الفصل الثاني

استفحال الجرائم

أوجب انتشار الفوضى الاجتماعية زيادة الجرائم، ولا تخلو مطالعة ما دار حديثًا في البرلمان من المناقشات حول الجرائم وعقوبة الإعدام من فائدة، فهي ترشدنا إلى السهولة التي يهذر بها أذكياء الخطباء عندما يتخذون السبل العاطفية دليلًا لهم.

لقد أتوا بأدلة مختلفة لحماية القتلة من عقوبة الإعدام، وإني أطرح من بينها أدلة أحد النواب الاشتراكيين، فالجرائم عنده لا تلبث أن تغيب «إذا وجد أبناء البلاد ما يعيشون به تحت سماء الشمس أحرارًا غير مجور عليهم من نظام التمول الشديد الذي لم يتحرروا منه»، ولو بحثنا عن قوة الاشتراكيين لرأيناها في عدم ارتيابهم بمثل هذه الترهات.

وإليك الأدلة التي قيلت في مجلس النواب ضد عقوبة الإعدام:

عقوبة الإعدام مضرة؛ لأنها لا تقي المجتمع وتجازي غير المسؤولين.

عقوبة الإعدام لا تقوِّم الأخلاق ولا تصلح لأن تكون عبرة.

عقوبة الإعدام جناية اجتماعية، فالإنسان لا يحق له أن ينزع حياة الآخر.

عقوبة الإعدام لا تفسر إلا بمبدأ الانتقام.

تبين أن كثيرًا ممن أعدموا كانوا مجانين، فلما كانت آثار الجنون لا تعرف إلا بعد الإعدام على العموم وجب إلغاء تلك العقوبة خوفًا من إعدام مجنون أو رجل غير مسؤول.

عقوبة الإعدام تشين من يطبقها أكثر من أن تشين من تطبق عليه.

عقوبة الإعدام لم تؤثر في سير الجرائم في مختلف البلدان.

استعانوا بالإحصاءات لإثبات عدم تأثير عقوبة الإعدام في سير الجرائم مع أن جرائم القتل بعد إلغاء هذه العقوبة عمليًّا زادت ثلاثين في المئة، والجرائم الأخرى تضاعفت في خمس سنوات، وإليك ما أورده الموسيو (بيري) رئيس لجنة الإصلاح القضائي من الوثائق في مجلس النواب:

إننا إذا نظرنا إلى الجرائم التي اقترفت لا إلى الجرائم التي حكم فيها نرى أنه اقترف ٧٩٥ جريمة سنة ١٩٠١، واقترف ١٣١٣ جريمة سنة ١٩٠٥، واقترف ١٤٣٤ جريمة سنة ١٩٠٧.

إذًا يكون الحق بجانبي إذا قلت إن عدد الجرائم يزيد كلما ألغينا عقوبة الإعدام عمليًّا، فالقتلة بعد أن يعلموا أنهم لا يعاقبون بالإعدام لا يبالون باقتراف الجرائم.

ولاشتداد الجرائم على هذا الوجه طلبت المجالس العامة — ما عدا ثلاثة — إلى البرلمان أن لا يلغي عقوبة الإعدام وإلى السلطة التنفيذية أن تطبقها.

وقد استند ذلك الخطيب في بيانه درجة الهول الذي يستحوذ على قلوب المجرمين من جراء عقوبة الإعدام إلى اعتراف المجرمين القائل إنهم امتنعوا عن القتل خوفًا من المقصلة، وإلى أقوال المحامين الذين أخذوا على عاتقهم أمر الدفاع عن المذنبين.

•••

إن الباعث على تلك المناقشات هو مسألة «التبعة» التي أثرت كثيرًا في سير العقوبات منذ خمسين سنة، واتضح أمرها الآن على وجه التقريب، فالتبعة لا تلحق المرء إلا إذا كان مريدًا مختارًا، والعلماء والفلاسفة لا يعتقدون اليوم وجود الإرادة والاختيار في الإنسان، فيرون الجاني غير مسؤول عن أفعاله.

الإنسان غير مسؤول عن أفعاله من الوجهة الفلسفية، ولكنه مسؤول عنها اجتماعيًّا، فالمجتمع لكيلا يرد مورد الهلاك مضطر إلى الدفاع عن نفسه، وليس عليه أن يبالي بدقائق ما بعد الطبيعة فمع أن تجرد اللص القاتل من مزاج عقلي كمزاج (پاستور) ليس من عمله، تختلف معاملة المجتمع له عنها لپاستور، وكذلك الضائن١ مع أنه غير مسؤول عن اتصافه بالأوصاف المعروفة، تحكم عليه أوصافه بالذبح من قبل الجزار.
احتاج الوقوف على الفرق بين التبعة الاجتماعية، وعدم التبعة الفلسفية إلى زمن غير قليل، وقد اتضح هذا الفرق في المؤتمرات التي عقدت للبحث فيه ولا سيما في المؤتمر الذي عقده أطباء المجانين سنة ١٩٠٧ في جنيف، وإني أنقل هنا خلاصة الآراء التي قيلت فيه ونشرها (غورمون):

يجب إنزال العقاب على المجانين وأشباههم إذا خرقوا حرمة القوانين الاجتماعية سواء مختارين كانوا أم غير مختارين، فإذا جاز ترك مبدأ التبعة الأدبية لا يجوز ترك مبدأ التبعة الاجتماعية، وإذا اقترف الجاني الجريمة، شاعرًا كان أم غير شاعر فهو خطر يقتضي نفيه من المجتمع، فلولا التبعة الاجتماعية لما قامت حضارة ما.

وليس الأطباء وعلماء العقوبات وحدهم هم الذين يدافعون عن هذه النظريات، فإليك ما قاله الموسيو (فاغيه): «هل (سوليان) مسؤول من الوجهة الأدبية؟ كلا، إذ لا فرق بينه وبين أنواع الحيوان من حيث البهيمية وعدم وخز الضمير وفقدان المبالاة، والمرء لكي يفعل مثل ما فعله (سوليان) يجب أن يكون ذا نخاع شاذ مثل نخاعه، ونخاع (سوليان) لشذوذه يقتضي قطعه.

أرى عقوبة الإعدام أمرًا ملائمًا، فهي تنفع للقضاء على الوحش الضاري الذي هو كناية عن خطر مستمر ولتهويل بقية الوحوش الضارية، وإني من القائلين بإنزال أشد العقاب على الجناة ولا سيما على ذوي المرض منهم، فهؤلاء أعظم الناس خطرًا وتشفي مجازاتهم كثيرًا من المرضى.

ومما لا مراء فيه أن أكثر المنحلين وأشباه المجانين والكحوليين ومختلي الشعور يخافون العقاب وأنهم كلما زاد العقاب زادوا فزعًا، وهنالك فريق من الأوباش يجب أن لا يتفلتوا من ساطور المقصلة أبدًا، وأعني بالأوباش أولئك الوحوش الذين يقتلون الناس في الضواحي للقتل نفسه، فهؤلاء الذين يحكم عليهم بالحبس بضعة أشهر لا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا عليه بعد إطلاق سراحهم.

والحاجة إلى القتل للقتل نفسه تنمو ويشتد أمرها إذا لم يُقضَ عليها بعنف، فهي ثمالة موروثة مستعدة للظهور في كل حين، والمتمدنون وأشباههم يقضونها بالصيد الذي لم يكن بالحقيقة سوى مظهر من مظاهر الاحتياج إلى القتل، وقد وصف أحد أكابر القضاة — وهو من الصيادين — نفسية الصياد التي لا تختلف عن نفسية الأوباش القتلة إلا بتطبيقها على أنواع الحيوان بما يأتي:

الصياد يصمي الطريدة غير راحم، وهو يزيد لذة كلما أمعن في قتل تلك الحيوانات الساحرة والطيور الجميلة اللطيفة، ولو أراد أن يردع نفسه عن سفك دمائها لما استطاع، فيا للتعاسة والشقاء!

والوبش كالصياد يجد لذة كبيرة في القتل ولا يستطيع أن يزجر نفسه عنه، فلنقضِ عليه قبل أن يقضي علينا.

وإنا لنلاحظ أن آراء الأطباء وعلماء الجزاء في الموضوع تغيرت في بضع سنين تغيرًا كبيرًا، فقد كان الجناة منذ زمن غير بعيد معدودين من المجانين غير المسؤولين، وأما اليوم — وإن كانوا يعتبرون من مختلي الشعور — يعدون مسؤولين جديرين بأن يُطبَّق عليهم أشد العقاب، وإلا فلا يفيد اعتقالهم؛ لأنهم بعد أن يمر عليهم زمن قليل في المعتقل يطلق سراحهم، فيعودون إلى ما اعتقلوا من أجله.

أشاطر دعاة المذهب الجديد رأيهم في ضرورة معاقبة الجناة — خصوصًا معتادي الإجرام — عقابًا شديدًا، وإني أذكر ما كتبته قبل إزهار هذا المذهب في «المجلة الفلسفية» حيث قلت: «إن الجناة جميعهم مسؤولون» وتوصلت إلى النتيجة القائلة بضرورة معاقبة الجناة انتهازًا عقابًا جثمانيًّا صارمًا والجناة اعتيادًا بالنفي إلى بلد بعيد نظرًا لتعذر إصلاحهم وبينت أنه يمكن إدماج معتادي الإجرام في كتائب التأديب الملزمة تعبيد الطرق ومد الخطوط الحديدية في وسط أفريقية.

•••

تطبيقنا القليل لعقوبة الإعدام يجعلها ذات تأثير ضئيل، فاقتراف الجنايات يزيد كل يوم، ولا يؤدي تقليلنا تطبيقها إلى نقص في ارتكاب الجرائم الأخرى، فيجدر بنا أن نعلم كيف نكافح هذه الجرائم، إننا نجازي مرتكبيها في زماننا بعقوبات غير مجدية، أي بالأشغال الشاقة وبالسجن، فأما عقوبة الأشغال الشاقة فتحولت بفضل مبادئنا في الإنسانية إلى نزهة، وأما السجون فأصبحت مساكن مزينة، وقد بيَّن لي نائب عام في إحدى المحاكم العليا أن السجون الحديثة تفوق مساكن كثير من متوسطي الحال لما فيها من وسائل الراحة كالتنوير بالكهرباء والتدفئة بالأنابيب والماء الحار والماء البارد وغرف الاستحمام وحدائق النزهة … إلخ، ثم ذكر لي أنه رأى أناسًا يرتكبون جنحًا ليسجنوا في أشهر الشتاء الستة في تلك السجون حيث يجدون جميع وسائل الرفاهة ما عدا الحرية.

ومع أن العقوبات في إنكلترة قصيرة المدة تطبق على المجرمين تطبيقًا شديدًا مؤثرًا في نفوسهم، فهم يكرهون على الشغل الشاق ويجلدون بسياط ذات تسعة أذناب.

قللت هذه الطريقة عدد الجرائم في إنكلترة، وصارت لندن التي كانت تسكنها — كما بيَّن الموسيو (لاكاسان) — عصابة من الأوباش لا تعرف هذه العصابة بعد أن جلد من قبض عليه من أفرادها وتشتتت.

قال الموسيو (لاكاسان): «نعلم أن باريس تتبع نظامًا آخر بفضل تساهل قضاتها ونيابتها العامة، ولكن أي النظامين أفضل؟ أنظام العقوبات الجثمانية أم نظام الإفراط في المسامحة؟ لا ريب في أن العقوبات الجثمانية هي أكثر تأثيرًا في معتادي الإجرام.

لقد سن نظام الجلد في الدانمارك سنة ١٩٠٥ عندما كثرت فيها الاعتداءات على الناس، وإنا لنرجو أن يُدخِل مشترعونا نظام العقوبات الجثمانية إلى فرنسا، بعد أن أثبتت التجارب تأثيره الحسن في إنكلترة، ودلت على أنه خير من اللبث في السجن شهورًا وسنوات.»

لا جرم أن تخفيفنا للعقوبات وعجز قضاتنا يؤديان إلى زيادة الجرائم، ومما يساعد على تكاثر عدد المجرمين قوانين العمل في المصانع، فهذه القوانين لا توجب — كما بينت في فصل آخر — غير بطالة ألوف من الفتيان الذين يرضون بمهنة الأشقياء، حينما يرون أنفسهم عاطلين من العمل، وكذلك العناية التي يعامل بها المسجونون والمنفيون تزيد الجرائم انتشارًا وجنايات القتل شيوعًا.

وفي اجتماع عقده مجلس بلدية باريس حديثًا أعرب أحد الأعضاء عن استيائه من كثرة الاعتداءات الليلية في باريس، فأجاب والي باريس الموسيو (ليبين) أنها ناشئة عن ضعف القضاة وعن العفو المستمر عن المجرمين، ثم ذكر «أن البلاد تحصد اليوم ما زرعته منذ بضع سنين من بذور المذهب الإنساني الرحيم».

وتفاقم المرض يسبب العلاج، فمتى تفاقم يلجأ ذوو الأذهان الثقيلة التي استحوذت عليها العواطف إلى دروس التجربة، ومتى يكثر سفك الدماء في أحياء المدن الكبيرة، وحينما تعيث عصابات الأشقياء في الأرياف والحقول فسادًا، ويتعذر على المرء أن يطوف في باريس ليلًا من دون أن يتقلد سلاحًا، يفكر ولاة الأمور في اتخاذ تدابير كافية للمدافعة عن أرواح الناس.

ولكن حينما يقع ذلك في وقت لا يكون فيه ما يكفي من قوانين العقوبات الشافية، ويكون كل امرئ مكرهًا على الدفاع عن نفسه يصول الشعب — كما صرح مقرر اللجنة القضائية في مجلس النواب — صولة شديدة، فيشرع في قتل الجناة من غير محاكمة.

قال المقرر المذكور: «إن قضاء الجماعات قضاء متهور شرس قاطع قاصم، فمن المنكر أن يترك أصحاب الأمر والنهي لأناس غير مسؤولين حق المجتمع في تطبيق عقوبة الإعدام دفاعًا عن الناس، ومن المنكر أن تدع السلطات العامة الناس يأخذون حقوقهم بأيديهم وينتقمون لأنفسهم بأنفسهم لعدم ثقتهم بحماية القوانين.»

ومن العوامل في زيادة الجرائم جبن قضاتنا الذين يخشون انتقام الجناة، ولا يشتدون إلا على النساء المذنبات ذنوبًا طفيفة، وقد أشار أحد القضاة إلى ذلك في محادثة نقتطف منها ما يأتي: «تبحثون في طريقة المرافعات دون العقوبات، أفلا تعلمون أن العقوبات هبطت إلى نصف ما كانت عليه منذ خمسين سنة بفعل التسريح المقيد وإلغاء السجن الاحتياطي؟ تريدون تطبيق الطرق الإنكليزية، فذلك يستدعي اتخاذ عقوبات الإنكليز من جلد وأشغال شاقة واضطهاد كل من يقترف جنحًا وجنايات مضعفة للسلطة وجعل رجال الأمن في حال لا يمسون فيها، رجال الشرطة في لندن لا يتقلدون سيفًا ولا مسدسًا ويمشون منفردين في أحياء لا يمشي في مثلها رجال شرطتنا إلا مجتمعين شاكين سلاحًا، فوقتما تقضون على إيقاع الجنايات بعقوبات قاطعة شافية، ومتى يصبح حال رجال شرطتنا مثل حال رجال الشرطة في إنكلترة نبحث في طريقة المرافعات.»

حقًّا إن تهويل الجناة بأشد العقوبات هو — كما أشار (ماكسويل) في كتابه «الجرم والمجتمع» — الدواء الوحيد لاستفحال الجرائم، فالمجنون أيضًا يتأثر من وعيد القصاص.

•••

إن الوصول إلى فرض ما يلزم من العقوبات يتطلب شفاء الجمهور من مرض الإنسانية والقضاة من الخوف، ولدينا بضعة دلائل تجعلنا نرجو هذا الشفاء، فإليك ما قاله رئيس المجلس البلدي عند دفن جلواز قتله أحد الأوباش: «إن الذي يهمنا على الخصوص هو أن لا نجعل للمبادئ المزعوم أنها إنسانية سبيلًا إلينا، فهي لا تؤدي إلى غير إضعاف النجدة والمروءة فينا، وهي أكثر ضررًا وفسادًا من الأوباش أنفسهم.»

أشاطر هذا الرأي مشاطرة مطلقة، فدعاة المذهب الإنساني أشد خطرًا من اللصوص.

وريثما تشيع هذه الحقائق نرى المذهب الإنساني مستمرًّا على انتشاره، ونعد من مظاهره المشؤومة إدخال معتادي الإجرام في سلك الجيش، ولا يسع المرء إلا أن يسأل عن دماغ الرئيس السخيف الذي نبت فيه مبدأ إدماج معتادي الإجرام في الثكنات، فقد اشتملت بعض الكتائب حينًا من الزمن على مئة وبش محكوم عليهم بأنواع الجرائم، فأوجب وجودهم فيها وقوع الحادثات الآتية التي ذكرتها جريدة (الجورنال) في عددها الصادر في ٢٨ كانون الثاني سنة ١٩٠٩ وهي:

منذ شهر تشرين الأول الأخير سُلِبَ وقت الظهر رجلان على طريقة البطح التي لا عهد لأهالي (مونتارجي) بها، وسُرِقَ بيت القائد حسب قواعد صنعة السرقة، وجُرِحَ أحد السكان بين كتفيه من قبل جنديين لم يعرفهما، ووجدت منذ ثمانية أيام جثة أحد الجنود ملقاة في الترعة، فما عليه أولئك الجنود الأوباش من سير يجعلنا نعزو هذه الوقائع إليهم.

فإذا لم يرفع الرأي العام راية العصيان على ذلك القانون المشؤوم ويوجب إلغاءه يتم القائلون بمذهب الإنسانية انحلال الجيش.

وقد أثبت نائب الجيروند الموسيو (شومه) أنه ذو إصابة في الرأي عندما بين ضرورة العقوبات الجثمانية لتقليل الجرائم في العبارات الآتية:

أستميح ذوي النفوس الحساسة عذرًا إذا أوقعت شكوكًا في قلوبهم: إنني من المطالبين بمجازاة الأشقياء الذين يعتدون على الناس بعقوبات جثمانية، فالإنسان قبل أن يتفلسف يحتاج إلى الحياة، وليست المعضلة في معرفة مسؤولية الجناة أو عدمها بل في خطرهم، لا يمر يوم من غير أن نرى أوباشًا يقتلون أناسًا أبرياء للقتل نفسه، فلو دققنا فيهم تدقيقًا نفسيًّا لرأيناهم من الكسالى المتهتكين الذين يفضلون أن يكونوا عالة على البنات على أن يشتغلوا في المعامل والمصانع.

الوبش يقتل ليسرق وفي الغالب للقتل نفسه، فما أكثر ما يراهن وبشٌ زملاءه على قتل أول رجل يمر من أبناء الطبقة الوسطى، إذًا وجب علينا أن ندافع عن أنفسنا ضد الأوباش ناظرين إلى ما هم عليه من الأخلاق، ومن فوائد العقوبات الجثمانية أنها تذل من تطبق عليه أكثر من أن تؤلمه، فالوبش الذي يفتخر بالسجن حتى بالشنق لا يفتخر بأنه جلد عشرين جلدة مثلًا.

وبينما نسن تلك العقوبات يكثر حماة الوبش، فقد نشرت إحدى الجرائد بيانًا دبجه يراع سيدة دكتورة قالت فيه إنها اعتنقت «المذهب الوبشي» بتأثير وبش علمها «أن الصدق والصلاح لا ينفعان لغير المحافظة على الأغنياء، وأن مهنة الأوباش حافلة بالملاذِّ المفاجئة»، ثم ختمت بيانها بقولها: «لا بأس من وجود بضعة أوباش في جيشنا الثوري»، فيا لها من مثال بارز على ما يوجبه التعليم من اضطراب في ذوي النفوس المريضة!

والتجربة وحدها هي التي تستطيع أن تدلنا على نتائج مبادئنا في الإنسانية، فعندما يشتد الخطر، ويبقر عدد كافٍ من محبي الإنسانية تزول عاطفة الحنو من قلوبنا، ونبحث عن أشد التدابير شفاء فنكتشف العقوبات الجثمانية، وحينما يرى الأوباش — وقد بلغ عددهم ثلاثين ألفًا في باريس — أن حدائق (كاليدونيا) الجديدة والسجون المشتملة على أسباب الراحة استبدلت بالجلد والأشغال الشاقة والمقصلة يفضلون العمل في المصانع على السرقة والقتل، وآنئذ تتخلص باريس من أوباشها في بضعة أسابيع، ويعترف مشترعونا أن المذهب الإنساني أشأم المذاهب على الأفراد والمجتمعات، وأنه أشد العوامل في الانحطاط.

١  خلاف الماعز من الغنم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤