الشعر والقومية الإسلامية

استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يؤسس دولة بمصر بعد أن قطع الخُطبة عن الفاطميين سنة ٥٦٧ﻫ، واستطاع أن يضم إلى دولته قسمًا كبيرًا من بلاد الشرق الأوسط؛ عملًا بالسياسة التي أخذها عن نور الدين زنكي، وهي السياسة التي ترمي إلى توحيد هذه البقعة من البلاد الإسلامية حتى يستطيع أن يواجه الإمارات الصليبية التي احتلت قُوَّاتُها معظم ساحل الشام وبعْضَ المدن الهامة — وخاصة بيت المقدس قِبلة المسلمين الأولى.

رأى نور الدين زنكي وصلاح الدين من بعده أن المسلمين كانوا متفرقين بين إمارات صغيرة ضعيفة يكيد بعضها للبعض الآخر، ويستعين أميرٌ من أمرائها بالصليبيين على أميرٍ آخر؛ مما أضعف حال المسلمين ضعفًا شديدًا؛ الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح للصليبيين مكانةٌ في البلاد ليس من السهل مُقَاوَمَتُها، وازداد طمع الصليبيين في البلاد الإسلامية؛ حتى إنهم طمعوا في مَحْو الإسلام والمسلمين من العالم.

أدرك صلاح الدين — ببُعد نظره وكياسته — أن خير وسيلة لعلاج حالة المسلمين أن يوحد بينهم ويجمع كلمتهم ويلم شعثهم؛ حتى يستطيع أن يواجه الصليبيين بقُوًى موحدة كاملة، وكان صلاح الدين يذكر الآية القرآنية الكريمة: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا، وكان يعلم أن عددًا كبيرًا من الأعراب المنافقين يساعدون الأعداء في سبيل دراهِمَ معدودة، وباعوا أوطانهم وإخوانهم في الإسلام لِقَاءَ منفعة عاجلة، فأراد أن يأمَنَ شَرَّ هؤلاء الأعراب الذين دمغهم الله تعالى بالكفر والنفاق؛ لهذا كُلِّه بدأ صلاح الدين حروبه مع الإمارات الإسلامية ومع هؤلاء الأعراب المنافقين، حتى إذا تم له إخضاعهم لسلطانه ووَلَّى عليهم بعض أفراد أسرته، قَصَدَ بجموعهم المتحدة إلى الإمارات الصليبية، واستطاع أن ينتزع بعضها، إلى أن استعاد بيت المقدس في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ٥٨٣ﻫ.

ومما لا شك فيه أن هذه الحروب التي خاضها صلاح الدين — ولا سيما حروبه مع الصليبيين — قد ألْهَبَتْ حماسة المسلمين في جميع الأقطار، وأيقظت شعورهم بعد رقدته عدة قرون، وأوجدت بينهم ما نستطيع أن نطلق عليه الاصطلاح الحديث: «الشعور بالقومية الإسلامية»، فبالرغم من أن القومية والشعور بها أَثَرٌ من آثار الثورة الفرنسية في العصر الحديث؛ فإن المسلمين في القرون الوسطى شعروا بهذا الشعور ونادوا به إبان حروب صلاح الدين، وكان الأدب — شعرًا ونثرًا — هو اللسان المُعبر عن هذا الشعور، وإذا تصفحنا كتب التاريخ أو دواوين الشعراء يَرُوعنا أن نجد هذا العدد الكبير من القصائد التي قيلت في هذا الفن — الذي أَعُدُّه جديدًا على موضوعات الشعر العربي — وهو فن الشعور بالقومية الإسلامية، واشترك في هذا الفن عدد كبير من الشعراء في مختلف البلاد الإسلامية، حتى هؤلاء الذين لم يتَّصلوا بصلاح الدين أو بأحد أفراد أسرته، إنما دفعهم إلى ذلك الشعور بالقومية الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ومُحِيَتْ فكرة الشعوبية التي تُفَضِّل العرب على الأعاجم، وحَلَّ محلها فكرة «نصر الإسلام» وعزة الإسلام، وأن المسلمين إخوة لا فرق بين عربي وأعجمي، وأن الله تعالى ينصر كل من يعمل على انتصار المسلمين ضد الكافرين، هذه هي المعاني السامية الجليلة التي أكثر منها الشعراء وهم ينشدون في مدح صلاح الدين، فها هو ابن سناء الملك يقول في إحدى قصائده — يهنئه بفتح حلب:

بدولة الترك عزَّت مِلَّة العربِ
وبِابْنِ أيوبَ ذلَّت بيعةُ الصَّلبِ
وفي زمان ابن أيوبٍ غَدَتْ حَلَبٌ
من أرض مِصْرَ وصارت مِصْرُ مِنْ حَلَبِ
ولابن أيوبَ دانت كل مَمْلَكةٍ
بالصفح والصلح أو بالحرب والحَرَبِ
مُظَفَّر النصر منعوتٌ بِهِمَّتِهِ
إلى العزايم مدلول على الغلَبِ
والدهر بالقَدَرِ المحتوم يخدمه
والأرض بالخلق والأفلاك بالشهبِ
ويَجتلي الخلق من راياته أبدًا
مُبْيَضَّة النصر من مُصْفَرَّة العَذَبِ
إن العواصم كانت أي عاصمةٍ
معصومة بتعاليها عن الرُّتَبِ
ما دار قط عليها دور دائرة
كلا ولا واصَلَتْها نوبة النوبِ
لو رامها الدهر لم يَظْفَرْ بِبُغْيَتِهِ
ولو رماها بقوس الأفق لم يُصِبِ
ولو أتى أسد الأبراج منتصرًا
خارت قوائمه عنها ولم يَثِبِ
جليسه النجم في أعلى منازله
وطالما غاب عنها وَهْيَ لم تَغِبِ
تلقى إذا عطشت والبرق أرشية
كواكب الدلو في بئرٍ من السُّحُبِ
كل القلاع تروم السُّحب في صَعَدٍ
إلا العواصم تبغي السُّحب في صَبَبِ
حتى أتى من منال النجم مَطْلَبُهُ
يا طَالِبَ النجم قد أَوْغَلْتَ في الطَّلَبِ
مَنْ لو أبى الفَلَكُ الدَّوَّارُ طاعَتَهُ
لصَيَّرَ الرأس منه مَوْضِعَ الذَّنَبِ
أتى إليها يقود البحر مُلتطمًا
والبيض كالموج والبيضات كالحبَبِ
تبدو الفوارس منه في سوابقها
بين النقيضين من ماءٍ ومن لَهَبِ
مستلئمين ولولا أنهم حَفِظُوا
عوائد الحرب لاسْتَغْنَوْا عن البلبِ
جمالهم من مغازيهم إذا قفلوا
حَمَّالَة السَّبْي لا حَمَّالة الحَطَبِ
فطاف منها بركن لا يُقَبِّلُهُ
إلا أسنة أطراف القنا السُّلبِ
وحَلَّ من حولها الأقصى على فلكٍ
ودار من برجها الأعلى على قُطُب
ومانعته كمعشوق تمنُّعُه
أحلى من الشهد أو أحلى من الضَّرَبِ
فمَرَّ عنها بلا غيظ ولا حَنَقٍ
وسار عنها بلا حِقْدٍ ولا غَضَبِ
تطوي البلادَ وأهليها كتائبُهُ
طيًّا كما طَوَت الكُتَّابُ للكُتُبِ
وافى الفرات فألقى فيه ذا لجبٍ
يظل يهزأ من تياره اللجبِ
رمت به الجرد في التيار أنفسها
فَعَوْمُها فيه كالتقريب والخبب
لم ترضَ بالسفْنِ أن تغدو حواملها
فعِزُّها ليس يرضي ذِلَّة الخشَبِ
وكان عَلَّمَهَا قطع الفرات به
تعلُّم العوم في بحر الدم السَّربِ
وجاوَزَتْهُ وألقى من فواقعه
دُرًّا يُرَصَّعُ فوق العُرف واللَّبَبِ
إلى بلادٍ أجابت قبل أن دُعِيَتْ
للخاطبين ولولا الخوف لم تُجِبِ
لو لم تُجب يُوسفًا مِنْ قَبْلِ دَعْوَتِهِ
لعاد عامرها كالجوسق الخَرِبِ
خافت وخاف وَفَرَّ المالكون بها
فالمدن في رَهَبٍ والقوم في هَرَبِ
ثم استجابت فلا حصنٌ بمُمْتَنِعٍ
منها عليه ولا مُلْكٌ بمُحْتَجِبِ
وأصبحوا منه في هَمًّ وصبَّحَهُمْ
وَهُمْ سُكارى بكأس اللهو والطرَبِ
تفرغوا لنعيم العيش واشتغلوا
عن الثغور بلثم الثغر والشنبِ
أرض الجزيرة لم تظْفَر ممالكها
بمالكٍ فطِن أو سائس دَرِبِ
ممالك لم يُدَبِّرْها مُدَبِّرُها
إلا برأي خصي أو بِعَقْلِ صَبِي
حتى أتاها صلاح الدين فانْصَلَحَتْ
من الفساد كما صَحَّتْ من الوَصَبِ
واستعمل الجِد فيها غَيْر مُكْتَرِثٍ
بالجدِّ حتى كأن الجِد كاللعِبِ
وقد حواها وأعطى بعضها هِبةً
فَهْوَ الذي يَهَبُ الدنيا ولم يَهَبِ
يُعطي الذي أُخِذت منه ممالكه
وقد يَمُنُّ على المسلوب بالسَّلبِ
ويمنح المُدْنَ في الجدوى لسائله
كما ترفَّع في الجدوى عن الذهَبِ
ومن رأت صدَّه عن ربعها حلب
ووَصله لبلاد حُلوة الحَلَبِ
غارت عليه ومدت كَفَّ مفتقرٍ
منها إليه وأبدت وَجْهَ مكتئبِ
واستعْطَفَتْهُ فوافتها عواطِفُهُ
وأكتب الصلح إذ نادته عن كَثَبِ
وحَلَّ منها بأُفْقٍ غير مُنْخَفِضٍ
للصاعدين وبرجٍ غير مُنقلِبِ
فتح الفتوح بلا مَيْنٍ وصاحبه
ملك الملوك ومولاها بلا كذِبِ
ومعجز كم أتانا منه مشبهة
فصار لا عجبًا من فضله العجبِ
تَهنَّ بالفتح يا أَوْلَى الأنامِ به
فالفتح إرثك عن آبائك النُّجُبِ
وافْخَرْ ففتحك ذا فَخْرٌ لمفتخرٍ
ذُخْرٌ لمُدَّخِرٍ كَسْبٌ لمُكْتَسِبِ
بك العواصم ذابت بعدما خَبُثَتْ
بمالكيها ولولا أنت لم تَطِبِ
فليت كل صباح ذر شارقه
فداء ليلِ فَتَى الفتيان في حَلَبِ
إني أُحِبُّ بلادًا أنت ساكنها
وساكنيها وليسوا من ذوي نسبي
إلا لأنك قد أَصْبَحْتَ مالِكَهَا
دون الأنام وهل حُبٌّ بلا سَبَبِ
فجود كفِّك ذُخري في يدي ويدي
وحب بيتك إرثي عن أبي فأبِي
أَلْهَى مَدِيحُكَ شِعْرِي عن تَغَزُّلِهِ
فجاء مُقْتَضَبًا في إِثْرِ مُقْتَضَبِ
فلم أقل فيه لا أن الصبابة لي
يوم الرحيل ولا أن المليحة بي١

فالشاعر بدأ قصيدته بأن الأتراك الأعاجم الذين منهم صلاح الدين انتصروا لمِلَّة العرب؛ أي للإسلام، وأن الإسلام انتصر بفضل صلاح الدين، وبفضل هذا الانتصار أصبحت وحدة مصر مع الشام وحدة حقيقية إذ صارت حلب جزءًا من مصر، وأصبحت مصر جزءًا من حلب. وهذان البيتان في مطلع القصيدة يدلان على ما كان يرمي إليه صلاح الدين من توحيد البلاد الإسلامية حتى يستطيع أن يلاقي بالبلاد المتحدة قوى الأجانب المستعمرين الذين طمعوا في البلاد الإسلامية لتفرق المسلمين، ثم يمضي الشاعر في وصف جيش صلاح الدين وقوة هذا الجيش وتأييد الله له.

أما الشاعر ابن النحَّاس المصري يحيي بن عَلَم المُلك فهو يمدح صلاح الدين بصورة أخرى، فهو يقول:

يا مالك المصر والشامين واليمَنِ
ويا معيد حياة الفَرْض والسُّنَنِ
وناصر الحق إذ عَزَّتْ خواذلُهُ
ومنقذ الدين والدنيا من الفتَنِ
يا يوسف الحُسن والإحسان لا برحَتْ
نجوم سعدك والتوفيق في قرنِ
جاد الملوك بمالٍ بعد مَنِّهِمُ
وجُدْتَ بالمال والأرزاق والمِنَنِ
لقد بُعِثْتَ لإصلاح الوجود فما
أصبحت إلا مَحلَّ الروح في البدن
وما يداجيك إلا كافر أشِرٌ
وينثني عنك إلا عابد الوثنِ
بباب عدلك مظلوم القوى زمِن
يشكو إليك الأذى من عبدك الزمنِ
وإن تلافته من بعد التَّلَاف يَدٌ
بسطتها لتقي الدين بالمِنَنِ
فلا عناء له إذ كان صاحبه
إليك مفتقرًا عن جودك الهتنِ
مُجَرَّبٌ في الوفا مملوك دولتكم
وحُسْن سيرته في السِّر والعلَنِ
هُنِّئْتَ بالفِطْر والفتح المبين وما
أتى من اليُمْن والبشرى من اليَمَنِ
مُقدم الملك المولى المعظم قد
سرى السرور إلى الأفهام والفِطنِ
علَّمت قومك تفريق الممالك في الـ
ـعبيد حتى غَدَتْ من جملة المُؤَنِ
فقد أتاك ومن أدنى سماحته
تخويل خادمه مُلْك ابن ذي يزنِ
لا زلت في ذروة العلياء منفردًا
بالنصر ما غرد العمري في فننِ٢

فابن النحَّاس المصري يمدحه بأنه مَلَكَ أكثر البلاد العربية، وأنه أحيى بها الدين الإسلامي الصحيح بفرائضه وسُننه، وأنه أنقذ الدين والدنيا من الفتن، ولكن الشاعر بالَغَ في مَدْحه، فذهب إلى أن صلاح الدين «بُعِثَ لإصلاح الوجود»، وأنه حَلَّ في البلاد «محل الروح بالبدن»، فكأنه جعل من صلاح الدين نبيًّا بُعِثَ لإصلاح الوجود، ولا أكاد أعرف شاعرًا من الشعراء مدح ملكًا من الملوك بمثل هذه المبالغة التي ذهب إليها شاعر مسلم في مدح ملك عَمِلَ لنصرة الإسلام، ومع أن الشاعر جعل صلاح الدين نبيًّا بُعِثَ، فإني لم أعرف أحدًا من رجال عصره أَخَذَ عليه هذه المبالغة، بل يذهب الشاعر إلى أنَّ جاحِد بَعْثَته كافر، والمُزْوَرُّ عنه عابد للوثن، وهي كلها من لون المبالغة التي جرى عليها شعراء أواخر العصر الفاطمي، ونَهَجَ نَهْجَهُم شعراء المدح في الدولة الأيوبية، ولا سيما الشعراء الذين ذهب المؤرخون إلى تسميتهم بمدرسة القاضي الفاضل، فأَخَصُّ ما تختص به هذه المدرسة هذه المبالغة الشديدة التي قد تذهب إلى حد المستحيل — على نحو ما سنذكره في حديثنا عن القاضي الفاضل ومدرسته — وكانت هذه المبالغة مُحَبَّبَةً، وشاد بها النقاد — ولا سيما الذين جاءوا بعد هذا العصر — فابن النحَّاس المصري ذَهَبَ هذا المذهب في مدح صلاح الدين.

ومن قصيدة الأسعد بن مماتي في مدح صلاح الدين يقول:

يا كريم الخِيم في الخَيِمِ
أهيفٌ كالرئم ذو شممِ
عجبي للشمس إذ طَلَعَتْ
منه في داجٍ من الظُّلَمِ
كيف لا تُصمي لواحظه
ورُماة الطرف في العجمِ
لا تَصِدْ قلب المحب لكم
ما يحصل الصيد في الحرمِ
يا صلاح الدين يا مَلِكًا
مُذ براه الله للأممِ
أضحت الكفار في نِقَمٍ
وغدا الإسلام في نِعَمِ٣

فالشاعر يشير إلى ما يعانيه الكفار من نقمة صلاح الدين، وما يرتع فيه المسلمون من نعيم.

وقال الشاعر أبو الفضل جعفر بن المفضل المعروف بشلعلع في مدح صلاح الدين أيضًا:

عداك إلى أعدائك الذل والقهْرُ
ولا زال مخصوصًا بك العز والنصْرُ
ودُمْتَ صلاحَ الدين للدين مُصلِحًا
يطيعك في تصريف أحوالك الدهْرُ
وأبقاك للإسلام مَنْ شاء كونه
ببقياك في أمر يجنبه الذعْرُ
مُفيضًا على الملك الأغر ملابسًا
من النصر حاكت نسجه القضب الخُضْرُ٤

فالشاعر يدعو لصلاح الدين بالدوام لصالح الدين الإسلامي، فالفكرة هي فكرة عُلُوِّ شأن الإسلام والمسلمين قبل كل شيء، ومثل هذا يقول الشاعر أبو الحسن بن الذروي:

شرحت لمتن الدين بالسُّمر والظبا
من المجد معنًى كان من قبل يُغْمِضُ
وما كاد جيش الروم يُبْرِمُ كَيْدَهُ
إلى أن سَرَتْ منك المهابة تَنْقُضُ
حَمَيْتَ ثغور المسلمين فأصْبَحَتْ
ثغورًا بأمواه الحديد تمضمضُ
أسَرْت ملوك الكفر حتى تَرَكْتَهُ
وما فيه عِرْق عن قُوَى النفس ينْبُضُ٥

وهكذا يستمر الشعراء في الإشادة بما أداه صلاح الدين إلى الدين الإسلامي، ثم انظر إلى ما قاله الشعراء في فتح القدس؛ إذ أظهر الشعراء في جميع أنحاء العالم الإسلامي فَرَحَهُم بانتصار المسلمين على الصليبيين، فشعورهم بهذا الفرح دليل على هذه الوحدة الإسلامية التي كان يعمل لها صلاح الدين، فمن ذلك قول نجم الدين يوسف بن المجاور:

الوقت أضيق من سماع قصيدةٍ
مرسومة لصفات أغيد أهيفِ
الجِد في هذا الزمان مُبِيَّنٌ
والهزل فيه مع الغواية مُخْتَفِ
بالناصر المهديِّ والهادي إلى
سُبل الجهاد أبي المظفر يوسفِ
شدَّت قوى أركان مِلَّة أحمد
وتجملت بجهاده في الموقفِ
مولًى غدا للدين أكرم والدٍ
حدب على أبنائه مترفرفِ
قد أَنْصَفَ التوحيد من تَثْلِيثِهِمْ
وأقام في الإنجيل حَدَّ المصحفِ
مَلِكٌ له في الحرب بَحْرُ تَفَقُّهٍ
وله غداة السِّلم زهد تصوفِ
وعليه أُنزل في الجهاد مفصَّلٌ
فلذاك يقرأه بسبعة أحرفِ
أحييت دين محمد وأقَمْتَه
وسترْتَه من بعد طول تكشُّفِ
جاءت جنود الله تطلب ثأرها
وصدورها بل عن قليلٍ تشتفي
فانهض بها وتقاضَ حقك موقنًا
أن الإله بما تؤمله حفي
هم فتية الأتراك كل مجفجفٍ
يغشى الكريهة فوق كل مجفجفِ
قوم يخوضون الحِمام شجاعةً
لا ينظرون إليه من طرفٍ خفِي
أنت اصطفيتَهُمُ لنُصرة ديننا
للَّه دَرُّ المصطفَى والمصطفِي٦

فالشاعر في هذه المقطوعة يكرر نفس الفكرة التي غَمَرَت المسلمين في هذا العصر، وهي فكرة نصر الإسلام وإعلاء شأنه بعد أن ضَعُفَ بسبب تفرق المسلمين، وتذهب به المبالغة إلى أنه أُنزِل عليه القرآن في الجهاد، وأن الممدوح يقرأ هذا الكتاب المُنزل بسبعة أحرف، ثم أشار إلى جنود صلاح الدين من الأتراك الذين اختارهم لهذا الجهاد في سبيل الله.

ثم اقرأ قصيدة الشريف الجواني محمد بن أسعد النسابة المصري:

أترى منامًا ما بعيني أُبصِرُ
القدس يُفتح والفرنجة تُكْسَرُ
وقمامةٌ قمت من الرجس الذي
بزواله وزوالها يتطيرُ
ومليكهم في القيد مصفودٌ ولم
يُرَ قبل ذاك لهم مَلِيكٌ يؤسرُ
قد جاء نصر الله والفتح الذي
وَعَدَ الرسولُ فسبِّحوا واستغفِروا
فَتَحَ الشآم وطَهَّرَ القدس الذي
هو في القيامة للأنام المحْشَرُ
مَنْ كان هذا فَتْحُه لِمحمدٍ
ماذا يقال له وماذا يُذكر
يا يوسف الصديق أنت لِفَتْحِها
فارُوقُها عُمَرُ الإمامُ الأطهرُ
ولَأَنْت عثمان الشريعة بعده
ولأنت في نصرِ النبوة حيْدَرُ
مَلِكٌ غَدَا الإسلام من عجبٍ به
يختال والدنيا به تتبخْتَرُ
نَثْر ونَظْم طَعْنه وضِرابه
فالرمح يَنْظم والمهند ينثرُ
حيث الرقاب خواضعٌ حيث العيو
ن خواشعٌ حيث الجباه تُعَفَّرُ
غاراته جَمْعٌ فإن خَطَبَتْ له
فيها السيوف فكل هامٍ مِنْبَرُ
إذ لا ترى إلا طلى بسنابك
تحذى نعالًا أو دماء تُهْدَرُ
وصوافنًا تختار أن تطأ الثرى
فيصدها عنه طلى وسنورُ
تمشي على جُثَثِ العِدا عَرِجًا ولا
عَرَجٌ بها لكنها تتعَثَّرُ٧

فالشاعر هنا يرى أن حقيقة فتح القدس وانتزاعه من أيدي الصليبيين حلم من الأحلام، وأن كنيسة القمامة سيزال عنها الرجس، وأن مليك الصليبيين قد أُخِذَ أسيرًا وقُيد بالأصفاد بعد أن كان الشعور السائد بين المسلمين أن ملوك الصليبيين على قسط كبير من الشجاعة، فلم يقع أحدهم في الأسر من قبل، وأن هذا النصر الذي أحرزه المسلمون هو «نصر الله والفتح» الذي وُعِدَ به الرسول صلوات الله عليه، ومن الطريف أن يَعْرِض الشاعر لهذه القصة الشعبية التي تقول: إن القدس هو المكان الذي سيُحشر فيه الناس يوم القيامة. ثم شاء الشاعر أن يصف صلاح الدين الذي تَمَّتْ على يديه هذه الفتوحات فهو يوسف الصديق، وهو «عمر بن الخطاب»، وهو «عثمان بن عفان»، وهو «عليُّ بن أبي طالب»؛ أي أنه جمع صفات الخلفاء الراشدين الذين على يديهم امتدت الفتوحات الإسلامية وحافَظوا على الأمانة التي حُمِّلُوها في العمل بالكتاب والسُّنة. ثم أخذ في وَصْف طعناته في الأعداء ووَصْف جيشه، ولكن الصورة التي تعجبني حقًّا هي أنه جعل «الرمح ينظم والمهند ينثر»، فهذه الاستعارة أن الرمح ينظم القتلى كما ينظم الشاعر قصيدته، والمهند ينثر الدماء كما ينثر الكاتب كتابته، تدل على خيال خالق يؤلِّف بين الصور المختلفة، ويَظْهَر فَنُّه في مثل هذا البيت، ويُخَيَّل إليَّ أن هذه الصورة جديدة لم يُسبق إليها.

واقرأ للشاعر فخر الكُتاب أبي عليٍّ الحسن بن عليٍّ الجويني قصيدته التي أرسلها من مصر بعد فتح القدس، يقول:

جُند السماء لهذا المُلْك أعوانُ
مَنْ شك فيهم فهذا الفتح برهانُ
متى رأى الناس ما يحكيه في زمنٍ
وقد مَضَتْ قَبْلُ أزمانٌ وأزمانُ
هذا الفتوح فتوح الأنبياء وما
له سوى الشكر بالأفعال أثمانُ
أضْحَتْ ملوك الفرنج الصيْدَ في يدِهِ
صيدًا وما ضَعُفُوا يومًا وما هانوا
كم من فُحُولِ مُلُوكٍ غودروا وَهُمُ
خوْف الفرنجة ولدانٌ ونسوانُ
استصرخت بملكشاه طرابلس
فحام عنها وصُمت منه آذانُ
هذا وَكَمْ مَلِكٌ من بعده نَظَرَ الـ
ـإسلام يُطوى ويُحوى وَهْو سكرانُ
تِسْعُون عامًا بلادُ الله تصْرُخُ والـ
ـإسلام أنصاره صُمٌّ وعميانُ
فالآن لَبَّى صلاحُ الدين دَعْوَتَهُمْ
بأمر مَنْ هو للمِعوان مِعوانُ
للناصر ادُّخِرت هذي الفتوح وما
سَمَت لها هِمم الأملاك مُذْ كانوا
حباه ذو العرش بالنصر العزيز فقا
ل الناس داودُ هذا أم سُليمانُ؟
في نصف شهرٍ غدا للشرك مصطلمًا
فطُهِّرت منه أقطارٌ وبلدانُ
فأين مَسْلَمَةٌ عنها وإخوتُهُ؟
بل أين وَالِدُهُمْ؟ بل أين مَرْوَانُ؟
وعَدِّ عما سواه فالفرنجة لم
يُبِدْهُمُ من ملوك الأرض إنسانُ
لو أن ذا الفتح في عصر النبي لقد
تَنَزَّلت فيه آياتٌ وقرآنُ
يا قُبْحَ أوجه عُبَّاد الصليب وقد
غدا يبَرْقِعُهَا شؤمٌ وخِذْلَانُ
خَزَنْت عند إله العرش سائرَ ما
مَلَكْته وملوك الأرض خَزَّانُ
فالله يُبْقِيك للإسلام تَحْرُسُهُ
من أن يُضام ويُلفى وَهْوَ حيرانُ
وهذه سُنَّة أكرِم بها سُنَّةً
فالكفر في سِنَة والنصر يقظانُ
يا جامعًا كِلْمة الإيمان، قامع مَنْ
معبودُهُ — دون رب العرش — صُلْبَانُ
إذا طوى الله ديوانَ العباد فما
يُطوى لأجْرِ صلاح الدين ديوانُ٨

فانظر إلى ثورة هذا الشاعر النفسية التي تُظهر فرحه لهذا النصر، فهو يهجم على موضوعه منذ أول بيت بأن جند السماء أعوان لهذا الملك الذي تم على يديه الفتح، وأنه لا يشك مطلقًا في ذلك؛ لأن هذا الفتح أكبر برهان يقدمه، وفي البيت الثاني يريد أن يقول: إن هذا الفتح معجزة، وأنه فَتْح أشبه بفتوح الأنبياء، وبعد أن تحدث عن ما آل إليه ملوك الفرنج وأن هؤلاء الملوك الصِّيَّد أصبحوا صَيْدًا، ثم أخذ ينعي على ملوك المسلمين السابقين الذين ضَعُفوا أمام الصليبيين ولم يُلبُّوا دعوة المستصرخين، بل خافوا، وصُمَّتْ آذانهم، وكل ملك منهم تَهَالَكَ على لَذَّاته، أما الآن فقد انقلب الأمر، ولَبَّى صلاح الدين صرخة المكلومين؛ حتى غالى هذا الشاعر في حديثه عن هذا الفتح، فذهب إلى أنه لو كان في عهد النبي لأُنزِلت فيه آيات وقرآن، والظاهر في هذه المقطوعة هذه العاطفة الدينية التي سيطَرَتْ على كل مسلم في تلك السنوات في جميع الأقطار الإسلامية، وهو ما عَبَّرْنا عنه بالشعور بالقومية الإسلامية.

وهكذا كانت حروب صلاح الدين مثارًا لشعر الشعراء الذين لم يَمْدَحوا صلاحَ الدين طلبًا في النوال فحسب، إنما مدحوه لهذه الناحية الدينية التي طَغَتْ على كل المسلمين، وكانت تعبيرًا صادقًا عن شعورهم بضرورة الوحدة الإسلامية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان صلاح الدين يحب الشعر ويحب العلماء، وجَمَعَ حوله عددًا كبيرًا من الشعراء والعلماء كانوا يلازمونه في أكثر الأحيان، ولا ننسى أن صلاح الدين أنشأ عدة مدارس لإعادة مذهب أهل الجماعة والسُّنة في مصر، فقد عَمَرَ مدرسة بجوار الإمام الشافعي وأخرى بجوار مسجد الحسين بالقاهرة، وبنى للشافعية المدرسة التي عُرِفت بابن زين التجار، كما جعل دار عباس الوزير الفاطمي مدرسةً للحنفية، ودار سعيد السعداء خانقاة للصوفية، وبنى بالقصر داخل القاهرة بيمارستان وأوقف على ذلك كله أوقافًا جيدة.٩

وعلى هذا النحو كان صلاح الدين ذا أثر على الناحية العقلية بجانب أثره في الناحية الأدبية، وقد وَجَدَ الشعراء في مآثر صلاح الدين مجالًا واسعًا للحديث عنه وعن مآثره. جاء صلاح الدين مصر ودولة الشعراء مزدهرة، والشعراء المصريون وإخوانهم الشاميون على درجة من الرقي الأدبي — مما تحدثنا عن شيء منه في كتاب أدب مصر الفاطمية — واستمر تيار هذا الشعر القوي في عهد صلاح الدين، فقد شاهد هذا العصر (عصر صلاح الدين) عددًا من كبار الشعراء أمثال: القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن عرام، وابن رفاعة، وابن مماتي، وابن الذروي، وابن المنجم وغيرهم، هؤلاء كونوا البلاط الأدبي الفني الذي نجده في عهد صلاح الدين. وإذن فإن نهضة الشعر التي رأيناها في أواخر العصر الفاطمي استمرت ولم تنقرض بانقراض الدولة الفاطمية، بل لا أغالي إن قلت: إنها ازدادت قوةً بفضل شخصية صلاح الدين، وبفضل هذه النواحي المتعددة التي عُرِفَ بها صلاح الدين. ولعل من الدوافع التي قَوَّتْ تيار الشعر في ذلك العصر وجود شخصية القاضي الفاضل على رأس الوزارة المصرية، والقاضي الفاضل من أبرز الشخصيات في توجيه الشعر إلى هذا اللون الفني، كما كان له أثره في جمع الشعراء حول صلاح الدين، فهو الذي قدم العماد الأصفهاني واستكْتَبَهُ، كما وَفَدَ ابن الساعاتي، وعرقلة، والعَلَم الشاتاني، وأبو عليٍّ الجويني وغيرهم على مصر، وانضموا إلى زُمرة شعرائها، فأصبحت القاهرة حاضِرَةَ الشعر العربي في ذلك العصر، وملجأَ الشعراء من جميع الأقطار الإسلامية، وكان الموضوع الرئيسي الذي اشترك فيه هؤلاء الشعراء جميعًا هو موضوع الوحدة الإسلامية، والشعور بعزة الإسلام ورَفْع شأنه والدفاع عنه. وإذن فقد ظَهَرَ في العصور الوسطى لون من ألوان الفكرة القومية بين المسلمين جميعًا، مما كان لها خطرها في التاريخ الإسلامي، فبفضل هذه الوحدة والشعور القوي بها انهزم الصليبيون وتركوا إماراتهم في الشام، كما انهزم التتار بعد ذلك.

ولكن بكل أسف لم يستطع خلفاء صلاح الدين أن يحافظوا على هذه السياسة التي وضعها مؤسِّس دولتهم، بل تفرقوا وتشاحنوا، وعادوا إلى الانقسام مثل ما كان الأمر عليه من قبل، فضَعُفوا وهانوا، واستطاع الصليبيون أن ينْشَطُوا مرة أخرى بعد أن رأوا الضعف يدب بين ملوك المسلمين بسبب انقسامهم وتفَرُّق كلمتهم، بحيث اضطر الملك المعظم عيسى صاحب دمشق إلى تخريب بيت المقدس سنة ٦١٦ هجرية، وهنا أترك أبا المحاسن يحدثنا عن هذه المأساة: ووَقَع في البلد ضجة عظيمة، وخرج النساء المخدرات، والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة والأقصى، وقطعوا شعورهم، ومزقوا ثيابهم، وفعلوا أشياء من هذه الفعال، ثم خرجوا هاربين، وتركوا أموالهم وأهاليهم، وما شَكُّوا أن الفرنج تُصَبِّحهم، وامتلأت بهم الطرقات؛ فتوجه بعضهم إلى مصر، وبعضهم إلى الكَرَك، وبعضهم إلى دمشق، وكانت البنات المخدرات يمزِّقْن ثيابهن ويربطنها على أرجلهن من الحفا، ومات خلق كثير من الجوع والعطش، ونُهِبت الأموال التي كانت لهم بالقدس، وبَلَغَ ثمن القنطار الزيت عَشَرَةَ دراهم، والرطل النحاس نصف درهم، وذَمَّ الناسُ المُعَظَّمَ، فقال بعض أهل العلم في ذلك:

في رجب حلل الحميا
وأخرب القدس في المحرم

وقال القاضي مجد الدين محمد بن عبد الله الحنفي قاضي الطور في خراب القدس:

مررت على القدس الشريف مُسَلِّمًا
على ما تبقى من ربوعٍ كأنجمِ
ففاضت دموع العين مني صبابةً
على ما مضى مِنْ عَصْرنا المتقدمِ
وقد رام علْج أن يُعَفَّى رسومه
وشَمَّرَ عن كَفَّيْ لئيمٍ مُذممِ
فقلت له: شُلَّتْ يمينُكَ خَلِّها
لمُعتبرٍ أو سائلٍ أو مُسَلِّمِ
فلو كان يُفدى بالنفوس فَدَيْتُه
بنفسي وهذا الظن في كل مُسْلِمِ١٠

فالشاعر مجد الدين الحنفي يبكي على تلك الأيام التي انتصر فيها الإسلام والمسلمون، ويُظْهِر أَلَمَه الدفين لما حَلَّ بالقدس، وأنه تمنى لو فدى القدس بنفسه، وليس هذا شعورَه فحسب، بل هو شعور كل مُسْلِم. والواقع أن شعور المسلمين جميعًا — وهو شعور الوحدة الإسلامية — بخلاف الحكام، فقد كانوا مختلفين؛ هذا الشعور نجده واضحًا في القصيدة السابقة، ثم نراه واضحًا في هذا الشعور الذي ساد العالم الإسلامي عندما تنازل الملك الكامل عن بيت المقدس للإمبراطور فردريك الثاني، وكيف أن ابن أخيه الملك الناصر صاحب دمشق جَمَعَ مجلسًا بجامع المدينة، وخطب في هذا المجلس الحافظ شمس الدين سبط ابن الجوزي؛ ما جعل الناس يضجون بالبكاء والعويل، وفي هذه الحادثة أنشد الشاعر ابن المجاور قصيدته التي منها:

أَعَيْنَيَّ لا تَرْقَيْ من الْعَبَرَاتِ
صِلِي في البُكا الآصالَ بالبُكُراتِ
لعل سيول الدمع يُطفئ فيْضُها
تَوقُّد ما في القلب من جمراتِ
ويا قلبُ أسعر نار وجْدك كُلَّما
خبَتْ بادِّكَارٍ يبعث الحسراتِ
ويا فَمُ بُحْ بالشجو منك لعله
يُرَوِّح ما ألقى من الكُرُباتِ
على المسجد الأقصى الذي جَلَّ قَدْرُه
على موطن الإخبات والصلواتِ
على منزل الأملاك والوحي والهدى
على مشهد الأبدال والبدلاتِ
على سُلَّم المعراج والصخرة التي
أنافت بما في الأرض من صخرات
على القِبلة الأولى التي اتَّجَهَتْ لها
صلاة البَرِيَّا في اختلاف جِهَاتِ
وما زال فيه للنبيِّين مَعْبَدٌ
يوالون في أرجائه السَّجَدَاتِ
عفى المسجد الأقصى المبارك حوْلَهُ الـ
ـرفيع العماد العالي الشُّرفاتِ
لتبكي على القدس البلادُ بأَسْرِها
وتعلن بالأحزان والترحاتِ
لتبكي عليها مكةٌ فَهْي أُخْتُها
وتشكو الذي لاقت إلى عَرَفَاتِ
لتبكي على ما حَلَّ بالقدس طَيْبَة
وتشرحه في أكرم الحُجُراتِ
لقد أشمتوا عَكَّا وصُورَا بِهَدْمِهَا
ويا طالما غادتْهُما بشماتِ
لقد شتتوا عنها جماعة أهلها
وكل اجتماع مُؤذن بشتاتِ
وقد هَدَّموا مجد الصلاح بهدمها
وقد كان مجدًا باذِخَ الغرفاتِ
وقد أخمدوا صوتًا وصِيتًا أثارَهُ
لهم عظم ما والَوْا من الغزواتِ
أما عَلِمَتْ أبناءُ أيوبَ أنهم
بمسعاته عُدوا من السرواتِ
وإن افتتاح القدس زهرة ملكهم
وهل ثَمَرٌ إلا من الزهرات

لعل هذه القصيدة تُغْنِي عن كل تعليق أو حديث عن ما ساد العالم الإسلامي من حزن دفين، وما سكبوه من دموع، وكيف عَبَّر الشاعر الأيوبيين بأن فتح القدس كانت سبب ثروتهم ومركزهم في البلاد الإسلامية، أما وقد سَلَّمَ الملك الكامل القدس مرة أخرى إلى الصليبيين فكل ما فعله صلاح الدين وكل ما قامت به أسرة بني أيوب قد ضاع هباء.

ثم نرى هذا الشعور أيضًا عندما حاول الملك لويس التاسع فتح مصر، وما قاله الشاعر ابن المطروح في قصيدته المشهورة التي فيها يقول:

قل للفرنسيس إذا جِئْتَهُ
مَقالَ صدقٍ من قَئُولٍ فصيحْ
آجرك الله على ما جرى
من قَتْل عُبَّاد يسوعَ المسيحْ
أتيتَ مصر تبتغي مُلكها
تحسب أن الزمر يا طبل ريحْ
فساقك الحين إلى أدهم
ضاق به عن ناظريك الفسيحْ
وكل أصحابك أَوْدَعْتَهُمْ
بحُسن تدبيرك بطْنَ الضريحْ
خمسون ألفًا لا ترى منهُمُ
إلا قتيلًا أو أسيرًا جريحْ
وَفَّقَكَ الله لأمثالها
لعل عيسى مِنْكُمُ يستريحْ
إن كان بَابَاكُمْ بذا راضيًا
فرُبَّ غشٍّ قد أتى مِنْ نَصِيحْ
وقل لهم إن أضمروا عودةً
لِأَخْذ ثأرٍ أو لِعَقْد صحيحْ
دار ابن لقمانٍ على حَالِها
والقيد باقٍ والطواشي صبيح

فبعد انهزام الملك لويس التاسع في مصر شاء أن ينتقم من المسلمين بفتح تونس، فقال أحد شعرائها:

يا فرنسيس هذه أخْتُ مِصْرَ
فتَأَهَّبْ لما إليه تَصِيرُ
لك فيها دار ابنِ لقمانَ قَبْرَا
وطواشيك مُنْكَرٌ ونَكيرُ١١

فتعبير الشاعر أن تونس أخت مصر هو تعبير دقيق للوحدة الإسلامية التي رَبَطَت الشعوب؛ بغض النظر عن تصرف الأمراء والحكام، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُفرِّق الملوكُ أو الرؤساء الشعوبَ الإسلامية أو العربية، فاتحاد هذه الشعوب حقيقة واقعة منذ عهد بعيد؛ بحيث خالطت دماءهم وحلت مع الروح في أجسامهم، فأي محاولة لتمزيق هذه الوحدة لون من ألوان العبث الذي يدل على قِصَرِ نظر المحاولين، كما يدل على الجهل بالحقيقة التاريخية وعَدَم فَهْم نفسية الشعوب العربية والإسلامية.

١  ديوان ابن سناء الملك، ص٩ وما بعدها، نشر الدكتور عبد الحق، طبع دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد بالهند.
٢  العماد الأصفهاني: خريدة القصر، ج٢، ص١٢٢.
٣  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٢٧٠.
٤  العماد: الخريدة، ج٢، ص١٢٥.
٥  أبو شامة: الروضتين، ج٢، ص٨٢.
٦  أبو شامة: الروضتين، ج٢، ص١٠٤.
٧  أبو شامة: الروضتين، ج٢، ص١٠٥.
٨  أبو شامة: الروضتين، ج٢، ص١٠٤.
٩  أبو المحاسن: النجوم الزاهرة، ج٦، ص٥٤.
١٠  أبو المحاسن: النجوم الزاهرة، ج٦، ص١٤٤.
١١  المقريزي: السلوك، ج١، قسم ثانٍ، ص٣٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤