مدارِس الشعر

رأينا في دراستنا للشعر في العصر الفاطمي أن الشعراء كانوا موزَّعين بين اتجاهات فنية مختلفة، وكل جماعة اتخذوا مذهبًا في الفن يختلف عن مذهب الجماعة الأخرى، مما جَعَلَنَا نقسمهم إلى مدارس فنية كان أبرزها:

(١) مدرسة شعراء العقائد

وهؤلاء هم شعراء المدح الذين ظَهَرَتْ في أشعارهم المصطلحات والعقائد الفاطمية، واستخدموا ذلك كله في مدح الأئمة، مما جعل شعراء هذه المدرسة تتمايز بتلك الصفة الخاصة عن غيرهم من شعراء العصر، كانوا مضطرين إلى أن يلائموا بين هذه المصطلحات وبين الألفاظ الضخمة التي استخدَموها في شعرهم؛ فجاء شعرهم فيه من غريب المصطلحات ومن غريب الألفاظ ما أدى أحيانًا إلى شيء من التعقيد، وإلى أن يكون كلامهم أقْرَبَ إلى النظم في أغلب الأحيان. استمرت هذه المدرسة بعد العصر الفاطمي — أي في عصر الأيوبيين — بالرغم من أن الشعراء لم يكونوا من الشيعة، وأن الممدوحين لم يكونوا أئمة الشيعة — على نحو ما أَظْهَرْنَا ذلك في فصل الشعر والتشيع وفصل الشعر والتصوف من هذا الكتاب — فالعقائد الفاطمية استمرت مصطلحاتها في شعر المدح، غير أن مدلولاتها تحولت وتطورت إلى غير ما كانت تُعْرَف به في عصر الفاطميين، والشعراء الذين تحدثوا بهذه المصطلحات خضعوا لنفس المؤثرات الفنية التي كانت عند الشعراء الفاطميين — وقد تحدثنا عن ذلك بما فيه الكفاية — غير أن شعراء هذه المدرسة في العصر الأيوبي كانوا قِلَّة ولم يختصوا بتلك المدرسة، ولم يوقفوا شعرهم على هذا النحو من الفن، إنما كانوا يُلِمُّون بخصائص هذه المدرسة إلمامًا هيِّنًا على نحو ما رأيناه عند ابن النبيه وابن سناء الملك وغيرهما.

(٢) مدرسة الرقة والسهولة

وهي تلك المدرسة التي تُعتبر في العصر الأيوبي امتدادًا وتطورًا للفن الذي يلائم الحياة المصرية والبيئة المصرية، وكانت تضم أكثر الشعراء في ذلك العصر، فالبيئة المصرية الطبيعية بيئة سهلة لينة، ليس بها التعقيدات التي للبيئات الأخرى، فالأرض منبسطة ليس بها ارتفاعات وانخفاضات، وليس عندنا الأعاصير والزوابع التي في البلاد الأخرى، ويَسَّرَ نهر النيل مشكلة الري والزرع، مما جَعَلَ المصري يميل إلى السهولة في كل شيء، ويكْلَف بما هو لين رقيق، ولذلك كان فن القول في مصر — سواء أكان شعرًا أم نثرًا — يتجه إلى هذا الاتجاه الذي يُحِبُّه المصريون، وهو الاتجاه إلى السهولة والرقة. وقد ظهر هذا الاتجاه واضحًا جليًّا في شعر مصر منذ العصر العباسي، وظَهَرَ ظهورًا لافتًا في عصر الفاطميين؛ حيث كان أكثر شعراء هذا العصر يتبعون هذا المذهب المصري الخالص. وجاء العصر الأيوبي فاستمر تيار هذا المذهب في قوة وعنف؛ بحيث كاد جميع شعراء هذا العصر يتبعون تلك الطريقة في فنهم، فالألفاظ لينة لم يَعْرِفْها الشعراء أصحاب الألفاظ الجزلة الفخمة، وبحور الشعر مجزوءة أو قصيرة، ولا يظهر في فنهم أي لون من ألوان التكلف، وقَلَّ أن نجد ألوان الزينة اللفظية إلا ما جاء للتظرف، فشعرهم صادر عن طبعهم، ويجري على ألسنتهم وكأنهم يغرفون من بحر. وأكثر شعراء هذه المدرسة من الغَزَليِّين، حتى إن مذهبهم عُرِفَ في العصر الأيوبي بالطريقة الغرامية.١

فقد اهتم شعراء هذه المدرسة اهتمامًا خاصًّا بالمقدمات الغَزَلية في قصائدهم التي قصدوا بها إلى موضوعات الشعر المختلفة، كما أكثروا من الغَزَل وأطالوا فيه، وقد رأى أصحاب الطريقة الغرامية تناسُب شطري بيت الابتداء، فإن كان الشطر الثاني من مطلع القصيدة ليس من جنس الشطر الأول اعتُبِرَ ذلك الطريق الغرامي. ويروى أن ابن سعيد المغربي في زيارته لمصر اجتمع بالبهاء زهير وسأله أن يرشده السبيل إلى الطريقة الغرامية هذه، فوجهه البهاء لقراءة بعض دواوين الشعراء على أن يراجعه بعد ذلك، فغاب ابن سعيد مدة أكثر فيها من قراءة هذه الدواوين إلى أن حَفِظَ أغْلَبها، ثم اجتمع بعد ذلك بالبهاء زهير وتذاكَرَا في الغراميات، وفي غضون حديثهما أنشد البهاء:

يا بان وادي الأجرع
… … … …

وقال: أشتهي أن يُكْمَلَ هذا المطلع، ففكر ابن سعيد قليلًا ثم قال:

… … … …
سقيت غيث الأدمع

فقال البهاء: والله حسن، ولكن الأقرب إلى الطريق الغرامي أن تقول:

… … … …
هل مِلْتَ مِنْ طَرَبٍ مَعِي٢

فأنت ترى كيف جعل البهاء زهير الشطر الثاني من البيت ليس من جنس الشطر الأول، ثم لعلك لاحَظْتَ هذه الألفاظ الرقيقة اللينة التي تألف منها البيت بشطريه. وعلى هذا النحو سار شعراء مدرسة الرقة والسهولة في العصر الأيوبي على نفس النحو الذي كان يسير عليه شعراء هذه المدرسة في العصر الفاطمي، بل ازدادت رِقَّتُهم وسهولتهم، حتى وهم بعض الباحثين إلى أن شِعْرَهم هو شعْرٌ شعبي مليء بالألفاظ العامية. والحقيقة أننا لا نجد لفظة عامية واحدة في هذه المجموعة من الأشعار التي حُفِظت لنا عن هذا العصر، ولكن سهولة ألفاظ الشعر جَعَلَت الباحثين يتوهمون هذا الوهم ويدَّعون الشعبية في شعر البهاء زهير وغير البهاء زهير. وشعراء هذه المدرسة تحدثوا في جميع الموضوعات التي عَرَفَها الشعر، فها هو البرهان إبراهيم بن الفقيه المتوفى سنة ٦٤٠ﻫ يقول:

وا لَهْفَ نفسي ووا وَجْدِي ووا حزني
ممن أُلاطفه جهدي ويتعبنِي
بذلت روحِيَ في أدنى تواصله
ذُلًّا وصبرًا وعطفًا وَهْوَ يهجرنِي
وكلما رُمْتُ منه ما أهز به
عطف السرور انْزَوَى عني وأحزنَنِي
وكيف أَطْمَعُ منه في الوصال وقَدْ
أضحى وأمسى إزائي لا يكلمنِي
يا مَنْ أَحَلَّ دمي رفقًا فقد فَعَلَتْ
ألحانُ عينيك فِعْلَ الصارم اليمنِي
اللهَ في مهجةٍ أتلفتها كمدًا
بادِرْ بوصلٍ وإلَّا ليس تدركنِي
هذي حياتيَ وافت للوداع فقُلْ
مولاي ماذا به عيناك تأمرنِي٣

فلعلك تلاحظ كيف لانت ألفاظ هذه المقطوعة وسَهُلَت، حتى كأن الشاعر إنما يتحدث حديثًا عاديًّا بألفاظ اعتادها كل يوم، مع ما في المقطوعة من موسيقى أتت من اختيار تلك الألفاظ اللينة واستعمالها هذا الاستعمال الفني الخاص. ثم إننا لا نجد في هذه المقطوعة من التلاعب اللفظي ما يدل على أن الشاعر أراد الصنعة، فجرى الشعر سهلًا بسيطًا على هذا النحو. ومن هؤلاء الشعراء أمين الدين بن أبي الوفاء المشهور بابن العصار، وكان من شعراء الملك الكامل بن العادل، فهو يقول مثلًا في إحدى مقطوعاته:

أعندكم أن قلبي
مُتيمٌ مُستهام
الصبر إلا عليكم
في كل حالٍ حرام
لا أَوْحَشَ الله منكم
فقُربكم ما يُرام
يا سادتي مُذ نَأَيْتُمْ
لم يدنُ مني المنام
لا عَيْشَ لا عَيْشَ حتى
تلوح تلك الخيام
إن طال ذا الهجر منكم
على الحياة السلام٤

في هذه المقطوعة نرى عاطفة الشاعر الرقيقة تنبعث من هذه الألفاظ السهلة الرقيقة، مما يجعل لها وقعًا خاصًّا في كل قلب، كما تلذ لها الأُذن لِمَا فيها من موسيقى.

وقال هبة الله بن عرام:

يا لائمي في غزالٍ
قلبي رَهِينُ يديهِ
لا تطْمعَنْ في سُلُوِّي
فلا سبيلَ إليهِ
كم لامَنِي فيه قومٌ
وعَنَّفُونِي عليه
حتى إذا أبْصَرُوهُ
خروا سجودًا لَدَيْهِ
فاحْفَظْ فؤادك فالْمَو
تُ في ظبي مُقلتَيْهِ٥

وها هو الشاعر النفيس — وهو أبو العباس أحمد بن أبي القاسم المتوفى سنة ٦٠٣ﻫ — يقول في مقطوعة له يمدح بها الأمير جلدك والِيَ دمياط:

قُل للحبيب أطَلْتَ صَدَّكْ
وجعلت قتلي فيك وكدكْ
إن شئت أن أسلو فَرُدَّ
عليَّ قلبي فهو عندَكْ
أخْلَفْت حتى في زيا
رتنا بطيفٍ منك وعدَكْ
وأنا عليك كما عهدْ
ت وإن نقضْتَ عليَّ عهْدَكْ
أحرقت يا ثغر الحبيـ
ـب حشاي لما ذُقت بردَكْ
وشهدت أني ظالم
لما طلبت إليك شهدَكْ
أتظن غُصن البان يُعـْ
ـجبني وقد عايَنْتُ قَدَّكْ
أم يَخْدَعُ التفاحُ أَلـْ
ـحاظي وقد شاهَدْتُ خَدَّكْ
لا والذي جعل الهوى
مولاي حتى صِرْتُ عبْدَكْ
يا قلب مَنْ لانت معا
طِفُهُ علينا ما أَشَدَّكْ
أتظنني جَلد الهوى
أو أن لي عزمات جَلْدَكْ٦

لعل أهم ما يلفت النظر في هذه المقطوعة رقة ألفاظها، وحُسن التخلص إلى الغرض من القصيدة وهو مدح الأمير جلدك، فقد وُفِّقَ الشاعر إلى ذلك توفيقًا يدعو إلى الإعجاب بفنه.

وأصحاب هذه المدرسة اتخذوا لأنفسهم المقطوعات القصيرة بدلًا من القصائد الطويلة، لذلك نرى أكثر الشعر الأيوبي الذي قاله شعراء الرقة والسهولة من نوع المقطوعات، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا يُنْشِدون لأنفسهم ولأصدقائهم في مناسبة خاصة من المناسبات التي يريدون بها تسجيل عاطفتهم وشعورهم، فتركوا طريقة الشعر التقليدي القديم — أي هذا الشعر الذي كان يُنشَد للملوك والأمراء في حفلات أو في البلاط — ولهذا لم يجدوا ضرورة إلى أن ينشدوا المطولات واكتفوا بهذه المقطوعات. وأكبر دليل على ذلك أن الشاعر البهاء زهير كان من شعراء مدرسة الرقة والسهولة، ولكنه عندما كان يمدح، وكان مضطرًّا أحيانًا إلى أن يتخذ الطريقة التقليدية القديمة، ويطيل في قصائده، ويتخذ في كثير من الأحيان التفاعيل الطويلة، وهنا تظهر شخصية الفنان المُقلِّد الذي يختلف في أكثر الأحوال عن شخصية الشاعر المطبوع الذي يَصْدُر فَنُّه عن وَحْيه وإلهامه لا عن تقليد وتَصَنُّع. فمن أمثلة قول البهاء في الرقة هذه المقطوعة — وما أكثر مقطوعاته التي تدل على ما نريد:

أرى قومًا بُلِيتُ بِهِمْ
نصيبي مِنْهُمُ نصبي
فمنهم مَنْ ينافِقُ لي
فيحلف لي ويكذبُ بي
ويُلْزِمُني بتصديقِ الَّـ
ـذي قَدْ قال من كَذِبِ
وذو عجبٍ إذا حَدَّثـْ
ـتُ عنه جئْتُ بالعجبِ
وما يدري بحمد الله
ما شعبان من رجبِ
وما أبْصَرْتُ أحمق منـ
ـهُ في عجمٍ ولا عربِ
وأحمق قد شَقِيتُ به
بلا عقلٍ ولا أدبِ
فلا ينفك يَتْبَعُنِي
وإن أمعنت في الهربِ
كأني قد قَتَلْتُ له
قتيلًا فَهْو في طلبِي
لأمرٍ ما صَحِبْتُهُمُ
فلا تسأل عن السببِ
يحسب عقلنا أَنَّا
نصيد الباز بالحربِ
وكنا قد ظننا الصفـ
ـر عند النقد كالذهبِ
فلم نظفر بحاجتنا
وأشفينا على العطبِ
رَجَعْنَا مثل ما رُحْنَا
ولم نَرْبَحْ سوى التعبِ٧

فلعل هذه المقطوعة التي تدخل في باب الانسجام عند أصحاب البديع، تَدُلُّنا على مدى رقة هذا الشاعر وسلاسته، وكيف سَهُلت تراكيبه وعَذُبت ألفاظه، فالبهاء زهير أحد الذين عُرِفوا بهذا اللون من الشعر عند القدماء وعند المحدثين، واقرأ له مرة أخرى هذه المقطوعة:

تعيش أنت وتبقَى
أنا الذي مُتُّ عِشْقَا
حاشاك يا نورَ عيني
تلقى الذي أنا أَلْقَى
قد كان ما كان مني
والله خيرٌ وأَبْقَى
ولم أَجِدْ بين موتي
وَبَيْنَ هَجْرِك فَرْقَا
يا أَنْعَمَ الناس قُل لي
إلى متى فيكَ أشقَى
سَمِعْتُ عنك حديثًا
يا رَبِّ لا كان صِدْقَا
حاشاك تنقُضُ عهدي
وعروتي فيك وُثْقَى
فما عَهِدْتُكَ إلا
مِنْ أَكْرَم الناس خُلْقَا
يا ألْف مولاي أهلًا
يا ألْف مولاي رِفْقَا
لك الحياة فإني
أموت لا شَكَّ عِشْقَا
لم يَبْقَ منيَ إلا
بقيةٌ ليس تَبْقَى٨

فهذه السهولة توهم القارئ لأول مرة أنه يستطيع أن يأتي بمثلها، ثم لا يلبث أن يراها ممتنعة، فهي نوع من الموسيقى العذبة، ومن الانسياب الطريف، والبساطة في التعبير التي هي عندي عين الجمال الفني، تلك البساطة التي وَهِمَ كثير من الباحثين فذهبوا إلى أنها شعبية.

البهاء زهير (٥٨١ إلى سنة ٦٥٦ﻫ)

أبو الفضل زهير بن محمد بن عليِّ بن يحيى بن الحسن الأزدي المهلبي المعروف ببهاء الدين زهير.

وُلِدَ في ٥ ذي الحجة سنة ٥٨١ﻫ في وادي نخلة بالقرب من مكة في أسرة عربية أصيلة تنتسب إلى قبيلة الأزد، ويقال إنه من نسل المهلب بن أبي صفرة ولذلك يُعرف بالمهلبي، وبالرغم من هذا النسب الرفيع فإن البهاء زهير لم يَذْكُر نِسْبَته هذه في شعره. ولم يصلنا شيء عن نشأته في الحجاز إبان طفولته ولا عن أسرته؛ إلا أنه ترك الحجاز صغيرًا إلى مصر فاستوطن مع أسرته مدينة قوص بصعيد مصر، ورحلته إلى مصر غامضة أَشَدَّ الغموض، فلم يتحدث أحدٌ من المؤرخين عن سبب هجرة أُسْرَتِهِ من الحجاز، ولم يُحَدِّثْنَا هو نفسه بشيء عن ذلك، فلم يَرِدْ في ديوانه أَيَّةُ إشارة عن سَبَبِ هذه الهجرة ولا متى كانت، والباحثون الذين تحدثوا عن البهاء زهير يذكرون دائمًا أنه كان يحن إلى وطنه الأصلي بالحجاز، وأنه أنشد في ذلك يقول:

أحن إلى عهد المُحصب من مِنًى
وعيشٍ به كانت تُرِف ظلالُهُ
ويا حبذا أمواهه ونسيمُهُ
ويا حبذا حصباؤه ورمالُهُ
ويا أسفي إذ شط عني مزارُهُ
ويا حزني إذ غاب عني غزالُهُ
وكم لي بين المروتين لبانة
وبَدْرِ تمامٍ قد حَوَتْهُ حجالُهُ
مقيمٌ بقلبي حيث كنت حديثه
وبادٍ لعيني حيث سرت خيالُهُ
وأذكر أيام الحجاز وأنثني
كأني صريعٌ يعتريه خبالُهُ
ويا صاحبي بالخيف كن لي مُسْعدًا
إذا آن من بين الحجيج ارتحالُهُ
وخذ جانب الوادي كذا عن يمينه
بحيث القنا يهتز منه طوالُهُ
هناك ترى بيتًا لزينب مُشرقًا
إذا جئت لا يخفى عليك جلالُهُ
فَقُل ناشدًا بيتًا ومَنْ ذاق مثله
لدى جيرة لم يدرِ كيف احتيالُهُ
وكن هكذا حتى تصادِفَ فرصةً
تصيب بها ما رُمته وتنالُهُ
فَعَرِّضْ بذكري حيث تسمع زينب
وقُل ليس يخلو ساعةً منكِ بالُهُ
عساها إذا ما مَرَّ ذكري بسمعها
تقول فُلَانٌ عندكم كيف حالُهُ٩
وهم أيضًا الذين يقولون: إنه وَفَدَ على مصر صغيرًا ونشأ بقوص، وهم أيضًا الذين يقولون: إنه رُبِّيَ بقوص، فكيف نوفق بين هذا كله؟ أما المؤرخون١٠ فيُجمعون على أنه وَفَدَ على مصر صغيرًا ونشأ ورُبِّي بقوص. إذن نستطيع أن نطمئن إلى أن البهاء زهير جاء إلى مصر وهو في سِنٍّ ليس الذي يُجعل معه غراميات في الحجاز ثم يتذكرها بعد سنين عديدة، والذي له إلمام بالأدب المصري — وخاصة في أواخر العصر الفاطمي، وفي العصر الأيوبي وما بَعْدَهُ — يعلم تمامًا أن الشعراء في غَزَلهم كانوا يحرصون على أن يذكروا بعض الأماكن والبلاد التي في الحجاز — ولا سيما شعراء الصعيد — وقد ذَكَرْنَا من قبل أن قوص في ذلك العصر كانت تُعتبر ميناء الحجاز والبلاد العربية، وإليها كان يَفِد الذين يقصدون الأراضي المقدسة للحج أو للتجارة، ومن ثَمَّ كان حديث الناس في قوص وما حولها من بلاد الصعيد يدور حول الأماكن العديدة التي بالحجاز. وأظهر شعراء مصر في أواخر العصر الفاطمي وما بعده من العصور هذا التقليد في ذِكْر تلك البقاع في أشعارهم، نرى ذلك عند ابني الزبير في العصر الفاطمي، وعند بني عرام من شعراء الصعيد، ثم نراه عند كثيرين من شعراء الأيوبيين، حتى عند هؤلاء الذين لم يزوروا الصعيد ولا الأراضي المقدسة، وكانت هذه الظاهرة اللافتة في العصر الأيوبي هي السببَ الأول في ظهور فن جديد في الأدب العربي، هو فن المدائح النبوية. إذن نستطيع أن نقول: إن ذِكْرَ هذه البقاع في تلك المقطوعة وفي غيرها من شعر البهاء زهير هو نفسُ التقليد الذي كان في هذا العصر عند شعراء مصر، وليس هو من قبيل التشوق إلى بيئته الأولى، هذا إذا أَخَذْنَا بأقوال المؤرخين من أنه أتى مصر وهو صغير السن.

ويُحدثنا المؤرخون أن البهاء بدأ حياته العملية في مدينة قوص أيضًا، إذ عَمِلَ كاتبًا في ديوان ابن اللمطي، وقد هنأ ابن اللمطي عندما تولى الأعمال القوصية سنة ٦٠٧ﻫ بقوله:

تمليته يا لابس العز ملبسَا
وهنأته يا غارس الجود مغرسَا
قَدِمتَ قدوم الغيث للأرض إنها
به أَشْرَقَتْ حُسنًا وطابَتْ تَنَفُّسَا
علوت بني الأيام إذ كُنْت فيهم
إذا ذكروا أَسْمَى وأَسْنَا وأَرْأَسَا
زعيم بني اللمطي في البأس والندى
مُكَرَّمَها المأمول في الدهرِ إنْ قَسَا
به أَصْبَحَتْ قُوصٌ إذا هي فَاخَرَتْ
أَعَزَّ قبيل في الأنام وأَنْفَسَا
أَجَلُّ الورى قَدْرًا وأكرم شيمةً
وأكثر معروفًا وأكبر أَنْفسَا
إذا بخس الجُهَّال قَدْرَ فضيلةٍ
فليسوا بها بالجاهلين فيبخسَا
هم القوم يلقون الخطوب إذا عَرَتْ
بكل كَميٍّ في الخطوب تمرسَا
سما بك مَجْد الدين مجد ومحتدٍ
وعِرض نهاه الدين أن يتدنسَا
لقد شَرُفَت منه الصعيد ولايةً
فأصبح واديه به قد تَقَدَّسَا
بلاد بِلُقْيَاك استقامت نجومها
فصِرْنَ سعودًا بعد ما كُنَّ نحسَا
ستندى وقد وافى وفاك رُبُوعُها
وإن عُهِدَت مُغْبَرَّة الجو يُبَّسَا
ورُبَّ قوافٍ قد طويت برودها
فلم أرضَ أن تغدو لغيرك ملبسَا
سيرضيك منها ما يزيد على الرضا
ويستعبد ابن العبد والمتلمسَا
وهَبْنِيَ أُعْطِيتُ البلاغةَ كُلَّهَا
فما قَدْر مدحي في عُلاك وما عسَى١١

وتُعد هذه القصيدة أول مدحٍ له؛ ولذلك نراه فيها شاعرًا مقلدًا في صوره ومعانيه، متخذًا نفس المنهج التقليدي للمديح، فهي تمثل طورًا من أطوار حياته الفنية هو ذلك الطور الذي يَمُرُّ به كل فنان في شبابه. واستمر البهاء زهير على صلته بابن اللمطي، ويظهر أنه اتصل في ذلك الوقت بالشاعر ابن مطروح، وتَوَطَّدَتْ الصداقة بين الشاعرين — تلك الصداقة التي استمرت طول حياتيهما. وفي هذا الطور مَدَحَ الملك العادل أنشده قصيدة بقلعة دمشق سنة ٦١٢ﻫ، كما أشاد بانتصار الملك الكامل في موقعة دمياط سنة ٦١٨ هجرية والتي فيها يقول:

بك اهْتَزَّ عطْفُ الدين في حُلَلِ النصْرِ
ورُدَّتْ على أعقابها مِلَّةُ الكُفْرِ
لك الله من مولًى إذا جاد أَوْسَطًا
فناهيك من عرْفٍ وناهيك مِنْ نكْرِ
ومن أجله أضحى المقطم شامخًا
ينافس حتى طُور سيناءَ في القَدْرِ
تدين له الأملاك بالكَرْهِ والرضا
وتخدمه الأفلاكُ في النهيِ والأمْرِ
فيا ملكًا سامى الملائِكَ رِفعةً
من الملأ الأعلى له أطْيَبُ الذِّكْرِ
يهنيك ما أعطاك ربك إنها
مواقف هُنَّ الغر في موقف الحشر
وما فَرِحَتْ مِصْرُ بذا الفتح وَحْدَهَا
لقد فرحت بغداد أكثر من مِصْرِ
فلو لم يقم بالله حَقَّ جهادِهِ
لما سَلِمَت دار السلام من الذُّعْرِ
وأُقسم لولا هِمَّة كامِلِيَّة
لخافت رجال بالمقام وبالحجْرِ
فمَنْ مُبْلِغ هذا الهناءَ بمَكَّة
ويثربَ يُنْهِيهِ إلى صاحِبِ القَبْرِ
فَقُل لرسول الله: إنَّ سَمِيَّهُ
حمى بَيْضَةَ الإسلام من نُوَب الدهْرِ
به ارْتُجِعَتْ دمياط قهرًا من العدا
وطهرها بالسيف والمِلَّة الطُّهرِ
ورَدَّ على المحراب منها صلاته
وكم بات مشتاقًا إلى الشفْعِ والوتْرِ
وأُقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى
فلا حلمت إلا بأعلامه الصُّفْرِ
ثلاثة أعوامٍ أقمت وأشهُرًا
تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرِو
صبرت إلى أن أنزل الله نَصْرَه
لذلك قد أحمدت عاقبة الصبْرِ
وليلة غزوٍ للعدو كأنها
بكثرة من أرديته ليلةُ النَّحْرِ
أساطيل ليست في أساطير مَنْ مضى
بكل غُرابٍ راح أفتك من صقْرِ
وباتت جنود الله فوق ضوامرٍ
بأوضاحها تُغني السُّراة عن الفجْرِ
فلا زلت حتى أَيَّدَ الله حزبه
وأشرق وَجْهُ الأرض جذلان بالنصْرِ١٢

كذلك نقرأ له في ديوانه مدائحه في الأمير جلدك، والملك المسعود صلاح الدين، والملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل وغيرهم، ومعنى ذلك أنه لم ينقطع إلى الأمير مجد الدين بن اللمطي، بل اتصل بغيره من الملوك والأمراء يبيع لهم مدائحه ويتقرب إليهم. وهو مع ذلك كله لم يزل يعمل في ديوان مجد الدين بن اللمطي، حتى حَدَثَ ما أغضب منه الأمير، فأخذ البهاء يعاتبه معتذرًا حينًا، ويتوسل إليه متذللًا حينًا آخر. ثم نراه ينتقل إلى القاهرة ويعمل في ديوان الملك الصالح نجم الدين عندما كان ينوب في حكم نصر عن أبيه الملك الكامل، وعندما انتقل الملك الصالح إلى الجزيرة استصحب معه كاتبه البهاء زهير. ولما حدث هذا الشقاق بين ملوك الأيوبيين بعد وفاة الملك الكامل — وقد ذكرنا شيئًا عنه في حديثنا عن ابن مطروح — ظل البهاء زهير وفيًّا لمخدومه الملك الصالح، وظل مقيمًا بمدينة نابلس طوال المدة التي سُجِنَ فيها الملك الصالح بالكرك، وبعد عودة الصالح إلى مصر عاد البهاء زهير معه وأصبح رئيسًا لديوان إنشائه، ولُقِّبَ بالصاحب أيضًا بالرغم من أن هذا اللقب كان من ألقاب الوزراء، ولكن مرتبته كانت تضارع مرتبة الوزراء ولذلك لُقِّبَ بهذا اللقب.

ويظهر أن البهاء زهير قد أَخْلَصَ الإخلاص كله للملك الصالح، فوَثِقَ به وقَرَّبَهُ إليه، فصار البهاءُ أكْثَرَ الناس اختصاصًا بالملك واجتماعًا به، وسَيَّرَه الملك سنة ٦٤٥ﻫ رسولًا إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب يطلب منه إنفاذ الملك الصالح إسماعيل إليه، ويظهر أنه لم ينجح في سفارته؛ فقد أَغْلَظَ الملك الناصر في جواب الرسالة، وعاد البهاء وأفضى بالجواب إلى الصالح الذي غَضِبَ ولكنه كتم غيظه في صدره. وظل البهاء معه إلى أن انتقل الصالح إلى المنصورة لحرب الصليبيين والبهاء معه، وهناك تغير الملك الصالح عليه وأَبْعَدَهُ، وقيل إن سبب ذلك أنه كتب عن الملك الصالح كتابًا إلى الملك الناصر داود، فلما وَقَفَ عليه الملك الصالح كَتَبَ بخطه بين الأسطر: أنت تعرف قلة عقل ابن عمي، وأنه يحب من يعظمه ويعطيه من يده، فاكتب له ما يعجبه من ذلك، وسير الكتاب إليه وهو مشغول، فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأَمَرَهُ بختمه، فختمه وجهزه ولم يقرأ ما كتبه الملك الصالح، وأعطاه للنجاب فسافر به لوقته، ولما استبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليُعلم عليه سأل عنه بهاء الدين وقال: ما وَقَفْتَ على ما كتبته بخطي بين الأسطر؟ قال: ومَنْ يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخطه إلى ابن عمه؟! وأخبره أنه سيره مع النجاب، فسيروا في طلبه فلم يدركوه، ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك، فعظم عليه وتألم له، وكتب إلى الملك الصالح يعتبه العتب المؤلم، ويقول له: والله ما بي ما يصدر منك في حقي، وإنما بي اطلاع كُتابك على مثل ذلك، فعز على الملك الصالح وغضب على بهاء الدين زهير، وهذا لمروءته نسب ذلك إلى نفسه ولم ينسبه إلى ابن لقمان.١٣
ويشاء القدر أن يموت الملك الصالح بعد قليل، فاتصل البهاء بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب،١٤ ثم فارقه إلى مصر فلزم بيته، واضطر لسوء حالته إلى أن يبيع كُتبه لينفق من ثمنها، ولما انتشر في البلاد الوباءُ العامُّ مَرِضَ أيامًا ثم توفي يوم الأحد رابع ذي القعدة سنة ٦٥٦ﻫ.
كان البهاء زهير أسود قصيرًا شنجًا،١٥ فكان يندب نفسه ويقصد إلى التشبيهات والتخيلات التي تلائم حالته حتى لا يسبقه إليها أحَدُ معاصريه، ومن هنا كان اتجاه البهاء الفني إلى السهولة حتى يُعَوِّض النقص الذي كان يَشْعُر به نتيجة هيئته. وتكاد تُجمِع المصادر القديمة التي بين أيدينا أن البهاء كان من مدرسة الرقة والسهولة، فالحموي يقول في خزانته في ذِكْر السهولة: «السهولة ذَكَرَها التيفاشي مضافة إلى باب الظرافة، وشركها قوم بالانسجام، وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب سِر الفصاحة فقال في مجمل كلامه: «هو خلوص اللفظ من التكلف والتعقيد والتعسف في السبك.» وقال التيفاشي: «السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة تتميز على ما سواها عند مَنْ له أدنى ذوق من أهل الأدب»، وهي تدل على رقة الحاشية وحُسن الطبع وسلامة الروية١٦ إلى أن قال الحموي: ومذهبي أن البهاء زهير قائد عنان هذا النوع وفارس ميدانه.»١٧ هذا ما قاله بعض علماء البلاغة في السهولة التي اتبعها البهاء، ولم يَذْكُر أحد من علماء البلاغة القدماء أن شعر البهاء كان شعبيًّا أو عاميًّا على نحو ما قاله بعض الباحثين المُحدثين الذين ادعوا أن شعر البهاء كان شعبيًّا وأنه مليء بالألفاظ العامية، ولا أدري كيف رأوا البهاء أو غيره من تلاميذ مدرسة الرقة بذلك؟ وقد ذَكَرْنَا كيف جمع فن البهاء زهير بين الشعر التقليدي عندما كان يمدح وبين فن أصحاب مدرسة الرقة والسهولة مما لا يدعو إلى الإطالة في هذا الحديث. وشعر البهاء صورة واضحة لثقافته، كما هو صورة لبعض الاتجاهات التي كانت في عصره، فنرى في شعره أثر هؤلاء الصوفية الذين انتشروا في البلاد انتشارًا كبيرًا، فهو يقول مرة:
وإن يك أنفاسي خشيتم لهيبها
وَهَالَتْكُمُ نيرانُ وجْدٍ بأحشائي
فكونوا رِفَاعِيِّينَ في الحب مَرَّةً
وخوضوا لظى نارٍ لشوقي حراءِ

فهذه إشارة إلى فرقة الصوفية المنسوبة إلى الرفاعي، وقد عُرِفَ عن هذه الفرقة أنهم يبلعون قطع النار. ويتهكم مرة أخرى على الصوفية فيقول:

كم أُناسٍ أظهروا الزهد لنا
فتَجَافَوْا عن حلالٍ وحرامِ
قَلَّلُوا الأكل وأَبْدَوْا ورعًا
واجتهادًا في صيامٍ وقيامِ
ثم لما أَمْكَنَتْهُمْ فرصةٌ
أكلوا أكْلَ الحزانى في الظلامِ

أما ثقافته فيُخيل إليَّ أنه كان مُلِمًّا بكثير من الشعر القديم، فحينًا كان يُضمِّن قصائده أشطُرًا من الشعر القديم مثل قوله:

وأُمْسِكُ نفسي عن لقائك كارهًا
أُغالب فيك الشوق والشوق أَغْلَبُ

فهذا الشطر الأخير هو مطلع قصيدة المتنبي المشهورة. وقال أيضًا:

خليليَّ عُوجَا بي على الندب جَلْدَكٍ
أُقَضِّي لبانات الفؤاد المُعذبِ
فتًى ماجد طابت مواهب كفه
فلا تَذْكُرَنَّ لي بَعْدَهُ أم جُنْدبِ

فالأصل في هذين البيتين قول امرئ القيس:

خليليَّ عُوجَا بي على أم جُنْدبِ
لنقضي لبانات الفؤاد المُعذبِ

وفي إحدى قصائده في مدح النصير بن اللمطي يقول:

هذا زهيرك لا زهير مُزينةَ
وافاك لا هرمًا على علاتِهِ
دعه وحولِيَّاتِهِ ثم استمع
لزُهَيْرِ عَصْرِكَ بعض لَيْلِيَّاتِهِ
لو أنشدت في آل جفنة أعرضوا
عَنْ ذِكْرِ حسانٍ وعن جفناتِهِ

فهذا كله يدل على أن البهاء زهير كان مُلِمًّا بأشعار زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان وبأشعار حسان بن ثابت. ومرة أخرى يَذْكُر ذا الرمة، وكعب بن الإيادي وحاتم الطائي، فيقول:

وغيث سَمِعْتُ الناس يَنْتَجِعُونَه
فأين يُرى غيلان منه وصَيْدَحُ
دعوا ذِكْرَ كعبٍ في السماح وحاتِمٍ
فليس بعْدَ اليوم ذاك التسمُّحُ

ويُحَدِّثُنا عن الفرزدق وجرير فيقول:

إذا ذُكِرَتْ في الحي أصبح آيسًا
فرزْدَقُها مِنْ وَصْلِها وجَرِيرُهَا

ويذكر بثينة وجميل فيقول:

وما كل مخضوب البنان بُثَيْنَة
وما كل مسلوب الفؤاد جَمِيلُ

ويذكر النابغة والحطيئة بقوله:

لو أنها ممن تقدم عَصْرُهُ
منعت زيادًا أن يقول وجرْوَلَا

ويُضَمِّن الشطر الثاني من بيتٍ للمتنبي:

بُلِيتُ بلى الأطلال إن لَمْ أَقِفْ بها
وقوف شحيحٍ ضاع في التُّرْبِ خاتَمُهْ

فقال البهاء:

وَقَفْتُ على ما جاءني من كتابكم
وُقُوفَ شحيحٍ ضاع في التُّرْبِ خاتَمُهْ

ثم انظر إلى هذه المقطوعة فهو يقول:

أنا ذا زهيرُك ليس إلـ
ـا جود كَفِّك لي مُزينَهْ
أهوى جميلَ الذِّكْرِ عَنـْ
ـك كأنما هو لي بُثينَهْ
فاسأل ضميرَك عن ودا
دي إنه فيه جُهَيْنَهْ
هكذا نرى في ديوان البهاء زهير ما يدل على تأثُّرِه بالشعر العربي القديم وببعض الأخبار التاريخية العربية. وتضمينه بما قاله القدماء دليل على أن البهاء كان يحفظ كثيرًا من أشعارهم، وأن مهارته الفنية جَعَلَتْهُ يصطنع في شعره هذه الأجزاء من الشعر القديم وكأنها في موضعها الطبيعي من شعره هو، وهذه مقدرة لا يستطيعها إلا كل من رَسَخَتْ قَدَمُه في الفن، فلا غرو أن البهاء كان من شعراء مصر الممتازين، ولا غرابة في أن يُعْجَبَ به كل من عاصره وكل من جاء بعده. وللبهاء زهير تلاميذ أخذوا عنه طريقته وفنه، نذكر منهم عماد الدين الدينيسري الطبيب، فقد صحب البهاء مدة، وتخرج به في الأدب والشعر١٨ بالرغم من أنه كان طبيبًا، وله مؤلفات في هذا العلم؛ منها المقالة المرشدة في درج الأدوية المفردة، وأُرجوزة في الدرياق الفاروقي، ونظم مقدمة المعرفة لبقراط الطبيب … وغير ذلك. أما شعره فهو قليل، وهو ينحو نحو مدرسة السهولة، فمن ذلك قوله:
عشقت بدرًا مليحًا
عليه في الحُسن هالَهْ
مثل الغزال ولَكِنْ
تغار منه الغزالَهْ
فقلت أنت حبيبي
ومالكي لا محالَهْ
جسمي يذوب وجفْنِي
دموعه هطَّالَهْ
بَعَثْتُ من نار وَجْدِي
مني إليه رسالَهْ
ولي عليك شهود
معروفة بالعدالَهْ

وسنرى في عصر المماليك تأَثُّر أكثر الشعراء بالبهاء، وبمعنًى آخَرَ بمدرسة الرقة والسهولة.

(٣) شعراء مدرسة الكُتاب

وهم هؤلاء الشعراء الذين كانوا على طرفي نقيض مع ما رأيناه من شعراء مدرسة الرقة والسهولة، إذ كانوا خاضعين لتأثير الاتجاهات الفنية التي شغف بها كُتاب الدواوين في العصر الفاطمي وملئوا بها كتاباتهم وأشعارهم. كان فنهم يقوم على الموسيقى اللفظية قبل كل شيء، واختيار الألفاظ الفخمة الجزلة ذات الوقع الضخم والجرس الموسيقي الذي يؤثر في السمع مع حلاوة الإيقاع، كانوا يتلاعبون بهذه الألفاظ تلاعبًا تظهر فيه أثر الصناعة وأثر التكلف، وأسرفوا في صناعتهم وتكلفهم إسرافًا يَدُلُّ على طول باعهم في هذا الفن، وعلى تلك الثروة اللفظية التي كانوا يتحَلَّوْن بها ويصطنعونها في مهارة ليس بعدها مهارة. وكانوا يُحَلُّون فنَّهُم بالزينة البديعية من جناس وتطبيق وتورية ومراعاة النظير، إلى غير ذلك من ألوان البديع والبيان، حتى بهروا البلاغيين بمقدرتهم على استعمال هذه المحسنات اللفظية، وكثيرًا ما كان يَحْلُو لهم استعمالُ الألفاظ المترادفة أو ما يُشتق من اللفظ الواحد في الجملة الواحدة أو في البيت الواحد. كل هذه الزينة وهذا التلاعب لون من ألوان التعسف الفني الذي أَلْزَمَ الكُتابُ والشعراءُ الذين يتبعون هذه المدرسة به أنفسهم، فظهر في فَنِّهِم هذا التكلف المصنوع الذي يَبْعُد كُلَّ البُعد عن الطبع، ويبعد عن تلك الرقة التي يمتاز بها المصريون في فنونهم. هذه الصناعة نراها في شعر القاضي الموفق بن الخلال، وابن أبي الشخباء، والقاضي الجليس، وابني الزبير، وعمارة اليمني وغيرهم من شعراء دواوين الفاطميين.١٩ وعُرِفَ عن هؤلاء الكُتاب والشعراء مذهبهم، وشاع بين كل أديب يطمح في العمل بالدواوين أو يريد الاتصال بالأمراء والوزراء، فأصبح مذْهَبُهم الفني بدعة العصر وتقليدًا يسير عليه الشعراء والكُتاب.
ومن الطبيعي أن يستمر مذهب شعراء هذه المدرسة في العصر الأيوبي، ويخضع الفنانون — ولا سيما الكُتاب — الخضوع كله لهذه الطريقة التقليدية، ولا سيما أن الحاكم الفعلي للبلاد، والمدبر الأول لشئونها في النصف الثاني من القرن السادس للهجرة هو رجل قضى وقتًا طويلًا يتدرب على هذا الفن في دواوين الفاطميين، ويأخذ عن الكُتاب الفاطميين وشعرائهم مذهبهم الفني، فنشأ مولعًا بهذا المذهب داعيًا له، بل غلا في هذا المذهب غلوًّا جَعَلَ المؤرخين والنقاد ينسبون إليه هذا المذهب الفني وتلك الطريقة التقليدية، هذا الرجل هو القاضي الفاضل. وعندي أن نسبة المذهب إليه لَوْن من ألوان التعسف في الحكم النقدي والتاريخي، فلو لم يكن القاضي الفاضل وزير مصر الأول في الأيام الصلاحية، ولو لم يكن هو صاحب السلطان الفعلي في البلاد، ما كان المؤرخون والنقاد يُشيدون بفنه على هذا النحو الذي نجده في كُتب معاصريه أو في الكُتب التي نُقِلت عن معاصريه. فالحقيقة التاريخية تقول: إنه لم يبتدع هذه الطريقة التي نُسِبت إليه، بل كان مُقَلِّدًا لمن سَبَقَهُ، ولكن شخصيته هي التي جعلت كاتبًا مؤرخًا — وهو العماد الأصفهاني — يُشيد به ويغلو في تقريظه ومَدْحه،٢٠ ولم يكن ذلك كله إلا لأن القاضي الفاضل كان سببًا في اتصال العماد بالسلاطين الأيوبيين، ولو لم يكن القاضي الفاضل في هذه المرتبة العليا ما كان هؤلاء الشعراء الذين الْتَفُّوا حوله مدحوه بهذه المدائح التي نراها في كُتب التاريخ والأدب، إذ كان جُلُّ الشعراء في عصره قد أكثروا من مديحه تقربًا وتزلفًا إلى هذا الرجل صاحب السلطان. نحن لا ننكر أن الفاضل كان فنانًا من بعض النواحي، ولكن موهبته الفنية لم تكن أهلًا لكل ما قيل عنه، ولا سيما أن فنه — كما رأينا — كان فنًّا مصنوعًا متكلفًا قد يُلِذُّ الأذن، ولكنه لا يُرْضِي العاطفة. وكثيرًا ما كان الشعراء الذين ساروا على نهجه يعودون إلى أنفسهم ويخرجون على منهجه ويَغْلب عليهم طَبْعُهم، فالأسعد بن مماتي — مثلًا — لم يكن يميل إلى الجناس ولم يتخذه مذهبًا في نظمه، فهو الذي يقول:
طبع المجنس فيه نَوْعُ قيادةٍ
أوَما ترى تأليفَهُ للأحْرُفِ٢١
وابن سناء الملك غلب عليه فن الموشح الشعبي، والقاضي الفاضل نفسه كان يشذ عن منهجه الفني. ذلك كله بالرغم من قول العماد الأصفهاني: إن مذهب القاضي الفاضل «كالشريعة المحمدية التي نَسَخَت الشرائع ورَسَخَتْ بها الصنائع.»٢٢ وتحدث عن إحدى الرسائل التي كتبها إلى الفاضل فيقول: «وهذه الرسالة قد وَفَّيْتُها حَقَّها من التجنيس والتطبيق والترصيع والمقابلة والموازنة والتوشيع.»٢٣ فهذا النص تصريح من العماد بالتزامه هذه الألوان المختلفة من البديع في فنه، وهي التي تَبِعَ فيها الطريقة التي سماها بالطريقة الفاضلية، نستطيع أن نتخذه دليلًا على المنهج الفني الذي سار عليه هو والجماعة الفاضلية — أو بمعنى آخر الشعراء الذين الْتَفُّوا حول الفاضل — وهم الذين نُطْلِقُ عليهم مدرسة الكُتاب. ويقول ابن حجة الحموي: «وأما التورية والاستخدام، فما تَنَبَّهَ لمحاسنهما وتَيَقَّظَ وتحرى وتَحَرَّرَ إلا مَنْ تأخر من الشعراء والكُتاب، وتَطَلَّع من العلوم وتَضَلَّعَ من كل باب، وأظن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هو الذي ذَلَّلَ منهما الصعاب، وأنزل الناس بهذه الساحات والرحاب، حتى ارتشف هذه السلافةَ أهْلُ عَصْرِه وأصحابه الذين نزلوا ربوع مصر وخفقت رياحهم بالإخلاص في نصره، كالقاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك، ومن انخرط معه في هذا السلك، ولم يزل هو ومن عاصره على هذا المنهج في ذلك الأوان، ومن جاء بعدهم من التابعين بإحسان إلى أن جاء بعدهم حلبة أخرى.»٢٤

وبالرغم من ذلك كله، فإن مدرسة الرقة والسهولة تقابلت مع مدرسة الكُتاب، وامتزجتا امتزاجًا لافتًا عند كثير من الشعراء الذين جمعوا بين المذهبين، فنجد في شعر ابن المرصص، وابن عرام، وابن ظافر، والأسعد بن مماتي ما يجعلنا نقول: «إن تطورًا جديدًا قد ظَهَرَ في الشعر في هذا العصر. هذا التطور هو نتيجة لتغَلُّب الطبع مع الميل إلى الزُّخرف اللفظي، وكان هذا التطور مصدرًا لما نراه عند شعراء أواخر العصر الأيوبي وأوائل العصر المملوكي من فن جديد نراه عند الجزار، والحمامي، والسراج … وغيرهم من الشعراء.»

القاضي الفاضل (٥٢٩–٥٩٦ﻫ)

أبو عليٍّ عبد الرحيم بن عليِّ بن الحسن اللخمي، الملقب بمجير الدين٢٥ — ويقال: بمحيي الدين٢٦ — المعروف بالقاضي الفاضل، وُلِدَ بعسقلان سنة ٥٢٩ﻫ، وكان أبوه متولي القضاء على مدينة بيسان من قِبل الفاطميين مدة طويلة فنُسِبَ إليها ولُقِّبَ بالبيساني، ولذلك أُطلق على القاضي الفاضل «ابن البيساني». نشأ القاضي الفاضل بعسقلان وبها تلقى علومه، وظهرت ميولُهُ الأدبية منذ صغره، فشاء والده أن ينْشِئ ابنه على نحو ما كان يفعله أرباب الدواوين وكبار رجال الدولة في العصر الفاطمي؛ إذ كانوا يرسلون أبناءهم إلى الدواوين الفاطمية ليتدربوا على فن الكتابة ويأخذوا عن شيوخ هذه الدواوين فنونهم الإنشائية. ويقول الفاضل نفسُهُ: «كان فن الكتابة بمصر في زمن الدولة العَلوية غضًّا طريًّا، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكانًا وبيانًا، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطانًا، وكان من العادة أن كُلًّا من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئًا من علم الأدب، أحْضَرَهُ إلى ديوان المكاتَبات ليتعلَّمَ فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع أشياء من علم الأدب.»٢٧ لذلك وَفَدَ القاضي الفاضل إلى مصر في سن الشباب ليتلقى عن المصريين فنونهم وآدابهم. وتختلف روايات المؤرخين في سنة وفوده، فابن خلكان يروي عن ابن الأثير عن القاضي الفاضل نفسه أنه قال: «أرسلني والدي وكان إذ ذاك قاضيًا بثغر عسقلان إلى الديار المصرية في أيام الحافظ.»٢٨
وينقل ابن خلكان أيضًا رواية أخرى فقال: «وبعد أن نَقَلْتُ ما قاله ضياء الدين بن الأثير على هذه الصورة، اجتمع بي من له عناية بالأدب — خصوصًا بهذا الفن — وهو مِنْ أَعْرَف الناس بأحوال القاضي الفاضل، وقال لي: هذا الذي ذَكَرَهُ ابن الأثير مما يمكن تصحيحه، ولعله قد غلط في النقل، فإن القاضي الفاضل لم يدخل الديار المصرية إلا في أيام الظافر بن الحافظ.»٢٩
ويروي ابن خلكان رواية ثالثة فيقول: «ثم إني وجدت في بعض تعاليق بخطي — وما أدري من أين نقلته — أن القاضي الأشرف (والد القاضي الفاضل) كان من أهل عسقلان، وكان ينوب في الحكم والنظر بمدينة بيسان، فدخل إلى مصر في زمان الظافر بن الحافظ لكلام جرى بينه وبين والي الناحية، واستُدعي الوالي إلى مصر، وطولب بمال طائل فاحتمى ببعض أمراء الدولة وجعلوا الأقاويل في حق القاضي الأشرف، فاستُدعي وصودرت أمواله إلى أن لم يبقَ له شيء، ولم يكن معه من الأولاد سوى القاضي الفاضل، فحمل على قلبه إلى أن توفي بالقاهرة ليلة الأحد حادي عشر ربيع الأول من سنة ست وأربعين وخمسمائة ﻫ ودُفِنَ بسفح المقطم.»٣٠
فواضح من هذه الروايات ما بها من اختلاف، فلم تحدد الرواية الأولى ولا الثانية سنة دخول القاضي الفاضل إلى مصر، وبالرواية الثالثة إشارة إلى أنه دَخَلَها مع أبيه الذي صودرت أمواله وحمل على قلبه إلى أن مات سنة ٥٤٦ﻫ، وكان ذلك في خلافة الظافر بن الحافظ. واختلفت الرواية الأولى عن الروايتين الأخيرتين في سبب قدوم الفاضل إلى مصر، ففي الأولى أنه وَفَدَ على مصر ليتعلم ويتدرب في ديوان المكاتبات، وفي الأخيرتين كان السبب لأمر يتعلق بأموال قيل إن أباه اغتصبها. ولكننا نستطيع أن نوفِّق بين هذه الروايات بالرغم من اضطرابها ونقول: إن كل هذه الروايات صحيحة، فقد جاء الفاضل إلى مصر لأول مرة في أواخر حُكْم الحافظ الفاطمي بعد أن تولى الموفق بن الخلال رياسة ديوان الإنشاء، والقاضي الفاضل نفسه يعترف بذلك فيقول: «وأمرني (أي والده) بالمسير إلى ديوان المكاتَبات، وكان الذي ترأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال، فلما حَضَرْتُ الديوان، ومثلْتُ بين يديه، وعرَّفْتُه مَنْ أنا وما طلبتي، رَحَّبَ بي وسهل، ثم قال لي: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات؟ فقلت: ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن الكريم وكتاب الحماسة، فقال: في هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته، فلما تردَّدْتُ إليه وتدربت بين يديه أمرني بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة، فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته.»٣١ فالنص صريح في أن الفاضل جاء مصر ليتدرب ويتعلم، وأن رئيس ديوان المكاتبات إذ ذاك كان الموفق بن الخلال الذي رأس الديوان في أواخر عهد الحافظ الفاطمي، واستمر رئيسًا لهذا الديوان حتى عهد العاضد آخر خلفاء الفاطميين. وكان القاضي الفاضل يتردد على أبيه، ووفد معه حينما حمل في محنته التي توفي بسببها، وهذه المحنة كانت سببًا في غضب الفاضل وسخطه، فنراه يلجأ إلى قاضي الإسكندرية ابن أبي حديد ويُفْضِي إليه بجملة أَمْرِه ومحنة أبيه، فعطف ابن أبي حديد عليه وألحقه كاتبًا بديوانه بعد أن علم منه أنه تدرب في ديوان الرسائل بين يدي ابن الخلال. وظل الفاضل بالإسكندرية حتى عُرِفَ بين كُتاب القاهرة بمهارته في فن الكتابة واشتهر أمره بينهم، ويقال: إن بعض كُتاب القاهرة أرادوا أن يَسْعَوْا به إلى الخليفة الظافر، وطَعَنُوا في قدرته الفنية بأن رَمَوْهُ بالتقصير في الكتابة، ولكن القاضي ابن الزبير دافَعَ عنه. ومهما يكن من شيء، فإن القاضي الفاضل ظَلَّ يكتب لابن أبي حديد بالإسكندرية حتى استُدعي للعمل بديوان الإنشاء بمصر. ويقول عمارة اليمني — في حديثه عن الملك العادل بن رزيك وزير الخليفة العاضد الفاطمي: «ومِنْ محاسن أيامه وما يؤرخ عنها، بل الحسنة التي لا تُوازى، واليد البيضاء التي لا تُجازى، خروج أَمْرِه إلى والي الإسكندرية بتسيير القاضي الأجلِّ الفاضل أبي عليٍّ عبد الرحيم بن عليٍّ البيساني إلى الباب، واستخدامه في حضرته وبين يديه في ديوان الإنشاء.»٣٢

ونحن نعلم أن العادل ولي الوزارة من سنة ٥٤٨ﻫ حتى سنة ٥٥٠ﻫ، ففي هذه المدة عُيِّنَ القاضي الفاضل كاتبًا بديوان الإنشاء مع أستاذه السابق ابن الخلال رئيس الديوان. ويُخيل إليَّ أنَّ حَسَدَ زملائه الكُتابِ الآخرين له ازداد — وهم الذين رأيناهم يحقدون عليه ويحسدونه — لأنهم لم يَبْلُغوا ما بلغه هو في فن الكتابة، شأنهم في ذلك شأن ما يكون دائمًا بين أرباب المهنة الواحدة والعمل الواحد، وأنهم اتخذوا من خلقة القاضي الفاضل المشوهة مجالًا لنكاتهم ونوادرهم، فقد كان الفاضل أحدب أوقص قصيرًا، وهو الذي كان يقول عن نفسه — وقد دخل حمَّامًا ذا قبة:

ما كان يكمل حر ذا الـ
ـحمَّام حتى ازداد قبَّهْ
فكأنني فيه خرو
فُ شوا ومن فوقي مكبَّهْ٣٣

ويقول شاعر آخر — قيل إنه ابن سناء الملك، ولكني أستبعد أن ابن سناء الملك يقول هذه المقطوعة في وَلي نعمته وأستاذه القاضي الفاضل:

حاشا لعبد الرحيم سيدنا الـ
ـفاضل ما تقوله السفل
يكذب مَنْ قال إن حدبته
في ظهره من عبيده حبل
هذا قياس في غير سيدنا
يصح لو كان يحبل الرجل٣٤
فهذا التهكم المرير مَثَلٌ لما كان يقال عن الفاضل، وكم كنا نود أن تُحفظ هذه النكات والنوادر التي قالها المصريون في القاضي الفاضل لما لها من دلالة عن فن الفُكاهة والهِجاء في هذا العصر — ولا سيما بين المتنافسين والحُساد من كبار رجال الدولة — ولكن المؤرخين يسكتون دائمًا عن ذِكْرِ كل ما يقال في ذلك، فهُمْ لم يذكروا لنا المقطوعات التي قيلت في أنف الجليس بن الحباب، ولم ينقلوا كل ما قيل في سواد بشرة ابن الزبير، وها هم يسكتون أيضًا عما قيل في الفاضل الذي ابتلي بمرضين: قبح الخلقة ومرض الجسم، «فكان جامعًا بين مرضي قلب وجسد ووجع أطراف وعليل كبد».٣٥ كل ذلك يجعلني أذهب إلى القول بأنه لم يَسلم من نِكات وفُكاهات المصريين — ولا سيما بعد أن أصبح له الأمر في البلاد — والمعروف عن المصريين منذ أقدم عصورهم أنهم لا يحبون رؤساءهم، وأنهم يتندرون بالرؤساء دائمًا، فما بالك إذا كان لهم رئيس في خلقة القاضي الفاضل المشوهة؟! ويظهر أن الفاضل كان يحاول أن يخفف من منظر تشويه جسده بأن كان يستر حدبته بالطيلسان حتى لا تظهر للناس،٣٦ وكان لا يسمح أن يُذكر في حضرته أي معنى من معاني الاعوجاج والانحناء. ويقال: إن أسعد بن مماتي دَخَلَ عليه يومًا فوجد بين يديه أترجة كبيرة مُفرِطة في الضخامة، فلما جلس حَدَّقَ إليها وحدث تفكير وذهول، فأخذ الفاضل يتبادر على نفسه وقال: يا مولاي الأسعد، ما هذه الفكرة الطويلة؟ ما أنت مفكر إلا في خَلق هذه الأترجة وما فيها من التكتيل والتعوج، وتعجب من المناسبة لها وكيف اتفق الجمع بيننا وبينها. فدَهِشَ ابن مماتي وانخلع قلبه منه خوفًا، ثم رجع إليه خاطره فقال: لا والله، بل أفكر في معنًى وقع لي فيها، ويَسَّرَ الله أن نظمت فيها:
للَّه بل للحُسن أترجة
تُذَكِّرُ الناس بأمر النعيمِ
كأنها قد جَمَعَتْ نفسها
من هيبة الفاضل عبد الرحيمِ٣٧

فهذه القصة إن دلت على شيء، فإنما تدل على مدى شعور القاضي الفاضل بمُركب النقص من تكوين جسده، وربما كانت هذه الحالة النفسية سببًا في أن يذهب القاضي الفاضل في فنه الأدبي إلى هذا النحو الذي رأيناه من شدة الميل إلى الزُّخرف والزينة، كما كانت سببًا فيما عُرِفَ عنه من حدة الطبع.

ظل الفاضل يعمل في ديوان الإنشاء الفاطمي بين منافسيه وحُساده، وخرجت سجلات عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين من إنشاء الفاضل. ولما تولى أسد الدين شيركوه الوزارة بمصر طلب من الديوان كاتبًا يحرر له رسائله، فكان من الطبيعي أن يعمل رجال الديوان على التخلص من ذلك الكاتب الذي فُرِضَ عليهم من قَبْلُ ونافَسَهُم في فنهم حتى ظهر عليهم، لهذا أرسلوا القاضي الفاضل ليكون كاتبًا للوزير الجديد حتى يبتعد عن ميدانهم،٣٨ وقد سُرَّ الفاضل لذلك، كما أن الوزير أعجبه نفاده وسِمَتُه ونُصْحُه.٣٩ ولما تَمَلَّكَ صلاح الدين استخلصه لنفسه لحُسن اعتقاده فيه، ولِمَا أَظْهَرَهُ الفاضل من صِدْق النصيحة وحُسن التدبير، حتى قيل: إن صلاح الدين قال: «ما فَتَحْتُ البلاد بالعساكر، إنما فَتَحْتُها بكلام الفاضل.»٤٠

فمهما كانت المبالغة شديدة في هذا القول، فإنه يدلنا على مقدار ما كان يُكِنُّه صلاح الدين من اعتزازٍ برأي الفاضل وفَنِّه؛ حتى أصبح الفاضل هو المدبر الأول للبلاد وحاكمها الفعلي. ويغلب على الظن أن ما قام به القاضي الفاضل من تدبيرات للقضاء على الدولة الفاطمية إنما كان من قبيل الانتقام لما حدث لأبيه ولما قاساه هو من رجال الدواوين، فهو لم ينسَ أن الفاطميين صادَروا أموال أبيه وعذَّبوه حتى مات، ولم ينسَ هِجاء الكُتاب وأصحاب الدواوين له وتندرهم به ومحاولتهم الإيقاع به، وكيف صَبَرَ على ذلك كله حتى واتته فرصة الانتقام فلم يتردد في انتهازها، وكان انتقامًا رهيبًا حقًّا بالرغم مما عُرِفَ عنه من أنه لم يكن يحب الانتقام من أحد.

بلغ القاضي الفاضل في عهد صلاح الدين وابنه العزيز ما لم يَبْلُغْه أحد من قبل، إذ كان المستشارَ الأول لصلاح الدين في سياسته الداخلية في البلاد التي أخضعها لسلطانه، وفي سياسته الخارجية مع الدول الأخرى، وقد أخلص في عمله الإخلاص كُلَّه؛ حتى أجمع المؤرخون على أنه كان غيورًا على مصلحة مولاه صلاح الدين، وعلى مصلحة الشعب نفسه. كان يعمل جهْدَهُ لإعلاء كلمة المسلمين ورَفْع شأنهم أمام الصليبيين المغتصبين، ولا غرو في ذلك، فقد وُلِدَ ونشأ بفلسطين مجاورًا للإمارات الصليبية، وعاش بالقرب من هؤلاء المستعمرين الأوروبيين، وشاهَدَ عن كثب ما قاساه المسلمون على أيدي الطغاة، فشعر بآلام إخوانه في العروبة والدين، وهو الرجل الذي عُرِفَ بدقة إحساسه ورقة شعوره، فأخذ يفكر كيف يُخَلِّص المُعذَّبين مما هم فيه، ودبَّر لصلاح الدين سبيل الانتصار؛ فكان — والحق يقال — رشيدًا في كل نصائحه التي بعث بها إلى السلطان. ولا تزال أكثر هذه النصائح محفوظًا في رسائله التي وَصَلَتْنَا، مما جعلني أعدُّ رسائله وثائق تاريخية عن هذا العصر؛ بالرغم من أن أكثر المؤرخين لم يأبهوا بها زعمًا بأنها من اختصاص مؤرخي الآداب! فهذه الرسائل كانت أقوى سببًا في أن يَجِدَّ صلاح الدين في حروبه، وفي تحمُّل أعباء الجهاد والصبر عليها بعد أن وَثِقَ من أن بلاده في يد رجل أمين مُخْلِص، فلا غرابة بعد ذلك أن نقرأ ما قاله صلاح الدين من أنه فَتَحَ البلاد بكلام القاضي الفاضل ونصائحه.

على أن هذا الناصح الأمين للدولة رأى اختلاف أبناءِ وإخوةِ صلاح الدين فيما بينهم على تَمَلُّك البلاد، وتوقَّعَ الشر والفساد من فُرْقتهم وتشتُّت كلمتهم، فقد هُدِمَ كل ما بناه صلاح الدين وما أشار به القاضي الفاضل، فحاوَل أن يُصْلِح بين المتنافسين المتحاربين، ولكنْ يظهر أن تيار الخلف كان قويًّا جارفًا، فاضطر القاضي الفاضل إلى أن يعتزل الناس، وأن يعكف في داره على الصلاة وقراءة القرآن، وكان أخشى ما يخشاه الفاضل أن يتولى الملك العادل شئون مصر، لهذا كان يتمنى الموت قبل أن يتولى العادل، وقد استجاب الله له فتوفي في نَفْسِ اليوم الذي دَخَل العادل فيه باب القاهرة، حتى قيل: «إن العادل كان داخلًا من باب النصر، وجنازة الفاضل خارجة من باب زويلة»،٤١ وذلك في سنة ٥٩٦ﻫ.
كان الفاضل شيخًا من شيوخ الكتابة وعمالقتهم في الأدب العربي، فشهرته في فن الترسل كانت حديث رجال البلاغة العربية؛ بل حديث كل من تعرَّضَ للعصر الأيوبي، ذلك بالرغم مما عُرِفَ عنه أنه كان خفيف البضاعة من النحو لا عريًّا منه، لكن قوة الدربة توجِبُ له عدم اللحن، وكَتْب ما لم يكتبه أحد قبله ولا بعده،٤٢ فكل الذين تحدثوا عن فن النثر أشادوا بالقاضي الفاضل، فكان من حقه علينا أن لا نُدخله مع شعراء عصره لقصوره عن اللحاق بهم في مضمار فنهم، ولكن ما حيلتنا إن كان القدماء من البلاغيين جعلوا له مذهبًا سار على نهجه الشعراء الذين كانوا حوله على نحو ما ذَكَرْنَا من قبل. عُرِفَ القاضي الفاضل بمهارته في فن الكتابة دون فن الشعر، فإنا نجد له قصائد ومقطوعات تُظهِر تَكَلُّفَه وبُعْدَه عن الطبع، فحرصه على التلاعب بالزينة البديعية كان أكثر من حرصه على تصوير عواطفه وأهوائه، فإذا بشعره يُلِذُّ السمع ويطرب الأذن لما فيه من موسيقى، ولكنه لا يحرك المشاعر ولا يؤثر في النفس، فإذا قرأنا له هذه الأبيات في النسيب لا نجد فيها حرارة عاطفة الحبيب إنما نقرأ شيئًا لا غناء فيه:
ويأمرني من لا أطيق بهجرها
وحسبي به لو كان يَنْظُرها حسبي
يشير على جسمي بفرقة قلبه
بقيت كذا، هل كان جسم بلا قلبِ
وإني على الأيام فيها لَعاتبٌ
وحاشى لذاك الوجه من أَلَمِ العتبِ٤٣

ونقرأ له مقطوعة أخرى يصف فيها مهارته البلاغية في الترسل:

ولي قَلَمٌ منه عين الكلا
م تجري فتنظر عين الكمالِ
يراع تظل رياض الطرو
س منها مُوَشَّحَة بالصلالِ
وكتب يفيض بأرجائها
يمين الجدا ولسان الجدالِ
تقدمها الشكل من فوقها
كمثل السهام أمام النصالِ
وكم برِيَتْ وانبرت للعدو
كوثب الشرار وَهَدِّ الجبالِ
وكم قد كسبن عوادي ظبًا
وكم قد سَلَبْنَ عواري عوالِي
يكلل أفلاك قرطاسها
شموسٌ شوامس عند الزوالِ٤٤

فلا نجد فيها سوى هذا التكلف البغيض والصناعة اللفظية التي يتعسف الشاعر فيها، ومع ذلك كله فإنا نرى له بعض مقطوعات لا نشك في صدورها من فنان ماهر في صناعة الشعر، فمن ذلك هذه الأبيات التي يستشهد بها البلاغيون في التورية:

بالله قُل للنيل عنيَ إنني
لم أشفِ من ماء الفرات غليلَا
وسَلِ الفؤاد فإنه لي شاهدٌ
إن كان طرفي بالبكاء بخيلَا
يا قَلْبُ كم خَلَّفْتَ ثَمَّ بثينة
وأظن صبرك أن يكون جميلَا٤٥

أو قوله في مدح الوزير شجاع وزير الفاطميين:

أنت الحياة التي ما بعدها رَغَبُ
أو الحمام الذي ما قبله رَهَبُ
أما ومنك على أعدائك الطَّلَبُ
فإن أعدى عَدُوٍّ عندنا الهربُ
فليس يعصمهم في الفلك ما رَكِبُوا
وليس ينجيهم في الأرض ما ضَرَبُوا
فلا يعلهُمُ سرجٌ ولا قَتَبٌ
ولا يُظِلُّهُمُ بَيْتٌ ولا طَنَبُ
مَنْ كان مضطربًا في فَضْلِ طاعتكم
فما له في بلاد الله مضطربُ
وقائلٍ: وَثَبَ الأعداءُ؟ قلت: نعم
كما الفراش على نيرانها تثب
لا يعجب الناس لما أَوْقَدُوا فتنًا
فالبغي نار ومُذكيها لها حَطَبُ
وكم ضربْتَ بسيفٍ ما له قربٌ
كما زحفت بجيشٍ ما له لجبُ

وهكذا كان الفاضل في بعض مقطوعاته شاعرًا، ولكنه لم يبلغ في الشعر ما بلغه في النثر. بيد أني أريد أن أشير هنا إلى ناحية من فن الفاضل فَطِنَ لها القدماء من النقاد، وهي ناحية إسرافه الشديد في المبالَغة التي ظهرت في شعره وفي نثره، وأنَّ مَنْ كان حوله من الشعراء اقتَدَوْا به وساروا على نهجه، وما قاله النقاد في ذلك حَقٌّ لا مِرْيَة فيه، غير أني أقول: «إن المبالغة في القول ليست جديدة على مصر والمصريين، بل هي من أخص خصائص الشخصية المصرية في كل عصورها، فنحن نجد هذه المبالغة في الشعر المصري وفي الكتابة المصرية في جميع العصور، وإلى الآن نرى المثل العامي: «يعمل من الحبة قبة» دليلًا واضحًا على ما وَصَلَتْ إليه المبالغة المصرية وتغلغلها عند المصريين جميعًا. وربما أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن المصري مُبالِغ في كل شيء، فهو يغالي في مسكنه وملبسه، ويبالغ في أفراحه وأحزانه، ويُسْرِف في آماله وتشاؤمه، وحياتنا الاجتماعية في مظاهرها المختلفة واضحة أمام أعيننا نستطيع أن نتعرف منها هذا الغلو في كل شيء. فإذا كان القاضي الفاضل قد بالَغَ في نَثْرِه وشِعْرِه فهو لم يأتِ بشيء جديد على مصر، إنما كان يُعَبِّر عن طبيعة الحياة المصرية، كما عبر عنها غيره من الشعراء والكُتاب الذين أسرَفوا في المبالغة أيضًا.»

ويحاول بعض الباحثين المحدثين أن يعزوا التعقيد في شعر القاضي الفاضل وشدة ولعِهِ بالزينة اللفظية إلى أنه نشأ في بلد غير مصر، ولكننا ذَكَرْنَا من قبل أنَّ ما ذهب إليه القاضي الفاضل إنما أُخِذَ عن الفن المصري الذي كان قبل الفاضل، وأنه كان تلميذًا للمصريين فيما ذهب إليه.

ومهما يكن من شيء، فإن القاضي الفاضل أقلع عن قول الشعر في آخر أيامه، ورفض أن يستمع إلى الشعراء الذين حملوا إليه مدائحهم، وهم الذين طالما مدحوه قبل أن يعتزل الحياة العامة، واسْتَمَعَ إلى أشعارهم وربما وجَّهَ إلى بعضها نقده. ويطول بي الأمر لو تحدثت عن هذه المدائح التي قيلت فيه، فكل شعراء عصره أنشدوا في مديحه والإشادة بخُلقه وفضله، بالرغم من وجود الذين هجوه أمثال ابن عنين، والوهراني الكاتب الذي رَفَضَ الفاضلُ أن يستخدمه في الديوان، فأكْثَرَ من الكتابة في هِجائه في رسائله المشهورة.٤٦

الأسعد بن مماتي (سنة ٥٤٤–٦٠٦ﻫ)

الأسعد شرف الدين أبو المكارم بن الخطير أبي سعيد المهذب بن مينا بن زكريا بن أبي قدامة بن أبي مليح،٤٧ فهو على هذا النحو سليل أسرة قبطية الأصل من مدينة أسيوط، ولُقِّبت الأُسرة ببني مماتي؛ لأنه وقع في مصر غلاء عظيم في زمن أبي مليح، وكان رجلًا كثير الصدقة على الفقراء، فكانوا إذا رأوه نادى كل واحد منهم: مماتي، فاشتهر بذلك بين المصريين، وأصبح هذا اللقب على أسرته كلها. ويُحدثنا الإدفوي في كتابه البدر السافر٤٨ أن أبا مليح مماتي هذا كان اسمه مينا بن أبي زكريا بن أبي قدامة على خلاف ما رواه ابن خلكان، ويضيف الإدفوي أنه كان جوهريًّا بمصر يصبغ البلور صبغة الياقوت فلا يميز بينهما إلا الخبير بالجواهر.٤٩ ويظهر أن أبا مليح استطاع أن يتصل برجالات مصر في عصر المستنصر الفاطمي وأن يتولى بعض الدواوين، بل ذهب ياقوت إلى القول: «وكان إلى مماتي كثير من الأعمال.»٥٠
واستطاع أن يجمع مالًا جمًّا ويمتلك إقطاعات واسعة، وكان مسرفًا في الإنفاق. ويروى عنه أن بعض تجار الهند قَدِمَ إلى مصر ومعه سمكة مصنوعة من عنبر أُحكِم صُنعها ورُصِّعت بالجواهر، فعرضها على الوزير بدر الجمالي ليبيعها منه، فطلب ثمنًا لا ينقص عن ألف دينار، فأُعيدت إلى التاجر فخرج بها من دار الوزير، فرآه أبو المليح مماتي فأخذها منه بألف دينار. واتفق أن شَرِبَ أبو مليح يومًا حتى سَكِرَ وقال لندمائه: «قد اشتهيت سمكًا يُقلى بحضرتنا»، فجيء له بمقلى حديد وفحم، فأخذ أبو المليح تلك السمكة العنبر فتركها في المقلى، فأخذت رائحة العنبر تفوح حتى لم يبقَ بمصر دار إلا ودخلتها تلك الرائحة، وشم الوزير بدر الجمالي تلك الرائحة تزداد، فخشي أن يكون حريق وَقَعَ في خزائنه، فطلب من خُزَّانه أن يفتشوها، فلما لم يجدوا شيئًا طلب منهم أن يعرفوا سِرَّ هذه الرائحة، فجاءوه بالخبر اليقين فاستعظم القضية، وقال: هذا الفاعل الصانع قد أكل أموالي واستبد بالدنيا دوني حتى أمكنه أن يفعل مثل هذا، فلما كان الغد دخل إليه وهو مغضب وقال له: ويحك! أستعظم أنا — وأنا ملك مصر — شراء سمكة من العنبر، فأتركها استكثارًا لثمنها، فتشتريها أنت، ثم لا يقنعك حتى تقليها، وتُذهِب في ساعة ألف دينار مصرية، ما فَعَلْتَ هذا إلا وقد نقلت بيت أموالي إليك وفعلت. فقال له مماتي: والله ما فعلت هذا إلا غيرة عليك ومحبة لك، فإنك اليوم سلطان نصف الدنيا، وهذه السمكة لا يشتريها إلا ملك، فخفت أن يُذْهَب بها إلى بعض الملوك، ويخبره بأنك استعظمتها ولم تشترِها، فأرَدْتُ أن أعكس الأمر، وأُعلِّمه أنك ما تركتها إلا احتقارًا لها، وأن كاتبًا نصرانيًّا من كُتابك اشتراها وأحرقها، فيشيع بذلك ذِكْرُك ويعظم عند الملوك قَدْرُك. فاستحسن الوزير بدر الجمالي ذلك منه وَأَمَرَ له بضعفي ثمنها كما زاد في رزقه.٥١ فإن صحت هذه القصة فهي تدل على أن أبا مليح كان يعيش في عصر بدر الجمالي، وأنه كان كاتبًا من كُتابه. وكان ذا دهاء ولؤم، وكان ذا فطنة وكياسة، فاستطاع بكل هذه المزايا أن يصل إلى قلب وزير الدولة الأول وحاكمها الفعلي. ولعل لقب مماتي أُطلق عليه أثناء الشدة المستنصرية التي انتهت بتسلم بدر الجمالي لزمام الحكم في مصر. ويذكر أمية بن أبي الصلت في الرسالة المصرية أن ابن مكنسة الشاعر المعروف كان منقطعًا إلى أبي المليح هو وغيره من الشعراء، وأن ابن مكنسة رثاه بقصيدة منها:
ماذا أُرَجِّي من حيا
تِي بعْد مَوْت أبي المَلِيحِ
طُوِيت سماءُ المكرما
تِ وكُوِّرت شمسُ المديحِ
ما كان بالنكس الدنـِ
ـيِّ من الرجال ولا الشحيحِ
كفر النصارى بعدما
غدروا به دِينَ المسيحِ
فمن هذه المقطوعة نستدل على أن أقباط مصر ربما كانوا سببًا في قتله، فالتاريخ لا يُحدثنا عن موت هذا الرجل، ولكن الشاعر هنا صريح في هِجاء النصارى الذين غدروا به. وكان هذا الرثاء سببًا في أن يُحْرَم الشاعر ابن مكنسة من عطاء الوزير الأفضل بن بدر الجمالي؛ إذ يقال إن الشاعر دخل إليه مادحًا بعد توليته، فقال له الوزير: ذَهَبَ رجاؤك بموت أبي مليح، فما الذي جاء بك إلينا؟ ولم يقبل مدائحه، وظل بعيدًا عن بلاط الوزير بسبب هذا الرثاء إلى أن توفي.٥٢ وكان أبو مليح هذا هو رأس أسرة بني مماتي التي نبغ فيها اثنان: المهذب الخطير وابنه أسعد بن المهذب. أما الخطير فكان يتولى ديوان الجيش،٥٣ وقيل: بل كان على ديوان الإقطاعات،٥٤ وقيل: بل على الخراج،٥٥ والأصح عندي أنه كان على ديوان الجيش بمصر في أواخر العصر الفاطمي. وظل يتمتع بحريته الدينية إلى أن استوزر أسد الدين شيركوه، وعَلِمَ أن الخطير بن مماتي يتصرف في عمله بلا غيار، فنهاه، وأمره بغيار النصارى وشد الزنار، ورفع الذؤابة، وصَرَفَهُ عن الديوان، وفي ذلك يقول الخطير، وقيل: إن هذين البيتين يُنسبان لعمارة اليمني:
يا أسد الدين ومَنْ عَدْلُهُ
يحفظ فينا سُنَّة المصطفى
كفى غيارًا شدَّ أوساطنا
فما الذي يوجب كشف القفا٥٦

فبادر الخطير بن مماتي هو وأولاده وأسلموا على يد الوزير، فعفا الوزير عنه وأمَّره على ديوان الإقطاعات مدة، ثم صَرَفَهُ بعد ذلك، فهجاه الوجيه ابن الذروي بأبيات منها:

لم يُسْلِم الشيخ الخطيـ
ـر لرغبةٍ في دين أحمَدْ
بل ظَنَّ أن محالَهُ
يُبْقِي له الديوانَ سَرْمَدْ
والآن قد صَرَفُوهُ عَنـْ
ـهُ فدينه فالعود أحمَدْ٥٧

وكان الخطير يتغزل في ابن النحال وزير الملك العادل، وكان أيضًا قبطيًّا وأسلم، فمن قوله فيه:

وشادن لما أتى مقبلًا
سبَّحْتُ رَبَّ العرش باريهِ
ومُذْ رأيت النمل في خده
أيقنت أن الشهد في فِيهِ٥٨

وكان ابن النحال يسكن في أول درب نور الدين، وكان في آخر الدرب صبي جميل الوجه نصراني يُعْرَفُ بابن زنبور، فقال في ذلك الخطير:

حوى درب نور الدين كل شمردلٍ
مشددة أوساطهم بالزنانيرِ
فأوله للشهد والنحل منزل
وآخره يا سادتي للزنابيرِ٥٩

وله في غلام قبطي أيضًا:

يظلمني العاذلون في رشأ
إن قيل كالشمس كان مظلومَا
مُذ حل رسم الصليب في يده
حل بقلبي هواه مرسومَا٦٠

ومن قول الخطير في مدح صلاح الدين الأيوبي:

أعاذلتي إن الحديث شجونُ
مكان سليمي في الفؤاد مكينُ
أأسمع عذلًا في التي تملك الحشا
وأتبعه إني إذن لَخَئونُ
هل العيش إلا قرب دار أحبةٍ
هل الموت إلا أن يخِفَّ قطينُ
وهل لفؤادي منذ شط مزارها
من الوجد إلا زفرة وأنينُ
أبيت رقيب النجم منها كأنما
عيوني لم يُخلق لَهُنَّ جفونُ
كأن ظلام الليل إذ لَاحَ بَدْرُهُ
دجوجي شَعْرٍ لاح منه جبينُ
كأن الثريا ترقُب البدر غيرةً
فقد هَجَرَتْ منها المنام عيونُ
كأن سهيلًا في مطالع أُفْقِهِ
فؤاد مروعٍ خامرته ظنونُ
كأن السها تبدو أوانًا وتَجْتَلِى
لدى الليل سرًّا في حشاه مصونُ
وقد مالت الجوزاء حتى كأنها
كمي بخطي السماك طعينُ
كأن صلاح الدين للشمس نورها
ولولاه ما كان الصباح يبينُ٦١

فهذه القصيدة تدلنا على دقة حِسِّ هذا الشاعر ورقة شعوره، وعلى حُسن اختياره للفظ الذي يتلائم فيه المعنى مع الموسيقى. ثم هذه التشبيهات الكثيرة التي تعطينا صورًا مختلفة لهذا العاشق الذي فارقه حبيبه، فهو مِنْ وَجْدِه في أنينٍ وزفرة، وفي سهاد كأن عيونه لم يُخلق لها جفون، وتشبيهه ظلام الليل وقد انتشر في الأفق بينما لاح القمر في السماء في وسط هذا الظلام بوجه الحبيب عندما يُسْفِر وقد أحاط به شَعره الأسود، وهذه الثريا ترنو إلى القمر وكأنها في غيرة منه وجعلتها هذه الغيرة لا تنام، وهذا كوكب سهيل يرتعش وَمِيضُه كأنه خائف مرتاع تساوره الظنون والأوهام، وهذا نجم السها حينما يبدو ويختفي كأنه ذلك الذي يحفظ سِرًّا لا يريد أن يَطَّلِع عليه أحد، وهذا كوكب الجوزاء وكأنه ذلك المقاتل الذي يطعن السماك. كل هذه الصور المختلفة رَسَمَهَا لنا الخطير بن مماتي في تلك الدقة التي تدلنا على أنه كان فنانًا دقيق الحس حقًّا، واسع الخيال، يجيد فنه. ثم انظر كيف تخلص هذا الشاعر في رقة ولباقة إلى الغرض من القصيدة وهي مدح صلاح الدين، فشبه صلاح الدين بالشمس التي لولاها ما كان ينبلج الصباح، كل ذلك صور يتلو بعضها بعضًا في سهولة ورِفْق شأن الفنان المتمكن من فنه.

وتوفي الخطير في ٦ رمضان سنة ٥٧٧ هجرية.

أما الأسعد بن مماتي فقد خلف أباه على ديوان الجيش وتصدر فيه مدة طويلة وأُضيف إليه ديوان المال، واستمر على هذه الدواوين أيام صلاح الدين وابنه العزيز، واختص بالقاضي الفاضل فحظي عنده، وكرم لديه، وأشاع من ذِكْره، ونبه على فضله، وصنف للقاضي الفاضل عدة كُتب باسمه، ومدحه بعدة قصائد منها:

لا تلُم في اضطرابنا لاحمراره
جُلُّ نار القلوب من جلنارِهْ
وهْو حدٌّ يكاد يُقبض منه
كل طرف لولا اعتذار عِذارِهْ
ما رأى منكرًا رُضاب مُدامٍ
مُذ روى طرفه حديث خُمارِهْ
ليس فيه من راحةٍ لمريدٍ
قبلة تطفئ اضطرام اضطرارِهْ
غير أن الحياء فيه مُضاهٍ
للحيا في انهماله وانهمارِهْ
أوجدا الفاضل الذي أوجد الجُو
د فمن كفه انفجار بحارِهْ
ذلك السيد المشيِّد للمَجـْ
ـد إلى أن أتى على إيثارِهْ
مَنْ غذا الدهر باسمه بَاسِم الزهـ
ـر ضحوكًا به بهار نهارِهْ
لم يطفنا من بِره ورْد وعد
لم يَشنه انتظام شوك انتظارِهْ٦٢

ولعلك لاحظت في هذه المقطوعة هذا التكلف وذلك التصنع الذي ظَهَرَ ظهورًا لافتًا في كل بيت من تلك المقطوعة، فبالرغم من أن الأسعد لم يكن يميل إلى الجناس — كما ذكرنا من قبل — ولكنه هنا اضطر إلى أن يستخدمه؛ لأنه كان يمدح القاضي الفاضل الذي كان يعشق هذا التلاعب اللفظي، فخاطَبَهُ الأسعد بالفن الذي يعشقه. وعلى هذا النحو من الشعر كان ينشد الأسعد كلما مدح الفاضل.

لم يزل الأسعد متصلًا بالأيوبيين وعلى ديوانهم إلى أن وَزَرَ ابن شكر للملك العادل، وكان بين الوزير الجديد وبين الأسعد عداوة قديمة منذ كان الأسعد رئيسًا على ابن شكر، وكثيرًا ما كان يهينه، فحقدها ابن شكر عليه إلى أن صارت إليه الوزارة، فأقبل بكُلِّيَّتِه على الأسعد، وفوض إليه جميع الدواوين لمدة سنة كاملة اطمأن فيها الأسعد إلى هذا الوزير الجديد، ثم أظهر الوزير حقده الدفين بعد مؤامرات دسها عليه، وأَوَّلَ أعمالَ الأسعد تأويلاتٍ نَكَبَهُ على إِثْرِهَا نَكْبة شنيعة، وطالبه بأموال جمة لم يكن له وَجْه فيها، وأخال عليه الجنود فطالبوه وآذوه، وعُلِّقَ في المطالبة على باب داره في الطريق العام إحدى عشرة مرة في يوم واحد، فلما رأى الجند أنه لا يستطيع الوفاء بالمال قيل له: تحيل ونَجم هذا المال، فقال الأسعد: أما المال فلا وَجْهَ له عندي، ولكن إن أُطْلِقْتُ استجْدَيْتُ من الناس، فليس لي بعد ما أخذتموه درهم واحد، فأُطلِق بعد أن قُسِّطَ المال عليه، وبقي مدة قصيرة إلى أن حل بعض القسط عليه فاختفى في مقبرة في القرافة، وأقام هناك مدة عام كامل حتى ضاق الأمر عليه، فهرب قاصدًا إلى الشام، وبينما هو في الطريق لحقه فارس مُجِدٌّ سَلَّمَ إليه مكتوبًا، فإذا هو من الوزير يقول فيه: لا تحسب أن اختفاءك عني كان بحيث لا أدري أين أنت، ولا أين مكانك، فاعلم أن أخبارك كانت تأتيني يومًا يومًا، وأنك كنت في قبور المادرائيين بالقرافة منذ يوم كذا، وأنني اجتزت هناك واطلعت فرأيتك بعيني، وأنك لما خرجت هاربًا عَرَفْتُ خَبَرَكَ، ولو أرَدْتُ رَدَّكَ لَفَعَلْتُ، ولو علمت أنك قد بقي لك مال أو حالٌ لما تركتك، ولم يكن ذنبك عندي مما يبلغ أن أُتْلِفَ معه نفسك، وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفًا، فقيرًا، غريبًا، ممججًا في البلاد، فلا تظن أنك هربت مني بمكيدة صَحَّتْ لك عليَّ، فاذهب إلى غير دعة الله. فعندما قرأ الأسعد هذا الخطاب بقي مبهوتًا إلى أن وصل حلب، وقد أنشد في هذه القصة:

تَنَكَّرَ لي ود الصفي ولم أكن
به رافعًا رأسًا لو اعتدل الزمنْ
ولكن علا عند انخفاضٍ وساءني
وحسْبُك من شخصٍ تركت له الوطنْ

وقال أيضًا إبان محنته:

لا تَقْبَلَنَّ من الوشا
ة وتُقبلن على العواذِلْ
فالعين قد جنت بِبُعْدِ
ك والدموع لها هواطِلْ

واتصل هناك بالوزير جمال الدين الأكرم ونزل في داره، وعندما عرف الملك الظاهر بن صلاح الدين خبره أجرى عليه رزقًا دون أن يستعمله، إلى أن توفي بحلب سنة ست وستمائة للهجرة.

كان الأسعد بن مماتي من الأدباء المؤلفين، ويَذْكُر ياقوت من كتبه كتابَ تلقين التفنن في الفقه، وكتاب سِر الشعر، كتاب علم النثر، كتاب سلاسل الذهب — وهو ذلك الكتاب الذي أَلَّفَه للقاضي الفاضل، وكان أولًا بعنوان الشيء بالشيء يُذكر، فسماه القاضي الفاضل بسلاسل الذهب — كتاب تهذيب الأفعال لابن ظريف، كتاب قرقرة الدجاج في ألفاظ ابن الحجاج، كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش، كتاب لطائف الذخيرة لابن بسام، كتاب ملاذ الأفكار وملاذ الاعتبار، كتاب سيرة صلاح الدين، كتاب أخاير الذخائر، كتاب كرم النجار في حفظ الجار — أَلَّفَه باسم الملك الظاهر عندما قَدمَ عليه حلب — إلى غير ذلك من الكُتب التي ذَكَرَها ياقوت. ويصف ياقوت هذه الكُتب بقوله: «وله تصانيف كثيرة يقصد بها قصد التأدب، وفي معرض وقائع تجري، ويعرضها على الأكابر، لم تكن مفيدة إفادة علمية، إنما كانت شبيهة بتصانيف الثعالبي وأضرابه.»٦٣

ولم يذكر ياقوت كتابين ذَكَرَهُما ابن خلكان: الأول كتاب نظم كليلة ودمنة، والثاني ذلك الكتاب القيِّم: كتاب قوانين الدواوين الذي نشره الأستاذ الدكتور سوريال عطية.

من هذا كله نستدل على أن الأسعد لم يكن شاعرًا فحسب أو كاتبًا من كُتاب الدواوين المالية، إنما كان أديبًا مؤلِّفًا، كما كان سريع البديهة حلو النكتة. أما شعره فهو — مثل شعر القاضي الفاضل — ضعيف في جملته لم يرتفع إلى درجة غيره من الشعراء المعاصرين، وذلك بسبب التكلف الذي اضطر إليه، فانظر إليه وهو ينشد السديد عَلَم الرؤساء ابن رفاعة:

إن قلبي من شُقة البين يخشى
وفؤادي من شقوة البين يخشَعْ
ومقامي يقضي بطول سقامي
إذ لحاظي من قبل تطمح تطمَعْ
وغدوِّي فيما يَسُرُّ عَدُوِّي
ويُريه من القلى ما توقَّعْ
ولقد عِيلَ في الصبابة صبري
فإلى كم أسير في غير مهيَعْ
أنا صبٌّ بغادةٍ تشبه الطا
ووس إذ كان حُسْنُها يتنوَّعْ
ذات لفظ كأنه ثغرها الأشـْ
ـنب لو أن دره يَتَجَمَّعْ
لِيَ من عُجبها رقيب قريبٌ
فهْيَ في كل حالةٍ تتمَنَّعْ
مَنَعَتْ طيفها الزيارة حتى
صِرْتُ من منعها له لسْتُ أَهْجَعْ
واستقلَّتْ دمعي غداة استقلتْ
بجمالٍ فقلت لو كان ينْفَعْ
هو مني دم جرت معه العيـ
ـن فقالوا دمعٌ لأني أجزَعْ
ثم وَلَّت سُقمًا عليَّ وولَّت
وفؤادي مما تَصَدَّى تَصَدَّعْ
قلت إلا وقفتِ يا شمس للصب
فقالت هيهات ما أنت يوشَعْ
وغرامي بها كفضل أبي القا
سم في كل ساعة يتفرَّعْ
كم أرانا الرياض في لفظه النثـ
ـر فخلنا دروجه تتوشَّعْ
وسقانا مُدام معنًى بديعٍ
في قريضٍ مُصَرَّع بل مُرَصَّعْ٦٤

لعلي في غنى عن التعليق على ضعف هذا الشاعر، فصناعته واضحة في القصيدة، غير أن لهذا الشاعر مقطوعات خالية من التكلف وصادرة عن طبيعته نستطيع أن نلمس فيها فنه الطبيعي، فمن ذلك قوله يصف جزيرة الروضة:

جزيرة مِصْرٍ لا عدتك مسرة
ولا زالت اللذات فيكِ اتصالُهَا
فكم فيكِ من شمس على غصن بانَةٍ
يميت ويحيى هَجْرُها ووصالُهَا
مغانيكِ فوق النيل أضْحَتْ هوادجًا
ومختلفات الموج فيها جمالُهَا
ومن أعجب الأشياء أنك جَنَّةٌ
ترف على أهل الضلال ظِلَالُهَا٦٥

وقوله في وصف الخليج:

خليج كالحسام له صقال
ولكن فيه للرائي مَسَرَّهْ
رأيتُ به المِلَاحَ تعوم فيه
كأنهمو نجوم في المجرَّهْ٦٦

هكذا نرى جميع شعراء مدرسة الشعراء والكُتاب يضعف شعرهم عندما يتعمدون الزينة والتكلف، ويرق شعرهم عندما يعودون إلى طبعهم.

١  ابن حجة الحموي: خزانة الأدب، ص٨.
٢  نفس المرجع السابق.
٣  المغرب، ص٢٥٥.
٤  المغرب، ص٢٧٧.
٥  الخريدة، جزء ٢، ص١٦٩.
٦  وفيات الأعيان: ابن خلكان، ص٥٢.
٧  ديوان البهاء زهير، ص٢٢.
٨  نفس المرجع السابق، ص١٤٥.
٩  ديوان البهاء زهير، ص١٦٤.
١٠  اليونيني: ذيل مرآة الزمان، ج١، ص١٨٤، طبع حيدر آباد. العماد: الشذرات، ج٥، ص٢٧٦. السيوطي: حسن المحاضرة، ج١، ص٣٢٧.
١١  الديوان، ص١٠٥.
١٢  الديوان، ص٧٢.
١٣  راجع هذه القصة في ذيل مرآة الزمان لليونيني، ج١، ص١٨٥، (طبع حيدر آباد).
١٤  المصدر السابق، ج١، ص١٨٧.
١٥  الصفدي: الغيث، ج٢، ص٣٤٢.
١٦  الحموي: خزانة الأدب، ص٤٥٤.
١٧  نفس المرجع السابق.
١٨  راجع ابن شاكر: فوات الوفيات، ج٢، ص٢٢١.
١٩  راجع ما كتبناه من ذلك في كتاب أدب مصر الفاطمية.
٢٠  راجع ما كتبه العماد في الخريدة، الجزء الأول.
٢١  الحموي: خزانة الأدب، ص٢١.
٢٢  العماد: الخريدة، ج١، ص٣٦.
٢٣  نفس المرجع السابق، ج١، ص٤٤.
٢٤  خزانة الأدب، ص٥١.
٢٥  ابن خلكان، ج٢، ص٤٠٨.
٢٦  ابن العماد: شذرات الذهب، ج٢، ص٣٢٤.
٢٧  ابن خلكان، ج٢، ص٤٠٨.
٢٨  نفس المصدر السابق.
٢٩  نفس المصدر السابق.
٣٠  نفس المصدر السابق.
٣١  نفس المصدر السابق.
٣٢  عمارة اليمني: النكت، ص٥٣.
٣٣  الصفدي: الغيث، ج٢، ص٣٤٢.
٣٤  ابن العماد: الشذرات، ج٤، ص٣٢٧.
٣٥  أبو المحاسن: النجوم، ج٦، ص١٢٨.
٣٦  ابن إياس: بدائع الزهور، ج١، ص٧٥.
٣٧  الصفدي: الغيث، ج٢، ص٣٤٣.
٣٨  أبو شامة: الروضتين، ج١ ص١٥٩.
٣٩  ابن العماد: الشذرات، ج٢، ص٣٢٥.
٤٠  ابن العماد: الشذرات، ج٤، ص٣٢٥.
٤١  أبو المحاسن: النجوم الزاهرة، ج٦، ص١٥٧.
٤٢  ابن العماد: شذرات الذهب، ج٤، ص٣٢٥.
٤٣  ديوان القاضي الفاضل.
٤٤  نفس المرجع السابق.
٤٥  الحموي: خزانة الأدب، ص٢٤٣.
٤٦  راجع رسائل الوهراني، نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم ٢٤ أدب.
٤٧  ابن خلكان، ج١، ص٦٨.
٤٨  ص١١٤.
٤٩  نفس المرجع السابق، ص١٩٨.
٥٠  معجم الأدباء، ج٦، ص١٠٤.
٥١  راجع ياقوت: معجم الأدباء، ج٦، ص١٠٤ وما بعدها.
٥٢  راجع أدب مصر الفاطمية، ص١٨٨ وما بعدها.
٥٣  الخريدة، ج١، ص١١٣.
٥٤  ياقوت، ج٦، ص١٠٩.
٥٥  خطط المقريزي، ج٢، ص١٦٠.
٥٦  ياقوت: معجم الأدباء، ص١١٠. وكتاب شعراء النصرانية بعد الإسلام.
٥٧  ياقوت: معجم الأدباء، ج٦، ص١٠٩.
٥٨  العماد: الخريدة، ج١، ص٣١٥ وما بعدها.
٥٩  ياقوت: معجم الأدباء، ج٨، ص١١.
٦٠  العماد: الخريدة، ج١، ص١١٤.
٦١  العماد: الخريدة، ج١، ص١١٥.
٦٢  العماد: الخريدة، ج١، ص١١٣.
٦٣  ياقوت، ج٦، ص١١٧.
٦٤  العماد: الخريدة، ج١، ص١٠٤.
٦٥  السيوطي: حسن المحاضرة، ج٢، ص٢٠٧.
٦٦  نفس المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤