خاتمة

هكذا كانت حياة الشعر في العصر الأيوبي، تعدَّدَتْ أغراضه وموضوعاته بتعدد الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على مصر في هذا القرن من الزمان، عَبَّرَ عنها الشعر تعبيرًا دقيقًا؛ هو ذلك التعبير الذي شعر به الشعب المصري أمام هذه الأحداث الجسام. لم يكن الشعر متصلًا بالأمراء والسلاطين فحسب، إنما اتصل بصميم الحياة. أصبحنا نرى الشعر المصري مرآةً للحياة المصرية من جميع نواحيها، وليس مرآة لحُكَّامها فقط، فقد انحرف الشعراء بعض الشيء عن الملوك وبدءوا يتصلون بالوزراء، وولاة الأقاليم، ورؤساء الدواوين، كما اتصل بعضهم ببعض، واتصلوا أيضًا ببقية الشعب، فأصبح شِعْر هذا العصر من الوثائق التاريخية الهامة التي يجب أن نعتمد عليها في تصوير بيئتنا المصرية في النصف الأخير من القرن السادس والنصف الأول من القرن السابع من قرون الهجرة.

أَضِفْ إلى ذلك كله أن هذه الأحداث التي مَرَّتْ بالبلاد في هذه الفترة أَوْجَدَتْ فنونًا جديدة لم يعرفها أدبنا العربي في كل بيئاته من قَبْل، إنما وُجِدت في هذا العصر على نحو ما ذَكَرْنَاه، فكان الشعر معبِّرًا عن هذه التطورات التي حَلَّتْ بالعالم الإسلامي، خَيْرِها وشرها، هذا مع ما طالبت به البيئة المصرية من إخضاع الفن لها، فوجدنا الشعراء يتجهون إلى هذا الأسلوب السهل الرقيق، وإلى الفُكاهة الحلوة، وإلى المقطوعات بدلًا من القصائد، وإلى الأوزان الخفيفة أو المجزوءة بدلًا من الطويلة، كل ذلك كان بتأثير بيئة مصر السهلة اللينة. ثم ما نراه من مبالغة شديدة، تلك المبالغة التي تُعتَبَرُ من أخص خصائص المصريين في أقوالهم وأفعالهم … كل ذلك ظَهَرَ بوضوح في شعر المصريين في العصر الأيوبي. لم تنسَ مصر شخصيتها وهي تحت حكم الأكراد، ولم تَفْقِدْ مصر كيانها أو قوتها حينما كان يحكمها أغراب عنها، فمصر هي مصر، إن خضعت حربيًّا للفاتحين فإنها تستطيع أن تهضمهم وأن تُخْضِعَهُمْ لها، دون أن تخضع هي لهم، أو تفنى هي فيهم، وهذه هي مصر في كل عصورها التاريخية: أحداث تتجدد عليها وهي صامدة كالطود الراسخ، لا تؤثر فيها تلك الأحداث إلا كما يؤثر النمل في الجبل، لا تفقد شخصيتها مع الزمان وتوالي الأيام، إنما تسخر هي من الأحداث والنوائب، وتخرج من كل حادثة وقد انتصرت، وستظل مصر كذلك مدى الدهر، في سخرية من القَدَر، وفي قوة كامنة لا تُقْهَر، وفي اعتزاز ومحافظة على شخصيتها.

وبعد، أرجو أن أكون قد وُفِّقْتُ إلى إظهار حياة الشعر في هذا العصر، ولا يسعني إلا أن أقدم شكري إلى أبنائي الطلبة: أحمد جابر النحَّاس، وأسامة يوسف أحمد، وحسن دسوقي عبد الجواد الشرقاوي؛ لما أظْهَرُوه من تضحية بوقتهم في سبيل زملائهم، وما تجشموه من تعب، وأنا أُملي عليهم هذا الكتاب الذي اضْطُرِرْتُ إلى أن أتمه في هذا الوقت القصير حِرْصًا على مصلحة الطلبة، وما قاموا به من تصحيح تجارب المطبعة، مما لا يسعني إلا أن أَذْكُرَ ذلك لهم وإعجابي بما بذلوه.

محمد كامل حسين
الجيزة في ١٠ ديسمبر سنة ١٩٥٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤