الجزاء

مترجمة

جلستْ على ضفَّة البحيرة لتملأ جرَّتها، وكان الماء ساكنًا هادئًا كأنما قد امتدت فوق سطحه طبقةٌ لامعة من الجليد؛ فعزَّ عليها أن تكسر بيدها هذه المرآة الناعمة الصقيلة، ولا شيء أحب إلى المرأة من المرآة، فظلَّت تقلِّب نظرها فيها، فلمحت في صفحتها وجهًا أبيض رائقًا ينظر إليها نظرًا عذبًا فاترًا، فابتسمت له، فابتسم لها، فعلمت أنه الوجه الذي افتتن به خطيبها القروي الجميل.

أَنِست بهذا المنظر ساعة، ثم راعها أن رأت بجانب خيالها في الماء خيالًا آخر، فتبيَّنته فإذا به خيال رجلٍ، فذعرت، ولكنها لم تلتفت وراءها ومدَّت يدها إلى الماء فملأت جرَّتها، ثم نهضت لتحملها، فتقدَّم إليها ذلك الواقف بجانبها وقال لها: «هل تأذنين لي يا سيدتي أن أُعينك على حمل جرَّتك؟» فالتفتت فإذا فتى حضري غريب حسن الصورة والبزة لا تعرفه، ولا تعرف أن هذه الأرض مما تنبت مثله، فرابها أمره، واتَّقد وجهها حياءً وخجلًا، ولم تقل شيئًا، واستقلَّت جرَّتها ومضت في سبيلها.

نشأت «سوزان» وابن عمها «جلبرت» في بيتٍ واحد كما تنشأ الزهرتان المتعانقتان في مغرسٍ واحد، فرضعت معه وليدةً، ولعبت معه طفلةً، وأحبَّته فتاةً، ومرَّت بهما في جميع تلك الأدوار سعادة لم يستمداها من القصور والبساتين والأرائك والأسرَّة، والجياد والمركبات، والأكواب والدِّنَان، والمزاهر والعيدان، والذهب اللامع، واللؤلؤ الساطع، والأثواب المطرزة، والغلائل المرصعة؛ لأنهما كانا قرويين فقيرين.

بل استمداها من مطلع الشمس ومغربها، وإقبال الليل وإدباره، وتلألؤ السماء بنجومها الزاهرة، والأرض بأعشابها الناضرة، ومن الوقفات الطوال فوق الصخور البارزة على ضفاف البحيرة الهادئة، والجلسات الحلوة الجميلة، على الأعشاب الناعمة، تحت ظلال الأشجار الوارفة، ومن سماع أناشيد الحياة، وأغاني الرعاة، وضوضاء السائمة في غدوها ورواحها، وبكاء النواعير في مسائها وصباحها، ومن الحب الطاهر الشريف الذي يشرق على القلوب الحزينة فيسعدها، والأفئدة المظلمة فينيرها، والأجنحة الكسيرة فيريشها، والذي هو العزاء الوحيد عن كل فائت في هذه الحياة، والسلوى عن كل مفقود، ولم يَزَل هذا شأنها حتى كان يوم البحيرة.

لا تعرف المرأة لها وجودًا إلا في عيون الرجال وقلوبهم، فلو خلت رقعة الأرض من وجوه الناظرين، أو أقفرت حنايا الضلوع من خوافق القلوب، لأصبح الوجود والعدم في نظرها سواء، ولو أن وراءها ألف عين تنظر إليها ثم لمحت في كوكب من كواكب السماء نظرة حب، أو سمعت في زاوية من زوايا الأرض أَنَّة وجدٍ، لأعجبها ذلك الغرام الجديد، وملأ قلبها غبطةً وسرورًا.

فقد عادت الفتاة إلى بيتها طيبة النفس، قريرة العين، مزهوة مختالة، لا لأن حبًّا جديدًا حلَّ في قلبها محل الحب القديم، ولا لأن نفسها حدَّثتها أن تصل حياتها بحياة أحدٍ غير خطيبها، بل لأنها وجدت في طريقها برهانًا جديدًا على جمالها فأعجبها، فكانت لا تزال تختلف بعد ذلك بجرَّتها إلى البحيرة غير خائفة ولا مرتابة، فترى ذلك السيد الحضري في غدوها أو رواحها يحييها أو يبتسم لها، أو يسائلها عن طريق، أو يستسقيها شربة ماءٍ، أو يقدم إليها زهرة جميلة، أو يلقي في أذنها كلمةً عذبة، حتى استطاع في يوم من الأيام أن يجلس بجانبها لحظة قصيرة في ظل صخرة منفردة، فكانت هذه اللحظة آخر عهدها بحياتها القديمة، وأول عهدها بحياتها الجديدة!

هبط «المركيز جوستاف روستان» هذه الأرض منذ أيامٍ لتفقُّد مزارعه فيها، وكان لا يزال يختلف إليها من حين إلى حين، فيقضي في قصره الجميل الذي بناه فيها على بعد ساعتين من البحيرة بضعة أيامٍ، ثم يعود إلى بلدته «نيس»، حتى رأى هذه المرة هذه الفتاة في بعض غدواته إلى ضفاف البحيرة فاستلهاه حسنها، وما زال يفيض على قلبها من حبه، وعلى أذنها من سحره، وعلى جيدها ومعصميها من لآلئه وجواهره، ويصور لها جمال الحياة الحضرية في أجمل صورها وأبهاها، ويمنِّيها الأماني الكبار في حاضرها ومستقبلها، حتى أذعنت واستقادت وخضعت للتي تخضع لها كل أنثي نامت عنها عين راعيها، وأسلمها حظها إلى أنياب الذئاب.

استيقظ الفتى «جلبرت» في الساعة التي يستيقظ فيها من صباح كل يومٍ، فعمد إلى بقرته فحلَّ عقالها، ثم هتف باسم «سوزان» يدعوها إلى الذهاب معه إلى المرعى فلم تُجِبه، فصعد إلى غرفتها في سطح المنزل ليوقظها فلم يجدها، فسأل عنها أمه فلم تعلم من أمرها أكثر مما يعلم، فظن أنها خرجت لقضاء بعض الشئون، ثم تعود، فلبث ينتظرها وقتًا طويلًا فلم تعد.

فرابه الأمر، وأعاد البقرة إلى معتلفها، وخرج يفتش عنها في كل مكان، ويُسائل عنها الناس جميعًا غاديهم ورائحهم، فلم يجد من يدلُّه عليها حتى أظلَّه الليل، فعاد حزينًا مكتئبًا لا يرى أن أحدًا على وجه الأرض أعظم لوعةً منه ولا أشقى، فرأى أمه قابعةً في كسر البيت مطرقةً برأسها تفلي التراب بعودٍ في يدها، فدنا منها، فرفعت رأسها إليه وقالت له: «أين كنت يا جلبرت؟»

قال: «فتشت عن سوزان في كل مكان فلم أجدها.»

فألقت عليه نظرة مملوءة حزنًا ودموعًا، وقالت: «خير لك يا بني ألا تنتظرها بعد اليوم.»

فانتفض انتفاضةً شديدة، وقال: «لماذا؟»

قالت: «قد دخلت عليَّ الساعة جارتنا فلانة، فحدَّثتني أنها ما زالت تراها منذ ليالٍ تختلف إلى البحيرة للاجتماع على ضفافها بفتًى حضري غريب عن هذه المَدَرَة، أحسبه المركيز «جوستاف روستان» صاحب هذه المزارع التي تلينا والقصر الأحمر الذي يليها، وقالت لي إنها رأتها ليلة أمس بعد منتصف الليل راكبة وراءه على فرسٍ أشهب يعدو بها في طريق القصر الأحمر، ولا بد أنها فرَّت معه.»

فصرخ «جلبرت» صرخةً جادت لها نفسه أو كادت، وخرَّ في مكانه صعقًا، فلم تَزَل أمه جاثيةً بجانبه الليل كله، تبكي عليه مرة، وتمسح جبينه بالماء أخرى، حتى استفاق في مطلع الفجر، فنظر حوله نظرة حائرة، فرأى أمه مكبةً على وجهها تبكي وتنتحب، فذكر كل ذلك فأطرق هنيهةً، ثم رفع رأسه ووضع يده على عاتقها، وسألها: «ما بكاؤك يا أماه؟»

قالت: «أبكي عليك يا بني وعليها.»

قال: «إن كنتِ باكية فابكِ على غيري، أما أنا فلست بحزين ولا باكٍ، فقد كنتُ أحببت هذه الفتاة لأنها كانت تحبني، وقد استحال قلبي الآن إلى صخرة عاتية لا ينال منها شيء، فلا رجعة لى إليها بعد اليوم!» ثم مسح عن خده آخر دمعة كانت تنحدر فيه، وقام إلى بقرته فأخذ بزمامها ومضى بها إلى المزرعة وحده.

لقد كَذَبَتِ المسكين نفسُهُ، فإنه ما سلا سوزان ولا هدأت عن قلبه لوعة حبها، ولكنها الغضبة التي يغضها المحب المهجور، تخيِّل إليه أنه قد نفض يده من الحب أشد ما يكون به عالقًا.

فإنه ما وصل إلى المزرعة وأرسل سائمته في مرعاها، حتى رأى كوكب الشمس يتناهض من مطلعة قليلًا قليلًا، ويرسل أشعته الياقوتية الحمراء على هذه الكائنات، فتنير ظلامها، وتجلو صفحتها، وتترقرق ما بين خضرائها وغبرائها، فأعجبه منظر هذه الطبيعة المتلألئة بين يدي هذا الكوكب المنير، ودار بنظره في الفضاء من مشرقه إلى مغربه، فلمح في الأفق الغربي بارقًا يخطف البصر بلألائه، فخُيِّل إليه أن المغرب قد أَطْلَعَ في أفقه شمسًا كتلك التي أطلعها المشرق حتى تبيَّنه، فإذا هو لوح كبير من الزجاج أصفر مستدير تعابثه أشعة الشمس فيما تعابث من الكائنات فيلتمع التماعًا شديدًا، فاسترد بصره إليه سريعًا ووضع يده على يُسْرَى أضالعه، كأنما يحول بين قلبه وبين الفرار؛ لأنه علم أن ذلك اللوح الزجاجي الأصفر إنما يلوح في برجٍ من أبراج القصر الأحمر.

هنا علم أن نفسه قد كذبته فيما حدَّثته، وأن تلك البارقة التي كانت تضيء ما بين جنبيه من الحب قد استحالت إلى جذوة نار مشتعلة تقضم فؤاده قضمًا، وتمشي في نفسه مشي الموت في الحياة، فأطلق لعبرته سبيلها، وأنشأ يئنُّ أنينًا محزنًا تردده الرياح في جوها، والأمواج في بحرها، والأعشاب في مغارسها، والسائمة في مرابضها، حتى سمع أصوات الرعاة وضوضاء السائمة، فكفكف عبراته، وأسلم رأسه إلى ركبتيه وذهب مع همومه وأحزانه إلى حيث شاء الله أن تذهب.

هكذا لم ينتفع المسكين بنفسه بعد اليوم، فقد ذهب من الحزن إلى أبعد مذاهبه، حتى نال منه ما لم يَنَل كَرُّ الغداة ومَرُّ العشي، فأصبح من يراه في طريقه يرى رجلًا بائسًا منكوبًا مشرَّد العقل، مشترَك اللُّبِّ، مذهوبًا به كل مذهب، يهيم على وجهه آناء الليل وأطراف النهار بين الغابات والحَرَجات، وفوق ضفاف الأنهار وتحت مشارف الجبال، يأنس بالوحش أنس العشير بعشيره، ويفر من الناس إن دانوا منه فرار الإنسان من الوحش، ويَرِد المناهل مع الظباء واليعافير، ثم يصدر إذا صدرت معها.

وربما ترامى به السير أحيانًا إلى أفنية القصر الأحمر من حيث لا يشعر، فإذا رأى أبراجه بين يديه ذعر ذعرًا شديدًا وصاح صيحة عظيمة، وانكفأ راجعًا إلى قريته لا يلوي على شيء، وكثيرًا ما قضت أمه النهار كله حاملةً على يدها الطعام تفتش عنه في كل مكان، حتى تراه ملقًى بين الأحجار، على ضفة نهر، أو في سفح جبل، فتضع الطعام بين يديه من حيث لا يشعر بمكانها، ثم ترفع يدها إلى السماء ضارعة متخشعة، تسأل الله بدموعها وزفراتها أن يرد إليها وحيدها، ثم تعود أدراجها!

مضى الليل إلا أقله، وسوزان جالسة إلى نافذة قصرها المشرفة على النهر، تلتفت إلى سرير ابنتها مرةً وتقلب وجهها في السماء أخرى، وكان القمر في ليلة تِمِّه، فظلت تناجيه وتقول: «أيها القمر الساري في كبد السماء، هأنذا أراك في ليلة تِمِّك وحدي للمرة الرابعة والعشرين، فهل يعود إليَّ خطيبي «جوستاف» فينظر إليك معي كما كان يفعل من قبل؟

لقد كنتَ لي أيها الكوكب المنير نعم المعين في لياليَّ الموحشة على همومي وأحزاني، فهل تستطيع أن تحدثني عن «جوستاف» أين مكانه ومتى يعود؟ وهل نلتقي قريبًا فتتم بذلك يدك عندي؟

حدِّثني عنه … هل يذكرني كما أذكره؟! وهل يحفظ عهدي كما أحفظ عهده؟! وهل يجلس إليك حينًا فيُسائلك عني كما أسألك عنه؟ فإن فعل فقل له إن ابنته جميلة جدًّا جمال الابتسامة الحائرة في فم الحسناء، وبيضاء بياض القطرة الصافية في الزنبقة الناصعة تحت الأشعة الساطعة. وقل له إنها لا تهتف باسم غير اسمه، ولا تبتسم لرسمٍ غير رسمه، وإنه إن رآها أغنته رؤيتها عن المرآة المجلوة؛ لأنه يرى صورته في وجهها كما تتشابه الدميتان المصبوبتان في قالب واحد.»

ولم تَزَل تناجي القمر بمثل هذا النجاء حتى رأته ينحدر إلى مغربه، فودَّعته وداعًا جميلًا، وقالت: «إلى الغد يا صديقي العزيز.» ثم قامت إلى سرير ابنتها فحنت عليها برفق وقبَّلتها في جبينها قبلة السماء، وذهبت إلى مضجعها، وما هو إلا أن عبئت بجفنها السِّنَة الأولى من النوم، حتى أسلمتها أحلامها إلى أمانيها وآمالها، فرأت كأن «جوستاف» قد عاد من سفره، فاستقبلته هي وابنتها على باب القصر، فنزل من مركبته وضمهما معًا إلى صدره ضمًّا شديدًا، وظل يقبِّلهما ويبكي فرحًا وسرورًا.

فإنها لمستغرقة في حلمها هذا؛ إذ شعرت بيدٍ تحركها فانتبهت، فإذا صدر النهار قد علا، وإذا خادمتها واقفة على رأسها ضاحكة متطلقة، تقول لها: «بشراك يا سيدتي، فقد حضر سيدي!»

فاستُطيرت فرحًا وسرورًا، وقالت: «أحمدك اللهم، فقد صدقت أحلامي.» وأسرعت إلى غرفة ملابسها فبدَّلت أثوابها، ثم دخلت عليه في غرفته باسمةً متهللة تحمل ابنتها على يدها، فرأته واقفًا في وسط الغرفة متكئًا على كرسي بين يديه، فهرعت إليه، ولكنها ما دنت منه، حتى تراجعت حائرةً مدهوشةً؛ لأنها رأت أمامها رجلًا لا تعرفه ولا عهد لها به من قبل، لا بل هو بعينه، ولكنها رأت وجهًا صامتًا متحجرًا لا تلمع فيه بارقة ابتسامٍ، ولا تجري فيه نظرة بشاشةٍ، فأنكرته، إلا أنها تماسكت قليلًا ومدت إليه يدها تحييه، فمد إليها يده بتثاقلٍ وفتور، كأنما ينقلها من مكانها نقلًا، ولم يُلقِ على وجه الطفلة — وكانت تبتسم إليه وتمد نحوه ذراعيها — نظرةً واحدة، وكانت أول كلمة قالها لها: «أباقية أنت في القصر حتى اليوم؟!»

فازدادت دهشةً وحيرة، ولم تفهم ماذا يريد، وقالت له: «وأين كنت تريد أن تراني يا سيدي؟»

قال: «في هذا القصر كما تركتك، ولكني أظن أنك لا تستطيعين البقاء فيه بعد اليوم.»

قالت: «لماذا؟»

قال: «لأن زوجتي قادمةٌ إليه اليوم، وربما كانت لا تحب أن ترى فيه من يزعجه وجودها.»

هنالك شعرت أن جميع ما كان ينبعث في عروقها من الدم قد تراجع كله دفعه واحدة إلى قلبها، فأصبح وحده الواجب الخفَّاق من دون أعضائها وأوصالها جميعًا، ولكن المصيبة إذا عظمت جلَّت عن البكاء والأنين، فلم تَصِح ولم تضطرب، بل نظرت إليه نظرةً طويلة هادئة، ثم التفتت إلى ابنتها وقالت له: «وما ترى في ابنتك هذه؟»

قال: «ليس لي ابنة أيتها السيدة، ولا ولد لي؛ لأني لم أتزوج إلا منذ ثلاثة أيام! فخذي ابنتك معك وعيشي معها حيث تشائين، وقد تركتُ لك هذا الكيس على المنضدة، فخذيه واستعيني به على عيشك.» وتركها ومضي.

لم تُلقِ على المنضدة نظرةً واحدة، ومشت تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى غرفتها، وهنالك انفجرت باكيةً، وقالت: «وا سوأتاه! إنه يعطيني ثمن عِرضي!» وسقطت مغشيًّا عليها.

فلم تستفق حتى أظلها الليل، ففتحت عينيها فإذا ابنتها تبكي بين ذراعي الخادمة، وإذا الخادمة تبكي لبكائها، فضمتها إلى صدرها ساعة، ثم قامت إلى غرفة ملابسها وأخذت تفتش عن أثوابها القروية التي دخلت بها هذا القصر منذ ثلاثة أعوام، وكانت تخفيها عن أعين الناس حياء وخجلًا، فخلعت أثوابها ولبسته، ولم تُبقِ في معصميها ولا في جيدها لؤلؤةً ولا ماسةً إلا ألقت بها تحت قدميها، واحتملت طفلتها وخرجت تحت ستار الليل تترنح في مشيتها كأنما تمشي على رملة مَيْثاء.

وما جاوزتْ عتبة الباب ووصلتْ إلى الموضع الذي كانت واقفةً فيه في حلمها هي وابنتها منذ ساعات تنتظر خطيبها حتى لمحت على البعد مركبة فخمةً مقبلةً على القصر تحمل المركيز وامرأةً بجانبه! فأغمضت عينيها وتسللت تحت جدار القصر، ومضت في سبيلها.

لا يعلم إلا الله ما كانت تحمل هذه الفتاة المسكينة بين جنبيها في تلك الساعة من هموم وأحزان، فقد خرجت مطرودةً من القصر التي كانت تظن منذ ساعات أنها صاحبته، وتولى طردها من كانت تزعم في نفسها أنها أحب الناس إليه، وآثرهم عنده، واستحالت في ساعة واحدة من فتاة شريفة ذات خطيب شريف إلى امرأة عاهرة ذات ولد مريب، وأصبح مستحيلًا عليها أن تعود إلى بيتها القديم بعارها، فترى وجه ذينك الشخصين اللذين أحسنا إليها كثيرًا وأحبَّاها حبًّا جمًّا فأساءت إليهما وغدرت بهما، فقد سُدَّت دونها السُّبل، وأظلم ما بينها وبين العالم بأجمعه، فما من رحمة لها في الأرض ولا في السماء!

ذلك ما كانت تحدِّث نفسها به، وهي سائرة تحت سوار القصر سير الذاهل المشدوه، لا تعرف لها مذهبًا ولا مضطربًا، حتى رأت رأس ابنتها يميل به الكرى، فمشت إلى ربوة عالية على ضفة النهر الجاري على مقربة من القصر، فأضجعتها فوق عشبها، وأسبلت عليها رداءها، وجلست بجانبها تفكر في مصيرها.

فإنها لجالسةٌ مجلسها هذا — وقد سكن الليل وسكن كل شيء فيه إلا ضوء القمر المنبعث في أجواز الفضاء، ونسمات الهواء المترقرقة على صفحات الماء — إذ شعرت كأنها تسمع بالقرب منها هاتفًا يهتف باسمها بصوت ضعيف، فالتفتت حيث سمعت الصوت، فإذا شبحٌ أسود ممتدٌّ بين صخرتين على ضفة النهر، كأنه إنسانٌ نائم، فارتاعت وفزعت، ثم سمعت الصوت يتكرر بنغمة واحدة، فأهمَّها الأمر، ونهضت من مكانها وأخذت تدنو من الشبح رويدًا رويدًا حتى دانته، فإذا هو إنسانٌ في زي المساكين مستلقٍ على ظهره شاخص ببصره إلى جدار القصر، فذهبت بنظرها حيث يذهب، فإذا عينه عالقة بنافذة غرفتها التي كانت تجلس إليها كل ليلة، عجبت لذلك كل العجب، وخفق قلبها خفقًا متداركًا، ورأته يضم إلى صدره هَنَةً بيضاء أشبه بالرقعة ضمًّا شديدًا، فاكبَّت عليه لتتبيَّنه وترى ما يضم إلى صدره، فإذا الرقعة رسمها، وإذا هو «جلبرت» يجود بنفسه، ويردد بصوت خافت متغلغل كأنه أصوات المعذبين في أعماق القبور: «الوداع يا سوزان! الوداع يا سوزان!»

ففهمت كل شيءٍ، فصرخت صرخةً عظمى، دوَّى بها الفضاء وقالت: «آه! لقد قتلتك يابن عمي!»

ثم سقطت على يده تقبِّلها وتبللها بدموعها، وتقول: «هأنذا يا «جلبرت» جاثية تحت قدميك، فارحمني واغفر لي ذنبي، فقد أصبحت امرأةً بائسة شقية، ليس على وجه الأرض من هو أحق بالرحمة مني.»

وكأنما أحس بنغمة صوتها فارتعد قليلًا، ثم مال بنظره نحوها حتى رآها، فسقطت من جفنه دمعة حارَّةٌ على يدها كانت آخر عهده بالحياة، وقضى.

وَلَمَّا دَنَا مِنِّي السِّيَاق تَعَرَّضَتْ
إليَّ ودُونِي مِنْ تَعَرُّضِهَا شُغْلُ
أَتَتْ وحِياضُ الموتِ بَيْنِي وَبَيْنها
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لا يَنْفَعُ الوَصْلُ

جَثتْ سوزان بجانب جثَّة جلبرت ساعة، قضت فيها ما يجب عليها لابن عمها وخطيبها وعشيقها الذي أحبَّها حبًّا لم يحبه أحدٌ من قبله أحدًا حتى مات حسرةً عليها، ثم استفاقت فذكرت ابنتها، وأنها تركتها على تلك الربوة نائمةً وحدها، فعادت إليها مسرعة، وقد قررت في نفسها أمرًا.

«لا أعرف أحدًا من الناس أوصيه بك يا بنيَّتي؛ لأن أباك أنكرك، ولأن الرجل الوحيد الذي كان يحبني في هذا العالم ذهب لسبيله، ولكني أعلم أن لهذا الكون إلهًا رحيمًا يعلم دخائل القلوب وسرائر النفوس، ويرى لوعة الحزن في أفئدة المحزونين، ولاعِج الشقاء بين جوانح الأشقياء، فأنا أَكِلُ أمرك إليه وأتركك بين يديه، فهو أرحم بك من جميع الرحماء.

لا أستطيع أن أعيش لك يا بنيَّتي، فإن أحدًا من الناس لا يغتفر لي الذنب الذي أذنبته، حتى الذي أغراني به وشاركني فيه، فأنا ذاهبةٌ إلى ذلك العالم العلوي المملوء عدلًا ورحمة، لعلِّي أجد فيه من يغفر لي ذنبي إن كنتُ بريئة، ويرحمني إن كنت مذنبة.

لا أحب أن تكون حياتي يا بنية شؤمًا على حياتك، ولا أن يأخذك الناس بذنبي كلما رأوك بجانبي، فأنا أتركك وحدك في هذا المكان لعلَّ راحمًا من الناس يمرُّ بكِ فيعطف عليك ويضمك إليه من حيث لا يعلم شيئًا من أمرك، فتعيشين في بيته سعيدةً هانئة، لا تعرفين أباك فيخجلك مرآه، ولا أمك فتؤلمك ذكراها.

اللهم إن كنت تعلم أن هذه الطفلة ضعيفة عاجزة تحتاج إلى من يرحمها ويكفل أمرها، وأنني قد أصبحت عاجزةً عن البقاء بجانبها أرعاها وأحنو عليها، وأنها بريئة طاهرة لا يد لها في الذي أذنبه أبواها، فارحمها وأسبل عليها ستر معروفك وإحسانك، وهيئ لها صدرًا حنونًا، ومهدًا لينًا، وعيشًا رغيدًا.»

ثم بدأت تسرو ثيابها عن جسمها، وتغطي بها جسم ابنتها وقايةً لها من برد الليل، حتى لم يبقَ على جسدها إلا قميصٌ واحد، تركته ليكون سترًا لعورتها عند انتشال جثتها، ثم حنت على الطفلة برفقٍ، فلثمتها في جبينها لثمةً أودعتها كل ما في صدرها من حبٍّ ورحمة ورفقٍ وحنان، ثم هتفت قائلة: «الوداع يا «ماري»، سنلتقي عما قليلٍ يا «جلبرت»، المغفرة يا «كاترين».» وألقت بنفسها في الماء.

قضى المركيز الليلة الأولى من ليالي شهر العسل مع عروسه في شرفة القصر يسمران ويتناجيان، ويذهبان بنظرهما حيث تذهب خضرة الأرض وتمتد زرقة السماء وتطرد مياه النهر، ويتقلبان بين سعادةٍ حاضرة وأخرى مرجوَّة، ويرشفان من كل كأس من تلك الكئوس رشفة تكثُّرًا بما عندهما منها، حتى ثملا واستغرقا وأصبحا لا يشعران بشيء مما حولهما، فلم يستفيقا حتى سمعا دوي الريح في أبراج القصر، وفي ذوائب الأشجار، فعلما أنها الزوبعة، فنهضا من مكانهما ليذهبا إلى مضجعهما.

فإنهما لواقفان موقفهما هذا إذ لمحت المركيزة في وجه المركيز دهشةً واضطرابًا، ورأته يلتفت التفاتًا شديدًا كأنما يتسمع لصوتٍ غريب، فسألته ما باله، فلم يُجِبها، وأطلَّ من الشرفة على النهر، فرأى كما رأت هي على نور القمر، طفلةً واقفةً على الضفة تصيح وتعول، وتشير بيدها نحو الماء، وتقول: «أماه! أماه!» فنظرا حيث تشير، فإذا امرأةٌ عاريةٌ إلا قليلًا تتخبط في لجج الماء تخبُّط الغرقى.

فترك المركيز مكانه ونزل يعدو إلى النهر، وهو يقول: «وا لهفتاه إن كانت هي!» وصاح بخدمه أن يتبعوه ففعلوا.

حتى بلغ موقف الطفلة، فعرف أنها ابنته، وأن الغريقة سوزان، فأظلم الفضاء في عينيه، وأشار إلى أحد خدمه أن يعود بالطفلة إلى القصر، وأمر الباقين أن يسبحوا وراء الغريقة، ثم سقط في مكانه واهنًا متهالكًا، وكان قد اجتمع على الضفة خلقٌ كثير من الفلاحين رجالًا ونساء، فسبح بعضهم وراء السابحين، ووقف الباقون حول المركيز ينتظرون رحمة الله وإحسانه.

انتشر السابحون في كل مكان، ومشت وراءهم عيون الناظرين وقلوبهم، فقامت بينهم وبين الأمواج المتلاطمة معركة هائلة، وكانوا يظفرون فيها مرة ويتراجعون أخرى، وكانوا إذا لاح لهم على البعد قميص الغريقة أو شعرها عَظُم عندهم الأمل، فاندفعوا وراءها مستبسلين مستقتلين يغالبون جبال الأمواج المعترضة في طريقهم، حتى إذا دنوا من المكان الذي لمحوها فيه لا يجدون أمامهم شيئًا، ثم لا يلبث الموج أن يكرَّ عليهم فيدفعهم إلى الضفة كما كانوا.

وما زالت الفترات بين ظهور الغريقة واختفائها تتسع شيئًا فشيئًا حتى غابت عن الأعين ولم تظهر، فهبط السابحون وراءها ولبثوا ساعة يرسبون ويطفون، ثم ظهروا على وجه الماء يحملونها على أيديهم، ولا يعلم الناس أحية أم ميتة، وما زالوا يسبحون بها وأصوات الدعاء لها والبكاء عليها ترن في الضفتين، فتردد رنينها آفاق السماء، حتى وصلوا بها إلى الضفة، فألقوها على الأرض فإذا هي ميتة.

وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى كانت الضفة مأتمًا قائمًا يبكي فيه النساء على الشهيدة والرجال على الشهيد.

لم ينتفع المركيز بنفسه بعد هذا اليوم، كما لم ينتفع جلبرت بنفسه من قبل، فقد مرضت ابنته على إثر تلك الحادثة مرضًا شديدًا، فلم تلبث أن لحقت بأمها بعد ثلاث ليالٍ، واستحال الحب الذي كانت تضمره له زوجته إلى بغضٍ واحتقار، فهجرته وسافرت إلى «نيس»، ولزمه خيال ذلك المنظر الذي رآه من شرفة القصر ليلة الغرق لا يفارقه ليله ونهاره، فكان كلما مشى في طريقٍ توهَّم أن أمامه نهرًا هائجًا تتخبط «سوزان» في لجته، وتصيح «ماري» على ضفته، فيصرخ قائلًا: «لبيك يا سوزان!» ويندفع إلى الأمام كأنما يُريد أن يُلقي بنفسه في النهر الذي توهمه لينجي الغريقة التي تخيلها، فينأى عنه المنظر كلما دنا منه حتى ينال منه التعب، فيسقط حسيرًا طريحًا.

وكان يهيم على وجهه أحيانًا حتى يصل إلى ضاحية قرية «ليني»، فيرى امرأةً عجوزًا مكبَّةً على قبرٍ بين يديها تبكي وتنتحب، فيعلم أنها «كاترين»، وأن القبر قبر قتلاه، فيتراجع خائفًا مذعورًا، ويصرخ قائلًا: «الرحمة الرحمة! العفو العفو!»

وكثيرًا ما كان يراه نساء الفلاحين ساقطًا في بعض الأماكن التي كُنَّ يرين فيها «جلبرت»، فيقلن: «لقد انتقم الله للشهيد المسكين والشهيدة المظلومة.» وكان منظر الماء يهيجه أكثر من كل منظرٍ سواه، فإذا رآه ثار واضطرب وتهافت عليه يريد اقتحامه، لولا أن يتداركه من يراه من المارة.

ولم يَزَل هذا شأنه حتى رأى الناس جثته في صباح يومٍ من الأيام طافيةً على وجه النهر في المكان الذي غرقت فيه «سوزان»، فعلموا أنها نهاية الجزاء.

مرت على هذه الحادثة أعوامٌ طوالٌ، ولا يزال عجائز قرية «ليني» والقرى المحيطة بها يحفظنها حتى اليوم، ويبكين كلما ذكرنها، ويروينها لبناتهن وحفيداتهن عبرةً يعتبرن بها كلما طاف بهن طائفٌ من شرور الرجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤