الفصل السادس

المقادير الحديثة وتبديد المقادير

يستدل على مقادير الجيل بالبحث في مبادئه الناظمة التي تسير عزائمه وتعين وجهته، وأين نجد هذه المبادئ؟ لا نجدها في الجماعات والجماعات ذات شهوات لا مبادئ، وهل يظفر بها في أرباب القلم الذين يؤلفون الكتب ويلقون الخطب؟ هؤلاء لا يعبرون في الغالب عن غير المبادئ المسلم بها لاستهواء سامعي خطبهم وقارئي كتبهم.

وعلى رغم صعوبة استنباط المبادئ السائدة لأحد الأدوار قد يلم بها إلمامًا تقريبيًّا عند الاطلاع على تعاليم الأساتذة المسموعي الكلمة، فخطب أمثال الموسيو (لافيس) والموسيو (بيارلوتي) تنم على ما يهتم به أدلاء الشبيبة في الوقت الحاضر.

لا شيء في هذه الخطب يشجع أو يفرج الغم، فقد أوحت بها روح مشبعة من التطير، ومما يرى فيها على الخصوص الاعتقاد بعدم فائدة المجهود وضرورة التسليم أمام الحوادث والقول بعجز العلم عن إماطة اللثام عن أسرار الكون المحيطة بنا، ويظهر أن مذهبًا مظلمًا في القضاء والقدر ران على قلوب أولئك المفكرين في أواخر أيامهم مع أنهم كانوا مشبعين من أطيب الآمال في ريعان شبابهم.

وما يأتي به هؤلاء الأساتذة وأعضاء المجمع العلمي من نغمات في القضاء والقدر يأتي بمثله أقطاب السياسة في الوقت الحاضر، ففي محادثة وقعت حديثًا قال رئيس الجمهورية السابق الموسيو (لوبه): «إن سير الأمور المقدر فوق عزيمة الرجال، فهنالك منطق خفي حافل بالأسرار يقودنا.» وسنرى من أي العناصر يتألف سير الأمور المقدر وذلك المنطق الحافل بالأسرار.

والموسيو (بيارلوتي) هو أكبر عضو في المجمع العلمي استحوذ عليه الحزن، فكأنه يكرر بلسان منسجم أنين سفر سليمان الخالد، وأكثر ما يعيب الموسيو (لوتي) به العلم هو عجزه عن إيضاح الأمور وتفسيرها، ولا يعتقد هذا الكاتب الشهير قدرة الإنسان على الدفاع عن نفسه أمام نوائب الدهر وحدثانه، فقد قال: «يتعذر الوقوف أمام التيار الجارف الذي يرمي إلى خفض كل شيء حتى يصبح الجميع في مستوى واحد.»

لست من القائلين بوقوع هذه المساواة، فعندي أن الحضارة كلما تقدمت زاد التفاوت بين الناس في مراتبهم الاجتماعية، وقد بينت في كتاب آخر أسباب هذا التفاوت التدريجي فذكرت أن المسافة بين أفكار العالم وأفكار الجاهل وبين عقل المهندس وعقل الصانع تزيد كل يوم، وما يقع من التسوية فبين الظواهر لا بين الرجال، وإلا فكيف يستوي الربان الذي يقرأ في النجوم الاتجاه الذي يجب على سفينته أن تتبعه خوفًا من الغرق والملاح الذي لا محالة غارق إذا ترك وحده؟ فالتفاوت النفسي هو من المقادير المهيمنة التي لا يُقضَى عليها بأي استبداد.

وما كان الموسيو (لافيس) أقل من الموسيو (لوتي) تطيرًا وقولًا بالقضاء والقدر، فلما تناول الموسيو (ريمون پوانكاره) أنبه على تفاؤله قائلًا: «يغيظني أن أراكم معتقدين أن بضعة مبادئ قديمة بسيطة تكفي لقيادة الناس في الوقت الحاضر.»

وأي المبادئ الجديدة يعني الموسيو (لافيس)؟ إنه لم يشر إليها لجهله إياها، وقد بدا له منها طيف بعيد فخافه فقال: «إن الدولة والمجتمع في خطر، وقد أصبحت الديمقراطية مزيجًا من الغرائز والشهوات والخيالات لا تعلم ماذا تريد ولا تعرف كيف يكون حال المجتمع في المستقبل، وهي لما ضاق صدرها وحرك ساكنها بما يحدث من القوانين والنظم والعادات أخذت تدك معالم المجتمع الحاضر حتى آل كل شيء فيه إلى السقوط، وهكذا قرب الوقت الذي تقوم فيه الدول بالنفقات الحربية والنفقات الاجتماعية معًا وهنالك ضحى النهار.»

ألا يعلم هذا النبي الفاضل أن في مخاوفه شيئًا من الباطل؟ وهل نسي أنه وقع نظير تلك المعضلات في جميع الأمم كأثينا وروما وفلورنسا؟ فلما تكررت المعضلات المذكورة عندها على وجه واحد أدت إلى نتائج متماثلة فيها، نعم، إن البربرية بدلت اسمها في أغلب الأوقات، ولكن تجب مقاتلتها في الداخل والخارج، ثم إن هذه المقاتلة من عوامل الرقي، ولا تكون خطرة إلا إذا كان حماة النظام الاجتماعي يتوقعون الهزيمة سلفًا، ولما كانوا يصيرون حينئذ إلى الانكسار لا محالة فإنهم يستحقون الهلاك.

قد يتم اتفاق مسالمي اللاتين واشتراكييهم وخريجي جامعاتهم في بلاد «ضحى النهار» التي تخيلها الموسيو (لافيس) ولكن معنى ذلك استعباد اللاتين ونهب أموالهم من قبل الأمم المجاورة الطامعة في قبض المليارات والقضاء على مزاحمة المغلوبين.

تستند هذه الحقائق المؤلمة إلى مطامع لا تحول دونها أحلام الخياليين، فهي التي حكمت العالم حتى اليوم وستحكمه إلى الأبد.

ولا تشاهد مناحي التطير والتسليم في أولئك الناس وحدهم بل تناولت تعليمنا المدرسي أيضًا، فعندما لا يكون الأستاذ مسلمًا قائلًا بالقضاء والقدر ينضوي إلى جماعة العصاة، على هذه الصورة أصبح كثير من الأساتذة في الوقت الحاضر على رأس الاشتراكية الثورية.

•••

مذهب القضاء والقدر تراث الماضي القديم، وقد خلدته الفلسفة والأديان، فهو الذي بني عليه كثير من الفرق البروتستانية وقام عليه مذهب (جانسينوس) القائل إن الله اختار من الأزل أناسًا للإحراق وآخرين للنجاة، وإذا كان المذهب الجبري القائم على العلم الحديث يبرر في الظاهر مذهب الأجداد في القضاء والقدر فلالتباس بين المذهبين، فالجبرية العلمية تقول إن الحادثة بنت علل سابقة وإنه كلما عادت هذه العلل ظهرت تلك الحادثة من غير أن يكون لموجود علوي فعل في ذلك، وقد عزا القدماء جميع القوى الطبيعية إلى موجود علوي جهلًا منهم ارتباط تلك القوى بعضها ببعض وطمعًا في تغيير مجراها بإقامة الصلوات وقراءة العزائم.

ولنترك لعلماء ما بعد الطبيعة أمر البحث في نظرية الإرادة لتعذر حلها، ولننظر إلى الأمر من الوجهة العلمية، حيث تثبت أن مصدر القدر جهلنا الحقائق وأنه يتبدد عندما نعرف كيف نحلل العناصر التي يتألف منها.

•••

للمقادير ثلاثة أنواع: النوع الأول هو المقادير الطبيعية الثابتة كالهرم وحوادث الجو وسير الكواكب، فنحن وإن كنا لا نقدر على تبديلها نستطيع أن نعيِّن سننها ونخبر عنها قبل وقوعها ونحافظ على أنفسنا إزاءها محافظة جزئية، والنوع الثاني هو المقادير المتبدلة كالأوبئة والمجاعات التي كانت تودي بحياة ملايين من البشر، فهذه المقادير تتبدد كلما تقدم العلم فحلل عناصرها وهاجم كل واحد من تلك العناصر على انفراد، والنوع الثالث هو المقادير المصنوعة، فالتاريخ حافل بهذه المقادير، وبما أن العلة بعد أن تتكون تأتي بنتائجها بحكم الضرورة كان من الصعب مقاتلة المقادير المصنوعة، ويجب للسيطرة عليها مقاومتها بمقادير مصنوعة أخرى لا تقل عنا قوة، وهذا ما يفعله أعاظم الرجال.

يدلنا البحث في تأثير العلم في الحوادث — التي عدت سابقًا مقادير ثابتة — على الصورة التي تنحل بها بعض المقادير وتزول، فمنذ أربعين سنة كان كل امرئ يبتر عضوه في مستشفيات باريس يرد مورد الهلاك في بضعة أيام، وكان سكان مختلف البقاع يذهبون ضحايا الحمى الصفراء، وأما اليوم حين انحلت عرى هذه المقادير، فقد ظهر أن المبتورين كانوا يهلكون بفعل بعض المكروبات وأنهم ما كانوا ليهلكوا لو كانت دوافع التعفن مستعملة، وما قيل في البتر يقال مثله في الحمى الصفراء والطاعون.

وأمور مثل تلك كثيرة إلى الغاية، فقد استطاع الهولنديون أن يتخلصوا من الطوفان بما بذلوه من الجهود الكبيرة، وقد حولت بروسيا رمال (پوميرانيا) وتربة (براندبرغ) النفطية إلى غابات جميلة وحقول خصبة.

•••

يطبق ما قلناه في بعض المقادير الطبيعية على المقادير التاريخية، فهذه المقادير على ما هي عليه من استعصاء عند اشتقاقها من روح الشعب وماضيه السياسي لا تتفلت من حكم الناموس القائل إن المقادير تتبدد بتحليل عناصرها.

وكل صفحة من صفحات تاريخنا تؤيد ذلك، فلو نظرنا إلى حرب سنة ١٨٧٠ وحللنا جميع عواملها النفسية لرأينا أن هزيمتنا فيها كانت أمرًا لا مفر منه، وأنه كان يمكن أناسًا من ذوي المدارك السامية أن يبددوا العناصر التي تألفت منها الهزيمة واحدًا بعد الآخر قبل أن تصبح في مجموعها ثقيلة ساحقة.

والأغلاط النفسية — وكذلك العجز عن التنبؤ بالمستقبل — مصدر المقادير المهلكة الثقيلة الوطأة على كثير من الأجيال، فقد نشأ عن أغلاط كتلك، ومنها فقدان روح التأمل والملاحظة وجهل مزاج اليابانيين النفسي انكسار روسيا وما يتبعه من نتائج ستحول مصير أوربا على ما يحتمل.

والمقادير المصنوعة — كمعاقرة الخمرة مثلًا — كثيرة إلى الغاية. ومع أن معاقرة الخمر عمت بيننا ولم يجند ربع المطلوبين للخدمة العسكرية بسبب عيوب هذا الربع التي انتقلت إليه بالإرث عن آباء مدمنين ترانا عاجزين عن التأثير في قدر المعاقرة تاثيرًا شافيًا. ثم إن الدولة مضطرة إلى تشجيع الناس على تعاطي الخمر خوفًا من إحداث عجز كبير في ميزانيتها.

لا تلبث المقادير التي نوجدها أن تصبح من الاستعصاء بحيث يستحيل تذليلها، وقد أتى الموسيو (كروبي) وزير التجارة السابق بمثال مفيد على ذلك، فبين في كتابه الذي نشرة حديثًا ما في الخدم الإدارية من الفوضى، وأنه حاول تسيير أمورها كما يجب، وأنه لم ينجح في مسعاه لما بين الموظفين من خصام مستمر ولما في التبعات من اختلاط وتشويش ولما في القيادة من فقدان الوحدة … إلخ.

لم يتوصل الموسيو (كروبي) على رغم السنتين اللتين ظل فيهما وزيرًا للتجارة إلى تبديل ذي بال، ومن يطالع كتابه يرَ أنه لم يقف على أسباب عجزه وقوفًا تامًّا بدليل اقتراحه لمعالجة الحالة «تبديل مناحي الديمقراطية بإصلاح نظام الانتخاب».

ولربما كانت المقادير العاطفية خطرًا من حيث نتائجها، فمن أجلها أصبح المذهب الإنساني الذي هو أحد مظاهر النصرانية المنحطة من أعظم ما بليت به فرنسا في الزمن الحاضر، فهذا المذهب هو الذي يأكل دعائم بنيانها الاجتماعي بما يوجبه من سن قوانين مؤدية إلى نشوب ثورات عنيفة، وهو الذي جعل أولياء الأمور يقررون دخول الأوباش في سلك الجندية ولو كان دخولهم فيها مفككًا لعرى الجيش، وهو الذي يدفعنا إلى المحافظة على مجرمي الأوباش في سجون مشتملة على وسائل الراحة الحديثة.

يكثر عدد القتلة بفعل أنصار المذهب الإنساني حتى أصبح ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل بضع سنين، وما كان القتلة الذين حرقوا ضحاياهم ليعدموا لو لم يقع انفجار سخط في الرأي العام، ولا شيء أكثر بلاءً على الأمة من فريق محبي الإنسانية، فمحب الإنسانية ليس رجل تقدم بل هو رجل هادم لكل نشاط مانع لكل تقدم.

•••

أظن أن فائدة الاطلاع على علم النفس في تذليل الأقدار أخذت تبدو، ففي حديث دار بيني وبين الموسيو (هانوتو) أحد وزراء خارجيتنا الأفاضل صرح لي بأنه لا يرى شيئًا أكثر ضرورة من علم النفس للرجل السياسي في أثناء قيامه بأمور وظيفته.

لا يعلِّم علم النفس أولي الأمر كيف يحاربون الأقدار التي تقيد حياة الأمم فقط، بل يعلمهم أيضًا كيف يسيرون الحوادث. فقد استطاع أقطاب السياسة مثل ريشيليو وكافور وبسمارك والملك إدوارد أن يقودوا مجرى الأمور، وأن يذللوا مقادير التاريخ بفضل وقوفهم على أحوال النفس واطلاعهم على شأن مقتضيات الدين والاجتماع والاقتصاد.

ومع ما في الإنسان من عجز عن تذليل المقادير الناشئة عن أحوال لا سلطان له عليها ينتفع بها الرجل المحنك كما ينتفع الربان بالريح على رغم اتجاهه، على هذا الوجه استطاع الألمان الذين رأوا زيادة الإنتاج والمزاحمة الخطرة من الأمور التي لا مفر منها أن يوجدوا نقابات إنتاج ليحولوا بها دون وقوعهم في الأزمات الاقتصادية، وأما نحن فلعدم إدراكنا ضرورة التجمع الصناعي ترانا نقاتل بقوانين جائرة نقابات الإنتاج التي يساعدها إمبراطور ألمانيا.

وإذا لم ينتفع بالمقادير الصادرة عن سنن الطبيعة بل يحاول مناهضتها فإنه تقع نكبات عظيمة تعاني الأجيال القادمة نتائجها زمنًا كبيرًا.

أشرنا إلى حرب ١٨٧٠ آنفًا وما كان عدد الفرنسويين الذين نسوا أمرها قليلًا، فقد بيَّن أحد أساتذة دار المعلمين العالية في جريدة الطان أن بعض الطلاب يجهلونها مع أنها لا تزال ذات تأثير في أوربا ولا نزال نؤدي ٤٥٠ مليون فرنك فائدة على المليارات البالغ عددها خمسة عشر، والتي اضطررنا إلى إنفاقها فيها، ومن نتائج انكسارنا في تلك الحرب إنفاقنا ثلاثة وخمسين مليارًا من الفرنكات اتقاءً لشر هجمات ما فتئ جيراننا المنصورون يهددوننا بها منذ أربعين سنة.

ترى ما يوجبه رجال السياسة الغافلون الأغرار من بلايا ومقدار احتياج البلاد إلى أعاظم الرجال الذين يعرفون كيف يقرأون المستقبل من ثنايا الحال ويذللون المقادير.

يعتبر كثير من الساسة في دورنا النيابي أن السياسة فن الخطابة، ولو دقق هؤلاء في الأمر لرأوا أن النجاح القائم على الصيغ الطنانة لا يكون إلا مؤقتًا، فالخطابة المستندة إلى الكلام بظرافة وطلاوة لا تتطلب معرفة الرجال والأشياء معرفة لازمة لاتخاذ المقررات الصائبة الفعالة السريعة، كما أنها لا تطلب إلى صاحبها جهودًا مستمرة ضرورية لدوام النجاح.

ولا يبصر الساسة الحاليون نتائج أعمالهم، فإذا كانت إنكلترة تقاسي اليوم مصاعب جمة في زيادة الضرائب التي لا بد منها لتقوية أسطولها إزاء الخطر الألماني فلعجز ساستها عن كشف المستقبل، إذ رفض هؤلاء أن يوافقونا بعد الحرب الفرنسوية الألمانية على عقد مؤتمر يحدد مطاليب ألمانيا ويغير سير المستقبل، وقد كان (بسمارك) يرى انعقاد مثل هذا المؤتمر كابوسًا، فكان يفكر في أمره صباح مساء كما قال في مذكراته؛ لأنه كان يعلم أنه «يحرمه ثمرة انتصاراته»، ولو تم انعقاد ذلك المؤتمر لأدى إلى نتائج كنتائج مؤتمر برلين الذي عقد بعد بضع سنوات فأكره الروس المنصورين على التُّرك على التخلي عن البقاع الطامعين فيها، حقًّا ما كان المؤتمر المذكور لو عقد ليترك دولة تخل بالتوازن الأوربي على رغم انكسارنا، وهل كان من مصلحة إنكلترة والنمسا وروسيا أن تقوم دولة عظيمة في وسط أوربا؟

أصبح مصير الأمم اللاتينية مشكوكًا فيها بسبب المدد القصيرة التي يقبض فيها رجال السياسة على زمام الأمور، والتي تجعل هؤلاء لا يفكرون في سوى الساعة الحاضرة غير مبالين بالمستقبل، فسياسة لا تبالي بغير الحال هي سياسة منحطة موجبة لأسوأ العوارض.

ولا يكون النجاح في عالم السياسة إلا ببعد النظر والتطلع إلى المستقبل، وإنا نتخذ تأسيس البلجيك لمستعمرة الكونغو مثالًا بارزًا على بعد النظر: كانت حالة أفريقيا مجهولة منذ أربعين سنة فأخذ عدد من الرواد الجسورين يكتشفونها، وقد كان على رأس البلجيك آنئذ ملك ذو بصيرة واسعة فأدرك أن آسيا ستتخلص من ربقة الأوربيين وأن مستقبل هؤلاء في أفريقية، فشرع في تأسيس إمبراطورية في أواسطها لم تلبث أن صارت مساحتها لا تقل عن مساحة نصف روسيا وأضحت عاملًا كبيرًا في غنى البلجيك.

•••

أرجو أن يكون القارئ اكتسب من مطالعة ما تقدم فكرًا في المقادير غير ما أخذه عن الكتب، فما نشأ منها عن إهمال الأجداد يمكن تذليله بفضل العزم والإرادة، ومن دواعي الآسف أننا لا نزال نخلق مقادير مصنوعة سيكابد أولادنا نتائجها السيئة، وإلا فهل في دعوة الناس إلى المبادئ اللاوطنية والمبادئ القائلة بالفوضى وعدم التجنيد وصبرنا على عصاة الموظفين وتكديسنا قوانين مضرة بالصناعة ومنح أساتذة المدارس طلابهم تربية منحطة مادةً ومعنًى — هل في هذه كلها غير ما يؤدي إلى أسوأ النتائج؟ وهل يذهب سدى حقد الشبان على الأفضليات التي بها عظمة الأمة وعدم المبالاة بجلائل الأمور والتسليم الأعمى، وروح الازدراء والوقيعة وفقدان الأدب الناظم للعزائم؟ من أجل ذلك كله ننحدر وترتفع ألمانيا التي تسلك سبلًا غير سبلنا.

ومما هو شديد الخطر أن يتبع شعبنا طريقًا لحمته الثورات وسداه الفوضى، فقد انحصر شأن زعمائنا الآن في حماية العجز وقلة النظام ومطاردة صفوة الناس مطاردة عمياء والسعي وراء المساواة في البؤس وضنك العيش والاستيلاء على الثروات التي هي عماد العمل وإيقاد نار الحسد والشهوات في القلوب.

وفي أثناء تجمع هذه العلل في الانقراض ترانا نتغاضى عن نمو جيش من الثوريين المتعصبين الذين لم يتصفوا بشيء من التقاليد والمبادئ وحسن الضمير والذين لا يسعون في غير قضاء شهواتهم وتنفيذ رغباتهم في الهدم والتخريب، ولا نقابلهم بغير شكوكنا الشاحبة وعدم اكتراثنا وتسليمنا المزري، وكلما زادوا وعيدًا زدنا خضوعًا، وهكذا قرب الوقت الذي لا يرتج فيه ميزان القوى.

•••

وإذا قدرت بهذا الكتاب أن أثقف بعض النفوس فالجهود الكبيرة التي بذلتها في وضعه لم تذهب عبثًا، على أني لم أذكر فيه في الغالب سوى حقائق بسيطة يقدر كل واحد على استنباطها بعد إنعام الفكر وحسن التأمل، وقد أخذت الأمم التي كانت خلفنا في الماضي فسبقتنا في الحال تطلع عليها بدليل ما يجيء في بيانات قادتها، ويمكن الوقوف عليها في خطبة ألقاها في كلية (الصوربون) في ٢٤ نيسان سنة ١٩١٠ المستر (روزفلت) أحد مشاهير رؤساء جمهورية الولايات المتحدة، فهو أيضًا بيَّن خرق مبادئ المساواة وخطر المذاهب الاشتراكية، وأفضلية الخلق على الذكاء في الحياة وحقائق أخرى غيرها، وإليك بعض ما جاء في خطبته:

يجب أن لا ننسى أن حدة الذكاء مهما كثرت والثقافة مهما سمت والرشاقة مهما علت لا تسد فراغًا يقع في صفات الخلق الأساسية، والصفات الخلقية التي تقوم عليها سيادة الأمة هي ضبط النفس والرزانة وتحمل التبعات والميل إلى الاتحاد والحزم والشجاعة، فإذا ضعفت هذه الصفات عجزت الأمة عن سياسة نفسها وعن منع الأمم الأجنبية عن التدخل في شؤونها.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الاشتراكية مؤدية إلى الهدم والتخريب وإلى عدد غير يسير من الشرور والظلم وفساد الأخلاق، وعلينا أن لا نكذب فنقول إن الناس متساوون بعد أن علمنا أن المساواة لا وجود لها.

لقد تأسس في الماضي كثير من الجمهوريات ثم انقرضت بفعل انقسام أبنائها إلى فقراء وأغنياء، وسعى كلٌّ من الفريقين في القبض على زمام المصير، وكلما كان يمعن أحدهما في بغض الآخر والإخلاص للنظام الجمهوري فقط كان أجل هذا النظام يدنو.

هذه حقائق ما فتئت أبينها منذ سنوات كثيرة، فيجب تكرارها لترسخ في النفوس، إذ قلما تسيغ النفوس المبادئ لمجرد بيان صحتها، وإنما تهيمن عليها بعد أن تدخل بفعل التكرار في أعماقها حيث تنضج بواعث السير والحركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤