رسالة إلى شاب

جاءني خطابك، سمعت في نبراته أنين الشكوى موجهًا من مجهولٍ إلى مجهول، كأنك تائه في الصحراء يصرخ مستغيثًا، وهو لا يدري هل يصادف سميعًا؟ فإذا صادفه فمن ذا يكون؟

جاء خطابك إليَّ وكل ما بيني وبينك، هو أنني من جيلٍ ينحدر وأنك من جيلٍ يصعد، فكان الخطاب بمثابة همزة الوصل بين جيلين، إنني يا بني لم أنعم قط يومًا بمثل هذا الذي نعمتَ به أنت، حين رسمت صراخك على الورق، وأرسلته إلى الجيل الذاهب لعله يغيث، لا، لم أنعم قط يومًا بمثل هذا؛ لأنني بحكم مهنة التعليم التي احترفتها، كان مقسومًا لي أن أمثل دور الجيل الأكبر حتى وأنا شاب، فهكذا يكون موقف الأستاذ نحو تلاميذه، حتى ولو كان هذا «الأستاذ» ما زال «معيدًا» تخرج منذ عام.

ومع ذلك فلننظر في شكواك، خلاصتها أنك تنظر إلى المستقبل فيأخذ اليأس منك ما يأخذ، تقول ما معناه أنك تمد البصر، فلا ترى إلا طريقًا مسدودًا أمام عينيك، ثم تسألني هل يلومك لائم في هذا الظلام المحيط بك، إذا أنت ثنيت رأسك عن المستقبل والحاضر معًا، لتعود إلى الماضي تلوذ بركنٍ من أركانه، وكأنك أحسست مما أكتبه أنني من دعاة المستقبل، الذين يرفضون النكسة إلى أمس، إلا بمقدار ما يعطيني ذلك الأمس سلاحًا، أشقُّ به طريقي إلى الغد.

ولن أخدعك فأصور لك الحنظل عسلًا، ففي الحاضر — حاضر الدنيا بأسرها — حنظل كثير وعسل قليل، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على وجهة النظر: التوقع في المستقبل القريب أو البعيد، للحنظل المر أن يقلَّ، وللعسل أن يزيد؟ أم نتوقع للحنظل الكثير أن يزداد كثرةً، وللعسل القليل أن يزداد قلة؟ إنه سؤالٌ مطروح بالفعل، علينا وعلى غيرنا، ولقد كتبت مرة، وها أنا ذا أكتب بأنه إذا جاز لبعض البلاد الصناعية الكبرى، ألا تتوقع خيرًا كثيرًا في مستقبلها، فأظن أن ذلك لا يجوز لبعض البلاد «النامية»؛ إذ يكفي أن تكون نامية، ليجيء غدها أكمل من يومها.

وما كان أغربها من مصادفةٍ أن أتلقَّى خطابك في نفس اليوم، الذي قرأت فيه تعليقًا على كتابٍ جديد عنوانه: المستقبل وكيف نتقيه؟ ومؤلفه هو راتاري تيلور، وفي الكتاب نظرة سوداء — أشد ما يكون السواد — إلى المستقبل كما يراه كاتبه؟ ولو وضعنا ملخصًا لهذا الكتاب في إطارٍ منطقي، يبدأ بمقدمةٍ كبرى، وينتهي إلى نتائجها التي تترتب عليها، قلنا إن تلك المقدمة الكبرى عنده، هي ما يراه في كثيرٍ جدًّا من أرجاء العالم المتحضر، من تصاعدٍ ملحوظ في الجريمة والعنف واللامبالاة، مما يدل على أن ثمة نقصًا ما في البناء الاجتماعي الحديث، فماذا عساه أن يكون؟ وسرعان ما يجيب الكاتب بأن ذلك النقص هو عمليات التفكك الاجتماعي الذي لم يجعل بين الناس هاديًا ومهتديًا، فانبثَّت العداوة في النفوس، وأصبح الكل للكل عدوًا مبيتًا.

وينظر الكاتب إلى مستقبل بلاده — كما تنظر أنت يا بني إلى مستقبل نفسك — فلا يرى الطريق المسدود الذي ترى، بل يرى عنفًا يزداد، وجريمة تستشري، وقلاقل تهزُّ الكيان الاجتماعي كله من أساسه، إنه يرى بذل الجهد مع خيبة الرجاء، والعمل مع انحدار في مستوى العيش، ويرى شحًّا في الطعام وقلة في الموارد، ونكباتٍ مالية لا ينجو منها أحد، إن ضوضاء المدن تزداد، وتلوثُ الهواء يتكثَّف، والحروب الأهلية وغير الأهلية يتَّسع مداها، بل إن هذا الكاتب اليائس يمعن في يأسه، فيقول إن العالم كله سيتعرَّض في المستقبل لتغيرات في المناخ، يزداد بها برودة إلى آخر ما قال.

وربما كان من حق هذا الكاتب أن يقول ما قاله؛ لأن بلاده في حكم من سار على الدرب، حتى بلغ غايته، ولم يعد أمامه إلا أن يعود إلى حيث كان؛ ولأنه هو كهؤلاء الساخطين الذين صورهم «أوزيورن»، وهم ينظرون إلى الوراء مرغمين، يملؤهم الغضب؛ لأنهم لم يعد أمامهم أمام.

وأما نحن يا بني ففي طريق البناء لم نفرغ بعدُ، وفي طريق السير على الدرب لم نبلغ غايته، بل لم نخطُ على درب الحضارة العلمية الصناعية الجديدة إلا بضع خطوات، على أننا إذ نريد أن نخطو على ذلك الدرب فإنما نريد أن نفعل ذلك فعل المبدع الأصيل، لا فعل المقلد التابع، والفرق بعيد بين الموقفَين؛ الفرق بعيد بين مستكشف رحالة، يشق طريقه لأول مرة، لم يسبقه إليه رحالةٌ آخر، وبين مسافر جاء بعد ذلك ليسير على الطريق، الذي دقَّته من قبله أقدام المسافرين، فبينما يكون الأول سائرًا نحو مجهول، ترى الثاني قد عرف كل شيء عن الطريق قبل أن يبدأ السير، وفي الحالة الأولى تكون الفرصة سانحة لكل مغامرٍ مبدعٍ خلاق، وفي الحالة الثانية يكون السأم والمحلل واجترار الذكريات.

المستكشف الرحالة يغامر بتجربةٍ جديدة؛ ولأنها جديدة فهي عرضة للخطأ، وأما المسافر المتابع فلا يحاول تجربة الجديد، بل يُعيد ما فعله سواه، وهو بهذا التكرار — وإن يكن أقل عرضة للخطأ — إلا أنه كذلك أقل شعورًا بجدة الحياة، إن هذا التابع كالظل، لا يملك لنفسه أن يقصر أو يطول، إلا إذا قصر أو طال الأصل الذي هو ظله، فلو حاولت يا بني أن تشارك في حياتنا المغامرة الجديدة، فربما وجدت ما يزيح عنك القنوط.

الرحالة الكشاف يحيا في كل لحظة حياةً مؤرقةً يقظانة، لما يمكن أن يحدث من مفاجآت لم يحسب حسابها، وأما المسافر التابع فيحيا حياة الدعة والسكون، قارن — مثلًا — كولمبس في رحلته الأولى عبر المحيط يضرب في العباب وظلام المجهول يكتنفه، قارنه مسافرًا جاء بعد ذلك يقطع الرحلة نفسها في سفينة أو طائرة، يأكل طعامه ويشرب شرابه، وهو بمنجاة من الخوف أن يفرغ منه طعام أو شراب، عالمًا متى يبلغ الهدف وأين. في الحالة الأولى مخاطرة ومغامرة، ينكشف بها جديد، لم يكن من قبلُ موضع رؤية أو سمع، وفي الحالة الثانية أمان واطمئنان، ولكن لا جديد، بل هو قديم الأمس مكرور مُعاد.

والفرق بين هاتين الحالتَين، هو نفسه الفرق بين موقفَين من الحياة: موقف من يضع بين يديه موروثًا تركه السابقون، وما عليه إلا أن يلتزمه حرفًا حرفًا، إنه قد يحفظه عن ظهر قلب، ما وسع ذاكرته أن تحفظ، أو أن يعمل في إجرائه تحليلًا وتركيبًا، ما أسعفته قدرته على التحليل والتركيب، لكنه لا يضيف إليه سطرًا، فكأنما كل همه هو أن يخرج كلامًا من كلام، كالطاحونة تطحن الغلال دقيقًا، فتوضع الغلال في وعاء، ثم تدور الآلة وتفعل فعلها، فتخرج الغلال في صورةٍ أخرى هي الدقيق، وهي بذلك لا تضيف إلى الموجود مثقال ذرة، وربما أنقصت منه خلال عملها مثقال ذرات.

وأما الموقف الآخر فهو موقف الذين يكشفون الجديد بعد خوض التجربة؛ يستوحون القديم ليضيفوا إليه، أو ليُصحِّحوه، فلئن كان شعار الأقدمين هو: القديم المأمون خير من الجديد المجهول، فشعار المجدِّدين هو: بل الجديد المجهول أولى؛ لأنه الوسيلة الوحيدة إلى التقدم، لقد كانوا يعلموننا ونحن صغار أن «من فات قديمه تاه.» وأودُّ لو علَّمنا صغارنا اليوم أن «من اكتفى بقديمه جمد ومات.»

إذا أردنا أن نغيِّر وجه الحياة التي نحياها، فلن يكون ذلك بأن نفتح كتب السالفين، لنروي عنهم ما قالوه، وننقل عنهم ما صنعوه، وإنما السبيل القويمة بل السبيل الوحيدة — هي أن نسأل عما يراد تحقيقه في «المستقبل»؛ فالماضي لا بد منه، لا لنجعل منه نموذجًا نحتذيه بل ليكون مصدرًا للإلهام فيما ينبغي أن نصنعه. إن ولاءنا لآبائنا، يجب أن يكون في محاكاتهم في وقفتهم تجاه الحياة، لا في إعادة ما صنعوه حرفًا بحرف، كانت وقفة آبائنا في عصور القوة والطموح، هي في المغامرة والمخاطرة، هي في إبداع الجديد، ليضيفوه مرحلةً جديدة في حضارة الإنسان، والولاء لهم إنما يكون في اتخاذنا من حياتنا وقفةً كهذه: تبدع وتضيف، تخاطر وتغامر، تخوض التجربة وتتعرض للخطأ لتعرف ما الصواب.

والمستقبل الذي نريد أن نُبدعه خلقًا جديدًا، بتفكيرٍ علميٍّ سليم، ليس شيئًا يأتي «بالجملة»، ولكنه تفصيلات تتحقق «بالقطاعي»، برغم أن هذه الأجزاء المتفرقة تتكامل آخر الأمر بعضها مع بعض في كيانٍ عضويٍّ واحد، المستقبل المطلوب يساق في عدة أسئلة، كل سؤال منها يتطلب الجواب: ماذا نريد للزراعة في كذا من السنين؟ ولطرق المواصلات؟ وللصناعة؟ وللتعليم، وللقضاء؟ وللأسرة؟ إلى آخر جوانب الحياة العملية التي نعيشها الآن، والتي نريد أن نعيشها غدًا، وليس في كل هذه الأسئلة سؤالٌ واحد يستطيع تراث الأقدمين وحده أن يقدِّم له الجواب.

صنع الحياة، وهي متجددة كل يوم، عمل يضطلع به الإنسان وحده دون سائر الكائنات، وهو عمل يخطئ ويصيب، ولكنه يصيب أكثر مما يخطئ، وبهذا وحده بُنيت الحضارات، ولو أراد الإنسان أن ينجو من خطأ المغامرة، لتخلَّى عن الأمانة، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، فالنجوم تدور في أفلاكها كما رسم لها فلا تضل، وكذلك تتحرك الأرض وتنشأ الجبال كما أريد لها فلا تحيد، لكنها جميعًا قد تدوم دوام الأبد، دون أن تضيف من عندها شيئًا، وأما الإنسان الحي فكان قدره أن يصنع الحياة خطوةً أعلى من خطوة، ومرحلةً أرقى من مرحلة، فلا ينفعه أن ينظر إلى الوراء، إلا بمقدار ما ينير له الطريق إلى أمام.

ولماذا لا تأخذ من شبابك نفسه درسًا يعلمك؟ إذا أصابك جرح فسوف يلتئم، بدفعة الحياة وقوة التجديد، إذا ضاق بك الواقع طارت بك الأحلام إلى آفاقٍ بغير حدود، لا أحلام النعاس بل أحلام الوعي المتنبِّه — فتلك هي طبيعة الشباب، فالفرق بعيد بين اليقظة الحالمة والحلم اليقظان، وربما كان الفرق هو ما أراد جيمس جويس أن يبيِّنه في كتابَيه: «يولسيز» (أو عوليس كما يكتبه الزملاء في سائر أرجاء الوطن العربي) و«يقظة فينجان»؛ في الكتاب الأول أحلام تعاقبت حلقاتها في تيار الشعور، عند رجل تباعدت فيه حياته الظاهرة عن حياته الباطنة؛ فكان أقرب إلى اليقظان الحالم، وفي الكتاب الثاني صورةٌ أخرى هي صورة من تظنه شاردًا مشتَّت الذهن، وهو في حقيقته مفتوح العينَين مرهف الأذنَين، لكل ما يدور حوله من صورةٍ وصوت، وذلك هو نحن اليوم، فتحسب أن الحياة قد أظلمت من حولك، مع أن الوعي صاحٍ والصبح قريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤