الفصل الأول

الفوضى الاجتماعية

لم يكن القنصل (مارسيوس سنسورينوس) سلميًّا قائلًا بالمذهب الإنساني، بل كان ممن يعلمون نفسية الأعداء، فلما دنا من أبواب قرطاجة كانت أغنى مدن العالم القديم وأكثرها نضارة في الفنون والتجارة ومحبي السلم، وبعد أن امتدح (سنسورينوس) لهؤلاء فوائد السلم، ولعن فظائع الحرب قال لهم مستنتجًا: «ألقوا سلاحكم وسلموها إلي، فستأخذ روما على عاتقها أمر حمايتكم.» فأجابوه إلى طلبه، ثم قال لهم: «سلموني سفنكم الحربية، فهي كثيرة عظيمة النفقة لا فائدة منها بعد أن تعهدت روما بالدفاع عنكم ضد أعدائكم.» ففعل المسالمون ما أشار به عليهم، وحينئذ قال لهم: «تحمدون على خضوعكم، ولم يبقَ عليَّ إلا أن أطلب إليكم أن تقوموا بتضحية أخرى وهي أن روما — دفعًا لكل عصيان — أمرتني بأن أهدم قرطاجة، فهي تسمح لكم بالإقامة في أي مكان تختارونه في الصحراء على أن يبعد ثمانين درجة من البحر.» هنالك أدرك القرطاجيون أخطار المذهب السلمي، وقد حاولوا عبثًا أن يدافعوا عن أنفسهم، فقرطاجة حُرِقت مع مَن فيها من السكان وغابت عن التاريخ.

تشتمل تلك القصة على كثير من العبر، وأظن أنها خطرت على بال رئيس وزرائنا بعد اعتصاب موظفي البريد، أحدثت عندي هذا الظن خطبتُه التي ألقاها أمام تمثال (غامبتا)، فقد جاء فيها: «أنه لا حق لغير الأقوياء، وليس المستقبل لغير ذوي الجرأة والإقدام، وكل مجتمع يحابي عصاة الموظفين جدير بازدراء الناس أجمعين، فقمع عصيانهم ضرورة تمليها سلامة الأمة.»

ومن حسن الحظ أن هذه اللهجة تناقض لهجة ركن آخر لم يرَ لمعالجة تمرد الموظفين ووعيد العمال واعتصابهم وهدمهم سوى الصيغ المبهمة الآتية، وهي: «إنه يجب أن يحسب لما وقع حسابه، وأن يكون الرجل ابن وقته وأن يعتمد على طبقة العمال»، وقد ختم كلامه بمناشدته أولياء الأمور الذين وصفهم بالسعداء بأن يعاملوا العمال والموظفين بكرم وسخاء، وهذه اللهجة هي من مظاهر الفلسفة الحديثة القائلة بحب الإنسانية والتي هي أجدر بأن تسمى — حسب تعبير جورج صوريل — «فلسفة الجبن والنفاق».

ولا نجهل جواب العمال والموظفين عن هذا الكلام، فكلما شعروا بخوف أصحاب الأمر منهم أمعنوا في ازدرائهم وتهديدهم، وهم لا يأتون عند أقل مقاومة يبديها أولو الأمر سوى الاعتصاب والتخريب والحرق، ومن دواعي الأسف أن الخوف هو المستولي على رجال الحكومة، والخوف هو الذي كسر الجيوش وهيأ الثورات كما هو معلوم.

وكلمات رئيس الوزراء السابق الصائبة تؤثر تأثيرًا كبيرًا لو قالها أيام اعتصاب موظفي البريد لأبعده، فالدفاع آنئذ كان سهلًا، ولم يؤدِّ الإذعان لهؤلاء المتمردين إلى غير جعلهم يشعرون بقوتهم ويحتقرون رجال الحكومة، فالجماعات كما قال (ماكيافيلي) لا تكون شاكرة لمن تأخذ منه شيئًا بالقوة.

لم ينظر إلى قول (ماكيافيلي) بعين الاعتبار لقدمه، وقد اختير سبيل الإذعان في بداءة الأمر، فسرعان ما نشرت الجريدة الرسمية زيادة رواتب موظفي البريد، ولكن لما زادت مطاليبهم اضطرت الحكومة إلى التصريح بأنها لا تستمر على الإذعان.

ثم إن موظفي البريد لم يبدوا رغباتهم إلا بوقاحة مفرطة وبتهديدهم الحكومة بالاعتصاب تهديدًا مكررًا، ولما رأى الموظفون الآخرون أن النجاح يكون حليف سياسة التهديد رفعوا عقيرتهم وأبدوا مطاليبهم، وقد وجب لتنفيذها مضاعفة الميزانية ومن ثم مضاعفة الضرائب.

لا جرم أن رجال البرلمان والوزراء لا يبالون بنتائج ضعفهم إلا قليلًا، فهم يعلمون أنهم لا يكونون قابضين على زمام الحكم عند ظهورها، ولكن لما أخذت الرغائب والمطاليب تزيد بسرعة اضطروا إلى إظهار شيء من المقاومة مداراة للرأي العام.

ولم يكن اعتصاب موظفي البريد الثاني خاليًا من الفائدة، فيجمل بالجمهور أن يقاسي اعتصابات البريد والسكك الحديدية ليدرك ماذا ينطوي تحت النظام النقابي ولينتصب أمام جميع الثوريين.

ينبغي أن نعلم كيف ندافع عن أنفسنا غير خائفين، فالخوف سبب جميع الفتن الدامية وما ينشأ عنها من استبداد عسكري، وهل كان موظفو البريد والمعلمون يقولون ما نشروه في الجرائد لو لم يكونوا واثقين بما توجبه خطبهم من هول؟ وهل يجوز السماح لموظفي الدولة بأن ينشروا المبادئ اللاوطنية ويبذروا بين الناس المذهب القائل بنزع السلاح وعدم التجنيد، أي بتقويض أركان المجتمع الذي يعيشون فيه؟ وهل يصح السكوت عن كثير من المعلمين الذين يعبرون عمَّا في أنفسهم بمثل العبارة التي قالها أحد مفوضيهم في مجلس عام، وهي: «إنني أطالب لتحرير الصعاليك بانتساب المعلمين إلى جمعية اتحاد العمال، وبأن يطبع الحقد على الطبقة الوسطى على قلوب الأطفال»؟

ومن العبث أن نجادل أناسًا ضالين أعمى قلوبهم بعض الزعماء، فأولئك الناس الذين يكثرون من التظلم ينتسبون بالحقيقة إلى زمرة ممتازة بين أبناء الطبقة الوسطى، ومن أغرب ما سمعناه ادعاء رئيس اعتصاب موظفي البريد بأنه من الصعاليك، مع أن راتبه السنوي بلغ ستة آلاف فرنك، ومع أنه سينال راتب تقاعد مقداره ثلاثة آلاف فرنك على الأقل، فلو تم النصر للمذهب النقابي لأصبحت رواتب أمثال هذا الموظف كرواتب أصغر العمال.

لقد رأينا في أثناء اعتصاب موظفي البريد عجبًا، وهو أن قسمًا من الحكومة تمرد على القسم الآخر، ومن أي شيء تتألف حكومة البلاد؟ إنها لا تتألف فقط من البرلمان الذي يسن القوانين، ولا من الوزارة التي تأمر بتنفيذها، بل أيضًا من مليون من الموظفين الذين ينفذونها مباشرة والذين توزعت بينهم السلطة الحقيقية، فإذا رفع هؤلاء الموظفون راية العصيان اضمحلت الدولة، وإذا أمكن الاستغناء عن الوزراء فكيف يُستغنَى عن موظفي الحكومة البالغ عددهم مليونًا؟ ليس من الصعب تبديلهم بآخرين، فإذا كان المرء يحتاج إلى سعي سنوات كثيرة كي يكون ميكانيكيًّا أو حدادًا فإنه لا يضطر إلا إلى جهد بضعة أسابيع كي يصبح رئيس ديوان أو موظف بريد أو جابيًا، وإذا كان بين جحفل الموظفين رجال — كموظفي البرق — يتطلب عملهم شيئًا من الوقوف على الميكانيك فقليل عديدهم.

•••

قال (إبيكتيت): «إن الآراء التي تدور حول الأشياء لا الأشياء نفسها هي التي تقلق الرجال.» وبمثل هذا القول يعبر عن أخطار الوقت الحاضر، فهذه الأخطار ليست في الأمور نفسها، بل في الأوهام والأفكار التي تدور حول تلك الأمور.

إن الأوهام هي التي تقيم الأمم وتقعدها وقد أثبت لنا التاريخ أنه يُقتضَى لزعزعة ما لبعض الأوهام من السلطان نشوب حروب تمتد قرونًا كثيرة وسيل الدماء كالأنهار.

وما صار نصيب العمال في زمن أحسن منه في هذا الزمن، وما تذمر العمال في وقت تذمرهم في الوقت الحاضر، وليس من الصعب أن يوفق بين المصالح، وإنما الذي يظل التوفيق بينه متعذرًا هو الحقد والحسد اللذان بذرهما الساسة في الجماعات، وقد أصبح الاستياء عامًّا بفعل العدوى النفسية، وصارت الاشتراكية والنقابية والفوضوية ترياقًا لجميع الأمراض.

تتألف الجماعات المشبعة من هذه المذاهب من أخلاط الحراص المتهورين والمتعصبين المتحمسين وخريجي المدارس الساخطين ومحبي الإنسانية المتنضحين وجيش من البلهاء الذين يتبعون كل ناعق.

والمعتقدات الحديثة كالاشتراكية والفوضوية والنقابية تقوم على الشكل الذي يرى به أتباعها المستقبل، فهذا الشكل على ما فيه من وهم هو عامل قوي في السير والحركة.

وينشأ إقدام الأحزاب الثورية الزائد من جبن أولي الأمر الذين ما أشأم مبدأهم في الإنسانية، وقد أصبحت نتائج هذا الضعف بادية لكل ذي عينين، ففي كتاب نشره الزعيم الاشتراكي الموسيو (جورج صوريل) وسماه «تأملات في سياسة العنف» جاء ما يأتي: «إن أكبر عامل في السياسة الاجتماعية هو ضعف الحكومة، وما احتاج زعماء النقابية إلى زمن طويل كي يدركوا ذلك، فهؤلاء يعلمون العمال أن لا يطلبوا منحًا وهبات إلى أبناء الطبقة الوسطى، بل عليهم أن يفرضوا على الطبقة المذكورة مطاليبهم معتمدين على نذالتها، وسياسة اجتماعية قائمة على نذالة الطبقة الوسطى التي تخضع إزاء الوعيد والتهديد مؤدية — لا محالة — إلى شيوع الرأي القائل إن هذه الطبقة محكوم عليها بالموت، وإن زوالها إن لم يقع اليوم فغدًا واقع.»

وكلما زاد شعور الاشتراكيين الثوريين بالخوف الذي يلقونه في أولي الأمر زاد وعيدهم، ويمكن الاستدلال على ذلك بالبرنامج الجديد الذي نشره «حزب اتحاد مقاطعة السين الاشتراكي»، فقد جاء فيه: «أن الحزب يتخذ لدوام نضاله — الذي لن ينتهي إلا بالقضاء على المجتمع ونظام التمول وبقبض الصعاليك على مواد الإنتاج وآلاته — جميع وسائل العمل من اشتراك في المعارك الانتخابية وقيام بالاعتصابات العامة وتحريض على التمرد.»

ولا نطالب هؤلاء القساة المتعصبين بالإجابة عمَّا ينشأ عن تحقيق أحلامهم من النتائج، فهم لا يرون أبعد من أنوفهم ولا يفكرون في غير التخريب، مع أن آلهة شريرة لو حققت جميع الآمال الثورية دفعة واحدة، وغيرت المجتمع حسب أهواء النقابيين لأصبح نصيب العامل عندئذ أسوأ منه الآن.

لا يهتم الثوريون بالمستقبل البعيد وتنحصر عنايتهم في تهييج العوام، وكثيرًا ما ينجحون في ذلك، ويخطئ الاشتراكيون الدستوريون في ظنهم أنهم يستغلون ذلك ويضلون ضلالًا كبيرًا عندما يتصورون أنهم يهدئون ثائر الفوضويين بهبات لا يعبأ هؤلاء بها كابتياع السكك الحديدية وفرض ضريبة على الدخل، وهل من شك في الجهة التي تتجه إليها جموع العمال، أنحو واضعي تلك الإصلاحات الباطلة أم نحو النقابات الثورية التي لا تقترح سوى هدم المجتمع بحرب أهلية؟

يوجد — عدا العوامل الاقتصادية التي لا أبحث فيها هنا — عامل واضح في اتجاه طبقات العمال نحو الثوريين، فالجموع لا تتردد في الاختيار بين ولاة الأمور الخائفين الذين يذعنون أمام كل وعيد وبين أوتوقراطية جمعية اتحاد العمال، أي إنها تتجه بغريزتها نحو الجهة التي تتجلى فيها السلطة القوية التي لا يزلزلها شيء.

ولا يسعنا إنكار ما للنقابية الثورية من قوة عظيمة، فالنقابية الثورية تسوس جموع العمال الرازحين تحت نيرها بطرق لا يتخذها أشد المستبدين، ومع قلة كلام رجالها يعرفون كيف يطاعون من قِبَل أكثر الجموع تمردًا على النظام في الظاهر، هم يتركون الخطب المطولة لضعفاء القلوب ولا يرون لهم غير السير والحركة دليلًا، ولهم لجنة عامة تصدر التعليمات وتأمر بالاعتصابات، وهي تبلغ العمال أمر الاعتصابات بواسطة مفوض غير مكلف ببيان الأسباب، ومن يخالف من العمال أمر الاعتصاب يقتله زملاؤه، ومن منا يجهل قصة ذلك العريف الذي اجترأ في (هير سيرانج) على البحث عن ثيابه بعد أن طردته النقابة، فلم ينجُ من القتل إلا على يد رجال الشرطة الذين أنقذوه من زملائه العمال في حالة يرثى لها؟ وما كان غير ذلك مصير أحد عمال التبغ الذي رضي براتب أعظم من الراتب الذي قررته النقابة.

تطاع أوامر اللجنة ولو كانت على جانب عظيم من الغباوة وقلة الصواب، فقد ظل العمال في (هازبروك) معتصبين شهورًا كثيرة كما أمرهم أحد مفوضي النقابة، وعلة هذا الاعتصاب هي أن أحد مديري مصنع الحياكة أراد استبدال آلاته القديمة بآلات متقنة مستعملة في أميركا منذ عشر سنوات، فلو لم يتم إيجاد الآلات الحديدية فيما مضى لشككت في إمكان إحداثها في الوقت الحاضر حيث نفسية ولاة الأمور وضعفهم كما رأيت.

وأمثلة مثل تلك ضرورية لمن يعتقدون أن الجموع قادرة على التعقل، ولا ريب في أن أفضلية زعماء اتحاد العمال في إدراكهم أن الجموع لا تتعقل، وأنها لا تطيع غير ذوي القوة أو النفوذ، وهم اليوم يرفضون نظام الانتخاب العام، ويطالبون بحقوق الأقليات، أي بحقوقهم، وسوف لا يمضي زمن كبير حتى يتم أمر تلك الحقوق القليلة الديمقراطية والجماعات ترضى بها طائعة غير مكرهة.

•••

ليس خطر الحركات الثورية بما توجبه من العنف فقط، بل في الفوضى النفسية التي تنتشر بفعل العدوى بين جميع الطبقات أيضًا، فبالعدى اعتصب موظفو البريد واعتصب جلاوزة بلدية ليون وتمرد المعلمون وتأسست نقابات الموظفين … إلخ.

والحكومة لما كانت تخضع إزاء الوعيد جعلت العصاة يعتقدون أنه كافٍ لنيل الرغائب، وبما أن المنافع المتناقضة تجاذبت المشترعين وصار هؤلاء يرون في كل عاصٍ ناخبًا ضربوا بمقتضيات الاقتصاد عرض الحائط وأخذوا يسنون قوانين متباينة حسب رغائب المتمردين، فمع أن هؤلاء المشترعين يأسفون على نهب المصانع وقتل الجنود وتقويض الصناعات يرون أن يعاملوا العصاة بالحلم والمسامحة، أي بسن قوانين يظنونها كافية لرجوعهم إلى العمل راضين مسالمين وبالعفو عمن قتلوا النفوس وحرقوا المعامل في أثناء الاعتصاب.

وهكذا يطرأ على البرلمان والطبقة الوسطى حالة نفسية خطرة مؤدية إلى ما نعانيه من الفوضى، وقد أشار الموسيو (ريمون پوانكاره) إلى نتائج ذلك في خطبة نفسية جاء فيها ما يأتي: «نظل جاحدين بالسراب الذي يقول الاشتراكيون إن تحقيقه يؤدي إلى تمتع البشر بالمساواة التامة والراحة الكاملة، ولكن ألم نسهل عليهم عملهم من حيث لا نشعر؟ نعم إننا نهزأ بأوهامهم ونحتج على سياستهم المضلة، إلا أننا نسعى في تسكين ثائرهم بمنحهم أنواع الهبات.»

وإنا لنحزن على أن هذا القطب السياسي نفسه أتى بعمل يدل على سلطان تلك الحالة النفسية القاهر الذي أشار إليه في خطبته، فمع أن زملاءه في مجلس الشيوخ اعتمدوا عليه في إخفاق المشروع الخطر القائل بابتياع خطوط الغرب الحديدية خيب آمالهم فامتنع عن النضال.

من ذلك نشاهد تناقضًا بين أقوال أولياء الأمور وبين سيرهم، وقد رأينا رئيس وزراء يحتج في خطبة ألقاها على «هذر النقابات الجنائي»، ثم علمنا «أنه لم يكف عن معاونتها بمال الأمة وإن كانت تدعو الناس إلى المبدأ القائل بعدم التجنيد».

فمن أوصاف الأمم اللاتينية في الوقت الحاضر فقدان الإرادة وانحطاط الخلق، وبانحطاط الخلق لا بانحطاط الذكاء غابت الأمم العظيمة عن التاريخ كما هو معروف.

•••

للحوادث — عدا عللها الظاهرة المباشرة — علل خفية بعيدة، ويشبه ذلك ما في البزور الظاهرة من أشجار خفية، فعلى ما في الأزمات السياسية الحاضرة من عنف جالب للنظر تنشأ عوامل أخرى، أي إنها عنوان اختلال عميق في النفوس.

ويكفي المرء أن يدير الطرف حوله ليعلم أن الانحلال في الوقت الحاضر أصاب جميع القوى الأدبية التي هي قوام الأمة: أزمة في العائلة التي تتفكك عراها ولا يكثر أفرادها إلا ببطء، وأزمة في الاحتياجات التي تزيد مع نقص في وسائل قضائها وأزمة في السلطة التي لا يحترمها أحد، ومبدأ في المساواة منكر لجميع الأفضليات، وأزمة الأخلاق التي يوجب انحطاطها زيادة اقتراف الجرائم، وأزمة في الإرادة التي تهن كل يوم، وأزمة في الموظفين الذين يتمردون، وأزمة في القضاة الذين لا يجرؤون على إقامة العدل، وأزمة في المعلمين الذين يعلمون الفوضى، وأزمة في النقابات التي تعمم السخط والاستياء وتقول بالحقد على الوطن والجيش ورأس المال والكفاءات … إلخ.

ولو نظرنا إلى السلم الاجتماعي لرأينا النظام يزول ومبدأ السلطة يضمحل في جميع درجاته، ومن دواعي الأسف أن القادة لا يقابلون هذا السقوط بغير التسليم وأن أصحاب الأمر والنهي في الماضي لا يفكرون في غير الانقياد والخضوع.

وقد أورد أستاذ التاريخ في الصوربون الموسيو (أولار) مثالًا جديدًا على تلك الحالة الروحية، وأجدر بالموسيو (أولار) أن يستدل بهذا المثال على روح الجماعات أكثر مما بتلال الأوراق الباطلة التي جمعها للبحث في الثورة الفرنسوية.

اضطر ذلك الأستاذ المغرم بفضائل الجماعات إلى إيداع صندوقه في إحدى محطات باريس الكبيرة على أن يطالب به في اليوم الثاني، وعندما أتى لتسلمه كان في محل الاستيداع أربعة نقلة يمشون ذهابًا وإيابًا بهدوء، فقرأ هؤلاء الأربعة على سيماه أنه ليس من السياحين الذين يرجى منهم حلوان فاستمروا على مشيهم غير مبالين به، ولما أخذته العزة شكا الأمر إلى رئيس النقلة فاعترف للأستاذ بأن الحق في جانبه، وقد أضاف إلى ذلك قائلًا إنه لا سلطة على مرؤوسيه وإنه لا يقدر إلا على تسليمه الصندوق بنفسه، ونقله إلى باب المحطة فقط، وبعد أن شعر النقلة بما تم سخطوا على رئيسهم لأنه حرمهم حلوانًا ضئيلًا وأشبعوه سبًّا وشتمًا منذرين إياه بترك الصندوق في محله فخضع لهم معتذرًا.

أعلم أنه لا ينبغي أن يعتمد على ما يقوله أساتذة التاريخ الذين يقدرون على جمع الوثائق أكثر مما على شرحها واستخراج العبر منها، ولكن هذا لا يمنعنا من تصديق ذلك الحادث الذي لم يكذبه من يهمهم الأمر والذي يقع كل يوم ما يماثله.

•••

لا تظهر الفوضى الاجتماعية بين طبقات المجتمع الدنيا وحدها، بل تظهر بفعل العدوى النفسية بين المحافظين أيضًا، فلقد آخى مطران باريس أحد زعماء جمعية اتحاد العمال، وفي مؤتمر كاثوليكي دافع أحد القساوسة بحماسة عن حق الاعتصاب، أي عن تمرد الموظفين، جاء في جريدة الطان: «أن بين القساوسة من يدافعون عن أكثر المبادئ وقاحة وأشدها مقتًا للمجتمع وأعظمها فوضى.»

ولا فرق بين الاشتراكيين المتطرفين وبين المحافظين الذين يجب أن يكونوا حماة المجتمع في الميل إلى نيل حظوة دنيئة عند العوام، قالت تلك الجريدة: «يساعد المحافظون على تقويض النظام الاجتماعي الذي يستفيدون منه أكثر مما يستفيده غيرهم، ولو دققوا في الأمر لعلموا أنهم واهمون في سعيهم على هذا الوجه وراء نفعهم السياسي، فالنقابيون والثوريون هم الذين ينتفعون منهم دون أن يمنحوهم شيئًا.»

ويتجلى شيوع الفوضى عندنا بانتشار المبادئ اللاوطنية، ويتظاهر وزراؤنا في خطبهم التي يمدحون بها المعلمين وأساتذة الجامعات بمظهر المعتقد أن دائرة انتشار المبادئ اللاوطنية القائلة بعدم التجنيد ونزع السلاح محدودة إلى الغاية، وماذا يقصدون بالإيهام وإخفاء الحقائق؟ وهل الشفاء في كتم المرض؟

لم يتردد الموسيو (ريمون پوانكاره) على رغم حذره في بيان تفاقم المرض في خطبة ألقاها حديثًا، فبعد أن ذكر أن أولئك اللاوطنيين الذين يأبون الدفاع عن فرنسا ضد الأجنبي يدعون الناس بحماسة إلى إيقاد نار الحرب الأهلية كي يتم النصر لحزبهم قال:

هل الموسيو (هيرفي) رجل شاذ في طباعه غريب في اتباع أهوائه؟ استقصاؤنا في مذاكرات بعض المؤتمرات يدلنا مع الأسف على أنه لم يكن وحيدًا في أفكاره وطرز بيانه، وإننا لا نبالغ في تأثيره ولكننا لا نرى أن نبيد هذا التأثير بإنكاره.

بينما ينتهك الموسيو (هيرفي) بمقالاته الحرمات ترون (بيبل) يقول في الريشتاغ: «ثقوا بأنه إذا هوجمت ألمانيا فإن جميع أبناء الوطن يتقلدون السلاح ويزحفون إلى العدو، فالوطن وطننا، وإني أقسم لكم أننا سندافع عنه حتى نبيد أو ننتصر.»

وكيف لا نتذكر إزاء لهجة ذلك الاشتراكي الفرنسوي، ولهجة هذا الاشتراكي الألماني قول (إدغاركيني): «إذا صارت فرنسا أممية تصبح مطية أهواء جميع الأمم.»

نعم يجب أن نحفظ هذه الكلمة، فليست اللاوطنية في زماننا الذي نحن فيه وفي أوربا التي نعيش فيها سوى مبدأ غش وتدليس، وهي لا تليق إلا بجزيرة وهمية لا ماضي لها — كالتي حكى عنها (فالديك روصو) — واقعة في وسط بحر محيط مجهول مخصبة إخصابًا يكفي لإعاشة ساكنيها فقيرة فقرًا لا يحرك حرص أحد فيها.

يدلنا التاريخ بأمثلته العديدة على مصير الأمم التي وقعت في الفوضى، غير أنه لا يقص علينا سوى أمور ماضية قد لا تطبق على الحال؛ ولذا نبحث الآن في الشؤون الحاضرة فنقول: تحتوي أميركا الجنوبية على خمس وعشرين جمهورية إسبانية، وعند النظر إليها نطلع على ما يؤول إليه أمر الأمم التي تقع في الفوضى بعد تجردها من سمو الأخلاق والأمن والنظام. فلقد دنت تلك الجمهوريات من طور الهمجية، ولو لم يقبض الأجانب على صناعتها وتجارتها لدخلت فيه دخولًا تامًّا، ففيها ترى عصابات مسلحة لا تفتأ تبذر بذور الشقاق والفساد كي تستولي على السلطة وتسلم مقاليدها إلى رئيسها، ولا يستمر سلطان هذا الرئيس طويلًا، فسرعان ما تظهر عصابات مفسدة أخرى فتقتله، وهكذا دواليك.

وبالخلاصة الآتية التي نشرها بعض الجرائد نستدل على ما وصلت إليه الحياة الاجتماعية في تلك الجمهوريات:

«تدلنا البرقيات الأميركية على أن جمهورية (نيكاراغا) وقعت في حال من الفوضى مبررة لتدخل الولايات المتحدة في شؤونها، فلقد ذكرت أن الجمهورية المذكورة ثائرة ضد رئيسها (زيلايا)، وأن المظاهرات لا تزال مستمرة في شوارع (ماناغا) وشوارع (كورنيتو) حيث يقتتل الناس بالبنادق وأنه يخشَى أن يُقتَل المسجونون السياسيون الذين ضاقت بهم السجون ذرعًا، وتركوا يموتون جوعًا، وأن لجانًا تألفت لمنع رئيس الجمهورية من الفرار، وأن النصر حليف أنصار الرئيس في (راما) حيث قتل الجنرال (فاسكير) كثيرًا من العصاة.

وسوف تصر حكومة الولايات المتحدة على معاقبة الرئيس (زيلايا) الذي خرق قواعد الحقوق الدولية خرقًا جنائيًّا، وهي لن ترضى باشتراك حكومة المكسيك معها في توطيد دعائم السلم هنالك إلا بعد إنزال العقاب.»

نستغرب من حمل أولئك الناس على إيفاء عقودهم، فاحترام العقود يتطلب اتصافهم بما ليس فيهم من درجة رفيعة في التمدن، وإنا لنرجو أن تبسط الولايات المتحدة يدها على تلك الجمهوريات لترفع مستوى أبنائها، فقد أثبتت الولايات المتحدة بتحويلها قطر (كوبا) في بضع سنوات إلى قطر سعيد بعد أن كان رازحًا تحت أثقال الفوضى الناشئة عن الحكم الإسباني ما في النظام والأمن من النعم.

وعندنا أن الأمم اللاتينية تحسن صنعًا إذا فكرت في مثال (كوبا)، وفي أنه ينحل في اللاتين ما لا بقاء لأمة بدونه من الصفات الخلقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤