أكفان الجنود الأمريكيين العائدين من العراق، استعانت منظمات عديدة بقانون حرية الحصول على المعلومات لتطلب الصور. رُفِض الطلب في البداية، وبعد إقامة دعوى قضائية، كشف البنتاجون عن الصور، ولكنه حَجب وجوه حراس الراية العسكرية الذين يحملون الأكفان، وقالوا إنهم ابتغَوْا حماية خصوصيتهم؛ فقررت معظم الصحف ألا تستخدم الصور المعدلة.6 وكُشِف لاحقًا عن بعض الصور دون المربعات السوداء على إحدى المدونات، www.thememoryhole.com.
fig4
شكل ٨-١: حراس الراية العسكرية يحملون الأكفان. كشفت إدارة بوش عن الصورة ردًّا على الطلب المستند على قانون حرية الحصول على المعلومات ودعوى قضائية للحصول على صور الجنود الأمريكيين القتلى العائدين من العراق. قال البنتاجون إنه حجب الوجوه حرصًا على خصوصية وحدات حرس الشرف.
معظم الوقت تكون طلبات قانون حرية الحصول على المعلومات ناجحة، وتُسفر عن أخبار مهمة لإصدارات محلية وكذلك وطنية. ها هو بعض مما أوردته مجلة «ذا نيوز ميديا آند ذا لو» ومجلات أخرى:
  • فرضت صحيفة «مارين كوربس تايمز» سحب أكثر من ٥٠٠٠ سترة واقية من الرصاص اشتُرِيَت لاستخدامها في العراق رغم فشلها في اختبارات الفاعلية.

  • فحص مراسلو صحيفة «ذا سياتل بوست إنتلجينسر» — مستخدمي ١٠ آلاف صفحة من السجلات — مئات الإعفاءات من قانون الأنواع المهددة بالانقراض، والتي تجيز للمقاولين وأصحاب المناجم وآخرين قتل مخلوقاتٍ مشرفةً على الانقراض أو الإضرار بها أو إصابتها.

  • علمت وكالة «أسوشيتد برس» أن وزارة التعليم بالولايات المتحدة قد أنفقت ٩٫٤ ملايين دولار على العلاقات العامة في السنوات القليلة الماضية.7
  • دعمت صحف آيوا بالوثائق استخدام الولاية أموالًا من وكالة الأمن القومي الفيدرالية لرفع درجة الأمن في أشياء مثل متحف لطواحين الهواء، ولكن ليس لمحاكم المقاطعة ومبانٍ عامةٍ أخرى.

في الولايات التي لديها قوانين سجلات عامة جيدة، ثمة سيطرة على تكلفة الوصول إلى السجلات العامة. ولكن في المناطق التي ليس الأمر فيها كذلك، قد تفرض الهيئات الحكومية رسومًا مرتفعة للحد لإطلاع المراسلين على السجلات؛ فتقاضت مديرية الشرطة من صحيفة «ذا دايتون (أوهايو) دايلي نيوز» خمسة دولارات للصفحة من نسخ سجلات إلكترونية، بينما طلبت إدارات أخرى بالمدينة خمسة سنتات فقط للصفحة.8 وأُبلغَت صحف تصدر بمدن صغيرة أن طلبها الاطلاع على سجلات عامة سيتكلف أكثر من ٣٠ ألف دولار. وهذا مبلغ باهظ بالنسبة إلى صحيفة صغيرة، وحتى صحيفة كبيرة مثل «ذي أتلانتا جورنال آند كونستيتيوشن» أحجمت عندما قال مسئولو المقاطعة إن قاعدة بيانات طلبها المراسلون ستتكلف ٣٠٠٠ دولار مقابل إتاحتها. بعد مناقشات مع الصحيفة، قرر المسئولون أن تكلفتهم الفعلية لاسترجاع الملفات كانت ١٤٣٫٦٩ دولارًا، وهو ما دفعته الصحيفة.9
قد تثني قوانين الولاية بطريقة غير مباشرة الموظفين الحكوميين عن إصدار السجلات العامة. قال لاري لوه — محرر صحيفة «ستار برس» التي تصدر بمدينة مونسي بولاية إنديانا — إن ولاية إنديانا ليس بها عقوبات جنائية على عدم إتاحة السجلات العامة. ولكن أردف لوه قائلًا: «إذا أصدرت سجلًّا ليس من المفترض أن تصدره، فمن الممكن أن تُتهم بجريمة.» فيلزم الكثير من الموظفين الحكوميين «الجانب الأكثر أمنًا»، ويرفضون إتاحة سجلات عامة.10
يقاتل الصحفيون باستمرار للوصول إلى المعلومات التي ينبغي من الناحية القانونية أن تكون في المتناول. ومن التكتيكات:
  • في جميع أنحاء البلاد، يحمل بعض المراسلين عادة نماذج طلب سجلات عامة، ونسخًا من قوانين السجلات العامة الخاصة بولايتهم.

  • تورد بعض الصحف كل الجهود التي يبذلها المسئولون لإخفاء السجلات العامة، وتبين للقراء الأسباب التي من أجلها يُعد الوصول إلى تلك السجلات أمرًا مهمًّا.

  • عندما كانت قوانين ولاية فلوريدا الخاصة بالسجلات العامة تحت الفحص، أقامت صحف عديدة في فلوريدا احتفالات «يوم الأحد المشمس»، ووضعت شعارًا خاصًّا على كل خبر استخدم معلومات مستقاة من السجلات العامة. وفوجئ الكثير من القراء — وحتى بعض الصحفيين — بأن أغلب الموضوعات في أقسام الأخبار حمل ذلك الشعار.

  • أجرت صحيفة «بيتسبرج بوست جازيت» دراسة على مدًى عامٍّ عن قوانين السجلات العامة والاجتماعات العلنية في ولاية بنسيلفانيا، وأوردت المشكلات التي تعرض لها سكان تلك الولاية جراء التعامل مع حكومتهم.

تتوجه المؤسسات الإخبارية على نحو متزايد إلى القضاء للوصول إلى السجلات، ووفق تقديرات صحيفة «ميلووكي جورنال سنتينل»، أنفقت الصحف والمحطات التليفزيونية آلاف الدولارات على أتعاب المحامين في مساعيها للاطلاع على سجلات حكومية، التي كان كثير منها متاحًا في السابق للجمهور.11 في مدينة ويلمنجتون، بولاية ديلاوير، قاتلت صحيفة «ذا نيوز جورنال» في حرب قضائية طوال أربع سنين للحصول على سجلات تسمح للمراسلين بتحليل الكيفية التي تعاملت بها محاكم ديلاوير مع معتادي الإجرام. وما كانت كل المؤسسات الإخبارية لتمتلك المال أو الإصرار على الاستمرار في القتال هذا الوقت الطويل.12

في ولاية بنسيلفانيا، اكتشفت صحيفة «بوست جازيت» أنه حتى عندما يفوز المواطنون بأوامر قضائية للحصول على سجلات عامة، أحيانًا ما يتعامل المسئولون مع الأمر بتباطؤ شديد. قُدِّم طلب بالحصول على معلومات عامة في إطار جهود لاكتشاف السبب في أن إحدى المدارس المحلية كانت ستتكلف مصروفات تعادل ضعف ما تتكلفه المدارس المماثلة في المنطقة. أحجم المسئولون عن إصدار المواصفات، إلى أن حكمت المحكمة بأنه يجب الإفراج عن السجلات، وبحلول الوقت الذي أصبحت فيه الوثائق متاحة للعامة، كانت الإنشاءات في المدرسة قد بدأت بالفعل.

(١-٢) الاجتماعات العلنية

إحدى الصور النمطية السائدة عن المراسلين هي تلك التي يكونون فيها جالسين في الاجتماعات الحكومية والمحاكمات يدوِّنون ملاحظات سريعة سيستخدمونها في موضوعاتهم الإخبارية. إلا أن الكثير من مجالس المدن ومجالس إدارات المدارس يبذلون كل ما في وسعهم ليبعدوا المراسلين عن اجتماعاتهم. وفي بعض الأحيان، يرغب الساسة في السرية لإخفاء مخالفات. في مدينة بينساكولا، بولاية فلوريدا، أقام مفوضو المقاطعة اجتماعات سرية لترتيب صفقات أراضٍ عادت بالنفع على أصدقائهم والمساهمين في حملاتهم الانتخابية.

ومع ذلك، في معظم الأحيان، يريد القادة السياسيون لاجتماعاتهم أن تكون مغلقة لأسباب أقل انحرافًا؛ فهم يريدون أن يلتقوا في سرية كي يمكنهم تجنب الانفعال الذي يصحب بعض قراراتهم. وعادة ما يعقدون اجتماعات غير رسمية يتباحثون فيها حول المسائل ويصوِّتون. ثم يمضون في الاجتماع الرسمي في الإجراءات الشكلية الرسمية المتعلقة بإجراءات تمرير القرارات بالإجماع دون مناقشة ولا خلاف. ليس مسموحًا للجمهور أن يستمع إلى الجدال الدائر بين مسئوليه المنتخبين.

وفق تقديرات صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»، فإن ٩٠ بالمائة من قرارات لجنة مقاطعة لوس أنجلوس — التي تشمل إنفاق الملايين من أموال دافعي الضرائب على عقود وتسوية دعاوى قضائية كبرى وإجراء تغييرات في السياسات — قد اتُّخِذَت خلف أبواب مغلقة أو دون مناقشات. أقر مسئول المقاطعة ديفيد جانسن بأنه «بحلول وقت وصول (القضايا) إلى المجلس تكون المشكلات قد حُلَّت.»13
الحيلة التقليدية التي تستخدمها المجالس العازمة على مناقشة موضوعاتها فيما بين أعضائها دون مراسلين فضوليين ولا جمهور تقوم على أساس الالتقاء على العشاء قبل الاجتماع الرسمي. حققت هيئة إنفاذ القانون بفلوريدا في مزاعم مفادها أن قادة حكومة مدينة كوبر سيتي عقدوا مآدب عشاء خاصة بالحانات الموجودة بالمنطقة قبل اجتماعات مجلس المدينة. وحسب تقارير إخبارية تليفزيونية، طلب ستة مسئولين ٢٠ مشروبًا على نفقة دافعي الضرائب أثناء إحدى مآدب العشاء التي كانت تستمر لخمس وأربعين دقيقة.14
وثمة طريقة أخرى تتجنب بها المجالس الحكومية الجمهور، وهي أن تُطلق على اجتماعاتها اسم «جلسات تنفيذية». تُفصِّل قوانين الاجتماع العلني جيدة الصياغة ما يمكن وما لا يمكن مناقشته في هذه الاجتماعات. أحيانًا تجد المجالس وإدارات المدارس ثغرات في قوانين الاجتماعات العلنية؛ ففي مدينة لورَين بولاية أوهايو، حاول الأعضاء بإدارة المدرسة أن يتجنبوا جانبًا من الجدل الدائر حول إغلاق واحدة من المدارس الثانوية الثلاث بالمدينة. حسبما قال كيفن إف والش، ناشر صحيفة «ذا مورنينج جورنال» في لورين: «عقدت إدارة المدرسة اجتماعاتٍ عديدةً خلف أبواب مغلقة، واستمروا يجادلون بأنهم لم يصلوا إلى النصاب القانوني، وأنه لم يكن اجتماعًا رسميًّا، وإنما نقاشات جدية جرت.» لدى ولاية أوهايو قوانين بشأن الاجتماع العلني، ولكن والش قال إنها — على حد وصفه — «بلا أنياب. إذا انتُهِكَت القوانين يكاد لا يحدث أي شيء، ويعرف المسئولون ذلك.»15
تعقد بعض المجالس التي تمتلك المهارة الإلكترونية «اجتماعات إلكترونية» عبر البريد الإلكتروني أو الرسائل الفورية. لم تجرِ ولايات كثيرة تحديثات على قوانينها لتأخذ في الاعتبار تغييرات التكنولوجيا. وثمة تطور أحدث؛ وهو «الاجتماعات دائمة الانعقاد»، حيث تعلن الهيئات الحكومية عن اجتماع وتديره حسب القواعد، ولكنها لا تَفُضُّه. بتلك الطريقة، يمكن لأعضاء المجلس أن يستأنفوا الاجتماع بعد أيام دون إخطار الجمهور أو وسائل الإعلام الإخباري.16
جرَّب المسئولون المنتخبون في بعض مناطق ولايتي كنتاكي ونيو مكسيكو طرقًا أكثر مباشَرةً فيما يتعلق بإبعاد الصحافة والجمهور؛ فهم يرفضون إصدار جداول أعمال للاجتماعات المقبلة. ولا يستطيع الجمهور أن يعرف ماهية المسائل التي ستُناقَش بالاجتماعات. في بعض الأحيان، لا يمكنهم حتى أن يعرفوا توقيت ومكان الاجتماعات.17 في الولايات التي بها قوانين ضعيفة بشأن الاجتماعات العلنية، يُتْرَك للصحفيين أمر إجبار المسئولين على التزام الصدق؛ وذلك يعني عادةً دعاوى قضائية مكلفة. لحسن الحظ، في الولايات التي بها قوانين تجبر الحكومات على علنية الاجتماعات، وكلاء وزارة العدل بالمنطقة ملزمون بضمان علنية الاجتماعات. ولكن مع ذلك، يجب على الصحفيين معرفة قوانين الولاية التي يتبعونها ومتابعة الهيئات الحكومية في مناطقهم. وفي كثير من الأحيان، يتحملون مسئولية التأكد من أن الشأن العام يُدار في العلن.

(١-٣) تلاعب الحكومة بالرأي العام

مع ازدياد الحكومات حجمًا وتعقيدًا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، أدرك قادة الحكومة أنهم بحاجة للتواصل على نحو أكثر فعالية مع المواطنين. كانت المؤسسات التجارية الأمريكية قد أدركت هذا بالفعل، ولجأت طلبًا للمساعدة إلى فئة جديدة من المتخصصين؛ خبير العلاقات العامة. سرعان ما حَذَت الحكومة حَذْوها، بضمها عشرات، ثم مئات، وأخيرًا آلافًا من هذه النوعية من المتخصصين إلى كشوف الرواتب العام.

في الوقت الحاضر، لا توجد مؤسسة كبرى — في كل من القطاعين العام والخاص — لا تمتلك خبيرًا في العلاقات العامة. ومن أكبر اللجان الفيدرالية إلى منظومة المدارس المحلية، يلعب خبراء العلاقات العامة دورًا جوهريًّا، ولطالما أثبتت خبرتهم جدواها. بدأت الهيئات الحكومية تجد طرقًا أفضل لتجميع وإعداد حزم المعلومات التي احتاجها الجمهور، وكثيرًا ما يطلب المراسلون من مسئولي المعلومات العامة هؤلاء أن يساعدوهم في إيجاد الحقائق داخل متاهات البيروقراطية. ولكن في بعض الأحيان، تُستخدم خبرتهم في التلاعب بالمعلومات؛ فصناعة المظهر والتلاعب بالرأي العام هما أداتان من أدوات استراتيجية الحكومة.

كان الشعب الأمريكي وغالبية الصحفيين الأمريكيين أبطأ في اللحاق بهذا التطور. في عام ١٩٦٠م في خضم الحرب الباردة، اتهم الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة بالتحليق بطائرات تجسس متطورة فوق موسكو وأراضٍ سوفييتية أخرى. أنكر الرئيس أيزنهاور الأمر، واعتقد الشعب الأمريكي — وكثيرون من العاملين في الصحافة — أن التهمة لم تكن إلا كذبة سوفييتية أخرى، ثم أعلن السوفييت أن طائرات تجسس أمريكية قد تحطمت في عمق الحدود الروسية. أجاب قادة الحكومة الأمريكية بالإنكار إلى حد إنكارهم امتلاك طائرات تجسس أصلًا، وقالوا إنه إن كانت طائرة أمريكية قد تحطمت في روسيا، فإنها كانت في مَهمة تدريبية، وقد تكون قد دخلت المجال الجوي السوفييتي عن طريق الخطأ. اعتقد الأمريكيون عمومًا بأن ذلك ما حدث، ثم أبرز السوفييت عميل وكالة الاستخبارات المركزية فرانسيس جاري باورز، الذي اعترف أنه كان يقود طائرة التجسس يو-٢ التي تحطمت داخل عمق روسيا. فُضحت كذبة أيزنهاور، والغريب في الأمر، ربما بنفس قدر غرابته اليوم، أن الأمريكيين صُعِقوا من أن الحكومة يمكن أن تخدعَهم.

على المستوى الوطني، عادة ما يبرر المسئولون الخداع والكتمان باسم الأمن القومي. قال هاوراد سايمونز — مدير تحرير صحيفة «ذا واشنطن بوست» السابق — سرعة المسئولين الحكوميين في جعل الوثائق سرية كانت فائقة حتى إنه ذُهل من أن المسئولين الحكوميين «يستطيعون أن يتذكروا ما هو سري وما ليس سريًّا.»

وفي بعض الأحيان لا يستطيعون ذلك. كان أحد نائبي وكالة الأمن القومي يجادل أمام قاضٍ أن الحكومة الأمريكية كان لديها مبرراتها بشأن منع صحيفة «ذا واشنطن بوست» من نشر أوراق البنتاجون، التي تحوي تاريخ العسكرية الأمريكية في حرب فيتنام الذي أصبح فيما بعدُ سريًّا. جلب النائب وثيقة سرية للغاية قال إنها كانت تحتوي على أوراق البنتاجون؛ كي يوضح بجلاء قدر سرية الوثائق، أُغلق عليها داخل العديد من المظاريف داخل حقيبة يد مزدوجة الإغلاق بقفلين. وقال إنه إذا نشرت صحيفة «ذا واشنطن بوست» هذه المعلومات، فإن حياة جنود أمريكيين ستتعرض للخطر. أمره القاضي بأن يفتح الوثيقة، ولحسن حظ صحيفة «ذا واشنطن بوست»، كان المحامون قد جلبوا جورج ويلسون — مراسل الصحيفة الموقر في البنتاجون — الذي تذكر أن المادة كانت قد قُرئت أمام جلسة استماع مفتوحة للجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ. وكان لدى ويلسون نص مدون حرفيًّا ليثبت الأمر، حسبما أضاف سايمونز في روايته لهذه القصة: «حسم ذلك المسألة لصالح صحيفة «ذا واشنطن بوستبوست».»18
سمحت المحاكم لصحيفتَيْ «ذا واشنطن بوست»، و«ذا نيويورك تايمز»، وصحف أخرى بأن تنشر أوراق البنتاجون. اعتقدت الفيلسوفة بوك أن المحاكم قد اتخذت القرار الصائب. احتوت الأوراق على معلومات حول الحرب «كان ينبغي ألا تكون سرية من الأصل.» حسبما صرَّحَت. وأضافت قائلة: «هذه المعلومات كانت من حق الناس الذين يتحملون نفقات الحرب وعناءها، مَن هم بالوطن وبالخارج، وإبقاؤهم غير مطلعين على أسباب خوض الحرب يُعد إساءة استخدام للسرية.»19

(٢) السرية في الحرب

أثناء الحرب العالمية الثانية، عادة ما كان يرتدي الصحفيون الأمريكيون الملابس العسكرية، وحصل كثيرون منهم على رتبة نقيب الفخرية، وركبوا مجانًا طائرات عسكرية، وجالوا جبهات القتال بلا هوادة. وكثيرًا ما كان القادة العسكريون يُطلعونهم مسبقًا على تحركات القوات العسكرية والاستراتيجيات العامة. ومن نواحٍ عدة، كانوا جزءًا من المؤسسة العسكرية، وكانت موضوعاتهم الصحفية تخضع لموافقة السلطات العسكرية.

كان ما يشغل بال مسئولي الرقابة بشكل خاص هو الصور. قال جون موريس — مصور ومحرر صور لحساب مجلة «لايف» أثناء الحرب — إن «القاعدة كانت على النحو التالي: يمكننا أن نُظهر قتلى العدو ولكن ليس قتلانا.» قال موريس إن الطفرة حدثت في عام ١٩٤٣م:
نشرت مجلة «لايف» صورة من شاطئ بونا في غينيا الجديدة. حُجزت الصورة في الرقابة في مدينة واشنطن لنحو ثمانية شهور قبل أن يُفرَج عنها. تظهر الصورة جثتين أو ثلاث جثث، وجوهها ناحية الرمال.20

رغم الرقابة أثناء الحرب العالمية الثانية، «أمدت مؤسسات الأمة الإخبارية في آخر الأمر الجمهورَ الأمريكي بتغطية شاملة للحرب.» حسبما خَلُص فرانك أوكوفير وويليام لورانس في دراسة حول العلاقات بين المؤسسة العسكرية والإعلام.

كانت العلاقات أقل ودية إلى حد ما أثناء الصراع الكوري الذي لم يلقَ من الأمريكيين نفس المساندة التي لقيتها الحرب العالمية الثانية. امتدت الرقابة في كوريا إلى أبعد بكثير من شواغل الأمن. كتب أوكوفير ولورانس:
لم يكن ممكنًا نشر خبر ما إلا إذا كان دقيقًا، وإذا كان لا يُفْشي معلوماتٍ عسكرية، ولا يؤدي إلى التأثير سلبًا على «الروح المعنوية» ولا «يسبب إحراجًا للولايات المتحدة أو حلفائها.»
وسع الجنرال دوجلاس ماكارثر نطاق الأحكام لتستبعد أي انتقاد لقادةٍ عسكريين أو لجنودٍ أمريكيين.21

كانت العلاقات بين المراسلين والقادة العسكريين أكثر ودًّا في بداية حرب فيتنام، إلا أنها توترت ببطء مع انغماس العسكرية الأمريكية أكثر فأكثر في مستنقع الهند الصينية. لم يكن سبب الصدع بين الإعلام الإخباري والعسكريين إفشاء المراسلين لأسرار عسكرية. في واقع الأمر، لم يُبلَّغ أثناء حرب فيتنام عن أي حالات لكشف الإعلام الإخباري عن خطط عسكرية أو تحركات للقوات.

كانت المشكلة بين الصحافة وكبار الضباط أكثر جوهرية؛ فقد توقع العسكريون من الإعلام أن يساند المجهود الحربي كما كان قد جرى أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما اعتقد المراسلون أنه ينبغي عليهم أن يرسلوا تقارير صادقة حتى وإن كانت سلبية. بعد قليل كان من شأن المسئولين الحكوميين والمراسلين في فيتنام أن «استقرا مبدئيًّا على حالة دائمة من المواجهة»، على حد قول مالكولم دبليو براون الذي كان يعمل صحفيًّا بصحيفة «ذا نيويورك تايمز».22

منذ حرب فيتنام، حاول العسكريون السيطرة على تدفق المعلومات. في أكتوبر عام ١٩٨٣م، شرعت الولايات المتحدة في غزو مفاجئ لجزيرة جرينادا في منطقة الكاريبي. وخلال ساعات من إعلان الغزو، كان أكثر من ٤٠٠ صحفي أمريكي قد طاروا إلى باربادوس، نحو ١٦٠ ميلًا شمالي شرق جرينادا؛ إلا أن رحلة الكثيرين منهم انتهت هناك. وللمرة الأولى منذ الحرب الأهلية، رفضت الحكومة منح الصحفيين تصريحًا بالدخول إلى خط المواجهة. استأجر بعض المراسلين والمصورين قوارب أو طائرات، وحاولوا الوصول إلى جرينادا بأنفسهم. أُعيد على الأقل قاربان وطائرة أدراجهم من قِبَل السفن الحربية والطائرات الأمريكية.

بعد يومين من الغزو، وافقت السلطات العسكرية على إرسال حشد إعلامي من ١٥ صحفيًّا جوًّا إلى جرينادا، إلا أن الحشد الإعلامي تعرض لمعوقات في العودة إلى باربادوس. أرسلت الطواقم الإخبارية التليفزيونية تقارير مصورة سينمائيًّا إلى شبكاتها، إلا أن الأفلام لم ترجع إلى الولايات المتحدة في وقت مناسب حتى تُعْرَض في نشرات الأخبار المسائية. في المقابل، أمكن لأفلام التقطتها طواقم تصوير عسكرية أن تصل عائدةً في الوقت المناسب. دفع هذا صحيفة «ذا واشنطن بوست» إلى أن تصف الغزو بأنه «الحرب الرسمية الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، من إنتاج وتصوير ونقل البنتاجون بمباركة من الرئيس.»

بحلول الوقت الذي سُمِح فيه للصحفيين بالسفر إلى الجزيرة، صار واضحًا أن الرئيس والبنتاجون كانا قد أصدرا الكثير من المعلومات الخاطئة. من أجل أن يجعل الهجوم يبدو مبررًا بقدر أكبر، أورد البنتاجون خبرًا بأنه كان يوجد هناك أكثر من ١١٠٠ كوبي، وكلهم كانوا «جنودًا محترفين مدربين تدريبًا جيدًا.» كان هؤلاء الكوبيون — حسبما يُزْعَم — يخططون للاستحواذ العسكري على الجزيرة، إلا أن وزارة الخارجية أكدت لاحقًا أن نحو ١٠٠ فقط من الكوبيين كانوا جنودًا، أما الباقون فكانوا عمالًا يبنون مطارًا.

على ما يبدو فإن الاحتجاجات من جانب الغالبية العظمى من المؤسسات الإخبارية الكبرى والجمعيات الصحفية حملت البنتاجون على الموافقة على التنسيق لتغطية صحفية مشتركة فيما يتعلق بالعمليات العسكرية المستقبلية من نوعية عملية جرينادا. عندما قصفت طائرةٌ عسكرية ليبيا ردًّا على الإرهاب في عام ١٩٨٦م، سُمِح لحشد إعلامي من ثمانية صحفيين بالصعود على متن «يو إس إس أمريكا»، حاملة الطائرات التي أقلعت منها الطائرات المهاجِمة.23

في التغطية الصحفية المشتركة، يغطي صحفيو الحشد الإعلامي الخبر لصالح الهيئات الصحفية بأكملها عن طريق مشاركتها تقاريره وصوره. يستحسن قليل جدًّا من المؤسسات الإخبارية التغطيات الصحفية أو الإعلامية المشتركة، حيث تفضل المؤسسات الإخبارية أن يكون لها مراسلوها ومصوروها الموجودون أثناء العمليات العسكرية. على الرغم من ذلك، يتفق أغلبها على أن التغطية الإعلامية المشتركة هي أفضل من ألا يكون ثمة تغطية على الإطلاق.

(٢-١) التغطيات الإعلامية المشتركة تتحول إلى أداة

لسوء حظ الصحفيين والجمهور كذلك، لم تكن التغطيات الإعلامية المشتركة تتسم بالفعالية الكافية بعد العملية الليبية. عندما اجتاحت القوات الأمريكية بنما في أواخر عام ١٩٨٩م، نقل البنتاجون حشدًا إعلاميًّا من المراسلين والمصورين الفوتوغرافيين جوًّا إلى بنما، إلا أنه مُنِع من الاقتراب بأي شكل من العمل العسكري. قالت السلطات العسكرية إنه كان لزامًا عليها حماية الصحفيين. وبدلًا من تغطية الغزو الذي كانت تقوم به القوات الأمريكية، احْتُجِز صحفيو الحشد الإعلامي في حجرات بلا نوافذ في المطار. وما إن انتهى القتال، حتى اقتادهم موجهوهم العسكريون في جولات في المخابئ المتعددة للديكتاتور المخلوع مانويل نورييجا، وعُرض عليهم كوكايين وأسلحة نارية ومجلات نسائية وبورتريه لهتلر، وهي الأشياء التي وُجِدت في مخابئ نورييجا.

على ما يبدو فإن الموجهين العسكريين أمَّلوا أنه إن كتب المراسلون عن هذه الأشياء، فستزداد إمكانية تأييد الأمريكيين للغزو الذي انتهى بالقبض على الديكتاتور على خلفية تهم تتعلق بالمخدرات. شعر صحفيو الحشد الإعلامي — وكانوا مُحِقِّين — أنهم كانوا يتعرضون للاستغلال كمروجين وأبواق إعلامية.24 لم يتطرق الحشد الإعلامي مطلقًا لأي من الأخبار الرئيسية التي خرجت للعلن بعد نحو ستة شهور: أكثر من ١٢ جنديًّا أمريكيًّا قُتِلوا أو جُرِحوا بنيران صديقة، وعدد القتلى والجرحى وسط سكان بنما المدنيين كان أعلى بكثير مما أُشير إليه مبدئيًّا.25

أُسيئ على نحو مماثل استخدام النقل المشترك للأخبار على يد المؤسسة العسكرية في حرب الخليج العربي عام ١٩٩١م. ستانلي دبليو كلاود — مدير مكتب مجلة «تايم» في واشنطن في ذلك الوقت ومراسل سابق في حرب فيتنام — وصف تلك الحرب بأنها «الصراع الأمريكي الكبير الأسوأ تغطية في هذا القرن.»

فلم يقتصر الأمر على أن البنتاجون قد حصر تغطية حرب الخليج في حشود إعلامية مُسيطر عليها بصرامة؛ إذ اضطر مراسلو الحشد الإعلامي للموافقة على إخضاع تقاريرهم لمراقبين عسكريين من أجل «المراجعة الأمنية»، حسبما أشار كلاود. بدا أن بعض الرقابة ليس لها علاقة بالناحية الأمنية؛ فعندما اقتُبس موضوع صحفي عن طيار قاذفة قنابل مبتهج قوله «لقد أوجعناهم.» غير المراقبون العسكريون الاقتباس إلى «لقد حققت مَهمتنا الهدف منها.» ومجددًا تعرضت الصور الفوتوغرافية كذلك لرقابة صارمة. اضطر ديفيد ترنلي مصور صحيفة «ديترويت فري برس» إلى مجادلة وتملق المراقبين العسكريين ليوافقوا على صورة جندي يبكي وهو يجلس بجانب كيس لحفظ الجثامين، حسبما أوردت صحيفة «ذا نيويورك تايمز».26
ليست الرقابة هي التسلط الوحيد الذي تستخدمه المؤسسة العسكرية؛ فقد قالت كريستيان آمانبور من شبكة «سي إن إن» في مقابلة صحفية لبرنامج «نيوز آور» على شبكة «بي بي إس» إن السلطات العسكرية كانت تقرر من الذي سيكون ضمن حشود النقل الإخباري الإعلامية: «عليك إما أن تنضم إلى ما دعاه بعض زملائي «آلة الدعاية»، أو ألا تذهب وتغطي الأحداث على الإطلاق.» على حد قولها.27
قال باتريك سلويان — مراسل صحيفة «نيوزداي» الذي فاز بجائزة بوليتزر على تغطيته لحرب الخليج — لصحيفة «ذا سياتل تايمز»: «لم أرَ أبدًا تسلطًا جائرًا على الصحافة كهذا.» إلا أن ما أثار ثائرته أكثر كان الطريقة التي صور بها الإعلام الإخباري الحرب؛ فقد قال إنها أصبحت «حربًا بلا دماء، كانت مقاطع الفيديو فيها خاضعة لرقابة صارمة حيث بدا منها أنه لم يمت أحد.» ولأنه لم يوجد إلا القليل من تغطية الفيديو المبتكرة للحرب، عرضت النشرات الإخبارية التليفزيونية مرارًا لقطات تشبه لقطات ألعاب الفيديو لصواريخ أمريكية تنسف نقاطًا عراقيةً حصينة. أبرزت الصحف أيضًا صورًا توضيحية مفصلة تُظهر الكيفية التي كانت تشن بها أمريكا حربًا نظيفة بصواريخ دقيقة التوجيه تصيب فقط أهدافًا عسكريةً. أقرت السلطات العسكرية لاحقًا بأن دقة الصواريخ كانت أقل بكثير مما كان قد صُوِّر.28
قلة من مراسلي حرب الخليج أمثال كريس هيدجيز من صحيفة «ذا نيويورك تايمز» خرجوا عن الاعتماد على تقارير الحشد الإعلامي والبيانات العسكرية الرسمية وحدها، فيما بعد كتب هيدجيز — الذي يتحدث العربية — عن الكيفية التي فعل بها ذلك:
لشهرين تحايلنا أنا وزملاء عديدون للمرور عبر حواجز الطرق، ونمنا في بيوت عربية، ودخلنا وحدات «عسكرية» بالتزلف والتملق. وأخيرًا — ونحن نتبع كتائب مدرعة في سيارات الجِيب الخاصة بنا عبر حقول ألغام فُتِح بها ثغرات إلى تخوم مدينة الكويت — انطلقنا بسرعة مخترقين المسافة الأخيرة من الصحراء المفتوحة، وداخلين إلى العاصمة قبل تحريرها. يعود نجاحنا في جانب منه إلى تفهمٍ وجدناه من جانب جنود وضباط كثيرين لما يمثله دور الصحافة الحرة في نظام ديمقراطي. هؤلاء الرجال والنساء خالفوا الأوامر ليسمحوا لنا بأن نؤدي عملنا.29
إن تلقي هيدجيز للمساعدة من جنود في الميدان ليس أمرًا مستغربًا؛ فالخلافات بين السلطات العسكرية والإعلام عادة لا تكون بين المراسلين والجنود، ولكن بين المراسلين والسلطات العسكرية والمسئولين السياسيين. في استطلاع للرأي أُجري بعد حرب الخليج، قال أكثر من نصف العسكريين إنهم يعتقدون أن الإعلام ينبغي أن يكون بمقدوره نقل الأخبار دون رقابة، ووافق ٨٢ بالمائة على أن «الإعلام الإخباري لا يقل أهمية عن المؤسسة العسكرية فيما يتعلق بالحفاظ على حرية الولايات المتحدة.» ومن بين أعضاء مجال الإعلام الإخباري، عارض ٧٦ بالمائة الرقابة لكنهم أقروا بالحاجة إلى مبادئ توجيهية.30

(٢-٢) إدماج المراسلين في القوات

عندما غزت الولايات المتحدة العراق عام ٢٠٠٣م، أُدمِج الصحفيون في القوات. بطريقة ما أو بأخرى، كان الأمر بمثابة عودة إلى أيام الحرب العالمية الثانية حينما تَنَقَّل المراسلون مع القوات على خطوط المواجهة. عاش المراسلون المدمَجون مع مجموعة من الجنود أو مع جنود مشاة البحرية، بل ذهبوا معهم في مهمات؛ فتَنَقَّل والت رودجرز — مراسل شبكة «سي إن إن» المخضرم — مع الجيش على دبابة من نوع «أبرامز»، وقال للمشاهدين: «ليس أمرًا سيئًا جدًّا أن تكون بداخل الوحش؛ نحن نتمتع بإمكانية وصول لا تُصَدَّق. إنني لا أعتقد أنني حظيت بهذا القدر من حرية التحرك لأكثر من ٣٦ عامًا من نقل الأخبار.» وحتى الأشخاص الذين كانوا في البداية متشككين رأَوْا ثمة فائدة من الإدماج؛ فقالت ديبورا بوتر — المديرة التنفيذية لإحدى المؤسسات غير الهادفة للربح التي تدرب الأشخاص العاملين بالقنوات التليفزيونية الإخبارية المحلية — لصحيفة «ذا بوسطن جلوب» إنه كان لديها «شكوك سابقة لأوانها أن السلطات العسكرية لن تسمح بنوعية نقل الأخبار التي رأيناها. لقد كان الأمر ذا قيمة أكثر مما توقعت أن يكون عليه.»31
آخرون وجدوا عيوبًا في التغطية الإعلامية. إحدى المشكلات كانت ما يُطلَق عليه تأثير «شفاطة المشروبات الغازية» (ويعني ألا ترى في تنقلك إلا جانبًا محدودًا جدًّا من الوضع العام؛ فتعتقد أن ما تراه يعكس الصورة الكاملة). فمع إقرار أليكس جونز — مدير لأحد مراكز هارفرد التي تَدْرس الصحافة والسياسة العامة — بأن التغطية الإعلامية «كانت أفضل إلى حد بعيد من أي شيء عاينَّاه على مدى ٢٠ عامًا»، قال لصحيفة «ذا بوسطن جلوب» إن المراسلين المدمجين ضمن القوات رأوا الحرب من خلال منظور محدود جدًّا.32 اعتقد كثيرون أن القنوات التليفزيونية الإخبارية تحديدًا اعتمدت اعتمادًا كبيرًا للغاية على مقاطع الفيديو الآتية من المراسلين المُدمَجين مع القوات، حتى إن المشاهدين لم يستطيعوا معرفة هل يشاهدون معركة مهمة أم مناوشة. أشارت صحيفة «ذا دنفر بوست» إلى أن التغطية الإعلامية كانت «لافتة للنظر أكثر من كونها تنويرية.» حسبما قال بن باجديكيان، العميد السابق لكلية الدراسات العليا للصحافة في جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي:

أُعْطي الجمهور نصًّا أعده البنتاجون بعناية شديدة، وكونوا رؤية مِجهرية من الواقع الذي يراه الفرد في القوات، لكنهم لم يكوِّنوا النظرة الشاملة التي كان ينبغي أن يكوِّنوها لما يعنيه كل هذا.

وأعتقد أن المراسلين الذين لم يكونوا مدمجين ضمن القوات قدموا التغطية ذات المغزى الأكبر.33

اتسمت الأيام الأولى من التغطية الإعلامية للقتال في أفغانستان والعراق بالدعوات التي تهدف إلى إثارة المشاعر الوطنية على نطاق واسع؛ فحسبما أوردت صحيفة «ذا واشنطن بوست»، فرض المديرون التنفيذيون بشبكة «سي إن إن» على كل التقارير المتعلقة بالخسائر البشرية من المدنيين في الحرب الأفغانية أن تورد ذكر الهجوم على مركز التجارة العالمي. وأثناء أول أسبوعين من غزو العراق، ثلاثة من كل أربعة مصادر نقلت عنها الشبكات الإخبارية كانوا مسئولين أمريكيين إما حاليين أو سابقين. فكان التركيز على نجاحات العسكرية الأمريكية. وأفادت التقارير على نطاق واسع أن زوايا الكاميرا التي كانت تعرض إسقاط تمثال كبير لصدام حسين في بغداد أعطت انطباعًا مبالغًا فيه عن عدد العراقيين الذين كانوا في الساحة.

يزعم البعض أن الصور في وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية أعطت أيضًا نسخة معدلة منقحة للحرب. قال ميتشيل دوسيل — محرر الصور في صحيفة «ذا واشنطن بوست» — لمجلة «أمريكان جورناليزم ريفيو» إنه اعتقد أن كل وسائل الإعلام — بما في ذلك صحيفته — «انجَرَفَت مع موجة محاولة سرد القصة الخبرية، ولكننا لم نكن نخالف السلطات الأمريكية.» اعتقد كثيرون أن التغطية المصورة تغيرت عندما مُثِّل بجثث أربعة من المقاولين الأمريكيين، وأُحرِقَت الجثث، وعُلِّقَت على جسر في مدينة الفالوجة. إن الأمر كما لو أن القفازات خُلِعَت فجأة، وظهرت الحرب بوجهها القبيح على نحو أقل تنقيحًا، وأكثر تطفلًا بصورة شخصية.» حسبما كتب مايكل جيتلر، المحقق في شكاوى القراء في صحيفة «ذا واشنطن بوست».34
أثناء الحرب كان المصورون الفوتوغرافيون خاضعين للمراقبة بدقة؛ إذ اعتقد واحد فقط من ثمانية مصورين أنهم مُنِحوا قدرًا كافيًا من حرية التحرك ليغطوا الحرب الأفغانية، حسب إحدى الدراسات.35 كما ذُكِر سابقًا، حظرت إدارة بوش الصور الإخبارية للأكفان العائدة من العراق في قاعدة القوات الجوية في مدينة دوفر. أشارت مجلة «ذا نيوز ميديا آند ذا لو» إلى أن البنتاجون قد استقر رأيه على «أن القبول الشعبي لإجراءاته مرتبط ارتباطًا مباشرًا بصور الأكفان المكسوة بالأعلام.» وحتى عائلات القتلى لم يُسمَح لها بتحية أكفانهم أو بالحصول على صور للأكفان القادمة إلى قاعدة دوفر. قالت إحدى الأمهات: «إنهم يقولون إن هذا من أجل الخصوصية، ولكن في الحقيقة السبب هو أنهم لا يريدون أن ترى الأمة أعداد الأشخاص الذين يعودون في نعوش.» وكذلك كانت مراسم الدفن في مقبرة أرلينجتون الوطنية (مقبرة عسكرية) محظورة على مصوري الأخبار.36

لم يلتقط مصورو الأخبار المحترفون بعضًا من الصور المحورية للحرب، ونظرًا لأن العسكرية الحديثة تستخدم بكثافة أجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، كان في مقدور الجنود استخدام الإنترنت لإرسال أفكارهم وصورهم للوطن. وساهم بعضهم في مدونات أبرزت مواطن الضعف في استعداد الأمريكيين للحرب (على سبيل المثال، لم يكن ثمة دروع كافية على سيارات الهامفي، وعدد السترات الواقية من الشظايا كان محدودًا للغاية). وأورد آخرون أخبارًا تتناول نجاحات القوات البرية الأمريكية. حاولت السلطات العسكرية الحد من نوعية التقارير التي تُنشَر على هذه المدونات، وعاقبت البعض على إرسالهم إلى الولايات المتحدة صورًا ملتقطة بهواتف خلوية للمصابين والقتلى العراقيين والأمريكيين. التقط الجنود — ربما دون قصد — بعضًا من أكثر صور الحرب أهميةً. هذه الصور أظهرت المعاملة غير الآدمية للسجناء في سجن أبو غريب، وبدأ جدل دولي حول دور القوات الأمريكية في العراق.

سواءٌ بسبب أسلوب التغطية أو بسبب الرغبة في مساندة قواتهم، ازدادت مساندة الأمريكيين للغزو خلال الأسابيع الأولى من الحرب: قبل الغزو، انحاز ٥٨ بالمائة من الأمريكيين إلى جانب الذهاب إلى الحرب. وبعد بضعة أسابيع، أيد الأمر ٧٩ بالمائة.37 في المقابل، ألجأت التغطية الإعلامية الأمريكية في الأسابيع الأولى الكثير من الأمريكيين إلى أن يتحسسوا أخبار الحرب على المدونات والمواقع الإلكترونية الخاصة بالصحف البريطانية مثل «ذا جارديان»، التي سجلت زيادة هائلة في أعداد القراء من الولايات المتحدة.

(٣) العمل مع الشرطة

العلاقة بين المراسلين والشرطة علاقة معقدة؛ فعادةً ما يحتاج مراسلو أخبار الشرطة الكثير من المعلومات المفصلة على وجه السرعة، ورجال الشرطة هم أفضل مصادرهم، وفي بعض الأحيان يكونون مصدرهم الوحيد. ولإنجاح العلاقة، يؤمن بعض الصحفيين بأن بعض التعاون بين رجال الشرطة والمراسلين أمر مستحسن. أشار روبرت جرين — مدير تحرير متقاعد لصحيفة «نيوزداي» — أن: «كل رجال الشرطة مُكَلَّفون بإعطاء مراسل أخبار الشرطة كل التفاصيل المبدئية الأساسية الواردة في تقرير دفتر الأحوال، إلا أنهم يعطونه أكثر من ذلك، كالكثير من المعلومات عن خلفية الوقائع؛ فهم يقدمون تلك المعلومات من تلقاء أنفسهم.» وللحفاظ على استمرار تدفق المعلومات، يلزم مراسل أخبار الشرطة أن يحرص على رضاهم الدائم. المعضلة الأخلاقية تتعلق بالقدر المقبول للتعاون بين مؤسسات الإعلام الإخباري وهيئات إنفاذ القانون.

في وقت ما، لاقى المراسلون بعض المشكلات في الحصول على ما كانوا يحتاجون إليه. غالبًا ما كان لرجال الشرطة والمراسلين خلفيات متشابهة، ونشئوا في نفس الأحياء، وحصلوا على أجور متماثلة، بل إنهم أصبحوا رفاقًا للشرب في نفس الحانات. عادة ما تجول المراسلون بحرية عبر ردهات مراكز الشرطة يتحدثون إلى ضباط الدورية ورجال التحرِّي، وزود كثيرون منهم سياراتهم بأجهزة لاسلكية تلتقط ترددات الشرطة، وتجولوا حول مواقع الجرائم كما لو كانوا ضباطًا.

هذه الأيام قد ولَّت. في يومنا هذا، أغلب مباني الشرطة مغلق، ويجب على ضباط الشرطة النظاميين في هيئات كثيرة أن يحصلوا على موافقة قبل أن يستطيعوا الحديث إلى وسائل الإعلام الإخباري. كما تشتري مديريات الشرطة أجهزة تشويش لتحجب رسائلها اللاسلكية؛ لأنه — كما يقول إعلان في إحدى مجلات الشرطة — «لا أحد يريد أن تظهر وسائل الإعلام في موقع حادث أو جريمة قبل وصول مسئولي الطوارئ.»38 اضطُرت وسائل الإعلام الإخباري في مدينة ويتشيتا فولز، بولاية تكساس، إلى التهديد بإقامة دعوى قضائية قبل أن تسمح لها الشرطة هناك بفك التشويش عن ترددات الأجهزة اللاسلكية الخاصة بالشرطة.
وتغير أيضًا دور مراسلي أخبار قطاع دوريات الشرطة؛ فلم تعد مَهمتهم الرئيسية نقل أخبار الجرائم والحرائق؛ فكل من الصحفيين ورجال الشرطة يتفقان على أن ثمة مهمة أخرى وهي ضبط ومراقبة الشرطة؛ فقد كشفت وسائل الإعلام عن أعمال عنف من رجال الشرطة ورشوة وسرقة بين أُناسٍ من المفترض أنهم هم الذين يعملون على إنفاذ القانون. في مدونة للصحافة، كتب أحد الأشخاص:

إن كان كل ما يريد المراسل هو أن يكون صديقًا للقائمين على إنفاذ القانون من أجل تيسير وصوله إلى معلومات وتصريحات لأجل الموضوعات الصحفية، فمن المرجح أنه سيغفل عن بعض القضايا الاجتماعية بالغة الضرر التي تتوارى بخفة خلف الطبقة الخارجية التقليدية لأخبار «الجريمة والعقاب» المغلَّفة بصحائف السوابق.

وعلى نفس المنوال، يحض أحد قادة الشرطة الضباط الآخرين على أن يدركوا أن «التدقيق الإعلامي يساعدنا جميعًا عن طريق التأكد من بقاء الهيئات المنوط بها إنفاذ القانون على الجانب الصحيح من القانون.»

لدى أغلب المديريات الآن موظفون مختصون بشئون الإعلام، وهم من يتعاملون مع وسائل الإعلام، وبجعل كل المعلومات تمر من خلال هؤلاء الموظفين، تعفي المديريات الضباط من التعامل مع المراسلين، وتتأكد من سيطرتها على الرسائل التي تُرسَل إلى العامة. على الجانب الآخر، يشكو المراسلون من أنه عندما تطرأ أخبار، لا يكون الموظفون المختصون بشئون الإعلام دائمًا موجودين، وعندما ينجح المراسلون في اقتفاء أثرهم والوصول إليهم، يكون لديهم القليل مما يعرفونه عن الموقف. وغالبًا ما يتسم ضباط الشرطة القدامى بنفس البطء في الرد على مكالمات موظفي شئون الإعلام كما هو حالهم مع مكالمات المراسلين.

في بعض الأحيان يدعو انعدام المعلومات المراسلين إلى البحث عن طرق مبتكرة للحصول على المعلومات. قال روي بيتر كلارك — من كبار الباحثين في معهد بوينتر — إنه يعتقد أن السلوك السيئ من مراسلي أخبار الشرطة «يكون ناتجًا في بعض الأحيان عن تعذر الحصول على المعلومات من المصادر الرسمية.» وإدراكًا منها لحاجة الإعلام إلى معلومات عاجلة وسليمة، تخفف بعض مديريات الشرطة من القواعد؛ ففي مدينة بالتيمور، يمكن لقادة التحقيق وضباط الضبطية في الوقت الحالي التحدث مباشرة إلى المراسلين.

ومع ذلك، في مناطق كثيرة من البلاد، لم يمنع مسئولو جهاز الشرطة الضباط من إجراء مقابلات فحسب، بل إنهم أيضًا يحثون الضحايا والشهود على ألا يتحدثوا إلى المراسلين؛ ففي مقاطعة فيرفاكس بولاية فيرجينيا، بالقرب من العاصمة واشنطن، أعطتهم الشرطة بطاقات يُقْترَح فيها أن يتصلوا بالشرطة قبل أن يتحدثوا إلى الصحافة. افترض أشخاص كثيرون ممن تلقوا الكروت أنه عُنِي بذلك أنه يتعين عليهم الحصول على تصريح الشرطة للحديث إلى المراسلين. صرحت الشرطة أنها كانت تحاول أن تحول دون تعرض الضحايا للمزيد من الإيذاء النفسي. قال ديف ستاتر — مراسل في محطة «دبليو ديو إس إيه-تي في» التليفزيونية في واشنطن — إن هذه كانت محاولة من الشرطة «للحد مما نستطيع فعله كمراسلين». وقالت ساندرا جونتز، مراسلة بصحيفة «فيرفاكس جورنال»:
كل ما في الأمر أنك تشعر في بعض الأحيان أنك كمن ينفخ بلا طائل في قربة مشقوقة في محاولة لتقديم المعلومات للجمهور. كما أنكم قد كبلتم أيدينا بالفعل، وها هو مجددًا شيء آخر يعطي إحساسًا بعض الشيء بالتقييد.39
يود كثير من المحررين وضباط الشرطة أن ينشئوا علاقات أكثر مرونة وهدوءًا. وكثيرًا ما يحث المحررون المراسلين على أن يرافقوا رجال الشرطة في دورياتهم، مع أن بعض المديريات قد حظرت هذا التصرف بموجب قرار من المحكمة العليا.40 الهدف من مرافقتهم لرجال الشرطة لم يكن للحصول على لقطات فيديو تحاكي البرنامج التليفزيوني «كوبس» (رجال الشرطة)، ولكن لإفساح المجال للمراسلين وضباط الشرطة لخلق تفهم أفضل من كل طرف لمهمة الطرف الآخر. يحث أحد المراسلين القدامى المراسلين الجدد الوافدين على المنطقة الشُّرطية بما يلي:
كونوا ظاهرين، ابذلوا الوقت واستثمروه، كونوا دومًا موجودين، أظهروا أنكم حقًّا مهتمون، اخرجوا في جولات مرافقة لدوريات الشرطة، افحصوا التقارير بعناية … لو كنت مكانكم كنت سأذهب إلى حفلات غداء ضابط الشهر، وإلى ولائم تسليم جوائز ضباط إنفاذ القانون … حتى أكون ظاهرًا وأستوعب أكثر ما يستتبع عمل المرء كشرطي.41
ويتلقى ضباط الشرطة الجدد أيضًا تشجيعًا للتعرف على المراسلين، على الرغم من أن النصيحة تُقدَّم بعض الشيء على مضض. يقول أحد الكتيبات الإرشادية لرجال الشرطة الجدد: «إذا كانت فكرة أن تُحبَس في سيارة دورية شرطة مع مراسل تجعلك تتناول حبة من مُسَكِّن تايلينول، فعليك أن تفكر في إعادة النظر في ردة فعلك.» ويقول أيضًا إن جولات المرافقة يمكن أن «تنشئ فهمًا متبادلًا لتحديات مهمات الآخر، بل إنها قد تساعد على بناء — إن كنا نجرؤ على القول — صداقات سوف تفيد كليكما في المستقبل.»42

(٣-١) ما مدى التقارب الذي يمكن أن يكون عليه المراسلون ورجال الشرطة؟

المعضلة الأخلاقية للمراسلين هي الموازنة بين الحاجة إلى إقامة علاقات، والتعاون مع جهات إنفاذ القانون، والحفاظ مع ذلك على استقلاليتهم. بعض الصحفيين يتخذون موقفًا متشددًا أساسه عدم التعاون. ويؤمنون بأن أي تعاون يتسبب في عدم وضوح الحد الفاصل بين الشرطة والصحفيين.

وحتى مساعدة الشرطة بأشياء تبدو ظاهريًّا بسيطة يمكن أن يخلق جدلًا في الكثير من الدوائر الصحفية. تلقى ماثيو وايت — الذي كان آنذاك مراسلًا شابًّا في صحيفة مدينة ليتل روك «أركنساس ديمقراط جازيت» — معلومة مفادها أن وحدة المخدرات كانت تخطط لحملة أمنية واسعة النطاق على الكوكايين؛ فرتَّب وايت لمرافقة فرق الاقتحام الشرطية وهم يقتحمون أوكار الكوكايين في مقدمة الضباط الآخرين. لقد وصف التجربة قائلًا: «متعة كبيرة. مطاردات سريعة، ومواقف اسْتُخْدِمَت فيها القوة الفتاكة، ومواقف مقاومة السلطات عند الاعتقال، كل ذلك كان على بعد أقدام من ناظرَي.»

كانت الحملات ناجحة جدًّا لدرجة أن رجال الشرطة جمعوا عددًا من المشتبه فيهم أكثر مما يستطيعون التعامل معه؛ فطلبوا من وايت أن يساعدهم بأن يقوم بتحريك شاحنة، ووافق؛ «ربما لأن والديَّ ربياني على أن أكون دومًا متعاونًا.» عندما عاد إلى غرفة الأخبار التابع لها، لم يكن محرروه راضين. قال موضحًا: «لم يكن رؤسائي يعارضون تعاوني، ولكنهم كانوا قلقين بشأن تخطي الحد بين كون المرء مراقبًا ومشاركًا وبشأن أمور تتعلق بالمسئولية القانونية.» لقد أخبروه ألا يفعل ذلك مرة أخرى، وإلا سيعرِّض نفسه لتوبيخ رسمي.

كان مراسلو أخبار قطاع دوريات الشرطة منقسمين حول النواحي الأخلاقية لتصرفه: رأى روبرت شورت — مراسل أخبار الشرطة في صحيفة «ويتشيتا إيجل» — أن وايت كان يتصرف مثلما من شأن أي مواطن أن يفعل.

إذا احتاج الشرطي منك أن تتصل برقم خدمة النجدة العاجلة ٩١١ أو أن تناوله بندقية الخرطوش الخاصة به لينقذ حياة شخص ما أو يدافع عنه، هل ستفعل ذلك؟ بالطبع ستفعل.

ومع ذلك، اعتقد بعض مراسلي أخبار قطاع الدورية أنه من المهم الحفاظ على الحد الفاصل بين كون المرء مراسلًا وبين كونه مشاركًا، حتى في حالات مثل تحريك شاحنة. تساءلت كاثرين سوسب من صحيفة «ذا كولورادو سبرينجز جازيت»:

ما الذي يحدث عندما تخطو مبتعدًا عن قواعدك، وتعلق في المنتصف، ثم فجأة تحاول أن تصير مراسلًا ثانيةً؟ لا يمكن في الحقيقة أن تتأرجح جيئة وذهابًا دون أن تتسبب في مشاعر أكثر سوءًا.

وقالت سوسب إنه عندما يحافظ المراسلون على نمط ثابت من النزاهة، فسوف يحترمهم ضباط الشرطة لأجل مهنيتهم.43

اعتقد كثيرون أن مصورًا فوتوغرافيًّا في مدينة ناكوجدوشس، بولاية تكساس، تجاوز الخط الفاصل. كان رجل قد قتل شخصين وكان يمنع الشرطة من التقدم ببندقية خرطوش حينما وصل مصور فوتوغرافي من صحيفة «ديلي سنتينل» المحلية. قال الرجل المهووس للشرطة إنه يريد أن يتحدث إلى مراسل. وهكذا، ناول المصور الكاميرا الخاصة به ومفكرة مراسل لشرطي. تظاهر الشرطي بأنه صحفي، واقترب من الرجل وتحفظ عليه. كانت المحصلة الفورية هي ما أراده الجميع: القبض على الشرير.

ومع ذلك، أزعجت العواقب الأطول أمدًا الكثيرين في الوسط الصحفي. قالت آن كوبر — مديرة لجنة حماية الصحفيين — لمجلة «ذا نيوز ميديا آند ذا لو»: «تعرض تصرفات كهذه الاستقلالية التي يستشعرها كل الصحفيين للخطر، وتزيد من المخاطر التي يجابهونها يوميًّا في تغطيتهم لقصص خبرية خطرة.» وكتب مصور فوتوغرافي عن مجموعة نقاشية تابعة لموقع «بوينتر»: «لقد تعرضتُ للضرب على يد متظاهرين يعتقدون أن أوراق هويتي مزيفة. الآن من المحتمل أن أواجه شخصًا ما يحمل بندقية خرطوش ويقرر أنني قد لا أكون إعلاميًّا «حقيقيًّا».» وشعر أيضًا بقلق من أنه إذا كان يُنْظَر إلى الصحفيين على أنهم تابعون لسلطات إنفاذ القانون؛ «فقد تتراجع مصداقية الصحفيين.»

(٣-٢) حجب الأخبار، نقل الأكاذيب

تقدمت الشرطة في مدينة هاتيسبرج، بولاية مسيسيبي، بطلب غير معتاد إلى الصحيفة والمحطة التليفزيونية المحليتين؛ ففي سبيل تعقب الأشخاص الذين كانوا يحاولون استئجار قاتل مأجور لقتل رجل أعمال محلي، خططت الشرطة لتهيئة اكتشاف جثة رجل الأعمال المضرجة بالدماء في سيارة مركونة على طريق ريفي. أرادت الشرطة من وسائل الإعلام مجاراة الخدعة ونقل الخبر كما لو كان حقيقيًّا، وأمَّلت في القبض على القتلة المحترفين المحتملين عندما يحاولون تقاضي أجرتهم.

لم يُرِد فرانك سذرلاند — الذي كان مدير تحرير صحيفة «هاتيسبرج أمريكان» ورئيس جمعية الصحفيين المحترفين في ذلك الوقت — أن يعترض سبيل سلطات إنفاذ القانون. إلا أنه لم يُرِد التواطؤ معها؛ فطبعت صحيفته جملة واحدة: «الشرطة تسعى لإيجاد معلومات بشأن عمل إجرامي مشتبه في ارتكابه ضد أوسكار بلاك الثالث.» في المقابل، عرضت المحطة التليفزيونية صورًا مزيفة للمشهد الدموي، وأوردت أن بلاك من المحتمل أن يكون قد قُتِل.

دافع سذرلاند عن تناول صحيفته للموقف، وقال إنه أقر تعاون المراسلة مع الشرطة عندما أبلغتها بمؤامرة القتل: «لا يمكنك الاختباء خلف درع صحفي» عندما تكون ثمة جرائم على وشك أن تُرتَكَب، «إلا أن قاعدة مهمة كانت على المحك؛ ببساطة ألا يمكنك أن تكذب على قرائك.» كليف براون — مدير المحطة التليفزيونية — قال إنه امتثل هو الآخر لالتزام الصحافة بالحقيقة، ولكن عندما كانت حياة شخص معرضة للخطر، «أدركت أنه يوجد بضعة أمور في العالم لا جدال فيها.»44 (في النهاية لم تثبُت مطلقًا المؤامرة لقتل رجل الأعمال.)
في بعض الأحيان تتوقع الهيئات الشُّرطية من وسائل الإعلام الإخباري ألا تتواطأ على بث أكاذيب؛ ففي مدينة أورلاندو، بولاية فلوريدا، كان مشتبه به في جريمة قتل عمد للهروب من الشرطة، قد سطا على متجرين ليُشبع ما دعته الشرطة «نهمًا لتعاطي الكوكايين.» بعد ذلك اقتحم بيتًا، واحتجز طفلين صغيرين رهينةً؛ فأحاطت الشرطة بالبيت، مبتدئة مواجهة استمرت ثلاثة أيام. في البيانات الصحفية، قالت الشرطة إن الرجل كان يعامل الطفلين معاملة حسنة، ويلعب معهما، ويعمل على تهدئتهما. غير أنه عندما اقتحم فريق تدخل سريعٍ المنزلَ وقُتل الرجل وهو نائم، روت الشرطة قصة مختلفة. قالوا إن الرجل كان مختلًّا اجتماعيًّا عنيفًا لم يُبدِ أي شفقة تجاه الطفلين. في المفاوضات مع الشرطة، هدد بدم بارد بقتل الطفلين. ما السبب في القصتين المختلفتين؟ عرفت الشرطة أن الرجل كان يشاهد التليفزيون باستمرار. قال كبير المفاوضين: «كنا نحاول المساعدة في بناء رابطة بينه وبين الطفلين … أحيانًا تستغلنا الصحافة، وأحيانًا يكون لزامًا علينا استغلال الصحافة.»45

(٣-٣) المساومة للحصول على معلومات

بينما قد لا تُقْدِم مديريات كثيرة للشرطة على زرع معلومات زائفة على هذا النحو السافر، ستطلب مديريات كثيرة من الصحفيين ألا يوردوا معلومات قد جمعوها. في بعض الأحيان، وافقت المؤسسات الإخبارية على تأخير نقل الأخبار، بما يشمل حتى الأخبار الحصرية البارزة؛ فتحت ضغط من القادة الأمريكيين، أبطأت شبكة «سي بي إس» الإخبارية عرض الصور الفوتوغرافية التي تُظهر انتهاك السجناء العراقيين في سجن أبو غريب على شاشاتها لأسبوعين كي تتمكن المؤسسة العسكرية من التحضير للتأثير المتوقع أن يحدثه التقرير.46 كان مراسل مجلة «نيوزويك» مايكل آيزيكوف مستعدًّا للكشف عن الخبر الذي مفاده أن مونيكا لوينسكي قد قالت إنها مارست الجنس مع الرئيس كلينتون. توسل المدعي الخاص كينيث ستار للمجلة لكي توقف نشر الخبر إلى أن يكون قد جمع معلومات أكثر عن طريق جعل لوينسكي تضع ميكروفونًا خفيًّا. قال آيزيكوف لمجلة «بريلز كونتينت»: «أنتم تريدون نقل ما تعرفون، لكنكم لا تريدون التأثير فيما يحدث.»47
كثيرًا ما يكون طلب الشرطة حجب معلومات هو طلب مشروع تمامًا؛ فقد تؤدي قصة خبرية تتسم بسوء التوقيت إلى الإضرار بشاهد أو إلى فقدان الأشرار لصوابهم من شدة الفزع وإلحاقهم الأذى بأُناسٍ أبرياء. التمس مكتب التحقيقات الفيدرالي من وسائل الإعلام الإخباري في مدينة إل باسو، بولاية تكساس، حظرًا لنشر الأخبار بعدما اختُطِف صبيان صغيران من منزلهما. بعد يومين ونصف اليوم من الاختطاف، رُفِع الحظر عندما أخبر الخاطفون الأسرة أن بإمكانهم العثور على الصبيين في سيارة متروكة على الجهة الأخرى من النهر في مدينة خواريز بالمكسيك، وكانا سالمين. قالت باولا مور — التي كانت آنذاك مديرة التحرير المشاركة لصحيفة «إل باسو تايمز» — للقراء في مقالة حول التعتيم الإعلامي:
بإطلاع مكتب التحقيقات الفيدرالي لنا على حقيقة أن حياة شخصين كانت معرضة للخطر، أصبح عدم نشر الخبر قرارًا سهلًا. إننا لسنا معتادين على حجب الأخبار عن المجتمع لأي سبب، ولكن حياة الناس أكثر أهمية يقينًا من نشر خبر عاجل. عرفنا أن باستطاعتنا أن نروي القصة كاملة لاحقًا.48
لقد امتثلت وسائل الإعلام لمطالبات الشرطة فقط لتتساءل بإدراك متأخر عما إذا كانت قد فعلت الصواب. أرسل سفاح BTK الشهير (وكان يُعرف بهذا الاسم بسبب ما كان يفعله في ضحاياه من تقييد Bind، وتعذيب Torture، وقتل Kill) — الذي مارس اعتداءات جسدية ثم قتل نساءً في مدينة ويتشيتا — الكثير من الرسائل إلى المنافذ الإخبارية المحلية تتضمن «دمية على رأسها كيس ويداها مربوطتان خلف ظهرها، وبطاقات بريدية بدت أنها تشير إلى طرود من القاتل، وأحجية مُلئت بأدلة على هويته.» سلمت وسائل الإعلام المواد إلى الشرطة دون نشر معلومات عنها؛ بناءً على طلب الشرطة. أخيرًا، تمكنت الشرطة من تعقب القاتل بعد تحليل المواد وحل أحاجي القاتل. فيما بعد، خمَّن كثيرون أنه لو كان العامة قد اطلَّعوا على تفصيلات أكثر حول الواقعة، لكان باستطاعتهم تزويد الشرطة بدلائل أفضل، بل ربما كانوا قد حلوا أحاجي القاتل بأسرع مما فعلت الشرطة، ولربما كانت النتيجة القبض على القاتل على نحو أسرع.49

عادة ما تؤدي المطالبة بحجب معلومات إلى «شكل من أشكال المساومة التي هي عبارة عن لعبة يومية بين رجال الشرطة ومراسلي أخبار المحاكم»، حسبما كتبت كيلي ماكبرايد، وهي مراسلة مخضرمة لأخبار الشرطة، وتعكف حاليًّا على الإجابة عن المسائل الأخلاقية في معهد بوينتر. وكتبَت أن الأمر يحدث في كل من إدارات الشرطة الكبيرة والصغيرة: «يحدث الأمر بشأن أخبار صغيرة كحوادث السطو المتكررة على السيارات وكبيرة كأخبار القتلة المتسلسلين.»

قالت ماكبرايد إنه كان يحدث أحيانًا أن تطلب الشرطة كتمان المعلومات لأنها لم تحقق في الواقعة تحقيقًا كافيًا، وأضافت قائلة: «في بعض الأحيان، لا يكون لديهم أسباب، على الأقل أسباب سيفصحون عنها.» يجنح المراسلون إلى الامتثال بالطلبات الواهية — حسب قول ماكبرايد — آملين أنه «إذا ما وضعت هذا الأمر جانبًا اليوم، فقد تمنحني خبرًا حصريًّا غدًا.» وقالت إنه بناءً على خبرتها، فإن ذلك نادرًا ما يجدي نفعًا. وأردفت تقول: «قد يتصل بك المحقق أولًا، ولكن بعد ساعتين يكون الخبر لدى المنافسين على أي حال.» وقدمت هذه النصائح:
  • بادئ ذي بدء استدل على المصدر الذي جاءت منه المعلومات؛ فأي شيء يمكن إيجاده في سجل عام، أو أي شيء يُكشف عنه طواعية بواسطة شاهد أو لوحظ مباشرة بواسطة صحفي ينبغي أن يُعتَبَر لقمةً سائغةً؛ فالحجة لصالح الحجب يلزم أن تكون قوية جدًّا.

  • ينبغي أن يدرك المحامون وضباط الشرطة عدم جدوى محاولة تحديد أن معلومة ما ليست للنشر بعد الإدلاء بها.

  • عندما يطلب منك شرطي أو محامٍ أو مسئول بالمحكمة أن تحتفظ بمعلومات، اسأل عن السبب. إذا لم يكن باستطاعته أن يعطيك مبررًا جيدًا، فلتنشر المعلومات.

  • في الحالات التي يكون لدى المحققين فيها طلب وجيه، لا توافق على حجب المعلومات دون تحديد. اسأل: في أي وقت سيكون مقبولًا نشر هذا؟ اتفق مبدئيًّا على فترة زمنية قصيرة، فلتقل مثلًا ٢٤–٤٨ ساعة أو ربما أسبوع، ثم أعد النظر في قرارك.

  • اجعل خدمتك للجمهور هي دليلك. لا تحجب معلومات سيؤدي حجبها إلى تضليل العامة أو إلى ترك انطباع زائف لديهم. بدلًا من ذلك، اتفق على الاحتفاظ بالمعلومات إذا كنت تعتقد أن هذا الفعل يخدم الصالح العام، ولكن عليك أن تدرك أنه في معظم الأحيان يخدم الكشف عن المعلومات ذلك الصالح العام بنفس القدر الذي يفعله إخفاؤها.50

(٤) سيناريوهات للمناقشة

هذه السيناريوهات تعتمد على خبرات المراسلين والمحررين، ولقد عُدِّلَت من أجل المساحة والتأثير. في غالبية هذه المواقف، سيلتمس المراسل المشورة من محررٍ؛ وسيكون من شأن المحررين أن يتخذوا القرار النهائي. بَيْد أن المُدخَلات الرئيسية ستأتي من المراسل، والمحررون الجيدون سيستمعون مليًّا للمراسلين قبل اتخاذ قرار. في بعض الحالات، سترى ملاحظة تشير إلى أنه يمكنك أن تُراجع لترى ما فعله المحررون الحقيقيون. ذلك لا يعني أنهم فعلوا الصواب، ولكن يمكنك مقارنة أفكارك بأفكارهم.

(٤-١) سيناريو الرقابة الحكومية الأول: أبناء يموتون جراء تعاطي أدوية

شقيقان — في الخامسة عشرة والعاشرة من عمريهما — ماتا في غضون أيام تفصل بينهما جراء جرعات زائدة من أدوية مُعطاة للأم حسب وصفة طبية، ووُجِدَت أدوية أخرى في جسديهما.

بعد ذلك ببضعة شهور، تُقرِّر متابعةَ تقرير إخباري عن إساءة استخدام الأطفال الصغار للأدوية المعطاة حسب وصفات طبية. من ناحية أخرى، أخبرك مسئولون مدرسيون ومعلمون وحتى ضباط مكافحة المخدرات أن الأمر لا يمثل مشكلة كبرى بين الأحداث على المستوى المحلي. قال زملاء الفتاة الأكبر في الصف إنها كانت تكره المخدرات بسبب ما كانت قد فعلته لأمها، وأنهم صُدِموا من أنها ماتت بسبب جرعة زائدة. أظهر فحص السجل الجنائي أن الأم كان قد قُبض عليها مرتين لإحرازها الكوكايين الصخري (الكراك). يعتقد الجيران أنها مرت بتجربة إعادة تأهيل مدمني المخدرات بأمر المحكمة قبل بضعة أعوام، إلا أن الأمر لم يجدِ نفعًا. وأخبروك أيضًا أن الأم تركت الأطفال وحيدين بالبيت بينما خرجت تلهو. كان لدى هيئة رعاية الأطفال التابعة للولاية خمس شكاوى ضد الأم، وفي إحدى المرات عندما اسْتُدعي المسعفون إلى المنزل بسبب الإبلاغ عن تعاطي أحد الأولاد جرعة زائدة، رفضت تلقي العلاج الطبي.

قررتَ أن تخبر المحققين بما علمتَ، وهذا بالطبع لم يكن شيئًا جديدًا بالنسبة إليهم. ورغم ذلك طلبوا منك ألا تكتب التقرير الصحفي. وبصورة غير رسمية، قالوا لك إنهم يعتقدون أن الأم تعرف أكثر بكثيرٍ بشأن الوفيات؛ فقد كانوا يأملون أنه بالحفاظ على سرية تحقيقهم، قد تُفرِط في الثقة وترتكب خطأً يمكن أن يزودهم بدليل كافٍ للقبض عليها، وربما القبض على مورد لمنشِّط الميثامفيتامين وللأدوية المعطاة حسب وصفات طبية. ولرغبتك في ألا تعيق تحقيقهم، تقرر أن تمتثل لطلبهم.

كان ذلك منذ ثمانية شهور. تعود اليوم — بعد مضي أربعة شهور وبعد نحو عام على الوفيات — وتحظى بنفس الموضوع الصحفي. سيكتفي المُدَّعي العام بالقول إن القضية «معقدة».

هل تكتب الموضوع الصحفي على أي حال؟ هل تُعطي كل التفاصيل عن المشكلات بالبيت وتاريخ الأم المتعلق بتعاطي المخدرات والتهم المتعلقة بالمخدرات؟ هل تُدرِج تعليقات القائمين على إنفاذ القانون حول التحقيق الجاري والقضية «المعقدة»؟ (قرارات الصحيفة تجدها في نهاية الكتاب.)

(٤-٢) سيناريو الرقابة الحكومية الثاني: التحدث إلى عمدة المدينة

لقد حصلتَ على مَهمتك الأولى كمراسل صحفي، ولمدة شهر، كنتَ تغطي الأخبار المتعلقة بمجلس المدينة، وفي أحد الأيام عندما ترجع إلى العمل، يريد مدير التحرير أن يراك؛ لأن عمدة المدينة اتصلت لتشتكي؛ فقد كتبتَ موضوعًا صحفيًّا في الصحيفة الصباحية، وهي تدَّعي أنك أسأت في الاقتباس منها، وأخطأت في فهم بعض الوقائع الأخرى، بل هي حتى سجلت سرًّا المقابلة الصحفية، ويمكنها إثبات أخطائك. فتُراجِع ملاحظاتك، وتقرر أنك ارتكبت بالفعل بعض الأخطاء، وتنشر الصحيفة تصحيحًا.

بعد بضعة أيام، تتصل بالعمدة لإجراء مقابلة أخرى معها؛ فتقول لك إنها لن تتحدث إليك إلا إذا سمحت لها بقراءة التقرير الصحفي قبل أن ينتقل إلى الصحيفة، وتقول إنها لا تثق بك، وتشير إلى أن من يقرءون التصحيحات ليسوا بكثرة أولئك الذين يقرءون التقارير الصحفية التي تُنشر في الصفحة الأولى. أخبرتك أنه لا بأس في حضورك المؤتمرات الصحفية، ولكن قبل أن تمنحك مقابلة منفردة، عليك أن توافق على شروطها.

ماذا تفعل؟

(٤-٣) سيناريو الرقابة الحكومية الثالث: خبير الدفاع عن النفس

لدى شرطة المدينة موظف خدمة عامة عمل جنديًّا سابقًا في مشاة البحرية، وحائز على حزام أسود في الفنون القتالية. تتضمن واجباته إعطاء دروس في الدفاع عن النفس والتحدث إلى مجموعات الحي عن منع الجريمة. وبينما هو في مطار لندن عائدًا من إجازة يستشعر أن شخصًا ما يسحب حافظة نقوده من جيب بنطاله الخلفي؛ فيدور ويُمسك بيد لصة شابة؛ فتضربه المرأة، ذات الخمس الأقدام والأربع البوصات طولًا، بركبتها بين فخذيه، وتُسقطه على الأرض بحركة كاراتيه، وتركله في وجهه قبل أن تلوذ بالفرار. تُقدم له الشرطة الإسعافات الأولية، ويتمكن من اللحاق بطائرته العائدة إلى موطنه، ولا تزال الكدمات به بعد عودته إلى عمله.

أنت مراسل وتسمع بالشائعة؛ فتتصل بالأمن في مطار لندن جاتويك. يضحك الشخص الذي يرد على الهاتف عندما تسأل عن الواقعة. يتطوع الحارس مُدليًا بأن الشهود قالوا إن المرأة كانت في نصف حجمه، ورفيعة كعارضات الأزياء. ويقرأ الاسم من التقرير المحفوظ من قِبَل أمن المطار، ولكنه يشير إلى أن التقرير الرسمي أخذته شرطة العاصمة.

تقرر أن تحصل على الرواية من جانب موظف شرطة المدينة؛ فيرفض التعليق ويقول إنه لا يوجد أي سبب مطلقًا لأن توجه إليه أسئلة حول الأمر. ويقول: «لا دخل لأحدٍ بالأمر. إن كان قد حدث؛ فقد كان على بعد آلاف الأميال.» ويشير إلى أنه عندما يطلب منك أن تبدأ في وضع تقارير السطو على المنازل في الصحيفة لتحذير الناس، فلن تفعل ذلك. ويُردف قائلًا: «ولكن هل ستتصل بلندن من أجل شيء كهذا؟» ويُلمح إلى أنك سوف «تفقد ما لك من أصدقاء قليلين في قوة الشرطة.»

فهو — بالطبع — الضحية؛ إذ كان خارج الخدمة، ولم يرتكب أي خطأ.

هل تستخدم الخبر، وتحدد هويته، وتشير إلى أن مَهمته هي أن يُعلِّم الضباط كيفية حماية أنفسهم؟

هوامش

(1) Information about the DCF was taken from Tere Figueras And Elaine De Valle, “Missing girl, 5, was on DCF’s case list,” The Miami Herald, April 30, 2002; Charles Rabin And De Valle, “Child welfare agency repeatedly uncooperative, grandmother says,” The Miami Herald, May 2, 2002; Shana Gruskin and Sally Kestin, “Missing Girl’s Case Not Unique,” Sun-Sentinel, May 27, 2002; Vickie Chachere, “DCF accused of concealing files,” Tallahassee Democrat, June 5, 2002; Kestin, Diana Marrero and Megan O’Matz, “Lost kids easily found: Sun-Sentinel turns up nine of DCF’s missing children,” South Florida Sun-Sentinel, Aug. 11, 2002; Kestin, Marrero and O’Matz, “Gov. Bush calls for ‘new approach’ to protecting children,” South Florida Sun-Sentinel, Aug. 13, 2002; Jim Ashe, “DCF Wants Newspaper To Submit Info About Missing Kids,” The Palm Beach Post, Aug. 13, 2002; Associated Press, “Beleaguered DCF chief Kearney quits,” Sun-Sentinel, Aug 13, 2002; Kestin and Marrero, “DCF Doesn’t Seek Public’s Help In Finding Children,” South Florida Sun-Sentinel, Aug. 19, 2002; and “A Lack Of Credibility,” Orlando Sentinel, Aug. 21, 2002.
(2) Sissela Bok, Secrets: On the Ethics of Concealment and Revelation, New York: Vintage, 1984, p. 177.
(3) Donald Asher, “The state of secrecy,” Quill, April 1998, pp. 17–23.
(4) Charles Layton, “The information squeeze,” American Journalism Review, September 2002.
(5) “Backlog of FOIA requests extends into the 1980s,” Associated Press, November 18, 2003.
(6) Rebecca Daugherty, “Even when you get it, it’s not all there,” The News Media and The Law, Spring 2005, and Rebecca Carr, “Pentagon releases hundreds of photos showing fallen soldiers in caskets,” Cox News Service, April 28, 2005. See “Return of the Fallen” on the National Security Archive Website, posted April 28, 2005.
(7) Daugherty, op. cit.
(8) Rosalind C. Truitt, “Citizen concerns augment government officials’ increased efforts to curtail press privileges,” Presstime, May 1996.
(9) Elizabeth Whalen, “High tech info—and high tech costs,” The Quill, September 2001.
(10) Layton, op. cit.
(11) Amy Rinard, “Open-records ruling enforced as revision is under way,” Milwaukee Journal Sentinel, December 9, 2001.
(12) Mary Allen, “Access to court records allowed,” The (Wilmington, Del.) News Journal, October 3, 2002.
(13) Evelyn Larrubia, “Supervisors’ decisions made mostly behind closed doors,” Los Angeles Times, March 26, 2002, p. A1.
(14) Breanne Gilpatrick, “FDLE to probe Copper City dinner allegations,” The Miami Herald, November 9, 2006.
(15) Truitt, op. cit.
(16) Mike McWilliams, “Press-Citizen sues Board of Regents,” Iowa City Press-Citizen, December 22, 2006.
(17) Greg McDonald, “State sunshine laws under attack,” Stateline.org, May 24, 2001.
(18) Howard Simons, “Government and national security,” excerpt from talk to ASNE Convention in Editor & Publisher, April 26, 1986, pp. 80–89.
(19) Bok, op. cit, p. 208.
(20) Felicity Barringer, “Breaking a taboo,” The New York Times, October 26, 1998.
(21) Frank Aukofer and William Lawrence, The Odd Couple: A Report on the Relationship between the Media and the Military, Arlington, VA: Freedom Forum, 1995.
(22) Malcolm W. Browne, “The fighting words of Homer Bigart: A war correspondent is never a cheerleader,” New York Times Book Review, April 11, 1993, p. 13.
(23) “Pentagon activates press pool to cover Libya bombing,” Presstime, May 1986, p. 69.
(24) William Boot, “Wading around in the Panama pool,” Columbia Journalism Review, March/April 1990, pp. 18–20.
(25) Pete Yost, “U.S. sharply distorts war news, study says,” Chicago Tribune, January 19, 1992.
(26) Barringer, op. cit.
(27) “Covering the war,” PBS’s NewsHour, April 20, 2000.
(28) Eric Sorensen, “The information war,” The Seattle Times, October 6, 2001, p. A3.
(29) Chris Hedges, “The Unilaterals,” Columbia Journalism Review, March/April 1990.
(30) Aukofer and Lawrence, op. cit.
(31) Mark Jurkowitz, “The media’s conflict experts say access to troops helped more than hurt,” The Boston Globe, April 22, 2003.
(32) Ibid.
(33) Joanne Ostrow, “Iraq war coverage more eye-catching than eye-opening,” The Denver Post, April 27, 2003.
(34) Lori Robertson, “Images of war,” American Journalism Review, October/November 2004.
(35) Shahira Fahmy, “U.S. photojournalists’ and photo editors’ attitudes and perceptions,” Visual Communications Quarterly, Summer/Fall, 2005.
(36) Lucy Dalglish, “Censoring the truth about war,” The News Media and The Law, Summer 2004, and John Wilkens, “Graphic images of war and its costs stir emotions,” The San Diego Union-Tribune, April 27, 2004.
(37) Julie Mason, Mike McDaniel, Andy Netzel, and L.M. Sixel, “Newest in reality TV really brings war home,” The Houston Chronicle, March 22, 2003.
(38) Jenny Christensen, “Scrambling solutions for police and first responders,” www.policeone.com, undated.
(39) “Will ‘Victim/Witness Media Information Cards’ leave crime victims better informed of their rights or biased against the press?”, PBS’s NewsHour, July 20, 2000.
(40) The Supreme Court ruled in 1999 that if reporters follow police into a person’s home, the person’s Fourth Amendment rights might be violated. Although the court’s ruling was limited to entering private homes, lawyers have advised many police departments not to risk losing a conviction because of the presence of a reporter in a patrol car regardless of location.
(41) David Ovalle of The Miami Herald quoted by Meg Martin, “Leaving fingerprints: Inside the police beat,” www.poynteronline.org, November 22, 2005.
(42) Scott Buhrmaster, “Six tips for improving police/media relations,” www.policeone.com, undated.
(43) Interview by author, September 1998.
(44) Details are from Cliff Brown, “The Public’s Right to Know Can Kill You,” unpublished paper; Janet Braswell, “Police Stage Hoax to Stop Contract ‘Hit,’” Hattiesburg (Miss.) American, Dec. 10, 1984; “The American Did Not Take Part in Hoax,” Hattiesburg (Miss.) American, Dec. 11,1984; Duane McAllister, “Publisher Goes on Donahue Show to Defend a Tough Ethics Decision,” Gannetter March 1985, pp. 6-7; Frank Sutherland, “A Man Threatens Murder in Hattiesburg—And Debate Rages on Using False Stories,” Gannetter, August 1986, pp. 4–8.
(45) Roger Roy, “He’s using her as a shield,” The Orlando Sentinel, December 13, 1997, pp. A1 and A18.
(46) Floyd McKay, “The images of war,” The Seattle Times, May 12, 2004.
(47) Steve Brill, “Pressgate,” Brill’s Content, August 1998, pp. 128-129.
(48) Paula Moore, “Two boys are kidnapped in El Paso—and the media weigh withholding the story,” Editorially speaking section of Gannetteer, August 1986, pp. 2-3.
(49) P. J. Huffstuttee and Stephanie Simon, “Media’s role in BTK case scrutinized,” The Los Angeles Times, March 3, 2005.
(50) Kelly McBride, “On the dangers of holding back,” Poynter Online, posted March 5, 2005.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤