ليس إيمان الدراويش

للإيمان معنًى عند القوي القادر، يختلف عن معناه عند الضعيف العاجز، معناه عند القوي أن يكون له مبدأ يرتكز عليه، ثم هدف يعمل على بلوغه بهدًى من ذلك المبدأ، وهو فيما بين المبدأ والهدف يحتكم إلى العلم وحده؛ ليرسم له الطريق خطوةً خطوة، وأما معناه عند الضعيف فهو التمني بألا تجري الحوادث وفق أسبابها، لعل مشكلاته أن تنحل من حيث لا يدري.

إيمان القوي عملٌ هادف، وإيمان الضعيف قعود ينتظر، إنه لا إيمان إذا أخذتَ تكرر لفظة «الإيمان» ألف ألف مرة، حين تصبح وحين تمسي، كما أنه لا شفاء من مرض، إذا أخذت تكرر اسم الدواء. حين يبذر الفلاح بذوره في الأرض، ويظل يرعى حتى يثمر ما أراد له أن يثمر، فهو مؤمن إيمان الأقوياء؛ لأنه ارتكز إلى بدايةٍ صحيحة، واهتدى بالعلم (أو بالخبرة السليمة التي هي من العلم)، في رعايته لزرعه، فكان حتمًا أن يبلغ هدفه المقصود، أما الذي يبح صوته من صياحه بلفظة الإيمان، دون أن يكون لمسيرته بداية ونهاية ووسط يربط بينهما، فذلك هو العاجز الضعيف.

كان لكاتب هذه الأسطر شأن في مكتبٍ حكومي، فذهب ليسعى نحو قضائه، وهنالك وجد من الزحام أمام الموظف المكلف بأداء العمل، ما ظن معه أن شأنه ذلك لن يقضى في أيامٍ أو أسابيع، ومع ذلك فقد مدَّ ذراعه ممسكًا بأوراقه مع مئات الأذرع الممتدة بأوراقها، وكأنما يئس الموظف المسكين من أن يزحزح شيئًا من هذا الجبل الراسخ؛ فأبطأ الحركة عامدًا، ينقل ورقةً من هنا إلى هناك، ثم يعيدها إلى حيث كانت، يتلفَّت إلى يمينه وإلى يساره باحثًا عن لا شيء، فقال قائل: لو كنا في عصر المعجزات، لارتقبنا المعجزة تقضي لنا شئوننا! وهنا وجد الموظف الغارق في غيبوبته قشة النجاة؛ وضع القلم من يده، والتفت إلى المتحدث وأخذ يعنفه، قال: ليس للمعجزات عصر معين يا سيد يا محترم! إن كل عصر هو عصر معجزات، فيجوز أن أغمض عيني وأفتحها، فلا أجد أمامي أحدًا، لغير ما سببٍ معلوم، هذه هي قلة الإيمان التي أودت بنا في الداهية.

هكذا انطلق الموظف في خطبةٍ واعظة، ولقد سكت الواقفون وجمدت أيديهم على أوراقهم، ولم تزل مئات الأذرع ممتدة، إن أحدًا منهم لم ينطق بكلمةٍ، إلا أن تكون تأييدًا للرجل، وتشجيعًا له على المضي في هديره؛ وذلك إما إيمانًا بصدق ما يقوله، وإما خوفًا على أموره أن يتعثر بها الطريق إلى الأبد، وذلك عند فريق كبير من الناس هو «الإيمان»، الذي أردناه إحدى ركيزتين.

•••

السهام المسمومة في أبداننا، وسهمها يسري سريعًا سريعًا، وبعض الكاتبين منا يلهون بأقلامهم، كأنهم يريدون للناس مزيدًا من نعاس، فلقد هانت على هؤلاء أقلامهم — ولا أقول هانت عقولهم؛ لأن عقولهم لحسن الحظ، لا تؤمن بشيءٍ مما تجري به أقلامهم — هانت على هؤلاء أقلامهم فطفقوا يتحدثون إلى الناس عن أشباحٍ، تمزق من العدم وتختفي في العدم، دون أن يدري أحد كيف ظهرت ولا أين اختفت، طفقوا يتحدثون إلى الناس عن بيناتٍ، تثبت لهم أن الأشياء قد تحدث أو لا تحدث، رغم أنف العلماء الذين يتبجَّحون، فيزعمون أن الأشياء مقدورة بأسبابها، بحيث يمكن حسابها بالقيراط والدانق، وأعجب العجب أن هؤلاء الكاتبين حين يشغلون الناس بأمثال هذه الأحاديث، يحسبون أنهم إنما يشرحون لهم معنى الأساس، الذي أردنا للدولة أن تقوم عليه، وأعني الأساس الذي جعلنا ركيزته: العلم والإيمان، فماذا يقتل العزيمة في النفوس، إذا لم تقتلها عقيدة كهذه تبثُّها في الناس؟

الإيمان بمعناه الصحيح حركة لا سكون، فالإيمان بالله عز وجل، يتضمن بالضرورة إيمانًا بصفاته، وصفاته — تعالى — قيمٌ يمكن أن تكون أمام الناس معايير للسلوك، فإذا آمنت بالله العليم القادر المريد البصير السميع … إلخ، وجب أن يكون ذلك في الوقت نفسه إيمانًا بضرورة العلم والقدرة والإرادة، والإلمام بحقائق الأمور عن طريق البصر والسمع (راجع في ذلك شرح الإمام الغزالي لأسماء الله الحسنى)، وبهذا يكون إيمانك دفعةً ديناميةً نشيطةً ساعية، وإلا فكيف تؤمن بضرورة أن تكون قادرًا، دون أن تتحرك بالفعل الذي يثبت قدرتك؟ أو كيف تؤمن بضرورة الإرادة الماضية، دون أن يكون لك الهدف الذي تمضي بإرادتك إلى تحقيقه؟

إنه لا يكفي لترسيخ ركيزتَي «العلم والإيمان» في نفوس الناس، أن نتناول أمامهم بعض ظواهر الكون، فنشرح لهم رأي العلم في حدوثها، ثم نختم لهم القصة بخاتمةٍ تقول: إن ذلك كله من تدبير الله. لا يكفي أن نضيف للناس هذه الإضافة إلى شروحنا العلمية، لنضمن أن يجتمع في صدورهم العلم والإيمان؛ لأن هذه الإضافة لا تبعث أحدًا على حركةٍ ولا ترسم لأحدٍ طريقة سير.

الإيمان لا يكون بأمرٍ واقع؛ فأنت لا تشير إلى رغيف الخبز قائلًا: إنني «أُومن» بأن هذا رغيف خبز، بل تقول إنه رغيف خبز؛ لأني أراه بالبصر، وليس ما تراه العين أو تسمعه الأذن موضوعًا ﻟ «الإيمان»، بل هو موضوع لإدراكٍ مباشر بالحواس، وأما الإيمان بمعناه المطلوب فهو ينصبُّ على «المبدأ» و«الهدف»، ونحن لا نرى بالعين ولا نسمع بالأذن، ولا نلمس بالأصابع «مبادئ» ولا «أهدافًا»، وإنما نتخذها اتخاذًا عن إيمانٍ بها؛ لنجعل من المبادئ بدايات للحركة، ومن الأهداف نهايات لها، على أن يكون الطريق من البدايات إلى النهايات مرسومًا وفق ما عرفناه من قوانين العلوم، وهنا أُكرِّر القول — على ضوء ما ذكره الإمام الغزالي في ذلك — بأن الإيمان بالله يتضمن إيمانًا بمبادئ، هي مجموعة القيم أو مجموعة المعايير، التي تضبط طرائق سلوكنا نحو أهدافنا.

وليذكر الذين يحسبون أن الإيمان معناه الأشباح تظهر وتختفي، أو أن معناه هو ألا تسير الأمور مقدورة بأسبابها، ليذكر هؤلاء أن بناة الإسلام، إنما أقاموه على إيمان بالمبادئ والأهداف، ولم يقيموه على قصصٍ تروى لينعس بها الصاحي، وليزداد بها الناعس استغراقًا في نعاسه!

وأعود إلى رغيف الخبز، لأضيف إليه وجود العدو على أرضنا، فأقول: إن علمك برغيف الخبز، وعلمك بوجود العدو على أرضك، مرهونان بالبصر والسمع؛ ولذلك فلا هذا من قبيل «الإيمان» ولا ذاك، ولكن قل: إن إخراج العدو من أرضي هو «أهم» عندي من رغيف الخبز، تكن قد ارتكزت إلى «إيمان»، حين اتخذت لنفسك القيمة أو المعيار الذي تفاضل به بين الأشياء لتقدم أحدها على سواها، ذلك هو ما يجعل الإيمان قوةً حيةً دافعة، لا مجرد صوتٍ أجوفَ تنفرج عنه الشفاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤