الفصل السادس

الأمة والدِّين

تُعتبر العلاقة بين الأمة والدِّين علاقة معقَّدة تاريخيًّا وفكريًّا. ولقد أدَّى الدِّين دورًا أساسيًّا في عملية تشكيل الأمم واستمرارها، كما كان في نزاعٍ مع هذه العملية. ويتطلَّب فهم هذه العلاقة تقريرَ كيفية اختلاف هذا الأمر من دينٍ إلى آخر؛ مما يستتبع تحليلًا مقارنًا. ودعنا نبدأ دراسة هذه العلاقة المعقَّدة بالعودة إلى الحالات الأربع المذكورة في الفصل السابق، التي يقوم الدين في كلٍّ منها بدورٍ أساسي في وجود الأمة.

رغم أن أصل أمة إسرائيل القديمة كان غامضًا، كما هو الحال في أممٍ أخرى، فمن المرجَّح أن أحد العناصر المهمة في تشكيلها هو العامل الحربي. وثمة أدلةٌ قليلةٌ لدينا عن تاريخها المبكِّر تفيد الشيء نفسه؛ فمثلًا نجد أن أحد آثار الفرعون مرنبتاح (١٢٠٧ قبل الميلاد) قد سجَّل انتصارَ مصر على شعبٍ نُسب إليه اسم «إسرائيل»، أو ما وُصف في سِفر القضاة، الإصحاح ٥، بتحالفات عسكرية لبني إسرائيل الأوائل. ويزداد هذا الاحتمال إذا صحَّ ما قيل من أن معنى كلمة إسرائيل هو «غلب إيل»، ولفظ «إيل» باللغة السامية معناه الإله أو الرب.

fig11
شكل ٦-١: أثر للفرعون مرنبتاح، يتضمن مقولة بأن «بني إسرائيل قد صاروا هباءً وحبوبهم بقيت» بسبب النصر العسكري لمصر عليهم في حوالي عام ١٢٠٧ قبل الميلاد.

صحيح أن المرء لا يمكنه أن يقول على وجه التحديد متى صارت عبادة يهوه سائدةً على المعبودات الأخرى التي عبدها ذلك الشعب الذي صار اسمه إسرائيل، إلا أنه من المرجَّح أنَّ يهوه كان الرب الذي عبده كلٌّ من داود وسليمان. ومن المؤكد أنه في مرحلة ما من التاريخ الإسرائيلي، كانوا يعتبرون أن المرء لكي يكون إسرائيليًّا (أو يهوديًّا) لا بد أن يعبد يهوه؛ ومن ثم فهم يميِّزون بني إسرائيل عن العمونيين الذين عبدوا الإله مولوخ، والموآبيين الذين عبدوا الإله كيموش، والآراميين الذين عبدوا الإله حدد. وفضلًا عن هذا، فمن الواضح أن عبادة يهوه دعمت وجود واستمرار الأمة اليهودية خلال عصور الاحتلال البابلي والفارسي والسلوقي والروماني.

وتُمَثِّل عبادةُ إلهٍ واحدٍ بشكل أساسي من قِبَل مجتمع واحد — على سبيل المثال عبادة «يهوه» من قِبَل الإسرائيليين أو الإله كيموش من الموآبيين؛ ومن ثم استبعاد عبادة إلهٍ آخر لدى مجتمع آخر دون إنكار وجوده — تطورًا مهمًّا في وجود أمة من الأمم. وفي هذه الحالة، حيث تكون عبادة الإله محدَّدة بإقليمٍ معيَّنٍ وبالشعب الذي يسكن ذلك الإقليم، يكون ثمة توافقٌ أو اتِّحادٌ بين الدِّين والأمة؛ إذ يدعم ذلك الدِّينُ الأُمَّة؛ لأن عبادة الإله حينئذ بوصفه إلهًا للبلاد توحِّد البلاد وسكانها في مجتمع إقليمي للأمة موحَّدٍ ثقافيًّا نسبيًّا. وإنه في حالة التوحيد فقط (أي الإيمان بإله واحد)، يكون ثمة إنكار لوجود آلهة أخرى، عقائديًّا على الأقل؛ إذ تُعتبر حينئذ أوثانًا. ومع ذلك، فحتى حينما صار الإسرائيليون القدماء موحِّدين للإله، استمرت عبادة «يهوه» من قِبَل الإسرائيليين القدماء، ثم من قِبَل اليهود بعدهم، تحوي أفكارَ الشعب المختار وأرض الميعاد وما يفترض من نَسَبِهم لإبراهيم ومن بعده إسحاق ويعقوب، وهو الذي ميَّز أولئك الموحِّدين كأمة عن العباد الآخرين للرب الواحد.

وكما لاحظنا من قبل، ففي بدايات التاريخ السنهالي وأثنائه، كان التوحيد الإقليمي غير الكامل لسريلانكا غيرَ منفصلٍ عن نشر الديانة البوذية في أنحاء الجزيرة. ويعتمد تاريخ اليابان المستمر إلى حدٍّ ليس بقليل، ولا سيما بناء الإمبراطورية، على عبادة مجموعة الآلهة اليابانية المسماة «كامي»؛ وهي الآلهة الإقليمية للعشائر اليابانية، وتحويل تلك العبادة إلى ديانة قومية من خلال عبادة ما أسموها إلهة الشمس أماتيراسو. وفي النهاية، بينما اتخذت الممالك البولندية تحت حكم فواديسواف الأول وابنه كازيمير في القرن الرابع عشر الميلادي من استعادة مملكة بياست مرجعًا لها، كانت العقيدة الكاثوليكية الرومانية تشكِّل عاملًا مهمًّا للغاية في عملية الاستعادة تلك، وبدأ الأمر في شكل محمية بابوية، ثم بتمييز بولندا عن ألمانيا اللوثرية التي تقع عند حدودها الغربية، وروسيا الأرثوذكسية الشرقية عند حدودها الشرقية.

وفي جميع هذه الحالات، بالإضافة إلى حالات أخرى؛ مثل تحوُّل أرمينيا القديمة إلى المسيحية وتشكيل مجتمعاتٍ من الأرثوذكس الشرقيين، نجد أن دور الدين كعاملٍ في نشوء الالتحام الإقليمي النسبي لهذه المجتمعات — التي كانت في السابق مجزَّأةً ثقافيًّا لتتحولَ إلى أمم — وفي استمرار ذلك الالتحام، قد ساعدته الاستراتيجيات السياسية التي اتبعتها المراكز الحاكمة الناشئة، التي صارت رسمية ومهيمنة فيما بعد. ومع ذلك، كانت هناك تعقيداتٌ بخصوص إسهام الدين في التحام هذه الأمم؛ فعلى سبيل المثال، بالنسبة إلى إسرائيل القديمة كان هنالك السامريون ممَّن يعبدون يهوه أثناء عصر المعبد الثاني. وفي اليابان، اعتُبرت البوذية مهمةً خلال جزءٍ كبيرٍ من تاريخها، وبالنسبة إلى سريلانكا التي تدين بالبوذية، كان هناك التاميل الذين يمارسون العبادة الهندوسية، وهناك جوانب متعددة من الديانة الهندوسية أُدخِلت ضمن البوذية السنهالية. وأما عن بولندا الكاثوليكية، فقد كانت هناك أقلياتٌ يهوديَّةٌ وبروتستانتية ملحوظة.

الأمة وتوحيد الإله

هناك مَيلٌ من الإنسان لأن يصوغ من خلال الدين الهدفَ من وجوده في هذه الحياة؛ والذي يكون عادةً علاقة مجتمعه بسائر المجتمعات؛ ومن ثم موقع هذا الإنسان ومجتمعه في النظام المتصوَّر للكون. ومع ذلك، فعند صياغة هذا الهدف، تتعقَّد العلاقة بين الأمة والدين حينما يكون ذلك الدين توحيديًّا (أي قائمًا على عبادة إله واحد)؛ وهذا لأن الإيمان بإلهٍ واحدٍ يؤكِّد وحدة الإنسانية، لا تمايز الأمة ككيان مستقل.

وتتصف الديانة التوحيدية العالمية للإسرائيليين القدماء واليهود بشكلٍ واضحٍ بوجود فكرتَيْن؛ هما «الشعب المختار» و«أرض الميعاد». وتربط هاتان الفكرتان معًا هدفين يختصان بوجود الإنسان؛ وهما:
  • (١)

    استمرار الأمة على أساس الانشغال بالحيوية (سفر التثنية، الإصحاح ٣٠: ١٩-٢٠: «فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك … على الأرض»).

  • (٢)

    التأكيد على نظامٍ سليمٍ للحياة يكون عالميًّا، كما يتَّضح عن طريق الإيمان بالإله الواحد.

ولا تحتاج صفة الديانة التوحيدية تلك إلى أن تكون واضحةً من الناحية المفاهيمية؛ فمثلًا، حينما يُنظر إلى الكاثوليكية الرومانية والبوذية، الموحِّدَيْن للمعبود، من منظور التاريخ المقابل لكلٍّ من بولندا وسريلانكا، فإنهما تُعَدَّان أيضًا حالتَيْن تكون فيهما المعتقدات التوحيدية متضافرةً مع مفهوم الأمة. وفي الواقع، إن البوذيين السنهاليين اليوم يعبدون ما يسمونها «الآلهة الأربعة الضامنة» الإقليمية باعتبارها حاميةً للأمة.

وإذا وضعنا في اعتبارنا أدلةً إضافيَّةً فسوف يوضِّح هذا العلاقةَ المعقَّدة بين الديانة التوحيدية والأمة. تتضمَّن التقاليد الأرثوذكسية الشرقية أن مريم العذراء في أثناء حصار مدينة القسطنطينية من قِبَل الآفاريين والفرس في القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلادي، كانت تقاتل إلى جانب المدافعين عن المدينة أمام أسوار كنيسة بلاشيرني؛ حيث يُفترض أن كفنها قد وُضِع فيها في وقت سابق. وتبعًا لهذا نبعت الفكرةُ بأن مريم «أم المسيح» كانت هي الحامية للقسطنطينية. كذلك يوجد في التقاليد البولندية تجلِّي مريم العذراء عام ١٦٥٥ على جدران دير مدينة تشيستوخوفا لتهزم غزاة بولندا من السويديين؛ ومن ثم نشأ الاعتقاد بأن مريم كانت الحامية لسلامة بولندا الإقليمية.

وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ لمعبود أو معبودة يُنظر إليه باعتباره حاميًا لمجتمعٍ إقليمي. وربما كان أكثرها شهرةً هو اعتبار الإلهة أثينا عند اليونانيين مُحسِنةً وحاميةً لأثينا القديمة، ولكن الديانة اليونانية القديمة كانت قائمةً بالطبع على تعدُّد الآلهة. ومع ذلك تُعَدُّ الاعتقاداتُ في الأفعال المفترَضة من جانب السيدة مريم العذراء في تشيستوخوفا، أو تلك التي قام بها بوذا في الأساطير السنهالية، أمثلةً لإسهامات ديانات توحيدية في تقوية واستمرار الحدود المكانية الجوهرية؛ أي الإقليم المحدَّد لتلك الأمة الدنيوية. فهل يمكن فهم تلك الإسهامات باعتبارها تهديدًا من الديانات الشِّرْكية للديانة التوحيدية؟ فلماذا تُبدي السيدة مريم العذراء «أم المسيح» أي تفضيل لبولندا كما فعلت الإلهة أثينا مع مدينة أثينا اليونانية؟

fig12
شكل ٦-٢: لوحة لمريم العذراء في دير تشيستوخوفا (العذراء السوداء). وفي عام ١٧١٧ أعلن الملك البولندي كازيمير اعتبار مريم ملكة لبولندا.

لنستعرض الآن التعقيدات التي تفرضها الأمة تجاه العبادة التوحيدية من زاوية أخرى. فبعض الأمم تحتفي بالماضي بما فيه من لحظاتٍ حرجةٍ وتضحياتٍ بطوليةٍ دفاعًا عن الأمة بوضعِ «قبرٍ للجندي المجهول»، كما فعلت إنجلترا على سبيل المثال عند كاتدرائية وستمنستر في لندن، وكما فعلت فرنسا عند قوس النصر في باريس، والولايات المتحدة عند مقبرة أرلنجتون القومية قرب واشنطن، واليابان عند ضريح ياسوكوني في طوكيو. إذ تُعَدُّ هذه المقابر معالمَ للأسلاف وأبطالِ الأمة المجهولين، الذين يُعتقد أنهم يستحقُّون التبجيل بسبب بذلهم أرواحهم حمايةً للأمة في الحروب.

fig13
شكل ٦-٣: ضريح ياسوكوني في طوكيو، الذي بني في عام ١٨٦٩ تحيةً للأرواح المقدسة لمن ضحوا بحياتهم من أجل اليابان في الحرب.

وضمن الحضارات التوحيدية، لا يُعَد الجنود الذين سقطوا في ميادين القتال وتُخلَّد ذكراهم بقبور الجندي المجهول، من الآلهة؛ إذ كانوا يُعَدون من البشر العاديين، بينما تُعتبر مريم العذراء التي يتوجَّه الكثيرُ من المسيحيين إليها بالصلاة ذات قوة غيبية. وثمة أهميةٌ لمثل هذا التمييز؛ لأنه في حالة السيدة مريم فنحن في العالم المفاهيمي للدين، إلا أنه ثمة هالة دينية تحيط بقبر الجندي المجهول؛ مما يشوِّش هذا التمييز.

إن جوهر الديانات التوحيدية يسمو فوق مستوى هذه الدنيا؛ فهو إما يتعلَّق بوجودٍ غيبيٍّ مثل الجنة أو النيرفانا، أو نهاية الزمن حينما تصير الدنيا غير الدنيا، أو يتعلَّق بقوة غيبية. وبالتأكيد هناك أيضًا عناصر تخيُّلية في الأمة، كما تُعبِّر عنها الاستمرارية الزمنية المؤكدة بين الحاضر والماضي، وتعبِّر عنها أيضًا القرابة الممتدة إقليميًّا، وكلتاهما تتجاوز الخبرة الجسدية العادية لأي إنسان. ومع ذلك، فإن موضوع هذا السمو؛ أي المجتمع الإقليمي للأمة، هو أمرٌ دنيوي، إلا أننا لاحظنا بالفعل أمثلةً قامت فيها المجتمعات التاريخية المنتمية إلى ديانات توحيدية ببثِّ الغموض في هذا التمييز بين العالم الآخر والدنيا؛ إذ عملوا بشكل متكرِّرٍ على تكييف أنفسها على العلاقات الإقليمية الدنيوية، وسوف نتحوَّل بالمناقشة لمثل هذا التكيُّف الذي يشمل أيضًا قبورَ الأبطال.

تقديس القدِّيسين

على النقيض من تلك التكيُّفات، كانت المسيحيةُ المبكِّرة تسخر بحقٍّ من عبادة قياصرة الرومان واعتبارهم آلهةً؛ إذ اعترضت على هذه الوثنية التي تحاول رفع مستوى الكائن البشري بتأليهه، وكانت هناك نسخةٌ مسبقة من هذا الفعل، وهي عبادة البطل اليوناني الميت. إلا أنه خلال تاريخ المسيحية في نهاية عصرها القديم وفي العصور الوسطى يمكن ملاحظة ظهور صورة مختلفة من هذا الإعلاء في شكل «تقديس القديسين». وكثيرًا ما كان تقديس القديسين يُمثِّل تكيُّفًا من جانب الديانة التوحيدية مع الأمة. فكيف ذلك؟

يُعتبر المذبح مكانًا خاصًّا يَلتمس عنده العابد سبيلًا إلى الرب؛ حيث تكون هناك علاقةٌ رأسيَّةٌ بين العابد وقُدُّوس السماء، إلا أنه في ظل تقديس القديسين يتحول قبرُ القديس إلى موقعٍ آخر يَلتمس عنده العُبَّاد وصولًا إلى الإله؛ ومن ثم يحدث ارتباط على نحوٍ ما بين القبر والمذبح. ولكن إذا كان القديس ممثلًا بطوليًّا أيضًا للأمة، فإن القدسية لا تقتصر حينئذ على إله السماء، ولا تظل العلاقة بين العابد والقديس القومي، من هذا المنطلق، رأسيَّةً، بل هي أفقية كذلك؛ لأن قدسية القديس المتصل بالسماء يُعتقد أنها تتضمَّن مرجعيَّةً للأمة. ويُنظر إلى قدسية القديس القومي على أنها تتخلَّل إقليمَ الأمة؛ وهي القدسية التي سبَّبتها أفعال ذلك القديس.

لنأخذ مثلًا ملك فرنسا لويس التاسع (١٢٢٦–١٢٧٠ ميلاديًّا) الذي جرى تطويبه (إدراجه في قائمة القِدِّيسين) في عام ١٢٩٧ ميلاديًّا. فمن الواضح أنه بتطويب ذلك الملك بعد رحيله، اعتُبرت الأسرة الحاكمة لفرنسا (الكابتيون) مرتبطةً بالسماء؛ مما أضفى شرعيةً دينيَّةً على حُكم تلك السُّلالة الحاكمة. ووُضع الكثير من رفات ذلك الملك في أديرة مختلفة في شتى أنحاء الإقليم الفرنسي؛ مما أضفى دعمًا دينيًّا للوحدة الإقليمية للمملكة. وهذا يذكِّرنا بموضوع نثر رفات جثمان القديس ستانيسواف في أنحاء إقليم بولندا، ورفات بوذا الذي وُزِّع على مختلف الأضرحة في شتى أنحاء سريلانكا.

وأقول إن نطاق القوة المتصوَّرة للبطل اليوناني الميت، الذي صعد على جبل الأوليمب، كان في أرض الدولة المدينة؛ حيث دُفنت عظامه. وهذا الإضفاء لصفة الإقليمية على قوةٍ اعتُبرت فوق طبيعية؛ مشابهٌ لإقليمية القديس القومي المسيحي، فيما عدا أن الأرض في هذه الحالة هي أرض الأمة، التي يكون لمداها بأكمله الآن علاقة بالسماء، لا سيما بعد نثر أجزاء من جثمان الميت في أنحاء الأرض واعتبارها رفاتًا دينيًّا. فحينما يتحول ملك الأمة أو بطلها إلى قديس، فإن الأمة قد ارتبطت حينها بنظام الكون الخالد؛ مما يُسهم في تبرير تميُّزها الثقافي المحدَّد إقليميًّا.

الأمة والوثنية

إن تكيُّف الديانات التوحيدية مع الأمة، كما قدمناها هنا من خلال أمثلةٍ على اعتبار مريم حاميةً لبولندا، وما في ذلك من مضاهاةٍ لعلاقة إلهة أثينا الوثنية بمدينة أثينا القديمة، والصورة الأخرى للرفع الوثني للإنسان إلى مرتبة سماوية بتقديس القديسين، يؤديان إلى سؤال مستفز: هل تمثِّل الأمة اليوم استمرارًا للوثنية ضمن حضارات زمننا الحالي؛ حيث كيَّفت الديانة التوحيدية نفسها؟! تعتمد الإجابة عن هذا السؤال على كيفية فهم المقابل الإنجليزي للفظ وثني، وهو pagan؛ حيث تُشتق هذه الكلمة من اللفظ اللاتيني paganus الذي يعني بالنسبة إلى الرومان الانتماء إلى الريف أو إلى القرية؛ أي أن يكون المرء ريفيًّا أو فلاحًا. وحيث إن المسيحيين الأوائل كانوا يميلون للعيش في المدن، فإن لفظ pagan صار يعني شخصًا ليس مسيحيًّا، بسبب معيشته في الريف، ويُحتَمل أن سكان الريف بَقُوا بصفةٍ عامَّةٍ أكثرَ وفاءً لآلهة الطبيعة في دياناتهم التي تتخذ آلهةً متعدِّدةً (ومن ثم يلاحظ المرء تقليد الربط بين الفلاحين وما يُسمَّى آلهة الطبيعة وخصوبة الأرض؛ وهو التقليد الذي ظهر في أقوى صوره لدى أصحاب المدرسة الرومانسية في القرن التاسع عشر عندما اعتقدوا أن الأمة الحقيقية تكمن لدى الفلاحين).

وممَّا يميز الوثنية ما ورد في كلمات سيماكوس الوثني، حاكم روما (عام ٣٨٤ ميلاديًّا): «يحصل كلُّ شعبٍ على ما يريد من إلهٍ أو قوَّةٍ سماوية خاصة به لتعتني بمصيره»، كما اتخذ الأثينيون ربَّتهم أثينا. وبعد الإمبراطور أغسطس، صارت تلك القوة فوق الطبيعية تُعزَى إلى الإمبراطور الروماني باعتباره المسئول عن مصير الشعب الروماني. ووصل هذا التطور إلى نتيجته المتوقَّعة في إعلاء الإمبراطور ورفْعِه إلى مصافِّ الآلهة. ومن ثم فعندما اعتبروا الإمبراطور، بوصفه حاكمًا للدولة، مقدَّسًا، اعتبروا الدولة أيضًا مقدَّسة. وفي أعقاب الفاشية والشيوعية كان لفظ «وثنية» يُستعمل أحيانًا لوصف تعظيم الدولة حتى العبادة؛ حيث لا يفوق أيُّ شيءٍ في أهميته أهميةَ الدولة. وهو استعمال منطقي، يدل على المخاوف التي انطلقت في وجه البشر عندما أُنكِرت الحقائق الإنسانية للتوحيد — لا سيما أن جميع البشر قد خُلِقوا، وقد وافقت قيمُهُم الأخلاقية وقدراتهم الذهنية ما ارتضاه لهم الإله — بعد أن رُفع شأن الأمة فوق كل الاهتمامات الأخرى؛ ومن ثم أصبحت تُعبَد وكأنها إله.

ومع ذلك، أرغب في أن أُنحِّي كل هذا جانبًا لأركِّز على ما يتبادر إلى الأذهان أيضًا من لفظ «وثنية» لأحقِّق غايتي. وتعني الوثنيةُ الاعترافَ بآلهة متعددة لكلٍّ من الأسلاف وللبلد. فهذه الآلهة الوثنية هي تعبير رمزي عن علاقة الميلاد الإقليمية. إنهم آلهةٌ للطبيعة والحيوية المنتقلة عبر الأجيال؛ اختصاصاتها — مثل القديس القومي — محدَّدة إقليميًّا، وهذا على النقيض من عالميَّةِ أو كونيَّةِ سلطاتِ الإله في الديانة التوحيدية. ومن المؤكد أن تلك الآلهة المزعومة غير معترفٍ بها اليوم صراحةً ضمن حضاراتنا التوحيدية، ولكنْ ألَا تدخلُ الأفكار الوثنية عن آلهة البلد والأسلاف ضمنيًّا في مفاهيم اليوم عن الوطن الأم ووطن الآباء؟ وبقدر ما تكون الأمة مجتمعًا إقليميًّا وطنيًّا محددًا للميلاد، ألا تحمل الأمة تلك الأفكار الوثنية داخل الحضارة التوحيدية؟ فرغم كل شيء، فإن جانبًا كبيرًا من التاريخ الأوروبي بما في ذلك القرن العشرون، كان تاريخًا لأمة مسيحية وقعت في حربٍ مع أمة مسيحية أخرى، وكلٌّ منهما تدافع عما ترى أنها علاقتها الفريدة بالسماء كما تتصوَّرها. وفي الواقع، إن كثيرًا من البلاد المسيحية لديها ما يخصُّها من قدِّيسِينَ قوميِّينَ. ويمثِّل الاعتراف بالقدِّيسين القوميين نوعًا من المبايعة وإظهار الولاء من الديانات التوحيدية لعلاقة القرابة الإقليمية التي تخصُّ الأمة.

ولقد لاحظتُ أنه، في خلال عملية تشكيل أي علاقة اجتماعية واستمرارها، تتضافر مساعٍ واهتماماتٌ مختلفةٌ معًا، وبالتأكيد فإن أحد عوامل تكيُّف الديانات التوحيدية مع العلاقة الإقليمية (مما يُعتبر نوعًا من الوثنية وفقًا للتصنيف الديني) كان الاهتمام بمنح الدعم؛ ومن ثم الاستقرار للسلطة السياسية من خلال الدين. وقد حدث هذا بوضوحٍ في عهد الملك الفرنسي فيليب الرابع (الملقَّب بفيليب الوسيم) الذي قام باستغلال ما حَظِيَ به جدُّه لويس التاسع من تقديسٍ في نشوءِ فرنسا كأُمَّةٍ. وظهر كذلك في جَعْلِ الملك الإسرائيلي القديم يوشيا عبادةَ يهوه في المركز الحاكم؛ مما ساعد على جعل القدس المركزَ السياسيَّ للأمة الإسرائيلية. كما ظهر أيضًا في نشر الملك داثاجاماني للبوذية على حساب التاميل الهندوس، وفي إضفاء الإقليمية على المسيحية من خلال مبدأ «نشر مذهبٍ واحدٍ فقط للمسيحية في الإقليم حسب المذهب الذي يعتنقه حاكم ذلك الإقليم»، وقد ورد هذا المبدأ في اتفاقية أوجزبورج عام ١٥٥٥ ميلاديًّا، وفي توقير المغاربة ممثَّلِين في المرينيين للأشراف الأدارسة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديَّيْن لتقوية صورة المغرب على حساب الولاءات القَبَلية. وفي جميع هذه الأمثلة جرت عمليةُ أقلمةٍ للديانة التوحيدية لتخدم وحدة الأمم وتُرسِّخها.

وبدلًا من الإصرار على رسم صورةٍ للتناقض التاريخي الحاد بين الديانات الوثنية والديانات التوحيدية، قد يكون أكثرَ دقَّةً أن نعترف بوجود نمطَيْن دينيَّيْن مستمرَّيْن للتوجُّه يجتمعان معًا بطرق مختلفة. من الواضح أن العلاقة بين الديانة التوحيدية والأمة يمكن أن تكون مشحونةً بالتوتر، ولا سيما حين تحقَّق الانفصال بين الكنيسة والدولة. وفي مواجهة قدرٍ هائل من الدلائل المعقدة تاريخيًّا، تصير المشكلة هي توضيح اختلاف العلاقة بين الأمة والدين من حضارة لأخرى.

المقارنة بين الحضارات

تخفُّ حدَّةُ التوتر بين الأمة والدين حينما يكون الدين محدودًا إقليميًّا؛ أي حينما يكون هناك «إلهٌ للبلاد»، كما كان الأمر في كثير من الديانات القديمة المتعددة الآلهة. وهناك ملاحظات عدة عن هذه العلاقة منذ القِدَم نودُّ أن نذكرها.

كان من الشائع أن يقوم عابدو تلك الآلهة بتقديم القرابين لها بهدف استرضائها، آملين أن ترُدَّ لهم هذا الصنيع بإنزال الخير عليهم في المقابل. فعلى سبيل المثال، كانت القرابين تقدَّم لآلهة الخصوبة؛ مثل إله المطر بعل لدى مملكة أوجاريت القديمة، وكذلك للإله حدد عند الآراميين، وتليبينو عند الحيثيين، آملين أنها ستجلب لهم المطر ليحصلوا على محصول وفير. فإذا أصابهم قحط أو جفاف اعتقدوا أنه نتيجة لسحب الآلهة تأييدها لهم، أو لعدم وجودها أصلًا.

وحينما أصبح إله المطر هو إله الحرب، حدث تطوُّرٌ ديني؛ إذ يشير الجمع بين الوظائف (وهي في هذه الحالة المطر والحرب) إلى حدوث التحام أكبر في الفهم الديني؛ إذ قلَّتْ حدَّةُ الفوضى الفكرية الناتجة عن وجود آلهة كثيرة، وكلٌّ منها له وظائفه في اعتقادهم. ويلاحظ المرء توقُّع هذا التطور في قصة الخلق البابلية «إنوما إليش»، التي أكَّدت أنه رغم وجود خمسين إلهًا، وكلٌّ منها له اسم ووظيفة، فإنها جميعًا إلهٌ واحدٌ يُسمَّى مردوك. وهذا الالتحام، حينما يكون مصحوبًا بوجود مجموعة ثابتة من الآلهة مجتمعةً يمثِّل تطورًا نحو توحُّد ثقافي نسبي، وهو تطوُّرٌ كثيرًا ما يرتبط في الأساطير الدينية بنشوب حربٍ بين الآلهة الأصغر سنًّا ضد الأكبر سنًّا كما في معتقدات اليونان وبلاد ما بين النهرين في الزمن القديم. ولا يدل هذا التوحُّد الثقافي النسبي بالضرورة على وجود أمة؛ فكلٌّ من سومر القديمة واليونان القديمة افتقد وجود مركز سلطوي قادر على تحويل الولاءات من الولاء للدول المدن إلى الولاء لكلٍّ من سومر واليونان على التوالي كأمَّتَيْن. إلا أن هذا التوحُّد الثقافي النسبي المحدود يستحق اعتباره تطورًا نحو تشكيل الأمة.

عندما يكون هذا التماسك الأكبر نسبيًّا في الفهم الديني مصحوبًا بسيادة إله البلاد على مجموعة الآلهة، يكون بذلك التوحُّد الثقافي إقليميًّا على نحوٍ واضح. على سبيل المثال، قد تشير عبادة المصريين للإله حورس (المقدس في الوجه البحري)، والإله ست (المقدس في الوجه القبلي)، وبعده الإله آمون-رع (المقدس في طيبة)، إلى وجود أمة ما. وحينما يكون إلهُ البلاد هو الإله الأساسي الذي يُعبَد هناك، فحينئذ يرجَّح أن تدل تلك العقيدة على وجود أمة ما. فهنالك وعيٌ ذاتيٌّ جمعيٌّ بأن شعبًا ما لديه أرض، وأن تلك الأرض لديها شعب، وأن كلًّا من ذلك الشعب وتلك الأرض اتحدا في أمة وفي إقليم ما من خلال عبادة إله ذلك الشعب وتلك الأرض.

لقد كانت ثمة طقوس أجنبية يمارسها أهل مدينة كونوس، ولكنهم انقلبوا عليها، وقرَّروا أن يتَّبعوا آلهتهم هم فحسب؛ فارتدى جميع السكان دروعهم (أي جميع من هم في سن الجندية)، وتقدَّموا صَوْب حدود بلدهم، ضاربين الهواء برماحهم، وقائلين إنهم بصدد طرد آلهة الأجانب.

هيرودوت، «التاريخ»

إلا أن هذه التطورات في الديانات القديمة، يمكن مع ذلك أن تكون قد اتبعت مساراتٍ مختلفة؛ مما يمكن أن يعقِّد العلاقة بين الأمة والدين. وعندما اكتسبت صورة الإله — التي اعتُبرت حتى الآن عاملًا في توكيد التميز الثقافي لمجتمع محدَّد إقليميًّا — صفاتٍ ارتبطت بآلهة أخرى عبدتها مجتمعاتٌ أخرى (وهي عملية تُعرَف بالتوفيق بين المعتقدات الدينية المختلفة)، فحينئذ يقال إن ذلك التميز قد تقوَّض. وكمثال على عملية التوفيق هذه عبادةُ إيزيس لدى المصريين التي انتشرت في أنحاء منطقة البحر المتوسط. وفضلًا عن هذا، تحت تأثير فلسفات الرواقية والأفلاطونية المحدثة، نشأت عقائد ربما اتَّصفت بما أسموه «التوحيد الوثني». والمثال الكلاسيكي على ذلك هو عبادة الإمبراطور الروماني جوليان للشمس. وبدلًا من أن يساعد التوفيق بين العقائد والتوحيد الوثني على دعم أمة ما واستمرار وجودها، فإنهما أسهما في وجود إمبراطورية.

وفيما يختصُّ بالديانات التوحيدية؛ مثل علاقة اليهودية بالأمة التي سبق أن ناقشناها، هناك تعليقات إضافية أسوقها قبل أن أتحوَّل للحديث عن المسيحية والإسلام.

تُعتبر العلاقة الوثيقة لليهودية التوحيدية بالأمة ناتجةً عن التوجُّه العالمي للاعتقاد، وهو الذي يتطلَّب «ختان القلب» (سِفر التثنية، الإصحاح ٣٠: ٦) تجاه الإله الواحد الذي خلق الإنسانَ على صورته (سِفر التكوين، الإصحاح ١: ٢٧)، وهو الأمر الذي يرتبط بجلاءٍ بتوكيد التميز الثقافي للمعتقدات بشأن شعبٍ مختارٍ وأرضٍ موعودة. ولقد كان للتطور الفكري اليهودي عن الرب الواحد إله الكون — الذي تدخَّل في تاريخ الإنسانية بتشكيل علاقة مع أمة معينة — تأثيرٌ عميقٌ على الحضارة الغربية، ويتكون هذا التأثير مما يلي:
  • (١)

    معتقدات في أمم أخرى؛ مثل الأمة الفرنسية، خلال العصور الوسطى، بأنها أمة مختارة.

  • (٢)

    فكرة أو مفهوم الوقت بأنه توجيهي، يتقدم للأمام، إلا أنه يستمر في تضمُّن عودةٍ للحظات من الماضي اعتُبرت أنها شكَّلت صورًا مختلفة من التميز القومي، الذي يتراوح من الميثاق الذي عُقِد بين يهوه وبني إسرائيل عند جبل سيناء، وصولًا إلى هجرة البيوريتانيين إلى الأرض الموعودة في أمريكا، وبولندا باعتبارها مخلِّصًا قربانيًّا للمسيحية.

  • (٣)

    مفهوم عن نهاية الزمان، حينما يتم التغلب على «الانفصال» بين عالم الدنيا وعالم الغيب، فتعود جنة عدن من جديد.

جمع هذا التطور الديني — وإن كان بصعوبة — بين التوحيد بمعناه الكلي والأمة بطريقة جعلت أبناء أمة معينة يُعدُّونها مختلفةً (أو مختارة) تحديدًا؛ لأن وجودها كان يُفهَم على أنه متعلِّق بشكل فريد بالغرض العام من الرب من جميع البشر. ونتيجة لهذا، يجد المرء في اليهودية اعتقادًا بأن إسرائيل ليست فقط مدعومةً من مركزها في القدس، بل وأكثر من هذا، أن القدس هي مركز العالم (سفر حزقيال، الإصحاح ٥: ٥، سفر اليوبيلات، الإصحاح ٨: ١٩)؛ لأن هناك يرتبط العالم بالرب. ويمكن العثور على مثل هذا النوع من المفاهيم، مع الاختلاف، في حضارات أخرى؛ فمثلًا في الأرثوذكسية الشرقية نشأ اعتقاد بأن موسكو هي «روما الثالثة»، وعلى هذا يجب ألا تكون مركزًا لروسيا فقط، بل للمسيحية العالمية أيضًا. ومن ثم نشأ مفهوم بأن الأمة لها مهمة تاريخية في تغيير العالم.

ومع ذلك، فإن توكيد الأهمية العالمية للمركز الحاكم — مثل القدس أو موسكو — يحمل في طياته احتمالَ كسر التميز الثقافي للأمة بوصفه عائقًا لصالح الإمبراطورية. ويمكن العثور على مثالٍ لهذا الاحتمال في الصين الكونفوشيوسية لدى إمبراطورية هان (من عام ٢٠٢ قبل الميلاد إلى ٢٢٠ ميلاديًّا). فقد كان يُنظر إلى مركز الصين الحاكم «تشونجهوا» على أنه مسئولٌ عن نشر الأسلوب المتحضِّر السليم للحياة، ويسمَّى «لي»، الذي يمكن مبدئيًّا أن يتقبَّله أي إنسان. فثمة اعتقادٌ في الحقيقة أن الإمبراطور يكون حكمه بأمرٍ من السماء فقط لو أنه جمع الأسلوب «لي» بقلب سليم ملتزم من خلال الأداء الصحيح للطقوس. وأقول إن أوضح تعبيرٍ دينيٍّ عن ذلك التوجُّه الكلي على حساب الارتباطات القومية أجده في الإسلام وفي الكاثوليكية الرومانية مع وجود مركزيهما في مكة وروما على الترتيب.

وعلى النقيض من المعتقدات الإسرائيلية واليهودية القديمة عن انتسابهم لإبراهيم ومن بعده إسحاق ثم يعقوب، وعن إقليم أرض الميعاد، فقد رفض بولس الرسول هذه الارتباطات.

ليس لدينا هنا يونانيون أو يهود مختتنون أو غير مختتنين، ولا برابرة، ولا سكوثيون، لا عبيدًا ولا أحرارًا، ولكن لدينا المسيح فحسب.

من الرسالة إلى أهل كولوسي، ٣: ١١

تُعتبر المسيحية من الناحية العقائدية دينًا عالميًّا، لا تقع أرضه في هذا العالم؛ ومن ثم يتوقع المرء أن تكون في خصام مع الأمة. وحقًّا، تقرُّ المسيحية بوجود فارقٍ بين هذا العالم؛ عالم قيصر، وبين العالم الآخر؛ عالم الرب. وعلى وجه التأكيد جاء تمييز يسوع بين هذين العالَمَيْن (إنجيل متَّى، الإصحاح ٢٢: ٢١) غامضًا، وزاد غموضه حينما تُرجم وفُسِّر بداعٍ من متطلبات أحداث مستقبلية.

ولكن لأن المسيحية أقرَّت بهذا التمييز بين «مدينة الإنسان» و«مدينة الرب»، فقد وُجِدت ساحة، هي مدينة الإنسان، لنشوء علاقات القرابة للأمة، ولكن تبقى النظرة الكلية المعارِضة التي تبنَّاها بولس الرسول؛ مما يفرض مشكلةَ العلاقة بين هذين العالمين. وإذا ما نظرنا من منظور الأمة، فإن هذا النصر العقائدي، خلال القرن الثاني الميلادي للكنيسة في أوائل عهدها على مرقيون الغنوصي (الذي اعترض على إضافة النصوص الدينية العبرية، بما فيها من أفكار عن الشعب المختار وأرض الميعاد، كجزء من الإنجيل المسيحي) كان سيبيح هذه الساحة، ولو بطريقة صعبة ومتناقضة ظاهريًّا؛ حتى تنشأ ارتباطات قومية. ومن ثم انسحبت العلاقة بين المسيحية والأمة في تاريخ الحضارة المسيحية إلى قطبَيْن:
  • (١)

    تلاقت المسيحية مع الأمة بطرق مختلفة؛ على سبيل المثال: الكنيستان القوميتان لكلٍّ من الأرثوذكسية الشرقية والبروتستانتية، والإقرار بوجود قدِّيسِينَ قوميِّين، والاعتقاد بأن بعض الأمم المسيحية المختلفة تُعَد «مختارة».

  • (٢)

    وجود تراث إمبراطوري؛ على سبيل المثال، الإمبراطورية الرومانية المسيحية، والإمبراطورية الرومانية المقدسة لأوروبا في عصرَيْها المبكر والأوسط، وموسكو باعتبارها «روما الثالثة».

وأقول إن الإسلام قد أقرَّ، كما في اليهودية والمسيحية، بوجود تمييز بين عالم الدنيا والعالم الآخر، إلا أن المجتمع الإسلامي يختلف عن المسيحية في أنه ملتزمٌ بأن يحوِّل هذه الحياة الدنيا بما يتفق مع تصوُّره الشامل والكلي للعالم الآخر. وفي هذا الصدد، فإن المجتمع الإسلامي، من خلال طاعته لقانونه المقدَّس؛ وهو الشريعة الإسلامية، قد اتبع اليهودية القديمة؛ حيث يجب أن يكون اليهود «مملكة كهنة وأمة مقدسة» (سفر الخروج، ١٩: ٦) في هذا العالم. والفارق المهم بين اليهودية والإسلام فيما يختص بالأمة، هو أن اليهود يشكِّلون أمة مقدسة، بينما يُنظر إلى المجتمع الإسلامي الذي يُسمَّى «الأمة الإسلامية» باعتباره عالميًّا. بالنسبة إلى اليهودية تكون الارتباطات بالقرابة وبالإقليم واضحة، رغم أن هذه الارتباطات تتعايش بصعوبة مع إيمان اليهود بربٍّ يعم سلطانه العالم كله. وبالنسبة إلى المسيحية هناك ساحةٌ مفاهيمية لوجود تلك الارتباطات؛ إذ يقرُّ المسيحيون بما يُسمَّى «مدينة الإنسان»، ولكن بصعوبة كذلك. وأما في الإسلام، مع ذلك، فهناك معارضةٌ صريحةٌ للاعتراف بهذه الارتباطات والإقرار بشرعيتها.

إن الغرض من هذه المقارنة هو أن نعرف فقط أن هناك ميلًا للاختلاف بالنسبة إلى نشوء الأمم واستمرار وجودها في الحضارات المختلفة، ويتم تصنيفها حسب الديانات الخاصة بكلٍّ منها. ومن الواضح أنه ثمة عوامل عدة بخلاف الديانات كان لها تأثير على وجود الأمم، ومنها عامل العزلة الجغرافية، كما هو الحال في اليابان وسريلانكا. ولكن مهمة هذا الفصل هي أن يُعزل الدين كعامل في نشوء الأمم واستمرار وجودها، ومن الواضح أن تاريخ الحضارة الإسلامية حتى أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين — عند مقارنته بالحضارة المسيحية — لا يُعَد تاريخًا لعددٍ من المجتمعات القومية.

إلا أن التناقض ليس مطلقًا؛ لأن الحضارة المسيحية أيضًا لديها تراث إمبراطوري. إذ يصطدم المرء على سبيل المثال بما فعله المؤرخ الشهير لحضارة الشرق الأوسط الإسلامي في العصور المبكرة والوسطى «ابن خلدون» من استخدامٍ متكرِّر في كتابه «المقدمة» — الذي ألَّفه في عام ١٣٧٧ ميلاديًّا — لمفهوم «الشعور الجماعي» أو «التكافل والتضامن» (أو ما تُسمَّى العصبية)، الذي يدل على الوعي الذاتي الجمعي للقرابة بما يتجاوز مرجعيته الحرفية للعائلة ليشمل الارتباطات التي توجد بين المرء وجيرانه وحلفائه والدولة ذاتها (أو الأسرة الحاكمة). ومما يبرِّر استخدام ابن خلدون لهذا المفهوم للإشارة إلى العلاقة الاجتماعية لقرابة ممتدة إقليميًّا ضمن الشرق الأوسط الإسلامي نجد التاريخ الطويل لإيران، فعلى سبيل المثال يُلاحظ المرء ما يلي:
  • (١)

    مرونة لفظ «إيرانيات» (أي أن تكون فارسيًّا)، في مقابل أن تكون عربيًّا.

  • (٢)

    معارضة «بنو بُوَيْه» الفرس (٩٤٥–١٠٦٠ ميلاديًّا) للحكم العربي العباسي، الذي تأكَّد بإعادة أولئك الفرس للقب «الشاه» الإيراني القديم.

  • (٣)

    اتباع إيران، بدءًا من أوائل القرن السادس عشر تحت حكم الصفويين، للمذهب الشيعي في مقابل اتِّباع الإمبراطورية العثمانية للمعتقدات السُّنِّيَّة.

وقد نشبت في الجزء الغربي من الشرق الأوسط الإسلامي صراعاتٌ سياسية وثقافية بين المغرب في شمال أفريقيا وبين إسبانيا الإسلامية (الأندلس)، وفي القرن السابع عشر الميلادي وقعت صدامات عسكرية بين المغرب الإسلامي والعثمانيين المسلمين.

وفي النهاية، أقول إن في الإسلام توقيرًا للأولياء، رغم أنه من الأمور المعترَض عليها، ومن المؤكد أن هذه «السمة الوثنية» التي تنافي العقيدة الإسلامية لم تترتب عليها آثارٌ إقليمية في كل الأحوال، ولكنها شجَّعت في بعض الحالات على وجود حالات اتحاد وتضامن إقليمي داخل الحضارة الإسلامية حينما كان هؤلاء الأولياء ينتمون إلى أسرة حاكمة محلية. وقد كان هذا هو الحال في إضفاء القدسية على الأشراف المغاربة (والأشراف هم ذرية النبي محمد) من العائلة الإدريسية في القرن الثامن الميلادي. وقد طالب كلٌّ من المرينيين، ولا سيما العلويين (في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديَّيْن)، بالسلطة باعتبارهم من الأشراف؛ مما ساعد في تشكيل المغرب الإسلامي الموحَّد، بعكس الولاءات القبلية المحلية. إلا أن هذه العالمية الدنيوية للإسلام كانت تميل إلى كونها عقبةً إزاء دعم الارتباطات المحلية بالأمم ومدِّها لتصبح أممًا خلال جزء كبير من تاريخ الشرق الأوسط الإسلامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤