الفصل السابع

الدفاع الاجتماعي

تشاهد الفوضى والمنازعات الاجتماعية في الأمم التي تحاول أن تقطع صلاتها بالماضي ففقدت بذلك قرار مزاجها النفسي.

نعلم أن روح الأمة تتألف من شبكة من التقاليد والمعتقدات والمشاعر العامة والأساطير التي ثبت أمرها بفعل الوراثة، فهذه هي الروح التي تعين على شكل غير شعوري وجهة أفكارنا واتجاه سيرنا وبفضلها تفكر الأمم تفكيرًا متماثلًا وتسير سيرًا متشابهًا في طرق معاشها الأساسية.

ولا يستطيع المجتمع البقاء ما لم يكن ثابت الأركان بثبوت ما يقوم عليه من روح قومية، ولا تلبث الأمة التي ظلت متبربرة حتى اكتسبت روحًا قومية أن ترجع إلى طور الهمجية عندما تنحل هذه الروح فيها، فلما فقدت روما روحها الوطنية فقدت نفسها، وقد احتاج الفاتحون الذين أقاموا سلطانهم على أنقاضها إلى قرون كثيرة لاكتساب روح وطنية يخرجون بها من ظلمات التوحش.

واليوم ترانا في أحد أدوار التاريخ الخطرة حيث تزول بالتدريج المعتقدات الدينية والسياسية والخلقية التي تتعين بها وجهة أفكارنا وسيرنا من غير أن يتكون ما يقوم مقامها بعد، ومن الأمور الرهيبة أن تتلاشى آلهة الأمة، فإذا أمكن أن يكون قليل من الناس لاأدريين يتعذر ذلك على الجماعات التي تحتاج على الدوام إلى مثل أعلى يفعم قلوبها بالآمال.

نعم قد تتبدل الآلهة أحيانًا ولكنها لا تموت أبدًا، إذ لا يمر وقت قصير حتى يحل معتقد جديد محل المعتقد الذي بلي بفعل الدهور، واليوم أوشكت تعاليم الاشتراكية أن تقوم مقام التعاليم الدينية، وهي تستمد قوتها من قدرتها على الاتصال بسهولة بالمعتقدات الموروثة، فالحكومة المهيمنة من مظاهر الآلهة القديمة التي كان يؤمن بها أجدادنا، وإلا فهل من فرق بين الجنة التي يحلم بها الاشتراكيون وبين الجنة التي ورد ذكرها في أساطير الأولين؟

لا فرق بين الجنتين، فالأمم المؤثلة لا تكون ذات معتقدات غير التي ورثتها وإن اختلفت أسماء هذه المعتقدات، والمشاعر التي اقتضى ثباتها في النفوس أجيالًا كثيرة لا تزول فجأة.

لتلك العلة نرى الديانة الاشتراكية التي هي وارثة الديانة النصرانية تدخل في نفوس الجماعات وتملأ قلوب البسطاء بما لا تمنحهم إياه الآلهة الشائخة من أمل وما لا يقول به العلم من وهم وخيال.

ويحمل رسل الاشتراكية حقدًا شديدًا على المذاهب القديمة، فرجال الإكليروس والاشتراكيون والفوضويون … إلخ مظاهر متقاربة لمنزع واحد، وترزح روحهم تحت أثقال أوهام متماثلة، وهم لما بين مزاجهم النفسي من وحدة يعبدون موجودات واحدة أو يقضون حاجات واحدة بوسائل قليلة الاختلاف.

ولو كان ناشرو الديانة الاشتراكية يكتفون بنشر تعاليمهم سلميًّا لما كانوا شديدي الخطر، ولكن ما العمل وهم يشاطرون جميع الرسل أسلوبهم في إكراه الناس بالقوة على اعتناق مثلهم الأعلى الذي يعتقدون أنه سيجدد البشر.

والحقد الذي يوحي به المجتمع إلى النفوس التي استحوذ عليها خلق التدين الموروث ينتشر بين العمال بسرعة، ومع أن هؤلاء هم اليوم أسعد حظًّا منهم في الماضي يصبون اللعنات على النظام الحاضر كما كان يصبها النصارى الأولون على العالم القديم الذي قضوا عليه في آخر الأمر.

•••

ومع ما في الهجوم على المجتمع من شدة نرى الدفاع عنه ضعيفًا كالدفاع الذي دافع به عبدة الأصنام ضد الديانة المسيحية أيام انتشارها، فاليوم لا يعتقد الخواص — كما كانوا لا يعتقدون وقتئذ — متانة المبادئ القائم عليها نظام المجتمع، وهم لضجرهم من المؤثرات الموروثة ومن مقتضيات الزمن الحاضر يظهرون بمظهر المجرد من عزم قوي والمهيأ للعمل بآراء العامة، ولما كانت هذه الآراء متحولة إلى الغاية تحدث أقل الحوادث فيها انفجارات سخط وغضب وحماسة.

وبما أن أولياء الأمور لا يتصفون بمبادئ تحول دون تذبذبهم النفسي وليس لديهم مصباح يتخذونه دليلًا على سيرهم يسيرون وراء الجماعات بدلًا من أن يسيِّروها، وهكذا يفقد خواص الأمة نفوذهم بالتدريج حتى لا يبقى لهم منه شيء.

والذي ينشر المبادئ المعبرة عن غرائز العوام والتي ترمي إلى خراب المجتمع هم أشباه المجانين الذين ننعتهم بالزعماء والرسل، فهؤلاء على العموم قليلو العقل ولكنهم كثيرو العناد مستعدون للتضحية بمنافعهم الشخصية في سبيل نصر المبدأ الأسمى الذي ران على قلوبهم، وهم لو عدهم الجموع جنات ساطعة ذوو تأثير كبير في روحها، فالجنات هي الأمل والأمل أكبر باعث للحركة على الدوام.

والرسل لما نومتهم خيالاتهم ينومون الجماعات ويدفعونها إلى اقتحام جميع المصاعب بسرعة، ولم يتغير مزاج الجماعات النفسي في غضون القرون، فالذكاء وإن قدر على التحول لا يقدر على تبديل المشاعر والأهواء التي هي أدلاء الناس الحقيقية.

ومن بواعث الحزن أن الرسل لا يفلهم غير الرسل، وأن رسل الفوضى كثيرون مع أن رسل النظام قليلو العدد، فالوهم يستهوي الأفئدة، وأما الحقائق الباردة فلا توقد نار الحمية في أحد، ثم إن بذر الأوهام في النفوس أسهل من بذر الحقائق فيها، فإذا قلتم للعمال إن رب العمل سارق جدير بأن يحرق مصنعه فسرعان ما يصدقونكم، ولكن إذا بيَّنتم لهم أنه مُكرَه على خفض الأجور لأن أبناء النوع الأصفر في آسيا يصنعون مثل منتجاتكم بثمن أرخص منها لا يسمعون.

فالأوهام هي التي قلبت العالم حتى الآن، وقد زال كثير من الدول العظيمة بفعل بعض المبادئ العاطفية التي تبدو لنا اليوم تامة البطلان، فلا نأمل أن يكون للعقل في المستقبل شأن أكبر من شأنه في الماضي، ولنهيئ نفوسنا لمعاناة سلطان الأوهام القاهر، فالأوهام بعد أن ترسخ في النفوس شيئًا فشيئًا يستمر رسوخها زمنًا طويلًا ولا أحد يقدر على التنبؤ بمدى تخريبها.

•••

بينت في فصل سابق أن مظالم الثورة الفرنسوية نشأت عن بعض المبادئ الفلسفية التي جعلت الشعب يعتبر غريزة البربرية الأولى الراقدة في أعماق قلوب أفراده أساسًا لحقوق جديدة، وقد ظن الناس في أيامها أنهم يسيرون بنور العقل مع أن الواقع يدل على أنهم حاربوا العقل وأن غرائزهم الموروثة لما تحررت من كل رادع أصبحت دليلًا لهم، وإنا لنعد دور الهول عنوانًا لأحط الغرائز، فالهول كناية عن هيمنة الغريزي على العقلي لا عبارة عن سيطرة العقلي كما تصور رجاله ومؤرخوه.

ولم يكن الانتصار على الغرائز الموروثة إلا حديث العهد في التاريخ، فما كانت مساعي المجتمعات إلا لردع الغرائز الطبيعية الحيوانية بقوة التقاليد والعادات والقوانين، ومن الممكن أن نسيطر على هذه الغرائز ولكن من غير أن نقضي عليها، ومن السهل أن تظهر ثانية بفعل بعض المحرضات كالاشتراكية مثلًا.

حقًّا ليست حركات الشعب الكبيرة بنت العقل بل هي في الغالب عبارة عن نضال ضد العقل. ومن يحاول أن يوضح بالمنطق العقلي ما صدر عن منطق الغرائز يحكم على نفسه بأن لا تفقه شيئًا من التاريخ، وما كانت الحركة الثورية في الوقت الحاضر سوى عودة إلى حكم الغرائز الوحشية التي تميل إلى تقويض دعائم المجتمع، فما عده ذوو النفوس التي أعمتها الأوهام من الرقي إن هو إلا رجوع إلى طرق المعايش المنحطة.

وتستلزم كل حضارة شيئًا من الضغط والقسر، ولا تكون الأمة متمدنة إلا إذا علمت كيف تتحمل هذا الضغط والقسر، فلولا الروادع الاجتماعية القوية لما خرجت الأمم من طور الهمجية، وهي تعود إلى ذلك الطور عندما تضعف تلك الروادع.

ولا تبقى الروابط الاجتماعية التي هي وليدة الحضارة إلا بجهد مستمر، ومن عوامل الانقراض الكبيرة أن يعدل أبناء الأمة عن استمرار في الجهد، وقد فشا هذا العجز بين طبقات الأمة المتعلمة، فهي تلقي سلاحها أمام المصائب الاجتماعية كما كان يُلقَى أمام الأوبئة التي تغلب عليها العلم في آخر الأمر.

والشك الذي هو علة ضعفنا لم يتطرق إلى الرسل الثوريين، فاعتمادهم على نجاحهم هو من عوامل قوتهم، ومع أن العمال صاروا على شيء من السعادة والهناء جعلهم المتمذهبون يعتقدون بفعل التكرار أنهم سيئو الطالع، ولما أخذ مزاج العمال النفسي يعود بالتدريج إلى حظيرة الغرائز الأولى أوشك هذا المزاج أن يصبح كمزاج الهمج النفسي.

ولا يسهل إرجاع العامل إلى طور الحضارة، فيجب لذلك إثبات قيمة الذكاء ورأس المال والعمل له وجعله يرى شقاءه في النظام الاجتماعي الجديد الذي رسم له، ولكن أين السادة القادرون على إرشاده إلى هذه الأمور؟

•••

يجب على أبناء الطبقة الوسطى أن يتوكلوا على أنفسهم لا على الجامعة العارية من المبادئ الناظمة ولا على الحكومة التي لا قوة لها، وأن ينظموا صفوفهم كما وقع في بلاد السويد للدفاع ضد تمرد طبقة العمال، وقد حنكت التجارب حكومة السويد فعلَّمتها أن حق الاعتصاب الذي يسمح لأقلية عاصية بأن تقف جميع مصالح البلاد العامة وأن تبذر بذور الفوضى بين الناس لا يلائم تقدم الحضارة، وجعلتها تعرض على البرلمان لائحة قانون العقود المشتركة ومجازاة كل اعتصاب يكون كارثة على البلاد بأشد العقوبات وتأسيس محكمة تحكيم لتفصل كل اختلاف يقع بين العمال وأرباب العمل، فلو كان لنا نظير هذا القانون ما وقع عندنا إضراب موظفي البريد وإضراب الملاحين الذي أوشك أن يقضي على بحريتنا التجارية.

وقد أخذت التجارب تجعل أولياء الأمور في فرنسا يفكرون في القيام بمثل تلك الحركة، ولكن ينبغي أن يطرأ بعض التعديل على مزاجنا النفسي قبل أن يسن مثل القانون المذكور، ولا ننكر أن تردد طبقتنا الوسطى ولدونتها يمنعانها من التفكير في الدفاع عن نفسها، غير أن شدة مهاجمتها قد تحملها على ذلك، قال الموسيو (جورج صوريل): «عندما يرى أرباب رؤوس الأموال أنهم لا يكسبون شيئًا من سلوكهم سبيل السلم الاجتماعي والديمقراطية ويعلمون أنه لم تحسن نصيحتهم يلتجئون إلى ما كان لهم في الماضي من همة ونشاط، فطبقة العمال وحدها هي التي تلجئ طبقة المتمولين إلى الشدة في النزاع الصناعي.»

ومن يود أن يعيش فليبق قويًّا، ففي الطور الذي دخل العالم فيه حديثًا لا يستطيع أحد أن يحافظ على شيء لا يعرف كيف يدافع عنه، وعلى طبقتنا الوسطى أن تتحلى ببعض الفضائل وأن تعدل عن بعض النقائص إذا أرادت الظفر في المنازعات التي يتفاقم أمرها، فالإفراط في التلذذ بالنفائس والكماليات التي يعتقد العامل أنها من جني عمله تورثه حقدًا لا يورث مثله جميع الخطب الاشتراكية.

وإذا قايسنا بين طبقتنا الوسطى وبين طبقة الأرستوقراطيين الإنكليزية في الحال وطبقة الأرستوقراطيين الفرنسوية القديمة رأينا طبقتنا الوسطى تشيخ بسرعة، وأنها لا تظل باقية إلا بفضل ما تتقوى به من العناصر التي تستمدها من الطبقة الدنيا، ولا نعجب من ذلك كثيرًا، فالطبقات الأرستوقراطية القديمة لم تدم إلا بفضل حقوقها الموروثة التي لا تحتاج إلى اتصاف صاحبها بأية أفضلية، وهي بعكس أرستوقراطية الذكاء التي لا يستقيم أمرها إلا بأفضلية في عقل أفرادها، ولما كانت نواميس الوراثة ترجع ذرية خواص الأمة إلى المثال المتوسط — كما بينت ذلك في كتاب «سر تطور الأمم» — تضطر طبقة الخواص إلى الاستعانة بالطبقة التي تليها.

إذًا فالطبيعة مسوية أحيانًا، ولكن لا كما يحلم الاشتراكيون، فالطبيعة تعيد ذرية صفوة الناس إلى حظيرة المساواة في المستقبل، وأما الاشتراكيون فيودون التسوية بين الناس في الحال.

•••

يظهر أن روح الدفاع لا تتكون اليوم في الصفوف العالية من الطبقة الوسطى، بل في صفوفها الدنيا كأصحاب الدكاكين وصغار الباعة، فقد أدرك هؤلاء الذين كثر تهديدهم وقل الدفاع عنهم ضرورة اعتمادهم على أنفسهم، فأخذوا ينظمون شؤونهم للقيام بأعباء النزاع، وهم الآن ينتسبون إلى النقابات ويؤلفون الجمعيات ويعزمون على تأسيس كتائب لتحميهم مقتدين بالمثال الذي ضربته بلاد السويد.

ولا يختص ذلك بغير الدفاع المباشر ضد المظالم، ويكون أكثر أهمية لو كان قائمًا على بعض المبادئ الثابتة القادرة على تسييرنا وإنارة السبل لنا وسط الفوضى التي تأكلنا وعلى دفعنا إلى المناضلة ضد القوى التي تقوض بالتدريج أركان البنيان الاجتماعي.

ومبادئ ثابتة كتلك هي التي تعوزنا، ومن يطالع الصحف يطلع فيها على حوادث هي عنوان لأحوال نفسية ستلقي العجب في رجال المستقبل، فما أسخف ما قام به المتظاهرون الذين حالوا مع نائبهم دون سير قطار (فيلنوف لروا) السريع طمعًا في إكراه الشركة على إنشاء محطة لهم!

•••

وحينما يصبح ازدراء القوانين أمرًا عامًّا ويزول مبدأ السلطة ويضمحل النظام الذي عليه تقوم الحضارة يدنو الوقت الذي يدرك فيه المجتمع من أساسه، ولا شيء جدير اليوم بالاحترام غير القوة، فالموظف غطريس أمام رؤسائه والملاح أمام ربانه والعامل أمام مستصنعه، وكذلك السلطات القديمة تفقد كل يوم مكانتها، فالقضاة لا يقضون بالعدل ويحمون ذوي الثراء من اللصوص والحكومة لا تحافظ على أبناء الوطن ضد ذوي العنف والقسوة، وهي لا تظهر نشاطًا في سوى اضطهاد الرهبان ونزع أموالهم من أيديهم.

تلك حضارة تتداعى وماضٍ مجيد ينطفئ، وقد ظهر نظير تلك الحوادث في أواخر عهد (الديركتوار) بعد فوضى استمرت عشر سنوات، نعم قد كفت يد نابليون الحديدية لإعادة النظام، ولكن تلقاء كثير من الضحايا، وهل نحن في حال يمكننا أن نعود فيها إلى القيام بمثل تلك التجارب؟

إذًا أين الوازع؟ وشطر من نولي وجهتنا؟ لنولها شطر أنفسنا لا شطر رجال الحكومة والمشترعين، وماذا يفعل هؤلاء الحكام المشترعون الذين أضاعوا حريتهم ومنزلتهم وقوتهم؟ إنهم لا يفكرون في غير إطاعة رغائب اللجان إطاعة العبد لمولاه.

وقد بيَّن الموسيو (ريمون پوانكاره) حديثًا أن النائب الذي يكون في بعض الأحيان متكبرًا أمام البرلمان ليس سوى سمسار «لا يخطو خطوة من دون أن يسمع خشخشة قيود استعباده»، ولا يتأخر طرفة عين عن «الركوع أمام سلطان لجان الانتخابات».

وعلى ذلك فالنائب الذي انتخب فأصبح لا يبالي بغير تجديد انتخابه وصار لهذا الغرض ينقاد لأحط غرائز الجموع هو بالحقيقة خطر على المجتمع.

•••

ومن اللغو أن لا نعترف بأن العوام هم الذين بيدهم مقاليد الأمور، والعوام لما كانوا يجهلون منافعهم الذاتية وقد استحوذ عليهم الحسد لا يحلمون بغير الاستيلاء على الثروات التي هي بنت الذكاء وإلغاء جميع الأفضليات، وقد بلغ بهم الأمر مبلغًا جعلهم يطلبون نزع رؤوس الأموال التي لا تترقى أية صناعة بدونها، وها إن ماليتنا تتقهقر بتأثيرهم كل يوم إلى الإفلاس، وسيكون التاريخ قاسي الحكم على الأرقاء الذين يتبعون مثل أولئك السادة من غير أن يسعوا في تنوير بصائرهم.

يظن عباد الحكومة الشعبية أنهم يجددون المجتمعات بالقوانين ويؤسسون المساواة وينزعون الأموال من يد أصحابها، وقد بينا بطلان هذه النزعات التي يسعى إليها مشترعونا بلا ملل، فمساعينا في تبديل السنن الطبيعية المقدرة وإقامة المساواة مع أن الطبيعة تفرض التفاوت علينا هي في ضررها كسعي رب المصنع الذي يود أن يخرق نواميس الحكمة الطبيعية والميكانيك.

•••

والبحث هنا في القواعد الأدبية التي ستدير مجتمعات المستقبل لا يجدي نفعًا، فالواجب يقضي علينا بأن نهتم على الخصوص بدرس القواعد السائدة لنا ووسائل دوامها وكيفية الوقوف حيال الفوضى.

ليس من الضروري أن تكون المبادئ الناظمة القادرة على قيادة الشعب كثيرة العدد إذا كانت متينة محترمة، فقد ظلت عبادة روما التي كانت مثَل الرومان الأعلى سر عظمة روما حتى اليوم الذي وهنت فيه هذه العبادة.

ونحن كذلك يجب أن نبذل جهودنا في الدفاع عن المبدأ الوطني الذي هو عنوان نظامنا الخلقي، وقد أخذ هذا المبدأ في فرنسا يدك بفعل أكثر الاشتراكيين الذين يعلمون أنه — وهو قطب البنيان الاجتماعي — إذا انهار فإنه ينهار البنيان الاجتماعي دفعة واحدة.

ويتفرع من المبدأ المذكور كثير من المبادئ ولا سيما المبدأ القائل إن الأمة لا تعيش من غير جيش وسلسلة مراتب واحترام للسلطة وتهذيب نفسي، وليس لدينا حزب ينكر هذه المقومات حاشا حزب الثوريين، فالأحزاب جميعها تبتغي دوام البلد الذي تعيش فيه.

إن حب الوطن هو الملاط الاجتماعي الحقيقي الذي لا قوة للأمة بغيره، والوطن هو عنوان تراث القرون السالفة، ولما كنا لا نقدر على العيش بدونه فلنعش لأجله، وما حبب زعماء الانقلاب التركي الحديث أنفسهم إلى الناس إلا لدعوة الناس إلى عبادة الوطن، جاء في أحد بياناتهم «أن الوطن عند كل إنسان له ضمير حي أقدس من الأبوين وأعز من كل شيء في العالم».

ومن دواعي الأسف أن عبادة الوطن التي قامت عليها عظمة روما وتساعد ألمانيا على الضرب بسهم كبير في الرقي أخذت تضعف في بلادنا، وهي تنتشر بين الطبقات المتعلمة في ألمانيا وفي أميركا بواسطة الجامعات وبين طبقات العامة بواسطة صغار المعلمين، فهل نعتمد في فرنسا على الأساتذة والمعلمين ليأتوا فيها بمثل هذا؟ ذلك ما لا نراه.

وإذا كان المعلمون ينضمون إلى النقابات التي تدعو الناس إلى الحقد على الجيش ومقت الوطن فماذا ننتظر من الأجيال التي تم تهذيبها على يدهم؟ ومتى يجحد الناس وطنهم ويعصون قوانينه فإلى أي الدعائم يستند المجتمع ليبقى حيًّا؟

تلك هي الحقيقة، ولا يصيبنا تعب من تكرارها، فالاشتراكيون يكررون بيان مبادئهم التي تكفر برأس المال والنظام الحاضر، وقد استطاعوا بفعل التكرار أن يقنعوا الجماعات بصحة نظرياتهم، حقًّا لا ترسخ الحقيقة في القلوب إلا إذا كررت كثيرًا، فلو كان المدافعون عن المجتمع الحاضر مشبعين من إيمان متأجج كإيمان الثوريين وكانوا ينشرونه بهمة كهمة هؤلاء لانكسر هؤلاء بسرعة.

ولقد دنت الساعة التي يجب على كل واحد من حماة المجتمع الحاضر أن يصير فيها رسول دفاع عن البيان الاجتماعي ضد بربرية الاشتراكيين المخربة، فلسوف يؤدي انتصار هؤلاء إلى الإفلاس العام والحروب الأهلية وغزو الأجنبي البلاد، وقد أصبح الدفاع عن الوطن ومحاربة الفوضى وظيفة يجب أن لا يتملص منها أحد.

وتكفي القواعد الأدبية التي تشتق من مبدأ الوطن لإقامة بنيان الأمة الاجتماعي، وتتوقف قوتها على درجة تأثيرها في النفوس، فإذا اقتصر استنادها إلى القوانين وحدها كانت ضعيفة.

وليست الدساتير والنظم والأساطيل والجيوش هي التي توجب التحامًا بين أجزاء الأمة وتمنحها عظمة، فقوة الأمة الحقيقية في مثلها الأعلى، فالمثل الأعلى مع خفائه هو الذي يوجد الأشياء المنظورة ويقود النفوس، والأمة لكي تنال مثلًا أعلى تجد قرونًا كثيرة، وتقع في طور الهمجية عندما تفقد ذلك المثل.

•••

وأشد عوامل الانقراض تأثيرًا فينا هو انحطاط الأخلاق، وقد كثر اليوم عدد الخواص الذين ضعف خلق النشاط فيهم على رغم احتياجهم الكبير إليه فأصبح التردد والتنعم سائدين لهم.

وأما الثوريون المتعصبون الذين منحهم تعصبهم نشاطًا فشديدو الخطر، وتنحني العزائم الضعيفة أمام عزمهم القوي، ولم يبلغ خطرهم المبلغ الذي سيناله في المستقبل، فالمجتمع الذي يسعون كل يوم في تقويض أركانه لا يزال قائمًا بفضل التقاليد الاجتماعية المنتقلة عن الماضي.

ويظهر أن الأموات وحدهم أصحاب التأثير فينا، ولن تدوم معونتهم لنا، فسلطان الماضي لا يبقى إلا إذا رأى له في الحال معينًا ثانيًا.

•••

نرى بعد بياننا الطويل أن نطرق باب الاستنتاج، وسنفعل ذلك بإيضاحنا أن الحوادث الطبيعية والحيوية والاجتماعية تابعة لضرورة مهيمنة.

إن عالم المعرفة اتسع أفقه منذ نصف قرن، وقد أضيفت إلى الاكتشافات التي وقعت في أثناء هذه المدة نظريات لتفسيرها، ثم إن العلم الحديث يعدل عن اكتشاف عنصر ثابت في العالم وعلامة لا تتبدل بتعاقب العصور، فكل شيء يتلاشى في نظره حتى إن المادة التي ظن أنها خالدة خسرت أبديتها، وهكذا يقوم التقلب مقام الرسوخ والقرار.

ومن المتعذر اطلاعنا على علة علل الأشياء، وإنما الذي نستطيع معرفته هو ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وقد هدت التجارب (پوانكاره) إلى النتيجة الآتية البعيدة الغور وهي «أن كل حقيقة في عالمنا النسبي كذب وإفك».

والعلم بتركه الشروح البسيطة أقام مقام السنن العامة الكبيرة عللًا صغيرة كثيرة إلى الغاية، وقد علمنا أن العالم الطبيعي والعالم الحيوي والعالم الاجتماعي من صنع ذاتيات صغيرة، وأن هذه الذاتيات لا عمل لها ما دامت منفردة وتكون شديدة القوة عند انضمام بعضها إلى بعض، على هذا الوجه قامت البلدان وتشكلت الأمصار، وطلع النبات وبقيت الحياة وشاد البشر صرح المدنيات.

والعلم ببيانه شأن كثرة العلل وانضمام بعضها إلى بعض في تكوين الحوادث وتطورها أثبت أيضًا أن الذاتيات المختلفة من ذرات طبيعية وخليات حيوية تبقى لا تأثير لها إذا لم تؤلف قوى ناظمة بين أعمالها.

وفي نظرنا إلى عناصر الدائرة الطبيعية أو إلى عناصر الدائرة الحيوية أو إلى عناصر الدائرة الاجتماعية نرى القوى الناظمة ضرورية لتعيين وجهتها، ومتى لا تؤثر هذه القوى في تلك العناصر تصبح العناصر المذكورة غبارًا لا أهمية له، فالقوة الناظمة لخليات ذوات الأعضاء هي الحياة، وحينما تقف الحياة يجيء الموت، والأمر كذلك في أفراد المجتمع.

والقوى الناظمة للدائرة البشرية هي المعتقدات والمثل الأعلى … إلخ، فهذه القوى — وإن استطاعت أن تغير اسمها — لا تموت، وقد احتاجت كل أمة في أدوار التاريخ جميعها إلى المعتقد والسيف والعلم والخيال، فإذا حرمت إحدى هذه القوى الناظمة وخضعت لقوى مذبذبة ذات أهواء وردت مورد الهلاك.

ويشبه شأن ولاة الأمور في سياسة الأمم شأن العالم في سير الحوادث، فولي الأمر كالعالم لا يقدر على غير إرادة ما لا يستطيع إيجاده من القوى الطبيعية ومحاربة هذه القوى بقوى طبيعية مخالفة لها.

•••

نذكر الإرادة من بين مختلف القوى التي يتمتع بها الإنسان لمقاتلة القوى المحدقة به، فالإرادة هي التي أخرجت من العدم عجائب العلوم والفنون وكل ما تزهو به الحضارات.

ولو دققنا في سلسلة التاريخ وبحثنا عن الكيفية التي بلغت بها بعض الأمم أعلى العز والعظمة وعن الصورة التي أكره بها قادة الفكر العالم على التسليم بأسرارهم ومضمراتهم، لوجدنا ذلك كله تم بفعل إرادة متينة، ثم لو بحثنا عن السبب في هلاك كثير من الأمم وفي خضوع روما التي كانت ملكة العالم لحكم البرابرة في آخر الأمر لعلمنا أن ذلك نشأ عن ضعف الإرادة.

إذًا الإرادة سيدة الأفراد والشعوب، فلتكن غاية التربية تقويتُها لا إضعافها، وليست الصعوبة في كسب الإرادة الموَقَّتَة بل في كسب الإرادة المستمرة، ولا تورث الإرادة القوية النفوس يأسًا وقنوطًا، فبها ينسف الإنسان الجبال ويبتدع كل شيء.

وإذا كان التاريخ الحديث يدلنا على أمم ترتفع وأمم تقف، وأخرى تنحط فإن إنعام النظر يدلنا على أن ذلك كله ناشئ عن تفاوت في إرادة تلك الأمم، فالإرادة لا القدر هي المهيمنة على العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤