الفصل الخامس

المزايدة الانتخابية ومقت النظام النيابي

كانت عادة قتل المعارضين للتخلص منهم غير متأصلة في أوائل الثورة الفرنسوية، فكان الحليم (سان جوست) يتربص ﺑ (كاميل ديمولان) الدوائر دون أن يقدر على قطع رأسه، وقد استفاد هذا الأخير — وهو أحد رجال الجدل المشهورين — من أيام عطلة منحها، فكتب مذكراته الأخيرة بلهجة حماسية ونشرها في جريدة (لوفيوكورديليه).

لا ريب في أنكم لم تقرأوا تلك الجريدة، وقد جهلتها حتى الأيام الأخيرة حين ألقت المصادفة أمام عينيَّ نسخة اليوم العشرين من الشهر الثالث لسنة العهد الجمهوري الثانية. ومن مطالعة هذه النسخة يثبت لنا أن مبدأ المزايدة الانتخابية الذي هو آفة النظام الديمقراطي شديد الصولة منذ بدء الثورة الفرنسوية، وقد آلم هذا المبدأ (كاميل ديمولان)، وأورث نفسه حزنًا شديدًا فدفعه إلى بيان وسيلة لمقاتلته مأخوذة من قصة قديمة معروفة في العهد الروماني.

قال (كاميل ديمولان): كان في روما نائب اشتراكي ثقيل اسمه (غراكوس)، فكان يعد العمال بوعود متعذر تحقيقها، وبهذه الوعود الخلابة أصبح محبوبًا من الشعب على حساب مجلس الشيوخ، ولما ساور القلق هذا المجلس استأجر فوضويًّا اسمه (دروزوس) ليزايد (غراكوس) في جميع اقتراحاته، فكان إذا طلب (غراكوس) بيع رطل الخبز بأربعة دوانيق مثلًا اقترح (دروزوس) بيعه بدانقين، وهكذا حتى أضاع (غراكوس) محبة الشعب له فقتله عباده السابقون غير آسفين عليه.

ذلك ما جاء في جريدة (لوفيوكورديليه)، ولم يفقه أحد مغزى كلام (كاميل ديمولان)، فهوى النظام الجمهوري بفعل المزايدات الانتخابية إلى منحدر العنف والقسوة والفوضى فإلى منحدر الحكم المطلق.

إن المزايدة الانتخابية أصدق وسيلة لقهر الخصوم، ومما لا مراء فيه أن النائب الاشتراكي الذي يَعِدُ كل ناخب بدخل ستة آلاف فرنك تلقاء عمل ساعة واحدة كل يوم، ليس عليه أن يخشى مَغَبَّةَ مزايدته، ويمكنه بسهولة أن يفعل أكثر من ذلك فيعد كل ناخب بدخل اثني عشر ألف فرنك وبسيارة يقودها أحد أبناء الطبقة الوسطى، غير أن للمزايدة الانتخابية حدودًا لا يخلو تجاوزُها من خطر.

ولِمَا في طريقة المزايدة من هون يفرط المشتغلون بالسياسة في الرجوع إليها، وعند هذا الإفراط تبدو لهم محاذيرها الكثيرة:

ليس الوعد بالأمر الصعب، ويمكن تأجيل ساعة إنجازه وتحقيق أمره بحجة معارضة الأحزاب له، إلا أنه يجيء وقت على الناخب يدرك فيه أنه خُدِعَ بالأوهام، والأوهام لا تزول من نفس المرء من غير أن يسخط كما هو معلوم.

واليوم نرى الشعب يمقت كثيرًا من رجال البرلمان لتضليلهم إياه بضروب المزايدات الانتخابية، ولا يعني ذلك أن هؤلاء المشترعين لم يفعلوا جهدهم لتحقيق وعودهم، فقد أتوا بمساعٍ عظيمة في سبيل تطبيقها، ولكن ما العمل وهم يَعِدُونَ المستحيل والمستحيل يأبى أن يتحقق.

وما يسن من قوانين تصادم مقتضيات الطبيعة لا يفعل سوى زيادة الشرور التي زعم أنه وضع لمعالجتها، فقد وافق البرلمان بتأثير المزايدات الانتخابية على منح العمال رواتب تقاعد تكلف ثمانمئة مليون فرنك كل سنة، ومنح موظفي السكك الحديدية رواتب تقاعد تكلف مئتي مليون فرنك، ولكن لما أدرك هؤلاء جميعهم استحالة تطبيق هذه الموافقة تركوا مجلس الشيوخ يخفض تلك الأرقام إلى حد معقول.

والشعب بعد أن أَضَلَّتْهُ الوعود الخلابة أدرك أن الذي يبقى حيًّا في قلوب قادته هو تصادم الشهوات، وأن كل ما يسعى إليه هؤلاء هو قضاء هذه الشهوات، وقد رأى المرشَّحِين الذين يكونون كثيري التواضع أيام المعارك الانتخابية لا يلبثون أن يكونوا مَرَدَةً مع الضعفاء مجرَّدين من الإيمان تجريدًا لا يتأخرون معه عن رسم أشد البرامج عقمًا والوعود استحالة.

والنائب اليوم عبد لجنته الانتخابية مارد على من لا يُعَوِّلُ على أصواتهم أيام الانتخابات، أي يجب عليه أن يسير حسب منافع ذوي التأثير من ناخبيه وأحقادهم، ومن ينعم النظر يرَ أنه ليس في مقامه ما يوجب الحسد، ويمكن تقدير ذلك من الكلمات الآتية التي صور بها الموسيو (ريمون پوانكاره) حياة كاتب عدل في الأقاليم صار نائبًا ثم وزيرًا وهي:

كان ذلك الكاتب مفعمًا بالأوهام فأضاعها بسرعة وإليك البيان:

عانى قبل كل شيء معاشرة اللجنة الانتخابية ومطاليبها، وبعد أن أصبح نائبًا حاول أن يكون مستقلًّا، فأفهم أنه يجب عليه أن لا يسلك هذا السبيل الوعر وأن من العقل أن ينتسب إلى أحد الأحزاب» أوَلا تلجئه الرسائل الكثيرة التي يطالبه فيها أصحابها بأوسمة ومعونة ومناصب ووظائف إلى الاستعانة بحزب؟

ثم صار وزيرًا، فلم يلبث أن أحاط به بضع عشرات من الشبان الحريصين على ركوب متن السعادة، فجعل منهم رؤساء للديوان ومعاوني رؤساء ومساعدين وملحقين، ومع هذا أراد أن يظل قابضًا على ناصية الحكم بيده، فصرفه مجلس الوزراء عن قصده سريعًا، وبعد أن سقط في الانتخابات الجديدة رجع بخفي حنين إلى مدينته الصغيرة ليباشر أمور حقله بنفسه.

وعلى رغم ذلك نرى بين النواب من هم ذوو قلب سليم، ولكن هؤلاء بعد أن يجتمعوا، ويكتسبوا ما للجماعة من صفات يعجزون عن عمل أي شيء، وقد أشار الموسيو (لابوري) أحد نواب أحزاب اليسار إلى ذلك في مقالة نشرها بعد أن عدل عن ترشيح نفسه مرة أخرى للبرلمان، وإليك ما جاء فيها:

ليس ما يقترحه البرلمان من أعمال تفيد المصلحة العامة بشيء يستحق الذكر، والأعمال تُنجَز في البرلمان على وجه بعيد من الإخلاص غير منظم، وليس فيه ما نسميه مراقبة بالمعنى الصحيح، فالنواب يدارون الوزراء لاحتياجهم إليهم في تنفيذ مآرب الناخبين، فكأن البرلمان والحكومة يتراوحان بين رغبات الناخبين، وأغراضهم المالية التي لا تلائم منفعة الدولة.

يستحسن مجلس النواب القوانين حسب منافع الساعة الراهنة، وقد تعلمت في أربع سنوات قضيتها في البرلمان أن مساعي أولي الصدق والاستقامة تذهب عبثًا.

إن المزايدة الانتخابية أحد الأسباب في مقت كثير من أبناء الوطن للبرلمان، فلنبحث أولًا في الطرق الحكومية التي أدت إليها:

تجعل المزايدة الانتخابية النائب كثير الإذعان إزاء الوعيد، فالنائب يسرع في الإذعان خوفًا من أن يسبقه فيه زملاؤه، وبما أن الوعيد ذا الضجيج لا يصدر إلا عن طبقة العمال يشترع البرلمان في سبيلها غير مبالٍ بما ينشأ عن ذلك من الأحقاد بين طبقات الأمة.

حقًّا لقد بذرت تلك القوانين بذور الانقسام والشقاق، وأثقلت كاهل ماليتنا وعاقت صناعتنا عن التقدم، وهي بإكراهها أرباب الأعمال على إلغاء التخرج جعلت مستقبل مشروعاتنا الصناعية محدودًا، وقد قذفت بألوف الأولاد إلى الشوارع حتى أصبح الكثيرون منهم من الجناة الخطرين، ولم تفعل مساعدة الطاعنين في السن سوى منح الناخبين النافذين تسعين مليون فرنك كل سنة كما جاء في التقارير الرسمية الحديثة، وإذا أضفنا إلى ذلك مئة المليون التي يعطاها مصفو المسكرات ومئات الملايين التي تنفق كرواتب تقاعد للعمال، أمكننا أن نقدر درجة أثقال المزايدة الانتخابية على الميزانية والصناعة.

وقلما يبالي المشترعون بنتائج قوانينهم، فقد جاء في تقرير نشره أحد أعضاء بلدية باريس في ٢ نيسان سنة ١٩٠٨ أن قوانين العمال الجديدة تكره بلدية باريس كل سنة على دفع زيادة ٦٠٠٠٠٠ فرنك إلى الشركة التي تجهز معاهد الماء بالفحم.

ولا يحق للبلديات أن تتألم، فلا فرق بينها وبين أعضاء البرلمان في سلوك طريقة المزايدة الانتخابية، وقد ذكرت الغلوب — إحدى الصحف المالية — أن التدابير التي اتخذتها بلدية باريس باسم الإنسانية كلفت مساهمي شركات الترام الباريسية أكثر من ٧٥ مليونًا، ولما رأت هذه الشركات رؤوس أموالها تخسر اضطرت إلى العدول عن توزيع حصص الأرباح على المساهمين، ولا شك في أن ذلك يورث الاشتراكيين فرحًا، غير أنهم سيحزنون عندما يرون المساهمين يعتصبون ويحملون البلديات على ضمان أرباح أسهمهم مما تجبيه من الضرائب المفروضة على جميع الناس، وحينئذ يدرك الاشتراكيون ما للسنن الاقتصادية من قدرة مهيمنة.

ولا يجدي العذل والعتاب نفعًا، فقد أصبحت المزايدة الانتخابية والمذهب الإنساني والخوف أدلاء سيرنا، ومصائب مثل هذه يشتد أمرها عند الأمم التي لا استقرار في مزاجها النفسي ويهددها الانقراض.

•••

الآن يمكننا أن نتصور أسباب مقت البرلمان: أوهام نشأت عن إسراف في الوعود، فسعى في تحقيق هذه الوعود المستحيلة، ففوضى في الأمور التجارية والصناعية والمالية، فاضطهاد لطبقات من الأمة في سبيل إنجاز تلك الوعود، فخيبة آمال في جميع المؤمنين بقدرة المذهب الحكومي.

ولنثابر بعد ذلك على البحث في انتشار مقت مختلف الطبقات الاجتماعية للنظام البرلماني: لا فائدة في الإسهاب في بيان مقت الإكليروس للنظام المذكور، فهل ينتظر من أناس سلب البرلمان أموالهم وطاردهم وسامهم أنواع الخسف والاضطهاد أن يعطفوا على أعضائه الذين يناصبونهم العداء جهرًا؟

ولا يقل المعلمون وكثير من الموظفين عن أولئك مقتًا للنظام النيابي، وإن لم يوجد ما يبرر ذلك، فلم تفعل حكومة للمعلمين ما فعلته حكومة الجمهورية الحاضرة، ولم يمقت المعلمون حكومة مقتهم لهذه الحكومة، يؤيد ذلك انضمام نقابات المعلمين إلى جمعية اتحاد العمال الثورية حديثًا.

وأما مقت الموظفين — الذين يقرب عددهم من ثمانمئة ألف — للنظام المذكور، فيزيد بنسبة تلبية مطاليبهم، وإذا لم يكبح جماحهم لا يبهظون الميزانية فقط بل يقيمون في وسط الدولة دولًا صغيرة مكان السلطات الأخرى، وهم يطيعون الحكومات ما دامت تجيبهم إلى رغباتهم، ولكنهم لا يتأخرون عن قلبهم لها ظهر المجن عندما يتعذر ذلك لسبب مالي، وما يطلبه الموظفون الآن هو «القضاء على سلطة الوزارات، وتوزيعها بين دواوين الإدارة»، وبهذا يتم استبدادهم الذي ليس بأخف من استبداد (هليو غابال) و(تيبريوس)، فالتخلص من حكم مستبد قاهر ممكن، ولكن كيف نأمل الخلاص من ربقة استبداد رجال الدواوين الخفي؟

ويكاد الأمر كله ينتهي إليهم، فلقد قلب في فرنسا منذ مئة سنة كثير من النظم ورؤساء الدولة والوزراء دون أن تمس سلطة الموظفين بشيء، وقد زادت هذه السلطة على الأنقاض المتكدسة، فصرنا نبصر اليوم الذي يكونون فيه وحدهم سادة البلاد.

•••

ومع أن عطف المشترعين على طبقة العمال لا يقل عن عطفهم على طبقتي المعلمين والموظفين لم يخاصم المشترعين أحدٌ خصومة ذات ضجيج كالعمال، ولا حاجة إلى (ماكيافيلي) لشرح هذا الأمر، فهو ناشئ عن أحوال الجماعات النفسية، فالجماعات لا تحترم سوى الحكومات القوية، وهي لا تكون شاكرة لمن تنال منه رغائبها بقوة التهديد بل تحتقره وتنظر إليه شزرًا.

لا شك في مقت العمال لرجال البرلمان، وهم يحقدون على جميع الأحزاب ولا سيما الاشتراكيين، وإذا كانوا في بعض الأحيان يتساهلون مع رجال الدين فلشبه بين مزاج الطرفين النفسي.

والعالم يحلم اليوم بإقامة نظام شعبي مطلق ضد النظام اليعقوبي، وهو قانع بأن الصعاليك سيحققون ما لم يقدر على تحقيقه أبناء الطبقة الوسطى من سعادة عامة، وقد شعر الاشتراكيون ببغضاء العمال للجميع، فحاولوا أن يتقوا شر هذه البغضاء بضروب المصانعة والتملق، ولكن ما لحقهم من الفشل جعلهم لا يجرؤون على الاشتراك في مؤتمر العمال، وإذا وقع أن اشتركوا فيها فليستقبلوا بأسوأ وجه.

•••

وكذلك أرباب رؤوس الأموال والصناعات — أي منتجو ثروتنا الحقيقيون — لا يعطفون على أولي الأمر، وعلة ذلك لا لأن هؤلاء لا يحمون أولئك ضد تعدي العمال وحرقهم المصانع وإتيانهم بأنواع القسوة والعنف، بل لأنهم يقيدون صناعاتهم كل يوم بمختلف القوانين الاجتماعية الجائرة ريثما يستطيعون القضاء على ثروتهم بما يفرضونه عليها من الضرائب الظالمة.

وقد يذهب بعضهم إلى عدم وجوب مداراة أولئك الأرباب، قال الموسيو (بيار پودان) في كتابه «السياسة الحقيقية»: «لا تحتاج المجتمعات إلى صفوة الناس بعد الآن»، فكلام مثل هذا لا يلائم سوى الظواهر، وأما الحقيقة فهي أن المجتمعات لم تحتج إلى الخواص احتياجها إليهم في هذه الأيام، وسوف يعظم شأنهم، فلولاهم لما قامت للعلم والصناعة وأي رقي مادي قائمة، ولاستفحل أمر النظام الاشتراكي المنحط المؤدي إلى مساواة الناس في البؤس والاستعباد.

إذًا للنظام النيابي مبغضون كثيرون، فجميع الطبقات تكرهه حاشا الطبقة الوسطى التي لا تبالي به ولا بغيره، وإليك ما قاله الموسيو (دورياك) الذي استشهدت بأقواله غير مرة: «لا تبالي الطبقة الوسطى الفرنسوية المؤلفة من مختلف العناصر والتي ضعضعتها الثورات بأي نظام حكومي، أي إنها ليست ملكية ولا إمبراطورية ولا جمهورية، فهي تصوت للنظام الجمهوري؛ لأن الجمهورية قائمة، وهي تعاضد كل من يمنحها السلامة والطمأنينة، فإذا سقط المنعم عليها لا تنظر إليه لعجزه بعد ذلك عن خدمتها.»

ومن أشد العوامل في مقت النظام النيابي الاستبداد الذي يقوم به نواب الأقاليم ضد أبناء البلاد الذين لا ينتمون إلى حزبهم، وقد أعرب الموسيو (لوبه) — الذي كان نائبًا قبل أن يصير رئيسًا للجمهورية — عن ذلك في ملاحظات نشرتها جريدة (الجورنال) وإليكها:

كيف تريدون أن نحافظ على الطريقة القائلة بأن تنتخب كل دائرة نائبًا واحدًا عنها، والطريقة المذكورة ذات عيوب لا تخفى على كل ذي بصيرة؟ لا يعلم سكان باريس درجة الانحلال الذي أوجبته هذه الطريقة في أخلاق أبناء الأقاليم والضغط الذي أدت إليه، فشعار كل مرشح في الأقاليم هو أن الذي لم ينتخبه عدوه، والمرشح الذي ينجح في الانتخابات لا يهتم بسقوط البرد على كروم خصومه وموت مواشيهم، بل يسعى في منح نُصَّاره تعويضًا عما لحقهم من ضرر وأذى شامتًا بخصومه الذين يرى في عدم تعويضهم بشيء جزاءً لهم على إعراضهم عنه أيام الانتخابات، وفي بلاد مركزية كفرنسا تدوم مثل هذه الأخلاق زمنًا كبيرًا، ولكن غريزة العدل النامية فينا لا تظل ساكنة، بل تثور في آخر الأمر، فيا ويل من يحرك مشاعر الحق في فرنسا.

وقد آل الأمر بذوي البصائر إلى الحكم على مجلس النواب حكمًا قاسيًا، يدلنا على ذلك البيان الذي نشره أشهر رجال المجمع العلمي وكلية الصوربون ونقابة المحامين ونذكر منهم: كارنو وبوشار وكروازه وداستر وبنلفيه وهارمان وديهل وفرنان فور، فقد جاء فيه أن الطريقة القائلة بأن تنتخب كل دائرة نائبًا واحدًا عنها جعلت عاداتنا الانتخابية والسياسية أمرًا لا يطاق، وأدت إلى الإجحاف في سير الإدارة وتطبيق القوانين وأحلت المحسوبية محل الحق والإنصاف، ونشرت الفوضى في دواوين الدولة وأوجبت عجزًا في الميزانية العامة، فقد حان الوقت الذي يجب فيه أن يحرر النواب من ربقة الاستعباد المكرهة إياهم على مداراة الشهوات في سبيل كراسيهم، وقد حل الزمن الذي يقتضي أن يتصف فيه النظام النيابي بشيء من الكرامة والأخلاق، وأن يقوم النضال عن المبادئ مقام المنافسات الشخصية.

•••

وكيف لا يزال النظام النيابي عائشًا على رغم مقت كثير من طبقات الأمة له؟ يظل باقيًا لأنه النظام الوحيد الممكن عند الأمم المتمدنة، فلقد اعتنقته جميعها سواء أملك كان على رأسها كما في إنكلترة وبلجيكا وإيطاليا، أم رئيس منتخب كما في فرنسا وأميركا، والبرلمان في هذه البلاد هو الذي يشترع والوزراء هم الذين يحكمون، وفي الأيام الأخيرة اضطرت دولتا روسيا وتركيا المطلقتان إلى قبول النظام النيابي عندما رأتا أنه لا مناص منه.

وعندما يصبح أحد النظم أمرًا لا مفر منه يكون من الصواب قبوله مع السعي في تعديله، والنظام النيابي يعدل بوضع طريقة في الانتخاب تمنح النواب شيئًا من الاستقلال إزاء ناخبيهم، ويعدل بالتدابير التي يقتضي اتخاذها ضد جيش الموظفين كما ذكرت سابقًا، فمتى أصبح الموظفون كناية عن مساعدين لم تتعهد الحكومة لهم بشيء عند توظيفهم عدوا أنفسهم عمالًا سهلًا تبديلهم ولم يجرؤوا على الظهور بمظهر السادة المتجبرين، ويعدل بعزم ولاة الأمور على إبداء شيء من الحزم والنشاط وبعدم محالفتهم الغوغاء، وكيف لم يكتشف أصحاب الأمر والنهي بعد كثير من التجارب المكررة أن ضعفهم المستمر وعفوهم الدائم لا يفعلان سوى زيادة جيش العصاة المتمردين الذي يستبيح الحرق والتخريب؟

وكلما زاد الصفح والعفو زادت الفتن، فسلوك الحكومة سبيل الصفح من البواعث الرئيسة في اشتعال نار الفتنة سنة ١٩٠٧ في مديريتين من مديريات الجنوب وتمرد إحدى الفرق، وفي عصيان (درافي) سنة ١٩٠٨، وفي اعتصاب موظفي البريد ورجال البحرية والاعتصابات الثورية في (ميرو) و(مازاره)، واقتراف أنواع الهدم والتخريب واستعمال الديناميت لإغراق السفن سنة ١٩٠٩، وفي اعتصاب بحارة مرسيليا الجديد سنة ١٩١٠ … إلخ.

وضعف كالذي يبديه قادتنا لا يدوم طويلًا، فإذا عظم أمر الفوضى، واستمر حزب النظام في ضعفه خرجت الفوضى ظافرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤