مسك الختام

يُقال إن طائر البجعة يُغرِّد بأحلى أنغامه قبيل أن يموت، حتى ليكفي أن تقول عن عمل فنيٍ لفنان، أو عن كتاب لمؤلف، أو عن عملٍ مجيد لمصلح، إنه كان بمثابة «غنوة البجعة»؛ لتعلم أنه كان آخر منجزاته وأعظمها معًا، فهو من حياته — كما نقول نحن — مسك الختام.

ولقد ظهر لفيلسوف التاريخ «آرنولد توينبي» كتاب، كان آخر ما كتب، ونُشر له بعد وفاته (ولد ١٨٨٩م، ومات ١٩٧٥م)، فلما كتب عنه النقاد، وصفه بعضهم بأنه كان لحياته المليئة بأعظم الإنتاج الفكري؛ بمثابة «غنوة البجعة»، بمعنى أنه كان خير كُتبه جميعًا في رأي هؤلاء، وهو الكتاب الذي جعل عنوانه: «الإنسان وأمه الأرض»، فماذا ورد في هذا الكتاب؛ ليميزه في أعين النقاد؟

كان «توينبي» معروفًا لنا — نحن المثقفين العرب — معرفةً جيدة، على الأقل إذا قيست بمعرفتنا لما يُنتجه الفكر الغربي في عصرنا، وربما كان ذلك راجعًا إلى عاملَين أساسيَّين: أولهما أن توينبي قد وجد بيننا من يلتفت إليه ويهتم به؛ فأراد ألا يقصر الأمر على نفسه، فكتب عنه بما جعله عندنا تحت الضوء، ويكفيني في هذا الصدد، أن أذكر بأن توينبي كان هو أستاذ التاريخ، الذي تعلَّم على يديه أستاذنا المؤرخ المغفور له «محمد شفيق غربال» أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو الذي أخرج بدوره عددًا ضخمًا من ألمع المشتغلين بالتاريخ الحديث في حياتنا الثقافية، ولقد كان المرحوم الأستاذ غربال، هو الذي شجع المرحوم فؤاد شبل بترجمة المجلدين، اللذين كان «سومر فيل» قد لخص بهما الموسوعة الكبرى في فلسفة التاريخ، التي كتبها توينبي في نحو عشرة مجلدات وأسماها «دراسة للتاريخ»، وهي الدراسة التي استعرض بها أكثر من عشرين حضارة؛ ليُحلِّل عوامل نشأتها وعوامل زوالها «في حالة زوالها»، وإذا به يخرج من هذا كله بالنتيجة المشهورة، وهي بأن «التحدي والاستجابة»، هما الأساس العميق في ظهور الحضارات واختفائها، وقد قلت إن توينبي كان معروفًا لنا — نحن المثقفين العرب — معرفةً جيدة إذا قيست بمعرفتنا لسواه من أعلام الفكر الغربي المعاصر، وإن ذلك كان يرجع إلى عاملين أساسيين، ذكرت أولهما، وهو أنه وجد من اهتم به، فأثار بدوره اهتمامنا، وأما العامل الثاني فهو أن توينبي — بكل الموضوعية النزيهة التي كان ينظر بها إلى الأمور، وكأنه من الأرباب على قمة الأولمب، ينظر إلى الأحداث نظرة المسيطر الواثق، لا تهزه العاطفة يمنةً أو يسرةً — بكل هذه الموضوعية المتسامية المنزَّهة عن الهوى، كان يناصر العرب في قضيتهم، وكان يُعلي من شأن الإسلام، إذا ما كان بصدد الحديث عن الديانات، ذوات الأثر العميق في مسار التاريخ.

ونعود إلى كتابه الذي نُشر له بعد وفاته، والذي كان مسك الختام لمجموعة أعماله، التي تنوء تحت حملها قدرات البشر، من غير ذوي العبقرية الفذَّة، فنسأل: ماذا جاء في هذا الكتاب الأخير؛ مما أضفى عليه امتيازه؟! وأودُّ — قبل أن أجيب — أن أُثبت حقيقةً أسعفتني بها الذاكرة الآن، في هذه اللحظة، التي أكتب فيها هذا السطر من المقال، وتلك هي أنني تذكرت ساعة مضى عليها أكثر من ثلاثين عامًا، كنت فيها أطالع كتاب شبنجلر، عن تدهور الحضارة الغربية، ولم تكن مطالعتي لذلك الكتاب، من النوع الذي أنصرف فيه بكل ذهني إلى ما أطالعه، لا لأن ذلك الكتاب العظيم لا يستحق كل ما وسعني من قوةٍ وتركيز، بل لأنني كنت يومئذٍ أملأ — في تلك الساعة — فراغًا قصيرًا بين عملٍ أنجزته وعملٍ آخر سأبدأ فيه؛ فرأيت أن أجعل ساعة الراحة تنويعًا في المرعى وتغييرًا في النغم، فكان أن امتدت يدي إلى كتاب شبنجلر — وكنت في المكتبة العامة بجامعة لندن — وأخذت أُطالع عبر صفحاته تلك المطالعة الطائرة، وإذا بالحظ الحسن يسوقني إلى وضع فيه فكرة كانت جديدة عليَّ، ورأيت فيها ما يشبه المنارة أمام ربان السفينة وهو في جنح الظلام.

وإنما كانت تلك الفكرة المضيئة جديدة عليَّ؛ لأنني — كمئات الألوف من المتعلمين العرب، الذين أخرجتهم المدارس والجامعات — كنت حبيس إطار قيدتني به مدارسنا وجامعاتنا، وهو إطار صنعه فكرٌ غربي، ينظر إلى الدنيا بمنظاره هو، وكان ذلك الفكر الغربي صانع هذا الإطار، مخلصًا لنفسه؛ لأنه إنما صاغ ما رآه بعينَيه في مناخه الثقافي، لكن ماذا أجبرنا نحن أن نتورط فيه؛ فنظنه هو الحق الموضوعي الذي لا شبهة فيه؟ وإنما أعني بذلك الإطار الفكري، الذي حبستْنا فيه ثقافة الغربيين عن طريق مدارسنا وجامعاتنا، تقسيم التاريخ إلى مراحلَ ثلاث: قديم ووسيط وحديث، فأما الحديث فهو القرون الأربعة الأخيرة، وأما الوسيط فهو القرون العشرة التي تمتد «تقريبًا» من القرن السادس إلى القرن السادس عشر، وأما القديم فهو ما قبل ذلك! ما شاء الله! ثمانية آلاف عام، بكل ما فيها من حضارات مصر وبابل والهند والصين ثم اليونان والرومان، وبكل ما فيها من دياناتٍ ظهرت في الشرق الأقصى كالبراهمية والبوذية، وأوحى بها الله في الشرق الأوسط، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام؛ ثمانية آلاف عام بكل غزارة محصولها، وخصوبة عقولها ومضاء إراداتها، «تكلفت» كلها في قسمٍ واحد من أقسامٍ ثلاثة، هي عندهم أقسام التاريخ! ثم ماذا؟! ثم يحدث في معظم الكتب التي تعرض ذلك التاريخ، أن تزيد من العناية بالحديث بالنسبة إلى القديم؛ فتكون النتيجة هي أن تجد أكثر من ثلث الكتاب، أو قل أكثر من ثلث الجهد المبذول — إذا كان هناك أكثر من كتاب أو مؤلف — مُخصصًا للقرون الأربعة الأخيرة وحدها، التي هي التاريخ الحديث، وأقل من ثلث المساحة الورقية أو ثلث الجهد العقلي، هو الذي يُخصَّص لثمانية آلاف عام، هي مدى التاريخ القديم، وقد تكون فترة العصور الوسطى أحسن حظًّا من فترة التاريخ القديم، لكنها مع ذلك لا تظفر بمساحةٍ، تقرب مما يُخصص للقرون الأربعة الأخيرة.

فماذا يكون الانطباع الذي يخرج به الدارس، إذا ما رأى ثمانين قرنًا قديمة، لا تساوي عند المؤرخين أربعة قرون حديثًا؟ ألا يكون ذلك الانطباع المحتوم، هو تفاوت الاهتمام بالنسبة نفسها بين العصور؟! ولما كانت منجزاتها الكبرى قد وقعت في ذلك القديم المنكود، فهل يسع الدارس منا إلا أن يضؤل حجمه في عين الناس، إذا ما قارن حضارتنا بحضارة القرون الأربعة الأخيرة؟!

ومنذ تلك اللحظة التي وقعت فيها على فكرة شبنجلر هذه، بأن حضارات القدماء مغبونة على أيدي المؤرخين، وأنا أحاول أن أتحرَّر بفكري عن حدود الإطار، الذي حبستني فيه مدارسنا وجامعاتنا، ولم يكن معنى ذلك عندي، أن أستهين بالقرون الأربعة الأخيرة، كلا بل كان معناه الأكبر هو ألا أجعل عظمة القرون الأربعة الأخيرة، تُعميني عن رؤية ما قد كان قبلها، لا سيما ونحن من أبناء ما قد كان قبلها.

ومرةً أخرى أعود إلى كتاب «الإنسان وأمه الأرض»، الذي كان مسك الختام في حياة آرنولد توينبي، وأسأل: ماذا في هذا الكتاب مما يؤهله عندنا، لكل ترحيبٍ ولكل إجلالٍ وتعظيم؟! إن أهم ما جاء في هذا الكتاب ليبشُّر به، هو رسالة ذات شقَّين: أحدهما أنه قد آن للحضارة العصرية، أن توقف وثبات العلم عن جبروتها، بأن تُعيد الدين إلى قوَّته الأولى في نفوس البشر، ليكون العلم إلى جانب الدين قوَّتَين تحدثان التوازن المطلوب، وأما الشق الثاني من الرسالة، فهو الدعوة القوية الموجَّهة إلى الغرب الأوروبي والأمريكي، بأن يصحِّح ضلاله الذي أغواه فيما مضى، بأن يجعل أوروبا وحدها — وأوروبا الحديثة على وجه الخصوص — هي المحور الذي تدور حوله حضارات الأرض وأفلاك السماء.

وفي ذلك يقول توينبي ما خلاصته أن الإنسان قوامه إرادةٌ حرة وضمير، فبالإرادة الحرة — متروكًا حبلها على الغارب — يُبرطِع الإنسان في شئون الدنيا، ما شاءت له قدراته، فينطلق في علومه وصناعاته وكشوفه، فهو يشقُّ الأرض هنا، ويغوص إلى أعماق البحر هناك، ويضرب في أجواز الفضاء إلى أن يطأ بقدمَيه سطح القمر، ثم يجاوز القمر إلى ما هو أبعد منه في متاهات الكون الفسيح، لكن الإنسان في اندفاعاته الجبَّارة بقوة الإرادة الحرة، قد يصيب وقد يخطئ، فإذا كان الخطأ خطيئة، ولم تجد في دنياه ما يعاقب عليها، وثب إليه ضميره، يُذكِّره بما سوف يلقاه من جزاءٍ يوم الحساب.

إن الإنسان من جمهور الناس، يتأرجح بين نموذجَين تمثلًا — كما قال توينبي — في القديس فرنسيس وأبيه، فأما القديس فقد جسَّد في شخصه زهد الصوفي، الذي ينشد الصفاء والنقاء، وأما أبوه فقد كان تاجرًا محمومًا بالرغبة في كسب المال ومتعة الأرض، ففي أبيه انفردت الإرادة، وفي ابنه القديس غلب الضمير، والإنسان العادي من سواد الناس متأرجح بين الطرفين.

ولو سمحت لشخصي الضئيل أن يُعبِّر لنفسه عن رأيٍ يخالف به — بعض الشيء — موقفًا لتوينبي، قلت: إن فيلسوف التاريخ توينبي، كأنما أراد إحياءً للدين على حساب التقدم العلمي، وكأنه يرى أن ذلك الإحياء الديني، لا يتَّسق مع أن يترك العلم في تقدُّمه السريع، وهو في هذا المقام يذكر قُرَّاءه، بأن العلم ليس هو ذلك الطاغية، الذي لا سبيل إلى تقليم أظافره؛ لنتيح الفرصة لغيره فيعتلي الذروة مكانه — «وغير العلم» الذي يشير إليه هنا هما الدين والفن — فيكفي أن نوجِّه أصحاب النبوغ العبقري نحو الدين ونحو الفن، لتنصرف تلك القدرات العليا عن ميدان العلم، يكفي ذلك لترى المكانة بعد قليل من سنين، قد عادت إلى الدين وإلى الفن، كما كانت لهما طوال القرون، وإني لأتساءل في تواضعٍ شديد: لماذا لانترك أصحاب العبقرية النابغة، في وجهتهم نحو ميدان العلم، كما هي الحال الآن، مع إضافة الروح الدينية والفنية؛ ليحيا الإنسان بجناحَين، كما أراد له الله تعالى أن يحيا! فليس الأمر هو إما هذا وإما ذاك، بل الأمر هو الجمع بين هذا وذاك، في كيانٍ إنسانيٍّ واحد.

ولكن قل ما شئت في شأن هذا الكتاب الأخير لتوينبي، الذي جاء وكأنه صيحة، يوجِّهها الرجل من قبره إلى إنسان العصر، قُل ما شئت، فالكتاب للرجل هو مسك الختام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤