الفصل الثالث

تطور النقابية الفوضوي

كانت النبوة في القرون الغابرة هبة شاذة تمن بها الآلهة، ولم تذكر التوراة سوى عدد قليل من الأنبياء، فأسهبت في تعظيمهم وتقديسهم، ولا ريب في أن نمو خلق التدين في الوقت الحاضر هو الذي يجعل أمر التنبؤ بالمستقبل عامًّا، فقلما نصادف أناسًا لا يستعملون قابلية التنبؤ فيهم مرات عديدة في اليوم الواحد، ولا أشير هنا إلى الاشتراكيين الذين هم أنبياء بطبيعة الحال لتصريفهم جميع الأفعال على صيغة المستقبل بل أشير إلى الناس جميعهم، فالناس قد تعودوا البحث طويلًا في أمور لا يعرفونها، ويصعب عليكم أن تكلموا أي إنسان عشر دقائق من غير أن يتخلل في أثناء الحديث شيء من التنبؤ، وإذا كان ذلك التنبؤ لا يتعلق بفرنسا أو الدول الأخرى، فإنه يتعلق بمصير جار مخاطبكم مثلًا.

إذًا ليس لأحد أن يباهي الآخرين بأمر يزاوله الناس أجمعون في الوقت الحاضر، وإني تبعًا للعادة العامة أجيء في بعض الأحيان بنبوءات، وهذه النبوءات تتعلق في الغالب بمستقبل بعيد خوفًا من أن أرى عدم تحقيقها.

على أنني خاطرت بالأمر فتنبأت بأشياء تعود على المستقبل القريب، ومنها ما نشرته في اليوم الثاني من إعدام (فيرير) في إحدى الصحف الكبيرة حيث تنبأت بأن هذا الحادث الذي أوجب ضجيجًا في باريس لا يؤدي إلى هيجان في إسبانيا، وكذلك تحققت نبوءتي القائلة بأن جمعية اتحاد العمال لا تلبث أن تبتلعها العناصر الفوضوية التي ضمتها إلى نفسها برفل وغباوة، فإليك ما قاله بعد بيان ظني بسنة الموسيو (نيال) الذي استعفي من سكرتيرية جمعية اتحاد العمال:

أدت جهودنا في عدم تسرب السياسة في المذهب النقابي إلى النتيجة الآتية، وهي أننا ما أوصدنا الباب دون سم الاشتراكية إلا لنفتحه لسم الفوضوية، فلقد أدخل الساسة الفوضويون الفوضوية إلى النقابية حتى صارت النقابية والفوضوية كلمتين مترادفتين.

وقد احتاج مؤسسو المذهب النقابي إلى زمن غير يسير لإدراك تلك الحقيقة، ولربما يدرك العمال في آخر الأمر أن الفوضوية ليست مذهبًا سياسيًّا بل مذهبًا نفسيًّا خاصًّا بأناس منحلين منحطين فيعلمون أن طريقة تخريب الآلات وحرق المصانع وقتل الجنود من عمل المجانين الذي لا يتحسن به نصيب أحد.

والفوضويون الذين أغوتهم اندفاعاتهم لا يبالون بتحسين معايش العمال كما تحسنت في أميركا وإنكلترة على يد نقاباتهما الرشيدة، وقد أعطى رئيس جمعية اتحاد العمال الأميركية المستر (صموئيل غومبرس) نقابي فرنسا درسًا مفيدًا، فذكر أنه ينتسب إلى هذه الجمعية مليونَا عامل مع أنه لا ينتسب إلى جمعية اتحاد العمال في فرنسا سوى ثلاثمئة ألف عامل، وبين أن أولئك العمال ذوو ثروة كبيرة وأن ثلاثمئة جريدة تنطق باسمهم.

وازدراء النقابيين في أميركا لحركات النقابيين الفرنسويين العقيمة يبدو لكل من ينعم النظر، فهم يعدون مبادئ هؤلاء صبيانية إلى الغاية، قال المستر (غومبرس) في خطبته: «لقد كان بيننا أيام كنا مثلكم في دور الطفولة عدد غير قليل من الشيوعيين والفوضويين والمحتالين فكنا عاجزين عن الإتيان بأقل عمل، ثم أدركنا أن النقابية لا يجوز أن تكون آلة تخريب وهدم بل يجب أن تكون عامل صلاح وبناء، فمن الضلال تقويض الصناعة الوطنية بسلاح الاعتصابات الطائشة، وكأني بصعاليك فرنسا لم يدركوا ذلك، فظلوا شديدي الاندفاع.»

وأكبر كلمة قالها رئيس جمعية اتحاد العمال في أميركا فأوجبت غيظًا شديدًا في قلوب نقابيِّي فرنسا هي الكلمة القائلة: «لا تظنوا أن من الرقي إلغاء رأس المال، فينطوي تحت هذا الإلغاء رجوع إلى دور الرق والاستعباد.»

ويسمع نقابيونا نظير هذه النصائح في إنكلترة وألمانيا لو كانوا ذوي نفسية تسمح لهم بإدراكها، والعامل القدير وحده هو الذي يعلم أن الأجور تكون بحسب قيمة أرباب المصانع.

لم يسلم بهذا المبدأ رجال النقابات في البلدان اللاتينية، فلو سئلوا عن مقصدهم الذي يسعون إليه لأجابوا: «مصانع بلا أرباب».

تلك أوهام رجال النظر الذين لم يترددوا إلى المصانع ولم ينظروا إلى ما فيها بدقة، فلو فحص هؤلاء الأمر عن كثب لرأوا أن المصنع بصحبه، وبعدما أتى العلم في الوقت الحاضر بمبتكراته المعقدة صار أصعب شيء في الصناعات إيجاد رؤساء لها لا جمع عمال يقومون بها، فسرعان ما يخرب المصنع الذي تم نجاحه على يد مدير ماهر إذا تولت أمره أيدٍ غير مجربة، فالمصنع بلا رئيس كالسفينة بلا ربان، أي يقع اليوم في فوضى وغدًا في انهيار.

وبيان هذه الحقائق لا يفيد الفوضويين الذين قبضوا على زمام النقابات، فهم لا يتوخَوْن غاية غير نقض المجتمع وإقامة نظام شيوعي مبهم مقامه، وهم بدلًا من أن يظلوا شاكرين للقوانين سماحَها لهم بالبقاء تراهم اليوم يقاتلونها، ومن السذاجة احتمالهم أكثر مما سبق.

وقد بحثت في فصل سابق عن مساوئ بعض القوانين التي يصر المشترِعون على الإكثار منها دون أن يدركوا ما تجر إليه من النتائج، ونذكر بجانبها قانون النقابات المهنية الذي أوجب وضعه سنة ١٨٨٤ وزير يجيد الخطابة على ما فيه من علم قليل بأمور النفس، وما كانت الإنذارات التي أنذر بها هذا الوزير قليلة، غير أنه وقتما قال أحد أعضاء مجلس الشيوخ: «إنه يخشى يومًا يصبح فيه البرلمان مسودًا من جمعية عمال مطيعة أوامر نقابة عالية» اكتفى بالاستخفاف «بما يُعزَى إلى مجلس النقابات العام من قوة تفوق قوة أكبر الجبابرة»!

ومن العبارات النفسية التي قيلت في الخطر الذي ينجم عن ذلك القانون قول عضو آخر في مجلس الشيوخ: «إنه لا بد من السيطرة المطلقة، فلا شيء يقال له مرحلة متوسطة، أي إما أن لا تتألف جمعية نقابات، وإما أن يتكون اتحاد ذو سلطان مطلق بين هذه النقابات، فلا نجهل الكيفية التي يتسلَّط بها الزعماء على العمال»، وقد ذكر أن لائحة القانون تؤدي إلى مَقْتِ الوطن ونظام التجنيد فلم يُجْدِ ذلك نفعًا، إذ استحوذ عمى القلب على أعضاء البرلمان فاقترعوا للائحة القانون الذي تزيد نتائجه كل يوم خطرًا، وبفضله أصبحت جمعية اتحاد العمال تحارب الوطن والجيش والمجتمع، ورأس المال دون أن يصيبها عقاب.

ويعيش أولئك المتعصبون شديدي الوهم، ففي حفلة افتتاح المدرسة الاشتراكية بين الموسيو (جوريس) عندما فحص كتاب اثنين من رجال النقابية الثورية أن أولئك المشاغبين المتمردين لا يقترحون سوى إقامة ما سوف يهدمونه بثورة عنيفة، وقد نشر في عدد جريدة (الأومانيته) الصادر في ٣٠ تشرين الثاني سنة ١٩٠٩ مقالة جاء فيها ما يأتي: «إن من أوصاف الثورة المقبلة التي تقص علينا هو السهولة التي لا حد لها، ففيها تغيب الحكومة كطيف ويزول البرلمان كالدخان وينضم الجيش إلى الشعب فيلقي كل إنسان سلاحه، وفيها يترك للفلاح حقله وللبائع الصغير دكانه، وإذا قبض على المصارف فليعطي المودعون حوالات جديدة، ثم تبعث الدولة من مرقدها فيظهر البرلمان على شكل مؤتمر اتحاد حيث لا تحل مشاكل العمال وحدها، بل مشاكل الزراع ومشكلة النقود ومشاكل كثيرة أخرى أيضًا، وحينئذ تعود عناصر المجتمع إلى حيث كانت وتسود سنة الديمقراطية.»

•••

وريثما تمثل جمعية اتحاد العمال دورها في المستقبل تأتي اليوم بضروب التخريب، وهي ترمي إلى تقويض كثير من الصناعات غير مبالية ببؤس العمال الذين يعيشون منها، ولقد كان تأثيرها من العوامل التي أوجبت انحطاط بحريتنا التجارية.

ولقد بين الموسيو (ميلين) في خطبة ألقاها في مجلس الشيوخ ونشرتها الجريدة الرسمية في عددها الصادر في ١١ مارس سنة ١٩١٠ نتائج الفوضى الاشتراعية، وحالة العمال النفسية بأوضح أسلوب، ومما جاء فيها: «إنني ممن يعيشون في عالم الصناعة، فاسمحوا لي بأن أبين لكم أنني أرى فيه ملكة النشاط وملكة الاستنباط في حالة داعية لليأس، ومن موجبات ذلك الوعيد المسلط على رأس المال والاعتصابات المستمرة والاعتداء على حرية العمل والضرائب المفروضة على أصحاب الأموال وكل من يجمع مالًا بطريقة الادخار.

فالثوريون الذين يسوقوننا إلى هذا السبيل غافلون، فلو تدبروا الأمر لرأوا أن العالم بلا أغنياء يصبح فقيرًا وأن الفقراء يزيدون فقرًا، وفي ذلك البؤس كله.»

وأما ميزانيتنا التجارية الباعثة على الارتياح في الظاهر، فلم يجد ذلك الخطيب صعوبة في بيان أوهام ولاة الأمور الذين يحتجون بها، فقد أشار إلى أن تجارة كثير من البلدان كألمانيا والولايات المتحدة وبلجيكا تضاعفت في عشرين سنة، مع أن تجارتنا نزلت إلى الدرجة العاشرة في نموها وتقدمها، وبينما نتمهل على هذا الوجه تزيد الشعوب صناعة، فتلقى صعوبة في إيجاد أسواق لبيع سلعها «ولربما يجيء يوم يخرج الأمر فيه عن طوره الاقتصادي، فيؤدي إلى وقوع حرب طاحنة بين الأمم».

ومن العوامل التي تزيد بعض البلدان الأجنبية قوة هو أنها بدلًا من جيش المنحطين، الذين نشأوا في جامعاتنا «تشتمل على شبيبة نشيطة عديدة تنتشر في أقطار العالم لتكدح في إسعادها بلادها الأصلية»، ويرجو الموسيو (ميلين) أن يكون عندنا نظير تلك الشبيبة يوم نشفى من داء التوظيف، وعندي أن داء الجامعة أعظم، فداء التوظيف من نتائج ذلك الداء.

•••

وعندما يتألف حزب سياسي، ويكون من مقاصد تخريب الآلات أو «غرس الراية الوطنية في المزبلة» ينضم إليه جحفل من ناقصي العلم العاطلين غير ناظرين إلى ما فيه من مبادئ أخرى. فتربيتنا المدرسية تربي أناسًا عاجزين عن عمل شيء آخر.

ولما كان تخريب المصانع وقطع أسلاك البرق من الأعمال التي يجتنب الإيصاء بها جهرًا خوفًا من سلطان القوانين اكتشف أساتذة الفوضى في نهاية الأمر فلسفة يستنبط منها بحيل لغوية أعمال النقابات الفوضوية، وإنا لنعجب من أن المبادئ التي يدرسها في كلية فرنسا (كوليج دو فرانس) أكثر الفلاسفة دعة وحكمة — وأعني به الموسيو (برغسون) — تصبح إنجيل المذهب النقابي الثوري، فإلى الموسيو (برغسون) يعزَى ذلك المذهب كما قال الأستاذ (بوغله)، وبه ينتفع المجددون وأصحاب الكثلكة الحديثة وأنصار كثير من المذاهب الأخرى. «وكل ما يطلبه هؤلاء إلى أستاذهم المنتحل هو أن يدرسهم دروسًا روحانية»، أي أن يستبدل بالاستدلال العقلي «إلهامات نقدر بها على الحياة، ونعتمد بها على صولة العمال التي هي بنت صولة الحياة».

لم أفهم ذلك مثلكم وكذلك أنصار المذهب النقابي، وليس في هذا ما يضير المذهب، فقوة المذهب بما فيه من غموض وتعذر، وإيضاح الأمر أن الجماعات ذات كلف بما لا تفهمه، ففي دور مذهب (جانسينيوس) قلبت نظرية الغفران أوربا رأسًا على عقب، مع أنه لم يستطع أي عالم لاهوتي أن يوضح ما يتفرع منها وأن يرى ما فيها من مخالفة للأدب والذوق.

شعر نظريو النقابية بفائدة الفلسفة للمذهب النقابي، وقد انتفع بفلسفة (هيجل) و(أوغوست كونت) كثير من الأحزاب الشائخة، فوجب اختيار فلسفة جديدة يتمكن بها الفوضويون، حينما يحرقون المصانع من القول «إن إلهامات الغريزة رائدنا».

وبهذا نستدل على شوائب فلسفة تستخف بالعقل وتقول بإقامة الغريزة مقامه، فقد غاب عن تلك الفلسفة أن البشر سعى قرونًا لا يحصيها عد للخروج من الطور الغريزي والدخول في طور العقل، ولم يترقَّ البشر في سلم الحضارة إلا بتحرره بالتدريج من اندفاعاته الغريزية، فالحضارة في قهر المعقول للغريزي والهمجية في انتقام الغريزي من المعقول.

وعليه إذا كان الأستاذ (بوغله) يقول إن الفلسفة الغريزية تؤدي إلى القضاء على مبتكرات العقل، فإننا نقول إن اليوم الذي تنتصر فيه هذه الفلسفة هو اليوم الذي يهبط فيه البشر إلى أسفل دركة في التوحش، فالمتوحشون واللصوص هم الذين اتخذوا فلسفة الغريزة دليلًا لهم في كل زمان، فلنتركها لهم.

يكمن تحت النقابية الثورية وضعف الحكومة انقلابات عنيفة، ولربما ينجم عن الانقلابات في نهاية الأمر بعض الفوائد، فروح الشعوب في بعض الأحيان هي من الثبات، بحيث يتطلب أقل تغيير فيها مرور زمن طويل أو نشوب ثورة عنيفة إلى الغاية، نعم تكلف الثورات ثمنًا غاليًا وتنتج قليلًا غير أنه يبقى منها شيء على كل حال، فقد استلزم نيل الفرنسويين بعض الحقوق ومساواة أمام القانون حدوث دور الهول وحروبًا استمرت في أوربا عشرين سنة، وقتل ثلاثة ملايين من الرجال، وما كان ذلك ليفوت الفرنسويين من غير ثورة، فالقاطرة مسوية أكثر من المقصلة، ولكن أنى للفرنسويين الصبر ولم تمن به الآلهة على الشعوب اللاتينية؟

•••

البحث في شأن النقابية في العالم الاقتصادي لا يتحمله صدر هذا الفصل؛ فلذا نقتصر على القول بأنها لو تخلصت من الفوضويين لأصبحت أداة صالحة لمناهضة الاشتراكية الحكومية التي تتورط فيها كل يوم، والتي تدعو بلسان المقال إلى البؤس في المساواة والاستعباد. فلا يغيبن عن بالنا أن النقابية هي — كما بينت سابقًا — عدوة الاشتراكية، فضم الكلمتين إحداهما إلى الثانية هو كنعت إنسان بمسلم نصراني أو ملحد متدين، وإني أنصح الذين يجهلون هذا الفرق الذي يصر الاشتراكيون على إنكاره أن يطالعوا الرسالة المفيدة التي دبجها يراع النقابي الموسيو (إدوار بيرت)، إذ يرون فيها الفرق الشديد بين الاشتراكية التي هي عنوان الحكومية، وبين النقابية التي ترفض كل مداخلة من قبل الحكومة، وقد اعتبر هذا المؤلف انتشار الاشتراكية نتيجة لانحطاط الطبقة الوسطى، ثم حارب الفوضى التي عدها مناهضة للرقي أو مانعة له، وأما رأس المال الذي يمقته الاشتراكيون فالنقابيون يدركون شأنه إدراكًا تامًّا.

قال الموسيو (بيرت): «النقابية تعتبر نظام التمول ساحرًا عجيبًا استطاع بمعونة الجرأة وملكة الاستنباط الفردية والتعاون أن يخرج من العمل الاجتماعي جميع وسائل الإنتاج.»

ومع ما تقدم يعلم الاشتراكيون الذين ينكرون أنفسهم بالتدريج أمام مزاحميهم أن النقابية «تكدح في حرمان الحزب الاشتراكي ناخبيه من العمال»، ومزاحمات مثل هذه نذيرة بوقوع نزاع كثير، فلا تخافن ذلك النزاع المقدر الذي لم تجد الطبيعة وسيلة للرقي غيره. وهل يخلو مكان من نزاع؟ فالنزاع واقع بين أنواع الحيوان وبين الأمم وبين الأفراد وبين الجنسين وبين خليات الجسم الواحد، وما على المرء إلا أن يجيد الدفاع في أثناء هذه المنازعات التي لا مناص منها، ويسير العالم معنا أو علينا بحسب ما نكيف به أنفسنا، ولا بد من معاناة مقتضيات الطبيعة على رغم لعننا لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤