الفصل الأول

صفوة الرجال والجماعات

يواجه العالم في الوقت الحاضر مسألة نمت بتعاقب القرون، ومن الضروري حلها لكيلا تقع الشعوب في طور الهمجية.

إن من مميزات الحضارة في زماننا هو التفاوت التدريجي بين أنواع الذكاء، ومن ثم بين المراتب الاجتماعية، وعلى رغم ما يقال في المساواة من النظريات وما تميل إليه القوانين من المقاصد يزيد التفاوت الذهني المذكور، وعلة ذلك اشتقاقه من مقتضيات الطبيعة المحررة من سلطان القوانين.

أصبحت مبتكرات العلم والفن محركة المدنيات الحديثة، وصار الوقوف على هذه المبتكرات المعقدة يتطلب معارف نظرية وعملية واسعة وقوة استنباط شديدة وملكة تمييز سديدة لا تكون إلا في ذوي المبادئ السامية، وبالنسبة إلى تكاثر كفاءة القادة نقصت أهلية الفعلة، ومبدأ توزيع العمل وإتقان الآلات جعل شأن الفاعل سهلًا والتخرج لا طائل تحته.

وعلى الوجه المذكور تألفت طبقات متباينة فصلت بينها هوة تزيد كل يوم عمقًا، وقلما تجعل التربية المرء يجتاز تلك الهوة، فالتربية لا تمنح الرجل سوى قليل من الصفات الضرورية للنجاح في الوقت الحاضر.

ومما يغيظ أنصار المساواة بلوغ صفوة الرجال شأنًا لا غنية لبقية الناس عنه، ولكن لا مناص من ذلك، فأنعموا النظر في عناصر الحضارة ترَوا صفوة الرجال مصدر مبتكرات العلوم والفنون والصناعات، ومنبع رفاهية ملايين من العمال، فإذا كان العامل يكسب اليوم ثلاثة أضعاف ما كان يكسبه منذ قرن ويتمتع بأطايب لا عهد لأمراء لويس الرابع عشر الإقطاعيين بمثلها فذلك بفضل خيرة الرجال الذين يشتغلون له أكثر مما لأنفسهم.

من أجل ذلك يعظم شأن صفوة الرجال وتكثر جهودهم، ومساعي أقطاب الصناعة على الخصوص هي أساس الاكتشافات والمبتكرات، وهؤلاء الأقطاب وإن كانوا ينالون في الغالب ثروة كبيرة تورث نفوس القائلين بالمساواة غمًّا شديدًا، يتراوحون بالحقيقة بين الغنى والإفلاس دون أن يأملوا الحصول على الحالة الوسطى، والغنى يتفق لهم بعد إكثار من النظر إلى العواقب ودقة في الإدارة وتنظيم للأعمال، والإفلاس يدركهم عندما يزلون عن الصواب قليلًا، فكأنه لا يحق لهم أن يخطئوا، وفي أكثر المرات ينطوي تحت أبهتهم الظاهرة كثير من الهموم، فإذا أقاموا مصنعًا مجهزًا بأحسن الآلات فسرعان ما يحملهم اكتشاف جديد أو مزاحمة غير منتظرة على تجديده، وقد اشتدت المزاحمة وصارت اكتشافات المختبرات مفاجئة وأصبح عدم الاستقرار شاملًا فحُرِم الرجال الذين يديرون المشاريع سكون الخاطر وراحة البال.١

كان الناس في القرون القديمة لا يغتنون إلا بعد أن يوقعوا ضررًا بالآخرين، وأما الآن فمن الصعب أن يغتني فريق من غير أن يوجب غنى الباقين، وهذا ما أشار إليه الموسيو (دافنيل) في الأسطر الآتية، وهي: «كان الاغتناء يقع في الأزمنة الإقطاعية بعد حروب فردية مؤدية إلى خراب الجيران، ثم صار بالمراباة فبامتلاك أموال الدولة، وفي هذه الأيام يكون بإغناء المجاورين والدولة، فالثروة المكتسبة ليست الآن باختلاس الشعب أو الملك بل أخرجها العلم عن يد خواص الرجال من العدم فاستفاد الكل منها.»

•••

إذًا لا تقدر المدنيات الحديثة التي أوجدها صفوة الرجال على العيش والتجدد إلا بهؤلاء، وهذه حقيقة ضرورية لفهم المعضلة الآتية وهي: بينما توجب مبتكرات العلوم قبض صفوة الرجال على زمام المعايش الحديثة، يمنح تقدم المبادئ السياسية الجموع المنحطة بمزاجها النفسي حق الحكم بالتدريج، ويسمح لها بالاسترسال في أشد الأهواء خطرًا على يد نوابها.

فلو أن الجموع تختار صفوة الرجال الذين يسيرون دفة الحضارة قادة لها لتم حل المعضلة، غير أن هذا الاختيار لا يقع إلا على قلة، فالجموع لا تسلم بصفوة رجال الصناعة وهي تسعى في تجريدهم من أموالهم بواسطة نوابها في البرلمان.

وهكذا تم انقسام المجتمعات الحاضرة إلى طبقات مختلفة سيشاهد المستقبل تنازعها، وكيف يوفق بين هذه الاختلافات؟ وكيف يعيش خواص الناس الذين لا تبقى أمة بدونهم مع جموع العمال الذين يودون سحق الخواص كما فعل البرابرة في روما؟

أجل، إن المعضلة صعبة ولكنه لا يتعذر حلها، فلقد علَّمنا التاريخ أن الجموع شديدة المحافظة على رغم غرائزها الثورية الظاهرة، وهي لا تلبث أن تبني ما هدمته، وعلى هذا مهما يبلغ حب التخريب في الشعب فإنه لا يحول دون تطور الأمة زمنًا طويلًا، غير أنه لما كان تجديد ما هدم في يوم واحد لا يتم أحيانًا إلا في قرون كثيرة صار من أصالة الرأي أن يحال دون الهدم.

وأسهل طريقة لمعالجة ذلك تقليل السلطة الشعبية، غير أن تطور الحكومات الديمقراطي في جميع البلدان يدلنا على أن السلطة الشعبية بنت بضع ضرورات نفسية لا يجدي ذمها ولومها نفعًا، فعلى صفوة الرجال أن يمتزجوا بالحكومات الشعبية، وأن يحولوا دون تنفيذ أهواء الجماعات بما يضعونه من الحواجز كما يفعل المهندسون في معالجة السيول بالأسداد.

ولنعلم أن مذهب السيادة الشعبية لا يناقض العقل أكثر من أن تناقضه المذاهب الدينية التي عاش بها البشر في الماضي، ولا يزال يعيش تحت ظلها كثير من الناس، ويظهر لنا من مطالعة كتب التاريخ أن الإنسان يلتئم بأي شيء أكثر منه بالمعقول، ويكون التئام صفوة الناس بالجموع كثير السهولة لو لم يبذر زعماء الأحزاب في نفوس الجموع أضاليل وأحقادًا هي السبب في ما بين طبقات الأمة من البغضاء.

وتزول تلك البغضاء يوم تدرك الجموع أن زوال صفوة الناس أو ضعفهم يؤدي إلى فقرها ثم إلى هلاكها، وعلى ما في إثبات هذه الحقيقة للجموع من صعوبة أرى من الواضح وضوحًا لا غبار عليه هو أن إدارة المصنع من غير رئيس، أو إدارته من قبل موظفي الدولة كان ممكنًا في أوائل القرن الماضي، حين كانت أمور الفن في دورها الابتدائي، وأما اليوم فمستحيل.

ولا يفتأ الاشتراكيون — وهم البعيدون من الحقائق التائهون في الأوهام — ينشرون بين البسطاء خيالات يؤدي تحقيقها إلى هلاك البسطاء خاصة، والأوهام التي تطبع على قلوب العامة تتجلى في الكلمة الآتية التي قالها أحد مفوضي العمال في المؤتمر الاشتراكي المنعقد في شهر فبراير (شباط) سنة ١٩١٠ وإليكها: «ليس لتحريركم سوى تحويل أملاك المتمولين إلى أملاك اشتراكية تديرونها بأنفسكم ولأنفسكم، فبذلك تصبحون يا معشر أرقاء المتمولين أحرارًا منتجين مشتركين.»

وسيكون مصير مصنع يديره العمال كمصير سفينة يديرها ملاحون بلا ربان، ولا ريب في أن أجل ذلك المصنع يمتد قليلًا عندما يقبض على زمامه مفوض من قبل حكومة اشتراكية، ولكن بما أن هذا المفوض يمتنع عن تبديل شيء في المصنع ينحط المصنع بدلًا من أن يتقدم فتنقص الأجور.

ولا أعتذر عن إسهابي في الدفاع عن مثل هذه الحقائق المبتذلة؛ لأنها لا تزال مجهولة عند ملايين الناس، وها قد أخذت تنتشر في كثير من الممالك كإنكلترة والبلجيك، فنشأ عن ذلك عدم اكتساء الاشتراكية في تلك الممالك أشكالًا ظالمة باغية، كما هو الأمر في البلدان اللاتينية حيث تحولت الاشتراكية إلى حرب بين الطبقات.

ولعدم اطلاع الناس على بعض المبادئ الأولية نقول بضرورة إحداث تربية جديدة في دورنا الديمقراطي، على أن يكون المقصد الأول لتلك التربية تعليم الناس خط الوصل بين العناصر الثلاثة للحركة المعاشية: الذكاء، ورأس المال، والعمل.

•••

وريثما يقع ذلك الإصلاح الذي لم نبصر منه وميضًا بعدُ نعيش بين الجماعات التي نقول عنها ما يأتي:

الحكومة الشعبية لا تعني الحكم بواسطة الشعب بل تعنيه بواسطة زعمائه، وليست الجموع هي التي تحدث الرأي وإنما تعانيه، وبعد أن ينومها تسعى في حمل الناس عليه بشدة، وهذا ما نسميه جريان الرأي.

والحق أن الجماعات لا تسبب جريان الرأي، وكل ما تفعله هو أنها تمنح الرأي قوة لا تقاوم، فعندما أعدم الفوضوي (فيرير) الذي لم يسمع سكان باريس عنه شيئًا استطاع بعض الزعماء أن يسوقوا ألوفًا من الرجال ليهجموا على السفارة الإسبانية، وبعد أن أوغر الزعماء صدور هذه الألوف بخطبهم جعلوها تقترف أنواع المظالم ومنها النهب والقتل، والخوف هو الذي دفع أولئك الزعماء إلى أمرها في اليوم الثاني بإقامة مظاهرة سلمية فأجابتهم إلى طلبهم طائعة.

لا حد لانقياد الجماعات لمن يعرف كيف يقودها، وقد أتقن أكابر الزعماء في زماننا أمر سياستها، فمن هذا تعلم أن حكومة الجماعات ليست بالحقيقة سوى حكومة الزعماء.

وبما أن الزعماء هم الذين يحدثون الرأي، أصبح من المهم أن نعرف كيف يحدثونه، وهنا تبدو لنا أهمية روح الجماعات، فمعرفة روح الجماعات أكثر ما يحتاج إليه أولو الأمر في نظام ديمقراطي كنظامنا، وقد استوقف هذا الاحتياج نظري منذ خمس عشرة سنة فوضعت كتابي «روح الجماعات» الذي كانت مواضيعه مجهولة آنئذ فأصبحت أساس كثير من المباحث.

ولا أريد أن أكرر هنا صفات الجماعات وأطوارها الخلقية، بل أقتصر على بيان عدد قليل منها ظهر بوضوح في حوادث جديدة، وإني قبل كل شيء أقول إن روح الجماعات إذا أخذ الناس يعرفونها فذلك لأن ضباط الجيش ينشرون ما جاء في كتابي من القواعد والمبادئ ولتدريسها بنشاط في المدرسة الحربية، وأما ساستنا فقلما يعرفون شيئًا منها بدليل أنهم لم يكفوا بعد عن الإعجاب بحكمة الجماعات وصحة تمييزها، وحسن ذوقها مع أنها أبعد الأشياء من هذه الصفات، نعم قد تبدي الجماعات أحيانًا بطولة وإخلاصًا تامًّا لبعض المقاصد، ولكن صحة التمييز لا تصدر عنها أبدًا.

ولا شك في أن آراء مشترعينا في النفسية الشعبية لا توافق الحقيقة، فلما تصور هؤلاء أن الشكر فضيلة جموعية أخذوا يكثرون من سن قوانين عقيمة خطرة لينالوا حظوة عند الجماعات، وهم لجهلهم أن الجماعات تحتقر الضعف لا يعلمون أن الهبات التي يمنحونها إياها إزاء ما تأتي به من الوعيد تؤدي إلى تجريدهم من كل نفوذ في نظرها، وكل ما تفعله هذه الهبات في نفوس زعماء الجموع هو جعلهم يعتقدون أن العنف يكفي لنيل المآرب والأغراض.

ولا أشرح هنا ما تختلف به روح الجماعات عن روح الفرد من طرز في التفكير وبواعث للحركة ومن منافع، بل أشير إلى أن الجماعات تتصف بالعجز عن التعقل وبأنها لا تؤخذ بالمعقولات وببساطتها وشدة انفعالها وسرعة تصديقها، وبأن الأفكار لا تؤثر فيها إلا بعد صوغها في صيغ موجزة مولدة للخيالات، كأن يدل رأس المال عندما يذكر لها على غنيٍّ مكسال مبطان يعيش من كد الشعب وجده. وكأن تدل الحكومة على الشرطة والجيش، والكهنوت على حكومة من القساوسة، والاشتراكية على حكومة تنزع أموال الأغنياء، وتجعل العمال يأكلون ويشربون دون أن يصنعوا شيئًا.

وقد علم رجال السياسة بغريزتهم أن الجماعات عاجزة عن صوغ كثير من الأفكار دفعة واحدة، وأن الصيغ الشديدة الواضحة عظيمة التأثير، فتراهم يسعون أيام الانتخابات في إيجاد كلمات تخلبها وتكسب قلوبها ككلمة «الخطر الإكليروسي» و«ضريبة الدخل» … إلخ.

والإنكليز سباقون في هذا المضمار، وقد أثبتت لنا انتخاباتهم الأخيرة ما للصيغ البسيطة المؤكدة من التأثير في النفوس، فقد جاء على إنكلترة حين أصبحت فيه مستورة بإعلانات مصورة خالية من التصريحات الطويلة التي يكثر منها مرشحو البلدان اللاتينية، وفي الإعلانات التي نشرها المحافظون لم يذكروا سوى بضع صيغ كقولهم إن انتخاب مرشحي الأحرار هو انتخاب ضد قوة إنكلترة البحرية. ولا يعسر إدراك ما يكون لمثل هذا القول من التأثير في بلاد يعد أهلها القوة البحرية سبب السيادة والعظمة.

والصور تزيد تلك الصيغ القاطعة قوة، ونعد من الإعلانات المصورة التي أوجبت كثرة في عدد ناخبي أحد الأحزاب ذلك الإعلان الكبير المقسوم إلى قسمين: قسم يحتوى على تاريخ سنة ١٩٠٠ وعلى مدرعة مرقوم عليها قوة الأسطول الإنكليزي، وعلى سفينة صغيرة تدل على الأسطول الألماني، وقسم يحتوي على تاريخ ١٩١٠ وعلى مدرعة ألمانية مهمة كالمدرعة الإنكليزية، فبهذا أظهر المعلنون للناخبين درجة الخطر الألماني، وعزم حزبهم على مقاومته فلفتوا النظر إلى مرشحيهم.

وتقوم هذه الأساليب على معرفة الروح الشعبية، وكيفية تحريكها وسرعة تصديقها وتأثير الألفاظ المكررة فيها، وإذا كانت النتائج المبتغاة لا تتحقق في إنكلترة في كل وقت؛ فلأن جميع أحزابها تتذرع بأساليب متماثلة موجبة بلبلة الناخبين مؤدية إلى سيرهم حسب تلقين الحزب الذي ينتمون إليه.

ويسهل تهييج الجموع لشدة إحساسها، ولا يعسر تحويلها لسرعة تقلبها، فالجموع التي تتوج بحماسة البطل في معبد (الكابيتول) قد تدهوره من شاهق (تاربيان) بمثل تلك الحماسة. فروبسبير الذي كان قبل سقوطه بيوم معبود الشعب الباريسي سيق في اليوم الثاني من سقوطه إلى المقصلة بين صفير هذا الشعب وشتمه، وكذلك (مارا) الذي دفن في (البانتيون) بين تهليل الجموع رميت جثته بعد بضع سنوات من قبل هذه الجموع في المرحاض، وما كان مصير جثة (كرومويل) بأحسن من ذلك.

والزعيم الحقيقي لعلمه أن الجماعات خالية من العقل لا يحاول غير التأثير في عواطفها، وبما أن خصمه يفعل — بحكم الضرورة — مثله يكون النجاح النهائي حليف من يشاغب ويشتد أكثر من الآخر.

وقد بلغ العنف مبلغًا جعلنا نرى بعد الانتخابات الأخيرة وزراء إنكليزيين مشتهرين عادة باستقامتهم يسبون معارضهم في خطبهم الشعبية بمثل ما كان يسب به اليعاقبة خصومهم أيام الثورة الفرنسوية، ففي خطبة عامة ألقاها وزير المالية المستر (لويدجورج) صرح «أن مجلس اللوردات عبارة عن جماعة من الأنذال الأدنياء الفاقدي القيمة الذين ليسوا من الشهامة بحيث يفعلون الخير، ولا من الجسارة بحيث يصنعون الشر»، وشتائم مثل هذه يكررها الوزراء في دوائرهم الانتخابية كل يوم.

ومما يجدر ذكره أن شعور الجماعات بسلطانها وعدم مسؤوليتها يجعلها كثيرة الانفعال شديدة الغرور، وما وقع في الأيام الأخيرة من حوادث أشرنا إليها في هذا الكتاب يؤيد صحة ذلك، ثم إن مشاعر الجماعات مفرطة على الدوام، وهذا هو العلة في أن الجماعات وإن كانت ذات غرور كبير لا حد لإطاعتها ودناءتها عندما يرأسها رجل ذو نفوذ، فلقد أوضحنا درجة السهولة التي احترمت بها طوائف العمال الأوامر العقيمة الجازمة التي أمرتها بها رجال الثورة.

•••

لنذكر بجانب نقائص الجموع مزاياها.

عجز الجموع عن التعقل ينمي فيها محبة الغير التي يضعفها العقل مع أنها فضيلة اجتماعية مفيدة، فالرجل الذي ينظر إلى الأمور بعين العقل هو رجل ذو أثرة قلما تجعله يضحي بنفسه في سبيل المصلحة العامة مع أن الجماعات تأتي بمثل هذه التضحية، وبفضل الجماعات وحدها ظهرت أعظم الدول وتم سلطانها، وبما في الجماعات من بطولة وإخلاص وفضائل أخرى تعيش الحضارات.

ومن الصفات التي تتصف بها ذهنية الشعب سرعة التصديق، ولا حد لسرعة التصديق في الجموع فكل شيء ممكن في نظرها، فإذا طلبت القمر وجب وعدها به، ولا يتأخر رجال السياسة عن الإتيان بمثل هذه الوعود أمامها، وفي معركة انتخابية إذا اتهمتم خصمكم بأبعد الافتراءات من المعقول فسرعان ما تصدقون، وإني أنصحكم بأن لا تعزوا إليه اقتراف جنايات مغمة خوفًا من أن يصبح محطًّا لعواطف سامعيكم، فالجموع تبدي نحو أكابر المجرمين شيئًا من الإعجاب والاحترام على العموم.

وما في الجماعات من الإفراط في سرعة التصديق ليس خاصًّا بها، فسرعة التصديق لا الشك هي التي تلائم حالتنا الطبيعية، نعم لا ينقصنا شيء من ملكة الانتقاد في الأمور التي تتعلق بمهنتنا، ولكننا عندما نتجاوز دائرة هذه المهنة الضيقة لا يبقى فينا من ملكة الانتقاد سوى القليل؛ ولذا أحذر القارئ من القول بشك اللاأدريين، فهؤلاء لا يفعلون في الغالب غير تبديل سرعة تصديقهم موضعًا، فجنات الاشتراكية حلت عندهم في مكان جنات كتب القصص، وقامت الموائد المتحركة والتنويم المغنطيسي وعبادة الرجال في نظرهم مقام الآلهة القديمة.

وعندما يطمع الناشر البسطاء بأرباح كبيرة في إعلان ينشره حسب ما يقتضي ينال كسبًا كبيرًا، فها هي كتائب الماليين تعيش من وراء ما تنشره من الوعود الخلابة، ولا يتطلب تنميق هذه الوعود خيالًا واسعًا، فيكفي لنجاحها تكريرها بألفاظ واحدة.

روت جريدة (لوغلوب) تاريخ أسهم بعض المناجم في جمهورية الأرجانتين، فقالت إن حملة هذه الأسهم لم ينالوا شيئًا بعد، وإنه كلما مرت ستة أشهر توزع ملايين من الإعلانات يجيء فيها أن حَمَلة الأسهم سيعطون أرباح أسهمهم، وأنه لما كانت قيمة هذه ستزيد عشرة أضعافها يجمل بالجمهور أن يقبِل على ابتياعها، والجمهور لما يتصف به من سرعة التصديق يتهافت عليها خوفًا من ضياع الفرصة، وعلى رغم مضي خمس سنوات من غير أن يوزع فيها شيء من الأرباح على المساهمين اشترى الجمهور من تلك المناجم باثني عشر مليونًا أسهمًا لا تساوي قيمتُها بالحقيقة ثقل ورقها.

والأمور التي من هذا النوع كثيرة إلى الغاية، وقد أضافت تلك الجريدة إلى روايتها ما يأتي: «سرعة التصديق في الجمهور كثيرة، فالجمهور لا يطلب دليلًا ولا يعرف المستحيل، وتقوم الوعود وضروب التوكيد عنده مقام الأدلة، وأكثر شيء يؤثر فيه الإعلانات ذات الهذر والثرثرة، وهو لا يبالي بتكذيب الحوادث للآمال التي أوجبتها فيه تلك الإعلانات، بل هو هو في بقائه مسلمًا لا يتعدى بصره حدود أنفه.»

وبتطبيق ما ذكرناه على عالم السياسة يتجلى لنا سر نجاح بعض الأشخاص والمذاهب، فالنجاح في ميدان السياسة قائم على وعد الأوهام والتوكيد بلا دليل وتكرار الوعود نفسها تكرارًا متصلًا ومزايدة الخصم فيها.

ومع كل ما بيناه لا نتوجع كثيرًا مما في الجمهور من سرعة التصديق، فالعوامل التي تؤثر في تكوين المدنيات كعامل سرعة التصديق قليلة جدًّا، وبفضل هذا العامل خرجت الديانات من العدم وتأسست أقوى الدول، فسرعة التصديق تجعل الإيمان أمرًا ممكنًا وتحافظ على ما تستند إليه عظمة البلاد من التقاليد، وما هو الذي يدافع عن الإيمان بالوطن والإيمان بالمثل الأعلى والإيمان بالمستقبل غير سرعة التصديق؟ إن الشعوب التي تضيع كل إيمان فيها تضيع نفسها وبواعث السير فيها، وهي بانحطاط مستمر تلحق بالشعوب الغابرة التي قوَّض الشك أركانها.

١  أقطاب الصناعة يميلون إلى التخلص من التبعة بتحويلهم مصانعهم إلى شركات مساهمة، وفي هذه الشركات يتجلى شأن أولي القابلية العالية أيضًا، فقد دل البحث في جميع مشاريع العالم — ولا سيما مشاريع بلجيكا — على أن أرباح المصانع التي يديرها أصحابها عشرة في المئة مع أن المصانع التي تخص شركات المساهمة لا تعود على المساهمين إلا بأربعة في المئة من ثمن الأسهم وكثيرًا ما يصيبها الإفلاس.
ومع أنه يجب أن تكون الرواتب في الأمور الصناعية والمالية بحسب الاستحقاق يسير الأمر على خلاف ذلك، فقد جاء في إحدى الصحف أن كل واحد من المديرين الاثني عشر الذين يديرون إحدى شركات الاعتماد الكبيرة في بلادنا يتقاضى في كل شهر ثلاثمئة ألف فرنك على حساب المساهمين وإن كان العمل الذي يأتي به قليلًا إلى الغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤