تمهيد

قام بعض الكتاب يذكِّر المسلمين بما للحبشة عليهم من حق قديم، أوجبه عليه ما فعلوه مع المسلمين المهاجرين من أصحاب رسول الله ، حينما هاجروا إلى الحبشة هربًا من أذى كفار مكة، فأجارهم النجاشي وأحسن مثواهم.

وقالوا: إن ما فعلته الحبشة مع المهاجرين يعدُّ مكرمة خالدة لا يجب أن تُنسَى.

ونحن وإنْ كنَّا ممَّنْ يحفظون الجميل ويخضعون للحق، إلا أننا أحببنا أن نبيِّن للمسلمين ارتباط الحبشة بالإسلام — قديمًا وحديثًا — على الوجه الصحيح؛ ليعرفوا ما لهم وما عليهم نحوها، حتى يكونوا على بيِّنَة من الأمر، وليدركوا بأن عطفهم على الحبشة لم يكن ردًّا لجميل سابق لها على الإسلام، بل لأنها دولة شرقية تحاربها دولةٌ غربيةٌ.

وإنْ شئتَ فقُلْ: لأن الإنسان جُبِلَ بطبعه على الانتصار للضعيف.

ويصح أن يكون هذا هو السبب الأقوى؛ لأنه يشترك معنا في العطف عليها كثيرٌ من الناس، على اختلاف أديانهم وتباين أوطانهم.

وحسبك ما فعلَتْه «جمعية عصبة الأمم» من العطف الجدِّيِّ على الحبشة، وإنْ كان بعضه مشابًا بشيء من المصلحة الخاصة.

أما إيواء الصحابة المهاجرين وإكرامهم، فالفضل فيه يرجع إلى شخص واحد من الحبشة فقط، وهو «النجاشي أصحمة»،١ فقد كان رجلًا عالمًا بالتوراة والإنجيل، مصدِّقًا بالبشارة براكب الجمل.

فلما جاءه المهاجرون أكرم مثواهم وحماهم من الشعب الحبشي وبطارقته.

ثم أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي محمد ، وحسن إسلامه، ولم يعتنق الإسلام من الحبشة يومئذٍ سواه، وقد ستر إسلامه عن قومه حتى مات، وهذا ما دعى مؤرخي الإفرنج إلى عدم اقتناعهم بأنه أسلم.

وقد نُعِي للنبي فصلى عليه صلاة الغائب، ولم يُصلِّ عليه أحد في الحبشة؛ لأن موته كان بعد عودة المهاجرين كلهم إلى المدينة.

أما البطارقة — من قسيسين ورهبان — فقد لحق المهاجرين منهم من الأذى والتخويف ما لحقهم، كما هو ثابت في كتب الحديث والسير، مما كان بعضه سببًا في ارتداد أحد المهاجرين عن الإسلام، وهو «عبيد الله بن جحش»، وقد اعتنق النصرانية لينجو بها من الاضطهاد.

وقد همَّتِ البطارقة بإحداث ثورةٍ على النجاشي لعطفه على المهاجرين كما ستراه مفصَّلًا فيما بعدُ.

ثم لا يخفى على المؤرخ المدقِّق أن عداوة الشعب الحبشي للعرب قديمة العهد، نشأت من وقت أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة، ويبيعونهم أرقَّاء في جزيرة العرب وغيرها.

وزادت هذه العداوة بعد عام الفيل، وما جرَّه من الويل على جنود الحبشة، واستعانة العرب بعد ذلك بالفرس على طرد الحبشة من اليمن، بعد أن استعمروها نحو ٧٠ سنة.

فلما دخل العرب المسلمون بعد ذلك إلى الحبشة يدعونهم إلى الإسلام، وجدوا منهم أعداءً ألدَّاء.

ثم دار بينهم النضال من القرن الأول الهجري إلى يومنا هذا، مما سنوضِّحه جليًّا في هذا الكتاب بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه.

١  قال صادق باشا العظم في رحلته إلى الحبشة سنة ١٣٢٢ﻫ/١٩٠٤م، في صفحة ١٨٦: سألت آتو هيلا مريم ترجمان رأس ماكونن عن النجاشي، فقال اسمه بالا محرى «أجها»، وأنه كان حاكمًا في جوار «تبحفي دنسا»، كما أن أخاه أبرهة كان يحكم في «أقسوم». ا.ﻫ.
نقول: إن أبرهة المذكور هنا هو غير «أبرهة الأشرم» صاحب واقعة الفيل الآتي ذكرها.
وقال في صفحة ١٩٣: وسألت الحاج محمد من عشيرة بني عقيل، ومن علماء «دلو» عن النجاشي المذكور، فقال: إن اسمه «أصحمة» أي «عطية»، وهو مدفون في محل يُسمَّى «متكل العلامة» من أعمال مقاطعة «تيغري».
وكان سيدنا جعفر بن أبي طالب لقيه في المحل المذكور، وهو قريب من عقامه «أغامي»، وينعقد فيه كل سنة سوق كبير، يأتي إليه ألوف من المسلمين والمسيحيين لزيادة قبر النجاشي. ا.ﻫ. ملخَّصًا.
وفي الجواهر الحسان: إن قبره ببلدة «أحمد نجاشي» بقرب حوزين بإقليم تغرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤