الفصل الثاني

أي أُوديب أيُّها الذي ولد في غير احتياط وكان السكر له أبًا.

أوريبيد: الفنيقيات

(يتقدم أوديب وكريون وهما يمضيان في حديث كانا قد بدآه.)

كريون : … لو لم نكن مُتباينين إلى هذا الحد لما وجد أحد منا هذه المتعة حين يفهم عن صاحبه. وإني أَيُّها الصهر العزيز لأحب حديثك؛ لأنَّك تَفْتَحُ لي آفاقًا لم أكن لأهتدي إليها وحدي. فلك الابتكار والتجديد، أمَّا أَنَا فيُقيِّدني الماضي، وأنا من أجل ذلك أحترم التقاليد والعادات والقوانين المقررة. ولكن ألا ترى أنَّ مِنَ الخير للدولة أن يمثل هذا كله، وأني أُحقق التوازن المفيد بإزاء عقلك المجدد، فأحول بينك وبين الاندفاع، وأهدِّئ من مُغامراتك الجرِيئة التي تُوشِكُ أَنْ تُحَطِّم نظام الجمَاعَة إذا لم تُؤخذ بشيء من القصد يأتيها من هذا السكون ومن هذا التشبث بالقديم …
أوديب (في شيء من الذهول) : هذا ممكن.
كريون : إن شعور الأُسرة شديد السلطان على نفسي، وأنت من هذه الأُسرة، وأَمْرُ أبنائك يعنيني كأمر أبنائي؛ فأذَنْ لي في أَنْ أَجِدَ شيئًا من القلق على صِحَّةِ إسمين؛ فهي عصبية، وقد لاحَظْتَ مَا أصابها أمس من الإغماء حين سمعت حديث أخيها …
أوديب : إن هذا الإغماء لم يطل.
كريون : ومع ذلك فيجب أن نُعنَى بها فنحملها على شيء من الرياضة … وكذلك جوكاست يخيَّل إليَّ أنها لا تستمتع بالصحة الكاملة منذ أيام؛ فهي قلقة لما يُصيب الشعب من شقاء، فمن الحق عليك أن تُحاول تسليتها.
أوديب : حَسَن، حَسَن!
كريون : وسأحدثك عن ابنيك حين يُتَاحُ لنا شيء من فراغ، فتيرسياس أُستاذ كيِّس، ولكنهما لا يُظهران حسن الاستماع له، قد ورِثَا عنك شيئًا من العناد لا أحققه؛ فهما ثائران. هل قرأ عليك إتيوكل خواطره التي صوَّر فيها بلاء العصر؟
أوديب : صوَّر فيها الطاعون؟
كريون : كلا … بلاء العصر مع عنوان آخر هو قلقنا. وهو بالطبع يقصد إلى قلق عَقليٍّ مُمتاز. إنَّ هذا الفتى لغريبٌ حقًّا، وليسَ بولينيس أقل منه جَمَالًا وقُوَّة وذَكَاءً. إنهما يُشْبِهَانِكَ من غير شك حين كنت في سنهما، ولعلك ترى نفسك فيهما.
أوديب : أحيانًا.
كريون : أنتم من طَائِفَةِ القَلقين، ولكنهما على الأقل يَرَيان ما ضربت لهما من مثل. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ كنتَ ترى نفسك غريبًا عند بوليب … أليس هذا هو الذي حَمَلك على مُغادرة قصره؟ ألم تكن تجد الرِّضَا عنده؟
أُوديب : كنتُ أَجِدُ عِنْده كل ما أحب، ولكني أكره أن أدلل. وكنتُ أعتقد في ذلك الوقت أني ابن بوليب. ثم أقبل إلى القصر ذات يومٍ كَاهِنٌ كان يتحدث إلى الناس بأمر مُستقبلهم، وكان كل واحد يُريد أنْ يَسأله عما يضمر له الغيب، فَلَمَّا جَاءتْ نوبتي امتُقع لونه وأبى أن يُنبئني بأمري أمام الناس. ثم انفرد بي وأنبأني بأنه قد كتب عليَّ أن أقتل أبي. ضَحِكْتُ أول الأمر لهذه النبوءة، ولكني رأيته يلحُّ ويُؤَكِّد، فلم أرَ بأسًا بشيءٍ من الاحتياط، وكان أول ذلك أن أصارح بوليب بالأمر، وأنْ أُنبئه بأَنِّي فرارًا من هذه النبوءة السيئة سأفارقه إلى آخر الدهر مهما يكلفني ذلك من مشقة، فقد كنت أحبه.
هنالك أنبأني ليردَّ الطَّمأنينة إلى قَلْبِي بِأَنِّي لستُ ابنه، وإِنَّما تَبَنَّانِي، فَمَا يَنْبَغي إذن أن أخاف أنْ تتحقق هذه النُّبوءة فيما يتصل به. ولم يستطع أنْ يُبَيِّن لي عَنْ أَبي شيئًا، وإنما حدثني بأنَّ راعيًا من رُعاته وجدني في الجبل، وقد علقت كالثمرة من إحدى رجليَّ إلى غُصْنٍ دَانٍ لبعض الشُّجَيْرَات (وهذا هو الذي جعلني أعرج قليلًا)، وجدني عاريًا معرَّضًا للريح والمطر كما يُطَّرَح الطفل الذي يُنتجه الحب الآثم، والذي يُراد التخلص منه؛ لأنَّه جَاءَ على غير انتظار ليفسد على المحبين أمرهما …
كريون : طفل لِغِيَّة، لا بد أن يكون ذلك قد آذاك.
أوديب : كلا! لم يُؤذني. ولعَلَّ مما يسرني أن أعرف أني لم أولد لرشدة؛ فقد كنت أتكلف كثيرًا من الجهد لأُقلد بوليب حين كنت أعتقد أني ابنه. وكنت أقول لنفسي أي شيء فيَّ لم أرثه عن آبائي، وكنتُ أسمع لدروس الماضي، وأنتظر من أمس وحده إقرار ما عملت وإملاء ما ينبغي أن أعمل. ثم تنقطع الأسبابُ فَجْأَةً، وإذا أَنَا قَدْ نَجمت من المجهول، فليسَ لي مَاضٍ، وليس لي نموذج أحتذيه، وليس لي شيءٌ أَعْتَمِدُ عليه، وإِنَّما يجبُ أن أبتكر كل شيء: أن أبتكر الوطن، وأن أبتكر الأجداد، وأنْ أخترع كل شيء وأستكشف كل شيء، ليس هناك شُخْصٌ يُمكن أن أشبهه إلا أن أكون أنا هذا الشخص. وما الذي يعنيني إذن أنْ أكون من أَبْنَاء اليُونَان، أو من أبناء اللورين؟ كيف تستطيع يا كريون — وأنتَ المثقل بقيود الماضي الملائم للتقاليد الموروثة في كل شيء — أن تقدِّر ما في هذه الحاجة إلى ابتكار كل شيء من روعة وجمال؛ إنَّ جَهْلَ الأَبَوينِ دَعَّاء إلى مضاء العزم.
كريون : ولكن فيمَ تركت بوليب بعد أن ردَّك إلى الاطمئنان؟ فقد كنت مُتبناه ولم يكن له وارث، فكنت خليقًا أنْ تَرْقَى بعده إلى العرش.
أُوديب : لست أكره شيئًا كما أكره الاستئثار بما ليس لي فيه حق، ولا أُريد أن أنتفع بشيءٍ إلا إذا اكتسبته بالعزم اكتسابًا، وكنتُ أَجِدُ في نفسي فَضَائِلَ كَأَنَّها كانتْ نَائِمَةً، وَلَمْ أكن أطيق لها هذا الخمود. وكنتُ أَشْعُر أني بهذه الحياة التي كنتُ أحياها في قصر بوليب راضيًا ناعم البال، إنما كنت أضيع ما كتب لي من حظ.
كريون : من الطبيعي أن أرى غير ما ترى؛ فلو كنتُ مجهول النسب لكان من الممكن أن أتكلَّف من الخصال وأطلب من المزايا مثلك ما لم يقدَّر لي من طريق الوراثة. ولكني أنا ابن ملك وأخو ملك لا أستطيع إلا أن أكون مُحَافظًا. لم أكن ملكًا، ولكني كُنتُ أُحِبُّ أن أستمتع بنعمة الملك في قصر لايوس، كما أُحِبُّ أنْ أَنْعَمَ في قصرك بكل مزايا الملك دون أن أحمل ثقله أو أتكلَّف همومه.
أوديب : انْعَمْ في سلام! انْعَمْ في سلام يا كريون؛ لعل من الخير أن يكون أمثالي أشخاصًا نادرين. ولكنِّي أرى الفتية يقبلون، فلنستمع لهم دون أن يرونا.

(يتنحى أوديب وكريون، وتدخل أنتيجون وبولينيس.)

بولينيس : لا سبيل إلى التفكير الحر إلا إذا أزلنا هذه الأثناء التي تفرضها العبادة على العقل.
أَنْتِيجُون : إِنَّ الاسْتِسْلام للشَّهوات تفرض عليه أثناءً أشدُّ نُكرًا وتعطفه إلى الشر. نعم! لقد اتخذ عقلي هذا الثني الذي يَضطرُّه إلى ألا يُفكر إلا تفكيرًا مُستقيمًا. ومن المحقق أن كل اتجاه لشخصي إنما يدفعني إلى …
بولينيس : أتِمِّي.
أنتيجون : … يدفعني إلى الإله!
بولينيس : لماذا لم تتمي حديثك أول الأمر؟
أنتيجون : لأني أعلم أنك لا تؤمن بالإله.
بولينيس : الإله إنما هو في حقيقة الأمر شيء تَضعينه عند آخر تفكيرك. أتؤمنين به حقًّا؟
أنتيجون : بكل قلبي وبكل عقلي؛ ولولا أَنِّي أَتَحَدَّثُ إليك لقلتُ بكل نفسي، ولكنك لا تؤمن بالنفس أيضًا.
بولينيس : لعَلَّكَ تنتهين إلى أن تحمليني على الإيمان بنفسك … ولكنَّ هذا الإله الذي تذكرينه أيوجد خارج عقلك؟
أنتيجون : نعم! ما دام يَجْذِبُني إليه.
بولينيس : إنما هو انعكاس بسيط لما في نفسك من الفضائل!
أنتيجون : بل أنا التي أعكس بعض ما فيه من خير، فكل فضيلة إنما تصدر عنه هو.
بولينيس : أي أنتيجون: اسمعي لي … ولا يأخذك الخجل من سؤالي.
أنتيجون : إني أخجل مُقَدَّمًا، ولكن سل مع ذلك.
بولينيس : أمن المحرَّم أن يتزوج المرء أخته؟
أنتيجون : نعم، لا شك في ذلك؛ إنه مُحَرَّمٌ أَمَام النَّاس وأمام الإله. لِمَ تسألني هذا السؤال؟
بولينيس : لأني لو استطعت أن أتخذك لي زوجًا لأسلمتك قيادي حتى تبلغيني إلهك هذا.
أنتيجون : كيف تقترف الشر وترجو أن تصل به إلى الخير؟!
بولينيس : الخير والشر … لا يردِّد فمك إلا هاتين الكلمتين.
أنتيجون : لا تنفتح شفتاي عن كلمة إلا إذا كان مصدرها قلبي.

(كريون وأوديب قد استخفيا أثناء هذا المنظر وسيظلان مُستخفيين أثناء المناظر التالية.)

كريون (إلى أوديب) : كلا إنك لتعلم أني لا أستطيع أن أقبل الزواج بين المحارم.
أوديب : صه!

(يتنحى بولينيس وأنتيجون، ويدخل إتيوكل وإسمين.)

إسمين : ما أندر لقاءك مُنْفردًا! إنك دائمًا في صحبة أخيك؛ كيفَ تَسْتَطيع أن توافقه دائمًا؟
إتيوكل : أليس طبيعيًّا أن يفهم الأخ أخاه أكثر مما يفهمه الأجنبي؟
إسمين : إن بين أَنْتِيجُون وبيني اختلافًا عظيمًا في الذَّوق، حَتَّى إننا لنَخْتَصم في غير انقطاع، فهي تلومني في كل ما أُحِبُّ وتزعم لي أنَّه مَحْظُور، حتى انتهى بي الأمر إلى أني لا أجرؤ أمامها على الضحك أو اللعب. وأنا أعلم أنها أكبر مني سنًّا، ولكني أكاد أعتقد أنها لم تكن صبية قط.
إتيوكل : بولينيس وأنا توءمان قد وُلدنا معًا ونشأنا معًا، فكل شيء بيننا مُشترك، فأَنَا لَا أَذُوق لذة ولا أجيل خاطرًا حتى يجد على الفور مثل ما أجد، فيزيده ذلك قوةً وأيْدًا.
إسمين : لست واثقة بأنَّ مِمَّا يَسُرُّني أَنْ أجد لي ضريبًا، بل لست واثقةً بأنِّي لن أكرهه إنْ وجد؛ فهُنَاك أَشْيَاء لا تحسن فيها الشركة.
إتيوكل : لم نواجه إلى الآن شيئًا من هذه الأشياء.
إسمين : لو أن أحدًا كما أحب …
إتيوكل : لعلنا أن نحب توءمين.
إسمين : فإذا اتصل الأمر بالملك؟
إتيوكل : لقد اتفقنا على أن نتناوب العرش.
إسمين : فإن لم تجدا توءمين.

(يضحكان)

إتيوكل : سأدعك لأشاوره في ذلك.

(يخرج إتيوكل وتدخل أنتيجون.)

أنتيجون : كيف تضحكين والشعب في حداد؟
إسمين : إنك أنت لا تضحكين حتى حين يكون كل شيء من حولك سعيدًا.
أنتيجون : وا حَسْرَتَاهُ! إن في كل مكان من هذه الأرض شقاء لا يُقاس إليه ما قد يوجد من فرح.
إسمين : إنما الفرح في أعماق نفسي، وإني لأسمع في قلبي غناءً.
إن البكاء على الأشقياء لا يعفيهم من الشقاء، ولكنك أنت لا تميلين إلا إلى الذين يألمون. ولعل ابْتِهَاج النَّاس من حَولك أن يسوءك.
أنتيجون : إنَّ سَعَادَة بَعْضِ النَّاسِ تُقْلِقُنِي يا إسمين.
إسمين : بعض الناس؟
أنتيجون : سعادة أبي؛ وكلما ازداد حُبِّي له اشتد خوفي من هذه السعادة التي يزعمها لنفسه. إنه يهمل الإله، وليس للإنسان مُعتمَد غير الإله.
إسمين : إن فرحي شيء مجنح.

(تخرجان)

كريون (إلى أوديب) : أترى إلى هؤلاء الفتية كيف يُحسنون الحديث! «إنَّ فرحي شيء مجنح» … جملة ينبغي أن تُحفظ. أمَّا أنتيجون فظاهر حديثها لا يدل على شيء، ولكن أَتَعْلَمُ أَنَّهُ في حقيقة الأمر شديدُ العُمْقِ؟ هو بالضبط ما كنت أُريدُ أَنْ أُشعرك به، ولكني لم أكن أعرف كيف أقول.
أُوديب : ماذا إذن؟
كريون : هو أني لا أرى سعادتك من المتانة بحيثُ تظن. ولكن لنستمع لابنيك.

(يدخل إتيوكل وبولينيس.)

إتيوكل : وفي الحق ما الذي نلتمس في الكتب؟ إنما نلتمس فيها الإذن بما نُرِيدُ أَنْ نَعْمَل، بِلْ إِنَّ الذين يَزْعُمون أَنَّهُم يُحِبُّون النظام ويحترمون الأشياء المقررة، هؤلاء الذين يُسميهم تيرسياس أصحاب التفكير القويم، إنما يلتمسون في الكتب الإذن في أن يضايقوا ويظلموا ويخيفوا جيرانهم، إنما يلتمسون أصولًا ونظريات تُريح ضَمَائرهم وتضع الحق إلى جانبهم.
بولينيس : أما نحن أصحاب التفكير المعوج فإنما نلتمس في الكتب الإذن بأن نأتي من الأمر ما تنكره التقاليد ويأباه حُسْنُ الذوق وتحظره القوانين.
إتيوكل : وبعبارة أخرى: الموافقة على مُخالفة المألوف.
بولينيس : نعم، شيء يشبه هذا.
إتيوكل : فأنا الآن مثلًا أبحث في الكتب عن جمل تُبيح لي أن أتخذ إسمين لي خليلة.
كريون (في صوتٍ خافت إلى أوديب) : وقح.
بولينيس : أختك؟
إتيوكل : أختنا … ماذا تنكر من هذا؟
بولينيس : إن وجدت هذه الجملة فأظهرني عليها.
كريون : وقحان.
أوديب (إلى كريون) : انصرف.

(يخرج كريون)

إتيوكل : إذا وجدت ماذا؟
بولينيس : هذا الإذن. على أنَّ هُنَاك إذنًا أقل شمولًا، وهو أن تستغني عن الإذن.
إتيوكل : أما هذا الإذن فلم أنتظر أن أظفر به في الكتب ﻟ …
بولينيس : لأنتفع به؟
إتيوكل : طبعًا! وإذا كنت الآن ألتمس الإذن فإنما ألتمسه لها هي …
بولينيس : لإسمين؟
إتيوكل : نعم، لإسمين. أما أنتَ فلست في حاجة إلى إذن.
بولينيس : وإذا منحتك لطمة على هذا الوجه الوقح أَظُنُّك لا تَسْتَطيع أن تزدري هذه اللطمة.
إتيوكل : حاول، جَرِّب. أنت غيران! ألم نَشْتَرِك إلى الآن في كل شيء؟! وإذن فقد أخطأت حين أفضيتُ إليك بهذا الحديث. ومع ذلك أُيَّها الأحمق فإني لم أقل هذا إلا لأغيظك.
بولينيس : أقسم لي على أن لا ريبة بينك وبين إسمين.
إتيوكل : إلى الآن لا ريبة. إني أكظم.
بولينيس : ما أراك تكظم كما أكظم.
إتيوكل : لو لم أحدثك لما فكرتُ في هذا.
بولينيس : أي إني لم أكن أعلم أني أفكر فيه؛ فهُناك أشياء نُفكر فيها دون أن نشعر.
إتيوكل : هذه مادة أحلامنا.
بولينيس : ألم تسأل نفسك قط إلى أي حد يُمكن أن يذهب الفكر؟ يُخَيَّلُ إليَّ أنه أشبه شيء بالتنين الذي لا نكادُ نعرف منه إلا جسمه وذنبه، ما ينسحب منه في الماضي: وحش غريبٌ غَامِضٌ أحسُّ أنَّ رَأْسَهُ المنكر القبيح يساير ضميري وشعوري وحِسِّي، يتحسس كل شيء، ويشم كل شيء، ويرسل في كل مكان رغبةً شديدة في الاستطلاع المغري. أما سائره فيتبعه كما يستطيع.
إتيوكل : هذا التنين هو الذي أسميه بلاء العصر، أجد في نفسي أسئلته التي لا تنقضي. إنه يلتهمني بأسئلته.
بولينيس : إني أفكر في التنين الذي قهره كدموس. يُقَالُ إننا نشأنا من أسنانه.
إتيوكل : أتصدِّق ذلك يا بولينيس؟ يُقال أيضًا: إن ابنة كدموس الهالكة حملت في أحشائها الإله باكوس. في هذا العصر الذي نعيش فيه، والذي تقدَّمت فيه الحضارة، ومنذ قتل أبونا آخر ذرية أبي الهول لا تضطرب الآلهة والكائنات الغريبة في الهواء ولا في الريف، وإنما تضطرب في أنفسنا.
بولينيس : كدموس،١ ليكوس،٢ أمفيون٣ الذي أهدى إلينا الكتابة نُقَيِّد بها خواطرنا … إنَّ الإنسانية لتظهر لي مُتَقَدِّمة السن، وإني لأرى هذا كله بعيد العهد بنا! وإني لأفكر في الوقت الذي لم يكن الإنسان فيه قد اهتدى إلى الكلام.
إتيوكل : إن تيرسياس يعلمنا أنَّ الكلام هِبة من الآلهة للناس.
بولينيس : إن إيماني بالآلهة لأقل من إيماني بالأبطال.

(يتقدم أوديب نحو ابنيه.)

أوديب : لقد أحسنتما القول! إني لأعرف فيكما ابنيَّ. إني لأسمعكما (لقد كُنتُ أَتَسَمَّعُ عليكما) فآسف لأَنِّي لم أتحدث إليكما كثيرًا. ولكني أُحب أن أقول لكما قبل كل شيء: يا ابنيَّ احترما أختيكما. إنَّ ما يَمَسُّنا من قريب ليس بالغنيمة النافعة. إن من أراد أن يعظم خليق أن ينظر إلى بعيد. ثم لا تكثرا النَّظر إلى وراء. قَدِّرا أنَّ الإنسانية ما زالت بعيدة جدًّا عن غايتها أبعد مما نظن، وبينها وبين هذه الغاية آماد أطول مِمَّا بَيْنَهَا وبين عهدها الأول الذي لا نكاد نلحظه.
إتيوكل : الغاية … ما عسى أن تكون الغاية؟
أُوديب : هي أمامنا مهما تكن. يُخيَّل إليَّ أني أرى الأرضَ بعد وقتٍ طويلٍ جدًّا وقد سَكَنَها أناس أحرار ينظرون إلى حَضَارَتِنَا كما نَنْظُر نَحْنُ إلى الحضارة القديمة في أول عهدها برقيِّها البطئ. وإِذَا كُنتُ قد قهرتُ أَبَا الهول فما ينبغي أن تستريحا.
هذا التنين الذي كُنتَ تَتَحَدَّثُ عنه يا إتيوكل يُشبه ذلك الوحش الذي كان ينتظرني على أبواب ثيبا حيث كان يجب أن أدخل ظافرًا. إن تيرسياس ليثقِّل علينا بتصوفه وأخلاقه؛ لقد تعلمت هذا كله عند بوليب، إن تيرسياس لم يخترع شيئًا، وهو لا يستطيع أن يسيغ الذين يبحثون ويخترعون. إنه على ما يزعم لنفسه من الاتصال بالآلهة، ومن علم الغيب من طريق الوحي، أو من زجر الطير، لم يكن هو الذي استطاع أن يحلَّ اللغز! لقد فهمتُ، وحدي أنَّ كلمة السِّرِّ التي ينجو بها الإنسان من أبي الهول هي: الإنسان. لم يكن بد من بعض الشجاعة لِيُنْطَقَ بهذا اللفظ، ولكني كنتُ قد أعددته قبل أن أسمع اللغز. وقوتي إنما جاءت من أني لم أكن أقبل جوابًا غير هذا مهما يكن السؤال الذي يلقى.

فقد ينبغي أنْ تَفْهَمَا يا ابنيَّ أنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا يَلْقَى أَوَّلَ الشَّباب وَحْشًا قَائِمًا يُريد أنْ يأخذ عليه الطريق، وهذا الوحش يا ابنيَّ يعرض على كل واحدٍ منا سؤالًا خاصًّا، فاعلما أنَّ هذه الأسئلة مهما تختلف فإن جوابها واحد لا يتغير. نعم! ليس هناك إلا جواب واحد لهذه الأسئلة كلها، وهذا الجواب هو الإنسان، وهذا الإنسان الفرد بالقياس إلى كل واحدٍ منا هو شخصيته.

(هنا يدخل تيرسياس.)

تيرسياس : أي أوديب! هذه هي الكلمة الأخيرة لحكمتك؟ أإلى هذا ينتهي علمك؟
أوديب : بل من هنا يبدأ علمي. وليست هذه الكلمة إلا الكلمة الأولى.
تيرسياس : والكلمات التالية ما هي؟
أوديب : سيبحث عنها ابناي.
تيرسياس : لن يجداها، كما أنك لم تجدها.
أوديب (لنفسه) : إنه لأشد مِحَالًا من أبي الهول. (إلى ابنيه) دعانا.

(يخرج إتيوكل وبولينيس.)

تيرسياس : نعم! إنك تطلب إلى ابنيك أن ينصرفا حين لا تجد ما تقول لهما، وحين يضطر علمك إلى العجز، لا تستطيع أن تعلمهما إلا الكبرياء. كل علم يأتي من الإنسان لا من الإله فهو باطل.
أوديب : لقد أعتقدت وقتًا طويلًا أَنَّ إلهًا كانَ يهديني الطريق.
تيرسياس : إلهًا لم يكن شيئًا آخر غيرك، أنت الذي ألَّه نفسه.
أوديب : إلهًا أفهمتني أنت أني أستطيع أن أستغني عنه.
تيرسياس : عن هذا الإله الدعي تستطيعُ أنْ تَستغني من غير شك لا عن الإله الحق، هذا الذي تَأْبَى أنْ تَعْرِفَه، ولَكِنَّه يُراقب خُطَاكَ ويتتبع أشد خواطرك خفاءً، الإله الذي يعرفك خيرًا مما تعرف أنت نفسك.
أوديب : من أين لك أني لا أعرف نفسي؟
تيرسياس : من أنك ترى نفسك سعيدًا.
أوديب : ولِمَ لا أرى نفسي سعيدًا حين أكونه؟
تيرسياس : إنَّ المريض الذي يرى نفسه صحيحًا ليس شديد الشهوة إلى الشفاء.
أُوديب : أتريدُ أنْ تُقنعني بأنني مريض؟
تيرسياس : مرضًا شديدًا؛ لأنه يزيد خَطَرُه أَنَّك لا تَعْلَم. أي أُوديب: إنك تزعم الإفلات من الإله وتجهل نفسك، وأريد أن أعلمك كيف ترى نفسك.
أوديب : يخيَّل إلى مَنْ سمعك أنَّ الأعمى منا هو أنا.
تيرسياس : أي أوديب: إن كانت عينا وجهي مُقفلتين، فإنَّما ذلك لتزداد عينا نفسي إبصارًا.
أوديب : وبعيني نفسك هاتين ماذا ترى؟
تيرسياس : أرى بؤسك. ولكنْ أجبني مُنذ كم من الوقت تركت عبادة الإله؟
أُوديب : منذ تركت السعي إلى معابده.
تيرسياس : طبعًا إذا لم نؤد فرائض العِبادة خَبَتْ في نفُوسنا جذوة الإيمان، ولكن لماذا لم تقرب المعابد حين كانت في نفسك بقية من إيمان؟
أُوديب : لأنَّ يَدَيَّ لم تكونا نقيتين.
تيرسياس : أي جريمة دنستهما؟
أُوديب : دنستهما جريمة قتل اقترفتُها على طريق الإله الذِي كُنت أُريد أن أستشيره، وأبي الهول الذي قهرته.
تيرسياس : من ذا الذي قتلت؟
أوديب : رجل مَجْهول كَانَ يعترض طريقي بعربته.
تيرسياس : الطريق التي كانت تَقُودُك إلى الإله؛ فإنَّ الطَّرِيق التي لقيت فيها أَبَا الهول طريق أخرى، ولكنك كنتَ تعلم أنَّ الإله لا يرجع جوابًا على من دنس يديه.
أوديب : هذا حق. ومِنْ أجل ذلك عدلت عن استشارة الإله، وأخذتَ الطريق التي قهرت فيها أبا الهول.
تيرسياس : ماذا كنتَ تريد أن تطلب إلى الإله؟
أُوديب : أن ينبئي ابن من أنا؟ ثم أزمعت فجأة أن أجهل هذا النسب.
تيرسياس : بعد اقتراف الجريمة!
أوديب : تعلمت فجأةً كيف أتخذ من هذا الجهل قوة.
تيرسياس : قد كنت أظن أنَّك طُلَعة شديد الرغبة دائمًا في أن تعلم كل شيء … ولكن قبل هذا التهاون المتعمد … فسِّر لي يا أوديب … لماذا كنت شديد الحرص على أنْ تعلم من الإله ما كنت تريد أن تسأل عنه؟
أوديب : لأن وحيًا تنبَّأ بأني يجبُ … أي تيرسياس: إنك تثقل عليَّ، ولن أُجيبك بعد الآن.
تيرسياس : لقد تنبأ الوحي كذلك للايوس بأَنَّه سيموت مَقْتُولًا بيد ابنه. أي أُوديب. أي أوديب أيُّها اللقيط! أَيُّها الملك الآثم! إن جهلك لماضيك هو الذي يمنحك هذه الثقة. إن سعادتك عمياء. افتح عينيك على شقائك. لقد استرد الإله منك حقك في أن تكون سعيدًا.

(يخرج تيرسياس)

أوديب : اغرب. اغرب! كأنَّ السعادة كانت هي الشيء الذي كنتُ أبتغيه، إنما هربتُ منها حين تركتُ بوليب قوي الساقين مُطلق اليدين. من ذا الذي يستطيع أن يُصور جمال الفجر وهو يلقي أشعته على البرناس٤ حين كنت أسعى في الندى نحو الإله ألتمس جوابه. كنتُ لا أملك شيئًا إلا قوتي، ولكني كنتُ غنيًّا بما كانَ في شخصيتي من استعداد، وكنتُ أجهل نفسي. نعم لقد كان مصيري مُعلقًا بجواب الإله، وكنتُ أذعن فرحًا لهذا المصير … ولكن هنا شيئًا لا أَصِلُ إلى فهمه، ومن الحق أني لم أفكر فيه كثيرًا إلى الآن، يجب أن يقف الإنسان ليفكر، وكنت في ذلك الوقت مدفوعًا إلى العمل … أمن الحق أني تحولتُ عن طريق الإله؛ لأنَّ يديَّ لم تكونا نقيتين؟ لم أكن أحفل بذلك حينئذٍ. ويُخيَّل إليَّ الآن أن جريمتي هي التي وجهتني نحو أبي الهول.
ماذا كنت أريد أن أطلب من الإله؟ كنتُ أطلب جوابًا. وقد كنتُ أَشْعُر بأنِّي كنتُ أنا نفسي جوابًا لسؤال لم أكن أتبيَّنه، ثم عرفتُ أَنَّه سُؤال أبي الهول. لقد قهرته أنا الذكي، ولكن منذ ذلك الوقت ألم تزدد الأشياء كلها غموضًا من يوم إلى يوم بالقياس إليَّ؟ منذ ذلك الوقت، منذ ذلك الوقت … ماذا صنعت يا أُوديب؟ لقد نَعِمْتَ بالمكَافأة ونمت عشرين سنة. ولكني الآنَ أَخْيرًا أحس الوحش يتمطَّى في دخيلة نفسي. إنَّ مصيرًا عظيمًا ينتظرني مُستخفيًا في ثنايا التاريخ. أي أُوديب لقد مضى وقت الطمأنينة؛ أفق من سعادتك.
١  منشئ مدينة ثيبا. يُقال إنه ابن ملك فينيقي عبر البحر باحثًا عن أخته التي اختطفها ذوس. فلما وصل إلى مكان ثيبا وجد تنينًا خطرًا فقتله، ونثر أسنانه في الأرض؛ فنشأ منها رجال مسلحون هم بناة المدينة وأصل أهلها.
٢  ملك من ملوك الأساطير كان صديقًا لهيرقل.
٣  بطل من أبطال اليونان، ولد من صلة بين ذوس وأنتيوب، وأهدى إليه أبولون ربابة من ذهب. وقد ملك ثيبا، وأقام أسوارها. كان يوقع على ربابته فتتسابق الأحجار إلى أماكنها من هذه الأسوار.
٤  جبل يوناني قريب من دلف يرمز به إلى الشعر والفن لمكانه من معبد أبولون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤