إقناع فاقتناع فقانون

ألا ما أكثر الأخطاء البريئة التي يخطئها الإنسان مدفوعًا بأطيب النوايا! فلكم اشتدت بنا الرغبة — أيام الشباب — في أن نسرع بالأمة نحو التغيير، الذي يخرجها من تخلفها الطارئ، ليدخلها في رحاب التقدم الحضاري، كما هو مفهوم بمعايير عصرنا! وكم كانت تضيق بنا صدورنا، كلما نظرنا فلم نجد تقدمًا، كأنما يخيل إلينا أن الأمة في حركاتها، تقفز إلى أعلى لتعود فتقف حيث كانت، ولا تقفز إلى أمام قفزةً، تكسبها مزيدًا من رقعة الأرض! فكنا نتساءل بانفعال الشباب وحماسته: لماذا لا يفرض التقدم المطلوب فرضًا على الناس بقوة التشريع، كما حدث في بلادٍ أخرى، مثل تركيا بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»؟ كنا نقول ذلك، وأكثر من ذلك، لا يشفع لنا في سذاجتنا إلا النوايا الطيبة.

وكان موضع السذاجة فينا، هو الظن بأن تغيير الشعوب قد يأتيها من خارج نفوس أبنائها، كما قد ينبثق من داخل تلك النفوس، بل ربما ظننا أن التغيير المقحم عليها من الخارج أسرع تحققًا وأدوم أثرًا؛ لأنه سيغزوها مستندًا إلى قوة القانون، الذي يستند بدوره على قوة الحديد والنار.

وأما مع النضج، وما يصاحب النضج من دقة التحليل وصحة النظر، فالبديهية الأولى في تطوير الشعوب، هي أن يكون ذلك التطوير منبثقًا من إرادة الناس، فليس الشعب قطعةً من الصفيح، يشكلها الصانع بأدواته، على أي صورة أراد، فيبسطها إذا أراد ويكوِّرها إذا أراد، لا، فما الشعب إلا أنت وأنا وأخوك وأخي وجارك وجاري، فانظر إلى نفسك، وكيف تستقيم لك الأمور في حياتك العملية؛ ينكشف لك طريق الشعب في معالجته لشئون حياته، نعم، إنه قد يرغم على السير على هذا الخط المرسوم له، أو في ذاك المنحنى، لكنه لا يلبث أن يرتد عما أُرغم عليه، ليعود سيرته الأولى، كما كانت قبل عوامل الإرغام، فلا عجب أن يقال عن الانقلابات، التي يحدثها أفراد بغير إرادة شعوبهم: إنها سرعان ما تزول فتزول آثارها.

مدرب الحيوان في ملاعب السيرك، هو الذي يغض النظر عن طبيعة الكائن الحي الذي يدرِّبه، ليفرض عليه من عنده طبيعةً أخرى، فيرغم الفيل أو الأسد على أن يتجاهل سطوته وقوته، ليُحرَّك كما تتحرك القردة أو الكلاب أو ما شاء له مدربه، وقد يضحك مني القارئ إذا أنبأته كم يقسو على نفسي، أن أرى أسدًا أو فيلًا في حلبة السيرك، وقد فقد عزته وذل «ليتفرج» الإنسان ويلهو! وقلما أطيل الجلوس أمام مشاهد الإذلال هذه.

وللسيرك أشياء حديثة نشأت في حياة الإنسان، وهي حالات «غسل المخ» من أفكاره، لتوضع مكانها أفكارٌ جديدة، وليس السؤال المهم هنا هو: أي الأفكار أصلح، الأفكار المغسولة التي مُحيت، أم الأفكار الدخيلة التي زُرعت مكانها؟ أقول إن ذلك ليس هو السؤال الذي يهمنا الآن؛ لأن مدار اهتمامنا في هذا الحديث هو «الإرادة»، فمهما يكن من حقيقة الفكرة أو حقيقة السلوك، الذي أقحمناه على الإنسان من خارج نفسه، إقحامًا رغم إرادته، فهو سلوك أو هي فكرةٌ شيطانية، لا تنمو ولا تُورِق ولا تُثمِر.

التغيير الطبيعي الوحيد، هو ذلك الذي يصدر عن اقتناع، أو عن إيمانٍ حقيقي عند المتغير، أو بعبارةٍ أخرى، هو ذلك الذي يجيء عن «إرادة» الشخص أو الشعب الذي يتغير، وفي هذا المعنى كتب برنارد شو يومًا رسالة إلى الأديب القصصي هنري جيمس، المشهور في ميدان علم النفس، وكانت الرسالة متصلة بالحركة الاشتراكية، التي أطلقوا عليها اسم «الفابية»، وكان برنارد شو من ألمع روادها، فقال في رسالته تلك ما معناه: ماذا يفيد الناس من كل هذه المسرحيات التي أكتبها، بل ماذا يفيدون من أي كتابة يكتبها كاتبٌ مهما كان نوعها، ما لم تبث فيهم «إرادة» تنزع بهم من بواطن نفوسهم، نحو أن يستبدلوا بالحياة المريضة التي يحيونها هنا على الأرض، حياةً أخرى كالتي يحياها الملائكة في السماء؟ إنها الإرادة هي التي تمضي بصاحبها نحو أهدافه، وبغيرها يظل ما نكتبه كالهباء.

وأظنه قد بات واضحًا، على ضوء هذا الذي قلناه، ماذا تكون المهمة الأولى للمثقفين؟ إذ هي قبل أي شيءٍ آخر وبعد أي شيءٍ آخر، مهمة «التنوير» التي تضيء ولا ترغم، ونجاحها مرهون بأن تتولد في قلوب الناس «إرادة»، ترغب من تلقاء نفسها فيما يُراد لهؤلاء الناس أن يرغبوا فيه، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا — بجملةٍ أخرى — إن مهمة المثقفين هي أن يميلوا بالناس، نحو أن يستبدلوا بمجموعة قيمٍ عتيقةٍ كامنة في صدورهم، مجموعةً أخرى من القيم الجديدة، الصالحة للموقف الجديد في العصر الجديد، فما أكثر ما تتردد الآن كلمة «قيم» على ألسنتنا وعلى أقلامنا، وكأن المقصود بها كائنات من الأطياف الشبحية المتلفِّعة بسواد الغموض، ولنلحظ هنا بأن هذه الكلمة — كلمة «قيم» — لم تكن مألوفة بين الكتاب العرب، الأقدمين منهم والمحدثين، حتى هذه العشرات الأخيرة من السنين، ولا غرابة أن تظل على كثيرٍ من غموض المعنى في أذهان الناس؛ لأن الاستعمال لم يصقلها بعدُ، بحيث تلمع بمعناها المرشد المفيد، وعندي أن معناها لا يرشد ولا يفيد، إلا إذا فهمناها على أنها «الرغبات»، التي نراها مُجسَّدة في مسالك الناس، وهم في نشاطهم العملي، فإذا أردنا لهؤلاء الناس أن يغيروا مسالكهم تلك، فما علينا بادئ ذي بدء، إلا أن نغير الرغبات الراقدة في النفوس، وتغيير رغبة برغبةٍ أخرى، هو على وجه الدقة ما نعنيه، عندما نريد تغيير قيمة بقيمة سواها في عالم «القيم».

المهمة الأولى التي يضطلع بها المثقفون — إذن — هي التنوير، الذي يُرجى منه أن يغير الناس على ضوئه رغبات عندهم يعيشون بدوافعها، برغباتٍ أخرى يراها المثقفون أَولى وأجدى، وأكثر ملاءمة للظروف، وبكلمةٍ أخرى نقول إن مهمة المثقفين، هي «إقناع» الناس بالجديد المطلوب. وحركات التنوير في التاريخ الفكري كثيرة، ومعظمها معروف للقارئ معرفةً تكفيه، ومن ذا لا يعرف بالقدر الذي يكفيه عن حركة التنوير الكبرى في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، وروَّادها فولتير وديدرو ومونتسكبيه، وهي الحركة التي انتهت بالناس إلى الثورة الفرنسية، وما جاءت تحمله معها من «القيم» الجديدة؟

وفي التاريخ الفكري الحديث، قامت في إنجلترا في الجزء الأول من هذا القرن الحركة «الفابية»، التي أشرت إليها منذ حين، وذكرت من أعلامها برنارد شو، ولكن أسطع نجمين في سمائها، كان سدني وب وزوجته بياترس وب، خصوصًا الزوجة، حتى لقد قيل إنها هي التي كانت تلمع بالأفكار الجديدة، فيصوغها برنارد شو في رسائل الجمعية ونشراتها، وإنه لمما يمتعك حقًّا أن تقرأ لهذه الجماعة أو تقرأ عنها؛ إذن لرأيت كيف تكون الحياة الثقافية في أعلى ذراها، وماذا تكون أُولى مهامها، وأعني بها مهمة «التنوير»، تمهيدًا لاقتناع الناس بالفكر الجديد، فتتكون في بواطنهم إرادة التغيير. ولقد كان مما قاله سدني وب في هذا الصدد: إنني لا أتصور كيف يجيء التحول الذي نريده نحو الاشتراكية، إلا إذا بدأنا بإقناع أصحاب الثقافة في إنجلترا، وهم لا يزيدون في رأيي على ألفين، وعن طريق هؤلاء تتسع دائرة الإقناع، إلى أن تعمَّ رقعةًّ فسيحة من أبناء البلاد، وفي مستطاعنا بغير شك أن نرتِّب الصلات المثمرة مع هؤلاء المثقفين. ولقد أثمرت الحركة الفابية ثمرتها بالفعل فنشأ حزب العمال، وقامت حكومات يتولى زمامها عمال.

وفي رأيي أن حياتنا الفكرية في مصر، قد شهدت تنويرًا من هذا الطراز، كان مكثفًا في الأعوام العشرة الأولى من هذا القرن، وفي العقدين الثالث والرابع (العشرينيات والثلاثينيات)، وإنه لمما يلفت نظري سؤال كانت الجمعية الفابية قد طرحته، وكذلك طرحته جماعة التنوير في مصر، وهو: أيكون الاعتماد الأول في التنوير على حركة إحياءٍ روحي، تستهدف تغيير القيم في النفوس، فتتغير الحياة العملية تبعًا لذلك، أم يكون الاعتماد الأول على النشاط السياسي، الذي يتولى إنقاذ البلاد من مستعمريها والمستبدِّين بحكمها؟ وكانت الإجابة عند الجمعية الفابية أصرح منها عندنا في مصر؛ لأنهم هناك آثروا أن تكون الأولوية للتنوير الفكري، وبعده يأتي التغيير السياسي نتيجةً طبيعية (وهو رأي قريب من رأي الشيخ محمد عبده في ذلك)، وأما عندنا في مصر فقد تشابك الطرفان، حتى أوشك كل نشاط للتنوير الفكري، أن يجيء على أقلام نفرٍ، شغلوا أنفسهم بالنشاط السياسي في الوقت نفسه.

ومن أهم الجوانب التي أردتُ إبرازها في حديثي هذا، هو التعاقب الترتيبي بين الإقناع والاقتناع، ثم القانون الذي يُقنِّن ما قد أصبح الشعب مؤمنًا به، فهذه الخطوات الثلاث، تشير إلى أركانٍ ثلاثة من البنية الاجتماعية، فالإقناع — كما قلنا — هو مهمة المثقفين على اختلاف أنواعهم وتنوِّع نشاطهم، من جامعاتٍ ومراكز للبحوث وأدباء وفنانين وصحافة وإعلام بأوسع معانيه، هؤلاء جميعًا هم مصادر النور، الذي يلقي الأضواء على الجديد المأمول، وأما الإقناع فهو الحالة التي يُرجى حدوثها عند الجمهور بكل درجاته، وأخيرًا تأتي الدولة بمنظماتها لتصوع القوانين وتعمل على تنفيذها، والخلط في هذا الترتيب يؤدي عادة إلى خلق عقبات على طريق النمو والتطور، وأعني بالخلط أن تجعل الدولة من نفسها موجهة للمثقفين، أو أن يعطي المثقفون لأنفسهم حق التشريع قبل أن تخرجه الدولة قانونًا معمولًا به.

وما دام «الإقناع» هو الخطوة الأولى في طريق السير إلى أمام، ثم ما دام الجمهور بكل درجاته، هو الهدف إلى أن يتم لديه اقتناع، فمن الضروري ومن المفيد أن نصبَّ عليه الضوء لنجلوه أمام الأبصار، ولسنا نجد في هذا السياق ما هو أنصع مما قاله بعض الفلاسفة المسلمين الأولين (ابن رشد بصفةٍ خاصة)، استنادًا إلى الآية الكريمة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ — فها هنا ثلاثة مناهج في الإقناع، تختلف باختلاف الناس في درجات التفكير، والمناهج الثلاثة هي: «الحكمة» التي هي البرهان العقلي وعلى أسسٍ علمية، و«الجدل» وهو ضربٌ غير برهاني من الإقناع؛ لأن الجدل يجعل شواهده الأولى التي يعتمد عليها، أقوالًا مشهورة يقبلها الناس بغير تمحيص؛ إذ يكتفون فيها بأنها أقوال لها مكانتها في قلوبهم؛ إما لشدة ذيوعها فيهم؛ وإما لمكانة قائليها، وهذا المنهاج الجدلي، وإن لم يقنع صفوة العلماء المدقِّقين، فهو قد يكفي لإقناع أواسط الناس، الذين لا هم يصبرون على دقة البراهين العقلية العلمية، ولا هم من الناحية الأخرى يقبلون المزاعم بغير الشواهد التي تؤيدها، وأما المنهاج الثالث، فهو «الموعظة»، وهذه تصلح للشعب عامة؛ لأن عامة الناس تريد منك ما هو أشبه بالخطابة، لتؤثر في عاطفتها وتثير حماستها، وبناء على توجيه الآية الكريمة في وسائل بثَّ الدعوة، يكون لكل فئةٍ من الناس وسيلتها الصالحة لإقناعها.

والمناهج الثلاثة جميعًا: الحكمة، والجدل، والموعظة، مطلوبة لنا اليوم لنتَّجه بالدعوة الثقافية، التي ندعو بها إلى حياة العصر الجديد، اتجاهات تنتج الأثر الذي يبقى ويثمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤