العقاب

موضوعة

رأيت فيما يرى النائم في ليلةٍ من ليالي الصيف الماضي كأني هبطت مدينةً كبرى، لا عِلم لي باسمها، ولا بموقعها من البلاد، ولا بالعصر الذي يعيش أهلها فيه، فمشيت في طرقها بضع ساعات، فرأيت أجناسًا من البشر لا عداد لهم، ينطقون بأنواعٍ من اللغات لا حصر لها، فخُيِّل إليَّ أن الدنيا قد استحالت إلى مدينة، وأن الذي أراه بين يدي إنما هو العالم بأجمعه من أقصاه إلى أقصاه، فلم أَزَل أتنقَّل من مكان إلى مكان، وأداول بين الحركة والسكون حتى انتهى بي المسير إلى بنيةٍ عظيمة، لم أرَ بين البِنَى أعظم منها شأنًا ولا أهول منظرًا، وقد ازدحم على بابها خلقٌ كثيرٌ من الناس، ومشى في أفنيتها وأبهائها طوائف من الجند يخطرون بسيوفهم وحمائلهم جيئةً وذهوبًا، فسألت بعض الواقفين: «ما هذه البنية؟ وما هذا الجمع المحتشد على بابها؟» فعلمتُ أنها قصر الأمير، وأن اليوم يوم القضاء بين الناس والفصل في خصوماتهم.

وما هي إلا ساعة حتى نادى منادٍ في الناس أنْ قد اجتمع مجلس القضاء فاشهدوه، فدخل الناس ودخلتُ على إثرهم، وجلست حيث انتهى بي المجلس، فرأيت الأمير جالسًا على كرسيٍّ من الذهب يتلألأ في وسط الفناء تلألؤ الشمس في دارتها، وقد جلس على يمينه رجل يلبس مسوحًا وعلى يساره آخر يلبس طيلسانًا، فسألت عنهما، فعرفت أن الذي على يمينه كاهن الدير، وأن الذي على يساره قاضي المدينة، ورأيته ينظر في ورقةٍ بيضاء بين يديه، فأكبَّ عليها ساعة ثم رفع رأسه وقال: «لِيُؤْتَ بالمجرمين.»

ففُتح باب السجن وكان على يسار الفناء، فتكشَّف عن مثل خلق الليث منظرًا وزئيرًا، وخرج منه الأعوان يقتادون شيخًا هرمًا تكاد تُسْلِمُهُ قوائمه ضعفًا ووهنًا، فسأل الأمير: «ما جريمته؟»

فقال الكاهن: «إنه لص دخل الدير، فسرق منه غِرارةً من غرائر الدقيق المحبوسة على الفقراء المساكين.»

فضجَّ الناس ضجيجًا عاليًا وصاحوا: «ويلٌ للمجرم الأثيم، أيسرق مال الله في بيت الله؟» ثم نودي بالشهود، فشهد عليه رهبان الدير، فتسارَّ الأمير مع الكاهن هنيهةً، ثم صاح: «يُقاد المجرم إلى ساحة الموت، فتُقطع يمناه ثم يسراه، ثم بقية أطرافه، ثم يقطع رأسه، ويقطع طعامًا للطير الغادي والوحش الساغب!» فجثا الشيخ بين يدي الأمير، ومد إليه يده الضعيفة المرتعشة يحاول أن يسترحمه، فضرب الأعوان على فمه واحتملوه إلى محبسه.

ثم عادوا وبين أيديهم فتى في الثامنة عشرة من عمره، أصفرُ نحيلٌ يضطرب بين أيديهم خوفًا وفرقًا، حتى وقفوا بين يدي الأمير، فسأل: «ما جريمته؟»

فقال الكاهن: «إنه قاتلٌ، ذهب أحد قواد الأمير إلى قريته لجمع الضرائب، فطالبه بأداء ما عليه من المال، فأبى وتوقَّح في إبائه، فانتهره القائد، فاحتدم غيظًا وجرَّد سيفه من غمده وضربه به ضربةً ذهبت بحياته.»

فصاح الناس: «يا للفظاعة والهول! إن من يقتل نائب الأمير فكأنما قتل الأمير نفسه.» ثم جيء بأعوان القائد المقتول، فأدوا شهادتهم، فأطرق الأمير لحظة، ثم رفع رأسه، وقال: «يُقاد المجرم إلى ساحة الموت فيُصلب على أعواد شجرةٍ، ثم تُفْصَد عروقه كلها، حتى لا يبقى في جسمه قطرة واحدة من الدم.» فصرخ الغلام صرخةً حال الأعوان بينه وبين إتمامها، واحتملوه إلى السجن.

وما لبثوا أن عادوا بفتاةٍ جميلة، كأنها الكوكب المشبوب حسنًا وبهاءً، لولا سحابة غبراء من الحزن تتدجَّى فوق جبينها، فقال الأمير: «ما جريمتها؟»

فقال القاضي: «إنها امرأة زانية، دخل عليها رجل من أهلها فوجدها خالية بفتًى غريب، كان يحبها ويطمع في الزواج منها قبل اليوم.»

فهاج الناس واحتدموا وهتفوا: «القتل القتل! الرجم الرجم! إنها الجريمة العظمى والخيانة الكبرى.»

فقال الأمير: «أين شاهدها؟»

فدخل قريبها الذي كشف أمرها فشهد عليها، فهمس القاضي في أذن الأمير ساعة، ثم قال الأمير: «تُؤخذ الفتاة إلى ساحة الموت، فتُرجم عاريةً حتى لا يبقى على لحمها قطعة جلد، ولا على عظمها قطعة لحم.» فهلَّل الناس وكبَّروا إعجابًا بعدل الأمير وحزمه، وإكبارًا لسطوته وقوته، وهتفوا له ولكاهنه وقاضيه بالدعاء.

ثم نهض فنهض الناس بنهوضه، ومضوا لسبيلهم فرحين مغتبطين، وخرجتُ على أثرهم حزينًا مكتئبًا أفكر في هذه المحاكمة الغريبة، التي لم يُسمع فيها دفاع المتهمين عن أنفسهم، ولم يشهد فيها على المتهمين غير خصومهم، ولم تُقدر فيها العقوبات على مقدار الجرائم، وأعجب للناس في ضعفهم واستخذائهم أمام القوة القاهرة، وغلوهم في تقديسها وإعظامها، وإغراقهم في الثقة بها والنزول على حكمها عدلًا كان أو ظلمًا، رحمة أو قسوة، وأردد في نفسي هذه الكلمات: «ليت شعري، ألا يوجد بين هذه الجماهير لص أو قاتل أو زانٍ يعلم عذرهم فيرحمهم، وينظر إلى جرائمهم بالعين التي ينظر بها إلى جريمته، ويتمنى لهم من الرحمة والمغفرة ما يتمنى لنفسه، إن قُدر له أن يقف في موقفٍ مثل موقفهم أمام قضاةٍ مثل قضاتهم؟!

ألا يجوز أن تكون الزانية غير زانية؟ والقاتل إنما قتل دفاعًا عن عِرضه أو ماله؟! واللص إنما سرق ما يسد به جوعته أو جوعة أهل بيته؟!

ألم يرتكب الأمير جريمة القتل مرة واحدة في حياته فيرحم القاتلين عند النظر في جرائمهم؟!

ألم يسقط إلى يد الكاهن يومًا من الأيام دينارٌ من غير حِلِّه فتخفُّ لوعة أسفه على الغِرارة المسروقة من ديره ويغتفر هذه لتلك؟!

ألم تَزِلَّ قدم القاضي مرة واحدة فيما مرَّ به من أيام حياته فتهدأ ثورة غضبه على الساقطين والساقطات؟!

من هم هؤلاء الجالسون على هذه المقاعد يتحكمون في أرواح العباد وأموالهم كما يشاءون، ويقسمون السعود والنحوس بين البشر كما يريدون؟!

إنهم ليسوا بأنبياء معصومين، ولا بأملاكٍ مطهرين، ولا يحملون في أيديهم عهدًا من الله تعالى بالنظر في أمر عباده وتوزيع حظوظهم وأنصبتهم بينهم، فبأي حق يجلسون هذه الجلسة على هذه الصورة؟! ومن أي قوة شرعية يستمدون هذه السلطة التي يستأثرون بها من دون الناس جميعًا؟!

من هو الأمير؟ أليس هو المستبد الأعظم في الأمة؟ أو سلالة المستبد الأعظم فيها، الذي استطاع بقوته وقهره أن يتخذ من أعناق الناس وكواهلهم سلمًا يصعد عليها إلى العرش الذي يجلس عليه؟!

من هو الكاهن؟ أليس هو أبرع الناس وأمهرهم في استغلال النفوس الضعيفة والقلوب المريضة؟!

من هو القاضي؟ أليس هو أقدر الناس على إلباس الحق صورة الباطل والباطل صورة الحق؟!

ومتى كان المستبدون واللصوص والظلمة أخيارًا صالحين وأبرارًا طاهرين؟!

عجيبٌ جدًّا أن يقتل الرجلُ الرجلَ لغضبةٍ يغضبها لعِرضه أو شرفه فيُسمى مجرمًا، فإذا قتل الأمير القاتل سُمي عادلًا، وأن يسرق السارق اللقمة يقتات بها أو يُقِيت بها عياله فيُسمى لصًّا! فإذا أمر القاضي بقطع أطرافه والتمثيل به سُمي حازمًّا! وأن تسقط المرأة سقطةً ربما ساقتها إليها خدعةٌ من خداع الرجال أو نزغةٌ من نزغات الشيطان، فيستنكر الناس أمرها، ويستبشعون منظرها، فإذا رأوها مشدودةً إلى بعض الأنصاب عارية تتساقط عليها حجارة من كل صوب، أَنِسوا بمشهدها، وأعجبهم موقفها ومصيرها!

كما أن النار لا تطفئ النار، وشارب السم لا يُعالَج بشربه مرة أخرى، وكما أن مقطوع اليد اليمني لا يُعالج بقطع اليد اليسرى، كذلك لا يعالج الشر بالشر، ولا يُمحى الشقاء في هذه الدنيا بالشقاء.»

ولم أَزَل أحدِّث نفسي بمثل هذا الحديث، حتى أقبل الليل فمررت بساحةٍ مظلمة موحشة تتطاير في جوها أسرابٌ من الطير غادية رائحة، فاخترقتها حتى بلغت أبعد بقاعها، فرأيت منظرًا هائلًا لا يزال أثره عالقًا بنفسي حتى الساعة.

رأيت الشيخ جثةً معفرةً بالتراب لا رأس لها، ولا أطراف، ثم رأيت رأسه وأطرافه مبعثرة حواليه كأنها نوادب يندبنه حاسراتٍ، ورأيت الفتى مشدودًا إلى شجرة فرعاء كأنه بعض أغصانها، وقد سال جميع ما في عروقه من الدم حتى أصبح شبحًا ماثلًا، أو خيالًا ساريًا، ورأيت الفتاة كتلةً حمراء من اللحم لا يستبين لها رأس ولا قدم، وقد أحاطت بها أكوامٌ من الحجارة المخضبة بدمائها، ثم رأيت بجانب هذه الجثث الثلاث حفرة جوفاء تَفْهَق بالدم، فعلمت أنها مجمع دماء هؤلاء المساكين، فشعرت كأن سحابة سوداء تهبط على عيني قليلًا قليلًا، حتى غاب عن نظري كل شيءٍ، فسقطت في مكاني لا أشعر بشيءٍ مما حولي، فلم أستفق حتى مضت دولةٌ من الليل.

ففتحت عيني فإذا شبحٌ أسود يدنو مني رويدًا رويدًا، فارتعتُ لمنظره، وفزعتُ إلى ساق الشجرة فاختبأت وراءه، فما زال يتقدم حتى صار بجانبي، فأشعل مصباحًا صغيرًا كان في يده، فتبينته على نوره، فإذا عجوز شمطاء في زي المساكين وسحنتهم، فمشت تتصفح وجوه القتلى حتى بلغت مصرع الشيخ، فجثت بجانبه ساعة تبكيه وتندبه، ثم مشت إلى رأسه وأطرافه فجمعتها وضمتها إلى جثته، ثم احتفرت له حفرةً تحت ساق الشجرة فدفنته فيها، وقامت على قبره تودعه وتقول: «في سبيل الله ما لقيت في سبيلي وسبيل أحفادك البؤساء أيها الشهيد المظلوم، وفي ذمة الله وكنفه روحٌ طار عن جسدك، وجسدٌ ضمه قبرك، فقد كنت خير الناس زوجًا وأبًا، وأطهرهم لسانًا ويدًا، وأشرفهم قلبًا ونفسًا، فاذهب إلى ربك لتلقى جزاءك عنده، واطلب إليه الرحمة لجميع الناس حتى لقاتليك وظالميك، واسأله أن يلحقني بك وشيكًا، فلا شيء يعزيني عنك بعد فراقك إلا الأمل في لقائك!»

فأبكاني بكاؤها وأحزنني منظرها، ووقع في نفسي أنها صادقة فيما تقول، وأن شيخها شهيدٌ من شهداء القضاء، وأحببت أن أقف على قصتها وقصته، فبرزتُ من مخبئي ومشيت إليها، فارتاعت لمرآي عند النظرة الأولى، ثم سكتت كأنما ذكرت ألا قيمة لمصائب الحياة بعد مصابها الذي نزل بها.

فابتدرتها بقولي: «لا تُرَاعِي يا سيدتي، فإنني رجلٌ غريبٌ عن هذا البلد، لا أعرف من شأنه ولا من شأن أهله شيئًا، وقد رأيت الساعة موقفك على هذا القبر وتفجُّعك على ساكنه، فرثيت لك وبكيت لبكائك، وتمنيت لو أفضيتِ إليَّ بذات نفسك، علَّني أستطيع أن أكون لك عونًا على همك.»

فاستعبرت باكيةً وأنشأت تحدثني وتقول: «إن زوجي لم يكن في يوم من أيام حياته لصًّا ولا سارقًا، بل قضى أيام شبابه وكهولته عاملًا مجدًّا لا يفتر ساعة واحدة عن السعي في طلب رزقه ورزق أهل بيته حتى كبر ولده، وكان واحده، فاشتدَّ به ساعده واحتمل عنه ما كان يستقل بحمله من الهم، وما هو إلا أن نعمنا به وبمعونته حقبةً من الدهر، حتى نزلت به نازلة الموت، فذهبتْ بحياته ونحن أحوج ما كنا إليه، وخلَّف وراءه خمسة أولادٍ صغار لا يتجاوز أكبرهم العاشرة من عمره، وكانت قد أدركت أباه الشيخوخة، فاجتمع عليه هم الكبر وهم الثكل، فأصبح عاجزًا عن العمل لا يستطيعه إلا في الفينة بعد الفينة، وأصبحنا جميعًا في حالة من الشقاء والبؤس، لا يعرف مكانها من نفوسنا إلا من ألمَّ به في حياته طرفٌ منها، حتى طلعت علينا شمس يوم من الأيام، وليس في يدنا ما نُقَوِّم به أصلاب صغارنا، ولا ما نعللهم به تعليلًا، فأُسْقِطَ في يدنا، وعلمنا أنَّا هالكون جميعًا إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده.

فلم أرَ بدًّا من أن ألجأ إلى الخطة التي يلجأ إليها كل مضطرٍّ عديم، فبرزتُ إلى الناس أتعرَّض لمعروفهم وأستندي ماء أكفِّهم، فلم أجد بينهم من يُحسن إليَّ بجرعة أو مضغة، ولا من يدلني على سبيل ذلك، وكان أكبر ما حال بيني وبينهم وصرف وجوههم عني، أني ألبس مرقعة الشحاذين ولا أحمل رَكْوَتَهُمْ، فعدتُ إلى منزلي وبين جنبي من الهم ما الله به عليم، فرأيت الأطفال سهدًا يتضاغون جوعًا، ورأيت الشيخ جالسًا بينهم يبل تربة الأرض بدموعه ويقرع كفَّه بكفِّه لا يعلم ماذا يصنع، ولا كيف يحتال، ولو أن شخص الموت برز إليَّ في تلك الساعة لكان منظره أهون على نفسي من منظر هؤلاء الصبية، وهم يحدقون في وجهي عند دخولي، ويدورون حولي ليروا هل عدت إليهم بما يسد جوعتهم، وما عدت إليهم إلا باليأس القاتل والكمد الشامل.

فتقدمت نحو الشيخ، وقلت له: إن في دير المدينة كما يزعمون مالًا للصدقات، يتولى الكاهن الأعظم إنفاقه على الفقراء والمساكين، فلو ذهبتَ إليه وكشفتَ له خَلَّتك، وسألته أن يمنحك عُلَالَةً تستعين بها على أمرك لرجونا أن نطفئ لوعة هؤلاء الأطفال المساكين.

فاستنار وجهه بنور الأمل، وقام إلى عصاه فاعتمد عليها ومشى إلى الدير حتى بلغه، فصعد إلى حجرة الكاهن حتى وقف بين يديه، فنفض له جملة حاله، وسكب تحت قدميه جميع ما أبقت الأيام في جفنيه القريحين من دموع، فاستقبله الكاهن بأقبح ما يستقبل به مسئولٌ سائلًا، وقال له: إن الدير لا يُحسن إلا إلى الذين أسلفوه الإحسان من قبل، وما كنت في يومٍ من أيام رغدك ورخائك من المحسنين إليه، فاذهب لشأنك، فأبواب العيش واسعة بين يديك، فإن ضاقت بك فأبواب الجرائم أوسع منها!

فخرج من حضرته كئيبًا محزونًا لا يرى فضاء الدنيا في نظره إلا ككفة الحابل أو أُفحوص القطاة، حتى نزل إلى ساحة الدير فلمح في إحدى زواياه غرارة دقيق، فحدَّثته نفسه بها، وما كانت تُحدِّثه لولا العوز والفاقة، ثم أدركه الحياء، فأغضى عنها واستمر سائرًا في طريقه حتى صار بجانبها، فوقع نظره عليها مرة أخرى، فعاوده حديثه الأول، فحاول دفعه، فلم يستطع، فجلس بجانبها يحدِّث نفسه ويقول: إن الطعام طعام الفقراء والمساكين، وأنا فقيرٌ مسكين، لا أعلم أن بين أسوار هذه المدينة ولا في جميع أرباضها رجلًا أحوج ولا أفقر مني، فإن كان الطمع في هذه الغرارة جريمة فقد أذن لي الكاهن بارتكاب الجرائم في سبيل العيش.

ثم مشى إليها فاحتملها على ظهره ومشى بها جاهدًا مترجحًا، فما تجاوز عتبة الدير حتى أثقله الحمل، وشعر أنه عاجزٌ عن المسير، فحدثته نفسه بإلقائه عن ظهره، ثم تمثل له منظر أحفاده الصغار، وهم أَلْقَاء تحت جدران البيت يتضورون جوعًا، فحمل على نفسه ومشى يعتمد على عصاه مرة وعلى الجدران مرة أخرى، حتى نال منه الجهد، فأحس كأن أنفاسه قد جمدت في صدره لا تهبط ولا تعلو، وأن ما كان باقيًا في عينيه من نور قد انطفأ دفعة واحدة، فأصبح لا يرى شيئًا مما حوله، وإذا نَفْثَةٌ من دمٍ دفقت من صدره فانحدرت على ردائه، فسقط في مكانه مغشيًّا عليه.

ولم يَزَل على حاله تلك، حتى مرَّ به العسس فرأوه ورأوا الغرارة بجانبه، فارتابوا له، وكان رهبان الدير قد أخذوا يتصايحون فيما بينهم: «الغرارة، الغرارة!» وينشدونها في أنحاء الدير حتى يئسوا منها، فخرجوا يطلبونها في كل مكان حتى التقوا بالعسس ملتفين حول الشيخ، فعرفوا ضالتهم، وما هي إلا ساعة حتى كانت الغرارة في الدير، وكان الشيخ في السجن، ثم كان بعد ذلك ما رأيت من أمره. فوا أسفاه عليه! لقد مات شهيدًا مظلومًا، ووا رحمتاه لي ولأطفالي البؤساء المساكين من بعده!»

ثم نهضتْ من مكانها ومسحت عَبرتها بطرف ردائها، ونظرت إلى القبر نظرة طويلة وقالت: «الوداع يا رفيق صباي، وعماد شيخوختي، الوداع يا خير الأزواج وأبر العشراء، الوداع حتى يجمع الله بيني وبينك في دار جزائه.» ثم انكفأتْ راجعة في الطريق التي جاءت منها.

وما هو إلا أن تغلغل شخصها في أعماق الظلام، حتى رأيت شبحًا آخر يتراءى من حيث اختفى الشبح الأول، وما زال يتقدم نحوي مُتسللًا يختلس خطواته اختلاسًا، فاختبأتُ وراء الشجرة لأرى ما هو صانع، وكان القمر قد بدأ يُشرفُ على الوجود من مَطْلَعِهِ، ويرسل الخيوط الأولى من أشعته على تلك الساحة الكبرى، فرأيت الشبح على نوره، فإذا فتاةٌ جميلة باكية لم أرَ في حياتي دمعة على خدٍّ أجمل من دمعتها على خدها، فدارت بعينيها لحظة، حتى وقع نظرها على جثة المصلوب بين أعواد الشجرة، فمشت إليه ومدت يدها وأضجعته على الأرض ووقفت بجانبة ساعة تنظر إليه جامدة ساكنة كأنها غير آبهة ولا حافلة، ثم هتفت صارخة: «وا شقيقاه!» وسقطت فوقه تضمُّه وتقبِّله وتلثم شعره وجبينه، وتزفر فيما بين ذلك زفيرًا متداركًا، كأنما تنفث أفلاذ كبدها نفثًا، حتى نال منها الجهد، فترنَّحت قليلًا ثم هوت بجانبة هوى الجذع الساقط لا حراك بها.

فأهمني أمرها وخفت أن يكون قد لحق بها مكروهٌ، فمشيت إليها حيث صرت بجانبها، فشعرت بأنفاسها الضعيفة تتردد في صدرها، فعلمت أنها حية، فجلست فوق رأسها أندبها وأدعو الله لها حتى استفاقت بعد هنيهة، فرأتني بجانبها فنظرت إليَّ نظرةً حائرة، ثم تقدمت نحوي وقالت: «على من تبكي أيها الرجل الغريب؟»

قلت: «أبكي عليك يا سيدتي وعلى فقيدك البائس المسكين!»

قالت «نعم، إنه بائس مسكين، فابكِ عليه يا سيدي كثيرًا، فقد كان زينة الشباب وزهرة الحياة وريحانة النفوس ومتعة الأفئدة والقلوب، ولقد ظلموه إذ قتلوه، فما كان قاتلًا ولا مجرمًا، ولكنه رجل رأى عِرضه فريسةً في يد من يريد تمزيقه، فقطع تلك اليد الممتدة إليه، وانتقم لنفسه وللشرف والفضيلة منها، ولو أنصفوه لاستبقوه رحمةً به وبشبابه، فما أجرم من ذاد عن عرضه ولا أثم من قتل قاتله.»

قلت: «هل لَكِ أن تقصِّي عليَّ قصته يا سيدتي؟»

قالت: «نعم، نزل قريتنا صباح يوم من الأيام قائدٌ من قواد الأمير الذين يطوفون البلاد لجمع الضرائب، فمرَّ بأبيات القرية بيتًا بيتًا حتى بلغ منزلنا، وكنت واقفةً على بابه، فنظر إليَّ نظرةً مريبة طار لها قلبي رعبًا وفرقًا، ثم سألني عن أخي، فأرشدتُهُ إلى مكانه، فسأله عن المال، فاسْتَنْسَأَهُ إياه أيامًا قلائل حتى يبيع غلته، فأبى إلا أن ينقده الساعة أو يأخذني رهينةً عنده إلى يوم الوفاء.

وغمز بي بعض أعوانه فداروا حولي، وكنت أسمع قبل اليوم حديث أولئك الفتيات الشقيات اللواتي يدخلن رهائن في قصر الأمير، فلا يخرجن منه إلا ساقطاتٍ أو محمولات، ففزعتُ إلى أخي ولصقت به، فوقف بيني وبين الرجل، وقال له: لا شأن لك مع الفتاة إنما أنا صاحب المال، وأنا المأخوذ به من دون الناس جميعًا، فإن كان لا بد لك من رهينة فأنا رهينة مالي حتى يصل إليك.

فقال له: لا بد لي من المال أو الرهينة، ولا بد أن تكون الرهينة كما أُريد، فإن أبيت فحياتك فداء عنها.

فغضب أخي غضبةً انتفض لها في جبينه عرقٌ لم أرَهُ في ساعة من ساعات غضبه قبل اليوم، وقال له: فلتكن حياتي فداءً لشرفي. ثم جرَّد سيفه وضربه به ضربة طارت برأسه، ووقف في مكانه لا يبرحه وسيفه يقطر دمًا حتى غَلَّه الأعوان واحتملوه إلى السجن. فتلك حياته يا سيدي وذاك مماته، فلئن بكيتُهُ فأنا أبكي فتى الفتيان هِمَّةً ونجدةً، ونادرة الرجال عزةً وإباءً، وأفضل الإخوة رحمة وحنانًا.»

ثم قالت: «هل لك أن تعينني يا سيدي على مواراته قبل أن يحول النهار بيني وبينه؟ فقد أصبحتُ واهيةً متضعضعة، لا أقوى على شيءٍ.»

فقمتُ إلى الشجرة فاحتفرتُ حول ساقها حفرةً بجانب حفرة الشيخ فواريته فيها، فتقدمتِ الفتاة نحو القبر وجثت بجانبه ساعة مطرقةً ساكنة، لا أعلم هل هي باكية أو ذاهلة، حتى فارقت مكانها، فرأيت تربة القبر مخضلة بدموعها، ثم مدَّت يدها إليَّ وقالت: «شكرًا لك يا سيدي، فقد أعنتني على موقفٍ قلما يجد فيه مستعينٌ معينًا.» ومضت لسبيلها.

فأتبعتها نظري حتى اختفت آخر طيةٍ من طيات ردائها، فعدت إلى نفسي، فإذا جثة الفتاة المرجومة لا تزال مكانها، فهاجني منظرها، وقلت في نفسي: «إنني لا أدخر لنفسي عملًا أرجو فيه رحمة الله وإحسانه يوم جزائه، أفضل من مواراة هذه المسكينة التراب.» فاحتفرت لها حفرةً بجانب حفرة الشهيدين، ثم ألقيت عليها ردائي واحتملتها على يدي حتى أضجعتها في حفرتها.

فإني لأحثو عليها التراب إذ شعرت بحركةٍ ورائي، فالتفتُّ فإذا فتًى يافعٌ متلفعٌ ببردةٍ سوداء لا يستبين منها غير بياض وجهه، فابتدرني بقوله: «من صاحب هذا القبر الذي تحثو ترابه يا سيدي؟»

قلت: «فتاة مرجومة، رأيت جثتها الساعة منبوذةً في هذا العراء، فرحمت مصرعها، واحتفرت لها هذا القبر الذي تراه.»

فقال: «إن لي يا سيدي مع هذه الفتاة شأنًا، فهل تأذن لي أن أودعها الوداع الأخير قبل أن يحول التراب بيني وبينها؟»

قلت: «نعم، شأنك وما تريد.»

وتنحيت قليلًا، فدنا من القبر وجثا فوق تربتها، وظل يناجي الدفينة نجاء خِلتُ أن الكواكب تردده في سمائها والرياح في أجوائها، حتى اشتفت نفسه، فقام إلى التراب يهيله عليها حتى واراها.

ثم التفت إليَّ وقال: «لقد شكر الله لك يا سيدي هذه اليد التي أسديتها إلى هذه الفتاة المظلومة بستر ما كشف الناس عن عورتها، وحِفظ ما أضاعوا من حرمتها، فجزاك الله خيرًا بما فعلت، وأحسن إليك كما أحسنت إليها.»

وأراد الرجوع فاستوقفته، وقلت له: «وهل ماتت هذه الفتاة مظلومة كما تقول؟»

فانفرجت شفتاه عن ابتسامة مرةٍ، ونظر إليَّ نظرةً هادئة مطمئنة وقال: «نعم يا سيدي، ولولا ذلك ما رأيتني الساعة واقفًا على حافة قبرها أندبها … أنا الرجل الذي اتهموها به، وأستطيع أن أقول لك، كما أقول لربي يوم أقف بين يديه رافعًا إليه ظلامتها: إنها بريئة مما رموها به، وإنها أطهر من الزهرة المطلولة، وأنقى من القطرة الصافية.

لقد أحببت هذه الفتاة مذ كانت طفلةً لاعبة، وأحبَّتني كذلك، ثم شببنا وشب الحب معنا، فتعاقدنا على الوفاء والإخلاص، ثم خطبتُها إلى أبيها فأخطبني راضيًا مسرورًا، حتى إذا لم يبقَ بيني وبين البناء بها إلا أيام معدودات؛ إذ نزلت بأبيها نازلة الموت، فعلمنا أن لا بد لنا من الانتظار بأنفسنا عامًا كاملًا، ففعلنا.

حتى إذا انقضى العام أو كاد، حدث أن ذهبت الفتاة إلى قاضي المدينة في أمرٍ يتعلق بميراثها، فرآها القاضي، فتبعتْها نفسُهُ، فأرسل وراء عمها، وكان ولي أمرها بعد أبيها، وهو رجل من الطامعين المداهنين الذين لا يبالون أن يخوضوا بحرًا من الدم إذا تراءى لهم على شاطئه الآخر دينارٌ لامعٌ، فعرض عليه رغبته في الزواج من ابنة أخيه، فطار بهذه المنحة فرحًا وسرورًا، ولم يتردد في إجابة طلبه، وعاد إلى الفتاة يحمل إليها هذه البشرى، فاستقبلتْهُ بوجه بَاسِرٍ وقالت له: إنني لا أستطيع أن أكون خطيبة رجلين في آنٍ واحد. فلم يبالِ بقولها وقال لها: ستتزوجين ممن أُريد طائعة أو كارهة، فلا خيار لك في نفسك إنما الخيار لي في أمرك وحدي!

وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى أعدوا لها عدة زواجها وسموا يومًا لزفافها، فما غربت شمس ذلك اليوم، حتى جمعت ما كان لها في بيتها من ثياب وحلية، وخرجت تحت ستار الليل هائمة على وجهها لا تعلم أين تذهب، ولا أي طريق تسلك، وكان عمها قد رفع إلى القاضي أمر فرارها، فبثَّ عليها عيونه وأرصاده يطلبونها في كل مكانٍ، حتى لمحها بعضهم جالسة تحت بعض الجدران، فأقبل عليها، فذعرت لمرآه وتركت حقيبتها مكانها، وفرت بين يديه تعدوا عدوًا سريعًا.

وكنت عائدًا في تلك الساعة إلى منزلي، فرأتني فألقت نفسها عليَّ وقالت: إنهم يتبعونني، وإنهم إن ظفروا بي قتلوني، فارحمني يرحمك الله. فأهمَّني أمرها، وذهبت بها إلى منزلي وأخفيتها في بعض حجراته، وما هي إلا ساعة حتى دخل عمها ووراءه أعوان القاضي يطلبها طلبًا شديدًا، فأنكرت رؤيتها فلم يصدقني، وأخذ يضرب أبواب الحجرات بابًا بابًا حتى ظفر بها، فصاح: ها هي ذي الفتاة الزانية، وهذا صاحبها. فأقسمت له بكل مُحْرِجَةٍ من الأيمان أنها بريئةٌ مما يرميها به، فلم يُصْغِ إليَّ، وأمر الأعوان فاحتملوها، وحاولت أن أحول بينهم وبينها، فضربني أحدهم على رأسي ضربة طارت بصوابي فسقطتُ مغشيًّا عليَّ، فلم أستفق إلا بعد ساعة، فوجدت الحمى قد أخذت مأخذها من جسمي، فلزمت فراشي بضعة أيام لا أفيق ساعة، حتى يتمثل لي ذلك المنظر الذي رأيته، فأشعر بالرعدة تتمشى في أعضائي، فأعود إلى ذهولي واستغراقي، حتى أدركتني رحمة الله فَأَبْلَلْتُ منذ الأمس بعض الإبلال، واستطعت أن أخرج الليلة من منزلي، فعلمتُ ما تم من أمر تلك المسكينة، فجئتُ كما تراني أودعها الوداع الأخير، وأواري جثتها التراب، وما أنا بالسَّالِي عنها، ولا بالذائق حلاوة العيش من بعدها حتى ألحق بها.»

ثم ألقى على قبرها نظرةً جمعت في طياتها جميع معاني النظرات البائسات من حزنٍ ويأس، ولوعةٍ وشقاء، ومضى لسبيله.

فما أبعد إلا قليلًا حتى رأيتُ القمر ينحدر إلى مغربه، ثم ما لبث أن اختفى، فإذا الفضاء ظلمة وسكون، وإذا الساحة وحشةٌ وانقباض، فصعدت على ربوة عالية مشرفة على القبور الثلاثة، ثم تلفعت بردائي، وألقيت رأسي على بعض الصخور، وأنشأت أحدث نفسي وأقول: «ليت شعري! ألا يوجد في هذه الدنيا عادل ولا راحم؟ فإن خَلَتْ منهما رقعة الأرض فهل خلت منهما ساحة السماء؟

أَجْرَمَ الزعيم الديني؛ لأنه ضنَّ على ذلك الشيخ المسكين بدرهمٍ من مال يسد به جوعته وجوعة أهل بيته، فاضطر الرجل إلى ارتكاب جريمة السرقة، فعُوقب السارق على سرقته، ولم يُعاقب القاسي على قسوته، ولولا قسوة القاسي ما كانت سرقة السارق.

وأجرم الأمير لأنه أرسل قائده لاختطاف فتاةٍ حرةٍ لا تُؤثر أن تجود بعِرضها، فاضطر أخوها إلى الذود عنها فارتكب جريمة القتل، فعوقب الفتى على جريمته وسَلِمَ من العقوبة مَن دفعه إلى الإجرام.

وأجرم القاضي لأنه أراد أن يُكره فتاةً لا تحبه على الزواج منه، ففرَّت من وجهه، فعاقبوها على فرارها، ولم يعاقبوا القاضي على ظلمه واستبداده.

وهكذا أصبح المجرم بريئًا، والبريء مجرمًا، بل أصبح المجرم قاضي البريء وصاحب الحق في معاقبته!

فهل تسقط السماء على الأرض بعد اليوم، أم لا تزال تُنيرها بكواكبها ونجومها، وتمطرها غَيْثَها ومُزْنَها؟»

ثم التفتُّ إلى مصرع المقبورين فوقع نظري على بركة الدم التي اجتمعت فيها دماء هؤلاء الشهداء، فرأيت خيال نجمٍ في السماء يتلألأ فوق صفحتها، فرفعت نظري إلى النجم، فإذا هو المريخ يتلهب ويضطرم، كأنه جمرة الغيظ في أفئدة الموتورين، فعلق نظري به ساعة، ثم رأيت كأنه يهبط من عليائه رويدًا رويدًا، فيعظُم جرمه كلما ازداد هبوطه، حتى إذا لم يبقَ بينه وبين الأرض إلا ميلٌ أو بعض ميل إذا به ينتفض انتفاضًا شديدًا، وإذا هو على صورة ملكٍ من ملائكة العذاب ينبعث الشرر من عينيه ومنخريه، ويتطاير من أجنحته وأطرافه، فلم يَزَل هابطًا حتى نزل على رأس الشجرة التي تظلل قبور الشهداء، ثم صفَّق بجناحيه تصفيقة اهتزت لها جوانب الأرض وأضاءت بها الأرحام، ثم أخذ ينطق بصوتٍ كأنه جلجلة الرعد في آفاق السماء، ويقول: «ها هم أولاء الناس قد عادوا إلى ما كانوا عليه، وها هي ذي الأرض قد ملئت شرورًا وفسادًا حتى لم يبقَ فيها بقعة طاهرة يستطيع أن يأوي إليها ملكٌ من أملاك السماء.

ها هم أولاء الأقوياء قد ازدادوا قوة، والضعفاء قد ازدادوا ضعفًا، وها هي ذي لحوم الفقراء تنحدر في بطون الأغنياء انحدارًا، فلا الأولون بمستمسكين، ولا الآخرون بقانعين.

ها هم أولاء الفقراء يموتون جوعًا فلا يجدون من يُحسن إليهم، والمنكوبون يموتون كمدًا فلا يجدون من يعينهم على همومهم وأحزانهم.

ها هم أولاء الأمراء قد خانوا عهد الله وخفروا ذمامه، فأغمدوا السيوف التي وضعها الله في أيديهم لإقامة العدل والحق، وتقلَّدوا سيوفًا غيرها، لا هي إلى الشريعة، ولا إلى الطبيعة، ومشوا بها يفتتحون لأنفسهم طريق شهواتهم ولذائذهم حتى ينالوا منها ما يريدون.

ها هم أولاء القضاة قد طمعوا وظلموا، ووضعوا القانون ترسًا أمام أعينهم يصيبون من ورائه ولا يُصابون، وينالون من يشاءون تحت حمايته ولا يُنالون.

ها هم أولاء زعماء الدين قد أصبحوا زعماء الدنيا، فحوَّلوا معابدهم إلى مغاور لصوصٍ يجمعون فيها ما يسرقون من أموال العباد، ثم يضنُّون بالقليل منه على الفقراء والمساكين.

ها هم أولاء الناس جميعًا قد أصبحوا أعوانًا للأمراء على شهواتهم، والقضاة على ظلمهم، وزعماء الأديان على لصوصيتهم، فلتسقط عليهم جميعًا نقمة الله، ملوكًا ومملوكين، ورؤساء ومرءوسين.

لِتْسقطِ العروش، ولِتُهدمِ المعابد، ولتتقوَّضِ المحاكم، وليعمَّ الخراب المدن والأمصار، والسهول والأوعار، والنجاد والأغوار، ولتغرقِ الأرض في بحرٍ من الدماء يهلك فيه الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، والأخيار والأشرار، والمجرمون والأبرياء، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.»

وما انتهى من دعوته تلك، حتى رأيت بركة الدم تفور كما فار التنور يوم دعوة نوح، ثم فاضت الدماء منها، ومشت تتدفق في الأرض تدفق السيل المنحدر، وإذا الأرض بحرٌ أحمر يزخر ويعجُّ، ويكتسح أمامه كل شيءٍ من زرعٍ وضرع، وقصورٍ وأكواخ، وحيوانٍ وإنسان، وناطقٍ وصامت، ثم شعرتُ به يعلو شيئًا فشيئًا، حتى ضرب بأمواجه رأس الربوة التي أنا جالسٌ فوقها، فصرختُ صرخةً عظمى فاستيقظت من نومي، وكان ذلك في صباح اليوم الثامن والعشرين من شهر يوليو ١٩١٤، فإذا صائحٌ يصيح تحت نافذة غرفتي: «إعلان الحرب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤