الفصل الثالث

القتل السياسي

إن القتل السياسي — وقد كثر وقوعه في هذه الأيام — مظهر من مظاهر الفوضى الاجتماعية الحاضرة وعنوان لاختلال نفسي عظيم.

وأكبر انطباع يوجبه القتل السياسي في الجمهور عدم تأديته إلى نتيجة عملية، فسواء أقيصر روسيا كان المقتول أم ملك إيطاليا أم إمبراطورة النمسا أم رئيس جمهورية فرنسا أم ملك البرتغال يدل الواقع على أنه ينصب في الحال مكانه رجل آخر من دون أن يبدل شيء في النظام الذي يمثله المقتول، وكثيرًا ما يؤدي القتل السياسي إلى رد فعل مؤيد للنظام المذكور.

ويلوح لنا أن مثل هذه الحقائق توجب بلبلة في مباحث علم النفس المزاول القائلة إن مصدر الجنايات هو المنفعة الشخصية كالانتقام والطمع … إلخ.

فالجرائم السياسية تنشأ إذًا عن عوامل بعيدة من المنفعة الشخصية والمصلحة العامة، فكيف يستطيع علم النفس الحالي تفسير هذه الجرائم؟

يُقتضَى للوصول إلى ذلك أن نبحث في انتشار بعض المعتقدات وسلطانها على النفوس: ضرورة الخضوع لمعتقد — دينيًّا كان أم سياسيًّا أم اجتماعيًّا — هي غريزة متجبرة على كثير من النفوس، فهؤلاء يحتاجون إلى معتقد يدير حياتهم آليًّا، ويكفيهم عناء التفكير، ومعنى ذلك أنهم يصبون إلى الاستعباد الفكري لا إلى حرية الفكر.

ولا تأثير للعقل في المعتقدات القوية، فلو نظرت إلى الحقيقة لما رأيت معتقدًا من المعتقدات الكبيرة التي دان لها البشر وقامت عليها أعظم الديانات وأمتن الدول نشأ عن العقل، فالمعتقدات من عمل عدد قليل من المتهوسين، وهي لم تنتشر إلا بفضل أتباعها المشبعين من إيمان قوي كافٍ لتحويل الأباطيل الظاهرة إلى حقائق ناصعة ولاستعباد النفوس.

شدة الإيمان في هؤلاء الأتباع تجعلهم يسيرون حسبما يوحيه إليهم إيمانهم غير مبالين بمنفعتهم الشخصية، ولما كان الإيمان ينومهم لا يتأخرون عن التضحية بكل شيء في سبيل نصره؛ فلذا مثلوا دورًا عظيمًا في التاريخ.

هم — كما بينت في كتابي روح الاشتراكية — أناس متصفون بغريزة دينية نامية يحتاجون بها إلى الإذعان لموجود أو أي شعار ديني يضحون في سبيله بكل ما لديهم، وكل فريق منهم يعلل نفسه بمجتمع فردوسي قريب من جنات الآخرة التي كان يحلم بها أجدادنا، ومن بينهم نعد العدميين والفوضويين أمثلة جديرة بإنعام النظر، ففي أدمغة هؤلاء الابتدائية التي استحوذ عليها خلق التدين الموروث ولا يؤثر فيها العقل والمنطق تجلى إيمان الأجداد على شكل جنات دنيوية تدير أمورها حكومة قادرة على إزالة الحيف متصفة بما للآلهة القديمة من قدرة لا حد لها.

والرسول شديد الخطر لعجزه عن التعقل واحتياجه إلى نشر معتقده وجهله حقائق الأمور، وتأثيره في جماعات عاجزة عن التعقل ذات آراء لا تنالها إلا بفعل العدوى، ومن الأباطيل الكبيرة السائدة للجيل الحاضر الاعتقاد القائل إن الجماعات تؤخذ بالعقل والمنطق مع أنها لا تستمد إيمانها إلا من التوكيد والتكرار والنفوذ والعدوى كما بينت غير مرة، ولا تبالي الجماعات بمناقضة إيمانها لأوضح منافعها ولأنصع الحقائق، فالناس عندنا يؤمنون بالمعتقدات يتخذونها دليلًا لسيرهم وحركتهم، وكثيرًا ما قلب العالم بفعل أشد المعتقدات مخالفة للعقل والصواب، وسيكون شأن المعتقدات في المستقبل مثله في الماضي من هذه الجهة.

وبمثل هذه الحقائق نفسر القتل السياسي، والقتل السياسي وإن كان يغيظنا لا يدهشنا، فأكثر ما يقصده الرسول المؤمن أن يجعل الناس يشاطرونه معتقده، وأن يقضي على كل من يحول دون ذلك مهما يكلفه الأمر، وهو يشعر باحتياج شديد إلى نشر إيمانه وأن يذيع في العالم ذلك الخبر الطيب الذي سيخرج البشر من ظلمات الشقاء.

الحاجة إلى التخريب من مقومات مزاج الرسول النفسي، وهل ظهرت رسالة بغير قتل بعض النفوس وهدم بعض الأشياء؟ فالرسول لكي يقضي على أعداء إيمانه لا يتأخر عن قتل ألوف من الأبرياء وقذف كثير من القنابل في أحد المسارح المكتظة بالحضور أو أحد الشوارع المأهولة، وما أهمية هذه الملاحم ما دام الرسول يسعى لتجديد البشر، وتوطيد دعائم الحقائق وهدم الأباطيل!

ولا يكون هؤلاء الرسل القتلة من طبقات الشعب الدنيا مبدئيًّا، بل هم في الغالب من المتعلمين الذين درسوا في الجامعات درسًا لا يلائم مزاجهم النفسي البسيط، وقد يكونون أحيانًا من ذوي الحلم الذين ران على قلوبهم المبدأ القائل بتجديد المجتمع، فلقد عد توركمادا ورافاياك ومارا وروبسبير أنفسهم من محبي النوع البشري، وممن لا يحلمون إلا بسعادته والتضحية بأنفسهم في سبيله.

قال (لومبروزو): «ظهر المجانين والمهيجون في كل زمان حتى في عصور الهمجية، وكانوا يرون عيشهم في الأديان، وأما الآن فقد صاروا أحزابًا سياسية وعصابات فوضوية كانوا مجاهدين في الحروب الصليبية ثم أصبحوا عصاة متمردين فأفاقين فضحايا الإيمان والزندقة.

وإذا ظهر في هذه الأيام — عند الأمم اللاتينية خاصة — واحد من أولئك المتعصبين، فإنه لا يرى مرتعًا لحرصه في سوى ميدان المجتمع.

لأن هذا الميدان حافل بالمبادئ غير الثابتة التي تترك الباب مفتوحًا على مصراعيه لحماسة المتعصبين، ها أنتم تجدون مئة زعيم من زعماء التعصب يجتمعون على مسألة في علم اللاهوت أو ما بعد الطبيعة، وذلك خلافًا لقضية هندسية مثلًا، فكلما كان المبدأ غريبًا يجر وراءه — وعلى نسبة غرابته — عددًا من المجانين أو المصابين بالصرع ولا سيما إذا كان سياسيًّا حيث يصبح كل فوز شخصي انكسارًا عامًّا أو ظفرًا عامًّا بحسب الأحوال، وهذا المبدأ يلازم أشياعه المتعصبين حتى الموت ويكون لهم أجرًا على حياتهم التي يخسرونها أو العذاب الذي يقاسونه في سبيله.»

تزيد المبادئ الفوضوية عدد ضحايا القتل السياسي، فكل يعلم قتل حاجب وزير الهند من قبل طالب هندي مشبع من مبادئ إحدى الجرائد التي جاء فيها ما يأتي: «إن القتل السياسي ليس جناية وإن كان ذلك يحرمنا عطف أصدقائنا واحترامهم، فجميع الأشخاص الذين تحرروا من ربقة الأوهام والأباطيل يعدون القاتل قتلًا سياسيًّا غير مجرم بل منتقمًا للإنسانية.» ولقد وقع في البنغال ٣٢٩ جناية سياسية في سنة واحدة.

أصبح عدد جنايات القتل التي اقترفها الفوضويون والعدميون وغيرهم من الرسل في الثلاثين سنة الأخيرة كثيرًا جدًّا، ولا شيء يدل على أنه سيقل، بل الدلائل كلها تجعلنا نعتقد أنه سيزيد، فلقد حوَّل المتهوسون الخطرون الذين استولت عليهم الأديان في الماضي وجهتهم إلى عالم السياسة في الوقت الحاضر ومن العبث مناقشتهم، فإما أن نقضي عليهم وإما أن يقضوا علينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤