الفصل السادس

الجريمة

مضت على هذا الاجتماع تسعة أشهر، فحاز سليم شهادته العالية، وعاد إلى زحلة يتمتع بالراحة التي يحتاجها جسمه، فقضى شهرًا كان أسعد أيام الحياة.

وسافر مع رفيق له إلى دمشق لمشاهدة تلك المدينة العظيمة التي تاقت نفسه لمشاهدتها من قبل، وعاد بعد أيام فوجد أنَّ والده ذهب إلى العمروسة، فوَدَّ لو أنه يسير إلى هنالك إلا أنْ والدته أخبرته أنَّ والده عائد في المساء، فانتظر للمساء ولكن والده لم يعد في ذلك المساء ولا في صباح اليوم التالي فقلق سليم ووالدته، وذهب سليم إلى السوق ليرى بعض الأصحاب، فسمع أنَّ هنالك قتيلًا مسيحيًّا على طريق بعلبك، وقد أرسلت حكومة المعلقة قوة للتحقيق، فزاده هذا الخبر قلقًا، ونزل إلى المعلقة؛ ليستعلم عن حقيقة الحادثة دون أنْ يخبر والدته، وإذا به يرى محمد الهلالي وبعض أهل العمروسة مكبلين بالحديد، فسأل عن السبب فقيل له: إنَّ هؤلاء قتلوا تاجرًا من زحلة، فأصبح النور في عينيه ظلامًا، وكاد يسقط على الأرض لو لم يمسك به صديقه، قائلًا: «تشدَّد فلا تخف فسوف تظهر الحقيقة.»

ثم وصلت عربة وفيها جثة القتيل، فأسرع سليم ليرى الجثة، فعلم أنَّ القتيل إنما هو والده، فصرخ صرخة دوَّى لها الفضاء، وجرى نحو العربة رغم ممانعة الجند، ورمى نفسه على والده يبكيه.

اجتمع فريق من أعيان زحلة وكبارها، ونزلوا إلى المعلقة، وقابلوا القائمقام، وأعربوا له عن استيائهم مما جرى، ومن تعدي الأشرار على أبناء طائفتهم، وقالوا: إنَّ هذه الأمور لا ترضي الحكومة، ولا تريح بال الأهالي، فإذا لم تتخذ الحكومة الاحتياطات الوافية لقطع دابر الأشرار وتأديبهم عمَّ الفساد، فوعد القائمقام القوم بالاهتمام، وخرجوا من لدنه ساخطين.

احتُفل بدفن سمعان إلياس في زحلة احتفالًا شائقًا يليق بمقامه، ومشى بجنازته كثيرون من علية القوم في زحلة والمعلقة، وكان بجانب سليم شيخٌ مسلم رقيقُ الجسم عالي الجبين، تدل سيماؤه على خلق طيب وذهن وقَّاد ونِيَّة صافية، فتساءل الناس: ومن يكون هذا الشيخ الذي يمشي بجانب ابن قتيل قتله المسلمون؟! وما معنى وجوده في مثل هذه الحال؟! هل ذلك كما يقولون «يقتل القتيل ويمشي بجنازته؟»

ولكن الشيخ كان يسير الهوينا، وهو مطرق في الأرض يفكر في أمر هامٍّ، غير مكترث بما يقول الناس فيه وما يفتكرون، عاد الناس إلى منازلهم، وعاد الشيخ مع سليم والناس متعجبون من أمره؛ لأنهم رأوه واقفًا مع أهل الفقيد يستقبل المعزين، وكأنه من ذوي الفقيد وأقرب الناس إليه، ولما اجتمع الناس عرف بعض الوجهاء الشيخ الذي جاء إلى المعلقة في العام الماضي في حادثة العصابات.

واحتشد في المساء في منزل الفقيد عدد كبير من الوجهاء، وكبار البلدة، وجلسوا يتحدثون بما كان من أمر الجريمة الفظيعة التي قامت لها البلاد وقعدت، وما يجب اتخاذه من التدابير لمعاقبة المعتدين، وكان بين الحاضرين شاكر أفندي صديق القائمقام الحميم، فقال: إنَّ القائمقام شدَّد جدًّا على أهل قرية العمروسة، وأمر بإلقاء القبض على محمد الهلالي نجل الرجل الذي كان ينام عنده المرحوم وزعيم عصابة من عصابات الأشرار؛ لأن الشبهة وقعت عليه، وأُلقي القبض على عدد من أصحابه أيضًا، وسمعتُ أنَّ هنالك مَن ساعد الحكومة وأبلغها أمر القاتل والمخبر وجيه كبير له صلة بالقائمقام.

فنهض الشيخ صالح، وكان متأكدًا من براءة آل الهلالي، وعارفًا أنهم آخر مَن يفكر بمثل هذه الجريمة، وقال: «حبذا العمل، ومن يكون هذا الوجيه الذي ساعد الحكومة هذه المساعدة الكبرى؟» فقال شاكر أفندي: «هو سلمان أحمد شيخ قرية مجاورة للعمروسة، ورجل معروف بثروته وجاهه، وقد خشي أن تقع الشبهة على الأبرياء من أهل بلدته، فأرسل للقائمقام كتابًا سريًّا أنبأه فيه بما فعله الهلالي فيما مضى، وقال: إنه يعتقد أنَّ محمد الهلالي هو القاتل طمعًا بمال القتيل، ويرجح أنه لحقه إلى أنْ خرج من القرية فقتله هنالك ليضلل المحققين.»

فتأثر الشيخ صالح لهذه التهمة الباطلة، وثارت ثائرته، ثم وقف، وقال: «أيها الإخوان، أنا أعرف الناس بآل الهلالي فهم أبرياء.» وهنا قامت ضجة بين الحاضرين، فهذا يقول مَن جاء بهذا الشيخ الممخرق، وذلك يقول دعونا نسمع ما يقول وهلمَّ جرًّا، فنظر الشيخ إلى الحاضرين مليًّا حتى سكنت جلبتهم، ثم قال: «لم يكن من رجل أحب إليَّ من المرحوم، فهو أعز الناس لديَّ ولدى أهل قريتي العمروسة، فليس بينهم مَن يبغض المرحوم أو ينقم عليه؛ فقد كان أكرم الناس أخلاقًا وأطيبهم قلبًا وأحسنهم معاملة، ومع أنه تاجر يهمه الربح، فقد كان أبسط التجار كفًّا، فلم يكن يرضى إلا بالربح الحلال، وهذا ما جعله محبوبًا لدى الجميع، وقد تركنا منذ يومين، وودعناه جميعنا بقلوب طافحة بالمحبة والإخاء، فليس بيننا مَن ينظر إليه كغريب عنا؛ لأنه مسيحي كما سمعت بعض الحاضرين يهمس الآن.

وأنتم تعلمون أنَّ عصابة من أشقياء المسلمين هاجمته في العام الماضي هو وابنه، فكان أهل العمروسة حربًا على الأشقياء، وقد ألقوا القبض على بعض أفراد العصابة، وساقوهم إلى السجون، وأنا أعرف آل الهلالي كما أعرف أهلي، فهم يحبون المرحوم ويكرمونه وينزلونه في منزلهم كلما ذهب إلى قريتهم، فلا يعقل أنْ يرتكبوا مثل هذا الوزر مع صديقهم وأكثر الناس نفعًا لهم بعد أنْ عاد من قريتهم صفر اليدين، ودفع كل ما كان يحمله من المال ثمنًا للحبوب وهم أعرف الناس بذلك، وإذا لم يكن لهم مطمع بمال، فأي سبب يحملهم على قتل صديق صدوق، ولو شاءوا أخذ ماله لتربصوا له قبل دخول القرية لا بعد خروجه منها ودفع ما لديه، أما إذا كان أحد الوجهاء دسَّ دسيسة سافلة فتلك مسألة أخرى، وهل يودُّ حضرة المتكلم أنْ يفهمنا ما عرف الوجاهة عنده؟ فإذا كانت مواجهة الحكام عندما يزورون القرى أو كثرة المال الذي يجتمع لدى الإنسان فهذا ما لا نتفق عليه، فوالله إنَّ صاحب الوجاهة المزعومة الذي تكلم عنه حضرة الأفندي لهو أحقر من كلب إذا قيس بابن الهلالي، فهذا رجل كريم النفس، طيب الخلق، عالي الهمة، جمع ماله بجده ونشاطه وحسن تدبيره، وذلك رجل سافل غدار، جمع ماله بالتَّقرُّب من الحكام، وظلم الناس، وتسخير الضعفاء لقضاء حاجاته وأغراضه.

إننا نودُّ معرفة الجاني أو الجناة، وأن تصل يد العدالة إليهم فتقتص منهم لا أنْ نوسط فريقًا من الوجهاء المداهنين الذين اتخذوا الرشوة وسيلةً يتعيشون بها.»

فوقعت هذه الكلمات وقوع الصاعقة على شاكر أفندي، وكأنها قيلت له مع أنَّ الشيخ صالح كان يقولها بإخلاص عن سلمان أحمد، ولم يعلم من أمر شاكر أفندي شيئًا، فأجاب هذا بكلمات مبهمة، ثم اغتنم أول فرصة وانسحب من المجلس، وسار إلى القائمقام خلسة، فوصل إلى المعلقة بالعربة في آخر السهرة، وكان القائمقام لا يزال ساهرًا، فأخبره شاكر أفندي بما كان.

(١) مَن الجاني؟

بُغت أهل العمروسة كلهم حينما سمعوا بمقتل صديقهم سمعان إلياس، وما كان أشد دهشتهم حينما رأوا الجنود تطوق منزل الهلالي، وتقبض على محمد الهلالي وعلى بعض المقربين منه، فلم يمانع أحد من هؤلاء، وساروا مع الجند عالمين ببراءتهم، راجين أنْ يُطْلق سراحُهم حال وصولهم للمعلقة.

وكان التحقيق الذي جرى عند وجود الجثة غير كافٍ، وحاول القائمقام وصاحبه شاكر أفندي أنْ يستغلا هذه الحادثة حسب عادتهما، ولكن وقوف الشيخ صالح في وجهه، وتأييد وجهاء المسيحيين له حال دون ضياع معالم الجناية حسب العادة، ونجاح ذلك الحاكم الظالم ووسيطه الشرير.

وكان في زحلة رجل عُرِفَ ببعد النظر واستنباط الحيل لمعرفة الجناة، فكلفوه البحث والتحقيق بطريقة غير رسمية والدفاع عن الأبرياء؛ لأن سليم والشيخ صالح كانا متأكدين من براءة آل الهلالي، فذهب فارس أفندي هذا إلى العمروسة، وقضى يومًا كاملًا في البلدة، فعلم من أهلها كل ما يعرفونه من أمر التاجر وآل الهلالي، فعرف سر الجناية، ولكنه أراد أنْ يجعلها بشكل قانوني، فعاد إلى المعلقة، وقد اجتمعت لديه معلومات تنفي الشبهة عن آل الهلالي وغيرهم من المتهمين، وتوقع الشبهة على ذلك الوجيه الكذاب الذي عمل القائمقام بأقواله، وألقى القبض على محمد الهلالي بناءً على كتابه.

وكان بين رجال الجندرمة في المعلقة رجل نشيط متعلم، تعوَّد مطالعة أخبار البوليس السري والطرق المختلفة التي كانوا يستعينون بها، فقابله فارس أفندي واتفق الاثنان على أنْ يعيدا النظر في هذه الحادثة من أولها لمعرفة حقيقتها، فذهبا إلى حيث وقعت الحادثة، ودرسا المكان وما حوله، فوجدا أنه يستحيل في مثل ذلك المضيق الذي وقعت فيه أنْ يجتمع أكثر من رجلين في وقت واحد وأن القتيل كان مترجلًا يقود جواده حينما دهمه القاتل من وراء صخر عند منعطف الطريق، فأخذه على حين غرة، وطعنه بخنجر طعنة نجلاء، ثم أجهز عليه وتركه يتخبط بدمه.

فعاد الاثنان إلى زحلة، وطلبا الإذن من أهل القتيل لفتح المدفن ومعاينة الجراح التي كانت قاتلة، فلاحظا أنَّ الضربة الأولى كانت في الصدر قرب الثدي الأيمن، وهنالك خدوش في العنق تدل على أنَّ القاتل أمسك بعنق المجني عليه وطعنه بخنجره، فكانت الخدوش في الجهة اليسرى من أعلى الكتف والعنق، والطعنة فوق الثدي الأيمن وبانحراف داخلي إلى جهة اليسار، ولاحظا أنَّ أظافر القتيل مهشمة فاستدلا من ذلك أنه أمسك بتلابيب خصمه حينما دهمه ليفتك به.

ولاحظا أنَّ الضربة الثانية كانت بذات الآلة في ظهر القتيل بعد أنْ أكب على الأرض، وقد أصابت الجانب الأيسر مع انحراف إلى اليمين، وكأن القاتل حاول بهذه الطعنة أنْ يتأكد من موت عدوه، فطعنه هذه الطعنة القاتلة، ثم فرَّ هاربًا تاركًا كل شيء وراءه.

فتحقق لديهما أولًا: أنَّ القاتل أعسر، وثانيًا: أنَّ الجريمة لم ترتكب بقصد السرقة، واستنتجا أيضًا أنَّ قتل رجل طيب ليس له عدوٌّ في تلك الجهة لم يقصد به إيقاع الأذى به بل بآخرين للتشفي والانتقام، ثم إنَّ إرسال كتاب من سليمان أحمد يتهم فيه محمد الهلالي جعلهما يحولان الشبهة نحوه، فإذا لم يكن هو القاتل بعينه، فقد يكون أحد أعوانه وأخصائه المقربين.

فاتفق الاثنان على زيارة سلمان أحمد بحجة أنهما يريدان مساعدته لمعرفة الحقيقة ومساعدة الحكومة على اكتشاف سر هذه الجريمة الشنعاء.

فركبا وقصدا القرية التي يقيم فيها بعد أنْ مرَّا بالنقطة التي وقعت فيها الحادثة، فلاحظا أنَّ هنالك شعبًا ضيقًا يوصل من محل وقوع الجناية إلى منزله وسط دغل كثيف يستطيع الإنسان أنْ يسير فيه دون أن يراه أحد أهل القرية، وأطلا من شرفة الدار فلاحظا أنَّ طريق العمروسة إلى زحلة مكشوفة من هنالك، فيستطيع الإنسان من سطح المنزل أنْ يرى الذاهبين من العمروسة إلى المعلقة أو زحلة، ثم تسير الطريق في منعرج جبلي إلى حيث وقعت الجناية، فيستطيع الإنسان بكل سهولة أنْ يصل من منزل سلمان أحمد إلى تلك النقطة قبلما يصل الراكب إليها.

وبينما هما جالسان هنالك أقبل بعض أصحاب سلمان أحمد لزيارته ومشاهدة ضيفيه فقدمت القهوة، وما أشد دهشة فارس أفندي؛ إذ رأى رجلًا عبل الساعدين مفتول العصب يقدم القهوة، ثم أصلح فنجانًا بيده اليسرى مما استدل منه على أنه أعسر، فنظر إلى رفيقه، فرآه يحدق به بصره، فعرف أنه يفكر بمثلما يجول بخاطره.

ثم تأمل الرجل مليًّا فلاحظ أنَّ هنالك أثرَ خدوش في الجهة اليسرى من عنقه، يحتمل أنْ تكون أثر أظافر يد، فوقعت الشبهة على هذا الرجل، وكأن الرجل شعر بأن فارس أفندي يحدق به، فارتجفت يداه، وكادت الصينية التي كان يحملها أن تسقط من يديه.

(٢) المحاكمة

اجتمع الناس في المعلقة لسماع محاكمة محمد الهلالي ورفاقه المتهمين بقتل سمعان إلياس، وأُحضر عدد من الشهود الذين شهدوا أنَّ محمد الهلالي كان زعيم عصابة معادية للمسيحيين، وأنهم شاهدوه أكثر من مرة يجول على أطراف لبنان للتعدي، وكان هؤلاء الشهود ممن دبرهم سلمان أحمد تشفيًا من آل الهلالي، وبينهم اثنان من أفراد العصابة التي فرَّت من أمام أهل العمروسة يوم هاجمت سليمًا ووالده في العام الماضي استعان بهما سلمان لينتقم من أخصامه.

فتُليت ورقة الاتهام، وأخذ المستنطق يورد الأدلة التي تثبت الجريمة على المتهمين، ثم أخذ القاضي يسأل المجرمين عما نُسب إليهم، كلًّا بمفرده، فأنكروا جميعًا، وقال أحدهم: إنهم أبرياء وهم أكثر الناس حزنًا على المرحوم؛ لأنه كان أكبر صديق لهم، ولو عرفوا القاتل لمزقوه إربًا إربًا، فضحك القاضي، وقال: هذا الكلام يثبت الجرم عليكم، ويدل على أنكم قتلة سفاحون، وإلا كيف تقول هذا القول.

وكان فارس أفندي قد طلب أنْ يتولى الدفاع عن المتهمين فوقف، وقال: ليسمح لي فضيلة القاضي أنْ أدفع هذه التهمة الشنعاء عن هؤلاء الأبرياء، فإنه إذا ثبتت هذه التهمة على أهل العمروسة كانوا أفظع الجناة الأثمة، بل كيف يعقل أنْ يَقتلَ الإنسان صديقًا أحسن إليه وعاشره مدة طويلة دون أنْ يثير خاطره أو يسيئه بشيء، أو أنْ يكون له من وراء ذلك ربح مادي، ولهذا أرجو من عدالة المحكمة ألَّا تعجل بالحكم قبلما تقف على بواطن الأمور.

ليس لأهل الهلالي أعداء، ولكنَّ لهم حسادًا أشرارًا، دبروا مكيدة شريرة للقضاء على هذا البيت الكريم، وأهل قرية اشتهروا بالجد والنشاط.

عُرِفَ سمعان إلياس بدماثة أخلاقه، وحسن معاملته، وصدق مودته، فأخلص له أهل العمروسة الود، واختصوه بالمعاملة دون سواه، وتمكنت بين الفريقين عرى المودة والاتفاق إلى أنْ أصبح محله في زحلة بغية الطلاب ومقصد صاحب كل حاجة من أهل العمروسة فضلًا عن أنهم هم لا يبيعون حاصلاتهم إلا له، فهذه الصفات الممتازة التي عُرِفَ بها الفقيد والمنفعة المتبادلة بينه وبين أهل القرية كانت سببًا في تعلق أهل القرية به، فليس ثمة من دافع يدفعهم لقتل رجل بريء لم يؤذ أحدًا منهم، بل كان يمدُّ يدَهُ لمساعدة كل فرد من أفراد هذه القرية قصده لحاجة أو طلب مساعدته في شأن من الشئون.

بقيت مسألة أخرى وهي السرقة وسلب المال.

لو كان الدافع الذي دفع الجاني إلى هذه الجريمة سلب المال لكان ترصد للقتيل قبل وصوله إلى القرية، وهو يحمل مبلغًا كبيرًا من المال، لا بعد عودته خالي الوفاض، وقد دفع كل ما كان في يده، وبقي عليه جزء من الثمن (وهنا أبرز أمام المحكمة أوراقًا تثبت ذلك).

وأؤكد لكم أنه لم يؤخذ من جيوب القتيل شيءٌ البتة؛ لأنه وجد مبلغًا صغيرًا في جيبه وساعته وبقي خاتمه الذهبي في يده، فلو كان الجاني أحد اللصوص لما ترك هذه الأشياء ولما ترك الجواد وملابس القتيل وكل ما كان يحمله معه، فالجريمة إذن مرتكبة عمدًا، والدافع إليها شخصيٌ، وهو إما الانتقام من القتيل أو إيقاع الأذى بسواه، ولما كان القتيل رجلًا مسالمًا طيبًا فالقتل لم يكن انتقامًا منه، بل على ما أرجح انتقامًا من آخرين.

ثم تبيَّن من التحقيق الذي قام به أحد رجال الشرطة، ووافق عليه بعدئذٍ جميع الذين شهدوا موضع الحادثة أنه ليس من متسع لأكثر من شخص واحد يقابل المعتدى عليه حين وقوع الجناية، إذن لا يكون القاتل إلا رجلًا واحدًا وهو أعسر كما تبين لنا من البحث والاستقصاء (وهنا قامت ضجة في المحكمة وضحك بعض الحاضرين)، فقال القاضي: كيف تبيَّن لك ذلك؟! فقد فقت الذين اشتهروا بالقيافة من العرب، ولعلك تورد لنا الأسباب التي حملتك على هذا الظن.

قال: إنَّ القتيل بشهادة الطبيب (وهنا أبرز ورقة وسلمها للقاضي) قُتِلَ بآلة حادَّة؛ أي سكين، وقد طُعِن بها طعنة في صدره وأخرى في ظهره، أما الدليل على أنَّ القاتل أعسر فهو أنَّ الضربة الأولى كانت في الجهة اليمنى من الصدر، وقد انحرف الجرح نحو اليمين وهذا يدل على أنَّ الضربة كانت باليد اليسرى، وهنالك خدوش في عنق القتيل وأعلى كتفه الأيمن، ويظهر من ذلك أنَّ القاتل أمسكه بيده اليمنى وطعنه باليسرى، وهذا لا يكون إلا إذا كان القاتل أعسر.

ثم إنَّ الضربة التي أصابت القتيل في ظهره كانت بعد أن أكب القاتل عليه، فكانت الطعنة في ظهره من الجهة اليسرى مع انحراف إلى اليمين.

وقد فحصنا جميع المتهمين، فليس بينهم واحد أعسر، فهم أبرياء من هذه التهمة الشنيعة.

وهنا ليسمح لي القاضي أنْ أبيِّنَ له وللمحكمة كيف أنَّ هنالك مساعي لتضليل المحققين؛ فقد ورد لسعادة القائمقام بلاغٌ من أحد الوجهاء يتهم فيه هؤلاء الأبرياء فلماذا؟ ذلك لأن هذا الوجيه الذي اتخذ السعاية له ديدنًا هو المحرض على القتل لغاية في نفسه، حاول هذا الرجل أنْ يتزوج ببنت الهلالي فرفضوا مصاهرته، فأضمر لهم الشرَّ، وانتقم منهم متهِمًا محمد الهلالي بقتل أكبر صديق للعائلة، فجرح قلوب آل الهلالي بقتل صديقهم العزيز، ثم جرهم إلى السجون بتهمة فظيعة، جعلتهم في أحرج المواقف.

وظهر من تتبع آثار هذه الجناية أنَّ لهذا الوجيه الذي فعل فعلته الشنعاء أجيرًا اسمه «حامد» له صلة قرابة بسيده الذي يثق به كلَّ الثقة، وهذا الأجير أعسر، وهو من أشد الرجال جسمًا، وأصلبهم عودًا، وأقساهم قلبًا، وأسرعهم إلى ارتكاب الشرِّ، ولحسن الحظ أُلقي عليه القبض أمس بتهمة أخرى لا شأن لها بحد ذاتها، ويستطيع الشرطة أنْ يحضروه إلى هنا، فمتى مثل أمام القضاء تظهر الحقيقة لديكم، ومتى ظهرت صحة قولي أمامكم يا حضرات القضاة أرجو أنْ تطلقوا سراح هؤلاء الأبرياء، وتأمروا بإلقاء القبض على المحرض الحقيقي الذي هو علة الشقاء.

فأمر رئيس المحكمة بإحضار «حامد»، ولما دخل إلى وسط المحكمة لم يبق عند أحد ريب في أنه هو القاتل الأثيم، وكانت آثار الخدوش لا تزال بادية على عنقه، فقال فارس أفندي: «هاكم آثار الخدوش بادية على عنق هذا المجرم الأثيم.» ثم نظر إلى حامد، وقال: «يا هذا، أسألك الآن أمام هيئة القضاء التي تمثل العدالة في هذه البلاد، وباسم الدين الذي يأمرك بالمعروف وينهى عن المنكر، وبحق كل ما هو عزيز لديك، أنْ تتكلم الصدق، فقد ظهر للمحكمة أنك كنت في يوم السبت الماضي واقفًا على سطح منزل سلمان أحمد، فرأيت فارسًا من بعيد، عرفت أنه سمعان إلياس التاجر، وهو عائد من «العمروسة» إلى «زحلة»، وطريقه يسير في مضيق في الجبل أقرب إليك منه، فجريت ومعك خنجر حادٌّ، ومررت بدغل يفصل بين المنزل والطريق حتى وصلت إلى وراء صخرة بارزة تكاد تسد الطريق؛ حيث كنت ترى ولا تُرى، فلما دنا سمعان إلياس — وكان قد ترجَّل عن جواده لوعورة المسالك — انقضضت عليه، وأمسكت بيدك اليمنى عنقه وطعنته بيدك اليسرى طعنة نجلاء خرَّ على أثرها صريعًا، وانكب على وجهه، ولم تكتف بذلك، بل أجهزت عليه بطعنة أخرى في ظهره، وعدت من حيث أتيت غير مشفق عليه أو راحم زوجته وابنه.» فوجم حامد ووقف شاخصًا إلى السماء، وظن أنَّ سيده أقر عليه؛ لأنه لم يعرف بسِرِّ الحادثة سواه وتفوه بهذه الكلمات: «من ذا الذي شهد ما حصل؟» فقال فارس أفندي: «إن الله يرقب الظالمين، وهو الذي يأخذ بيد الأبرياء المخلصين، ويعاقب المجرمين، والآن فلا يجديك الإنكار نفعًا، فقد وضح الأمر، وليس لديك إلا أنْ تقرر الحقيقة خدمةً للقانون والعدالة، وهذا يخفف من جرمك، ولعل المحكمة ترأف بك بعد ذلك.»

فصمت قليلًا، ثم قال: يا مولاي ماذا أقول؟! إنه لم يكن موجودًا حينما ارتكبت الجريمة طيرٌ يرف، وقد عرفتم تفاصيلها كما لو كنتم حاضرين، فكيف أنكر الحقيقة بعد ذلك، وليس هنالك إلا أحدُ أمرين؛ إما أنَّ الله أنطق الجواد الذي فرَّ حالما هجمت على سيده، أو أنَّ الشيخ سلمان أحمد خانني؛ خوفًا من أنْ تقع الشبهة عليه «هذه فعلته والله، فكم خان صديقًا ووشى بصديق! لعنه الله، فقد كان أخبث الناس، وهو الذي دفعني لارتكاب هذه الجريمة الشنعاء تشفيًا من آل الهلالي الذين لم يؤذه أحدٌ منهم طول حياته.»

فقال فارس أفندي: «أرجو من المحكمة أنْ تقرر ذلك، وأنا أترك أمر هؤلاء الأبرياء للعدل يجري مجراه، ولسوف يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»

فكتب القاضي أمرًا بإلقاء القبض على الشيخ سلمان أحمد، ولكنه كان قادمًا إلى المعلقة للسعي في تبرئة خادمه حامد، فقابله الجنود في الطريق، وعادوا به مكبلًا بالحديد إلى حيث لقي ما يستحق من القصاص العادل، وأُطْلِق سراح الأبرياء، فعادوا إلى قريتهم يشكرون للشيخ صالح وآل القتيل الذين سعوا في إنقاذهم، وساروا هم ووجهاء القرية لتعزية آل الفقيد، وأقاموا للمرحوم مأتمًا ثانيًا في العمروسة دلَّ على ما كان له في نفوس أولئك القرويين البسطاء من المحبة والإخلاص.

(٣) سفر سليم إلى أميركا

سئم سليم الحياة في بلدته بعد مقتل والده، فسلم محل أبيه لعمه، وسافر إلى أميركا.

وقبل مغادرته بيروت ودَّع هيفاء، فحزنت لمغادرته الوطن، وقالت: كيف أستطيع أنْ أفكر بسفرك وحرمان والدي من صديقه الحميم المرحوم والدك وسفرك أنت، وقد كنت لنا مع المرحوم خيرًا من الأهل، وأنا هنا أُعتبر كواحدة من أفراد عائلتكم، وابنة عمك سعدى تنظر إليَّ كأنني أختك، وتحبني كما تحب الأخت أختها، فلم أعد غريبة عنك كما كنت تقول، والحق يقال: إنَّ أسعد أيامي هي الأيام التي قضيتها عندنا والتي قضيتها أنا في زحلة، فهل تعود تلك الأيام الحلوة ثانية؟! وهل تعود فتفكر بنا وأنت في العالم الجديد؟! أم تنسى العالم القديم ومَن فيه؟!

قال: وهل ينسى الإنسان قلبه، فأنت حيث حللت وأنَّى سرت تبقين ضمن شغاف القلب وطياته بل في سويدائه، وسوف أكتب لسعدى ابنة عمي، وهي تكتب لي عنك دائمًا، وإذا بقيت في المدرسة، فأكتب إليك بإمضاء سلمى؛ لأنني لا أريد أنْ يُعرف أنك تكاتبي رجلًا، وألسنة الناس شديدة على الحسان.

قالت: ليس لي إلا بضع دقائق أقضيها معك الآن، ثم تسافر إلى حيث لا أراك، فما أشد لوعة الفراق! ولكن الفراق للمحبين كالنار للذهب، يُمتحن فيها صفاؤه، فإن أحرقتنا نيران البعد والجوى، فليس أعذب من لذة اللقاء، ولكن أين يكون ذلك ومتى يكون؟

قال: «لا أعلم متى أعود ولا ما يقدر لي الله في ديار الغربة، ولكن لي همَّة الشباب وحبك الذي سيكون أكبر معوان لي على اقتحام المخاطر وتحمل المشاق، وهو الذي يشحذ ذهني، ويشدد عزيمتي، ويهوِّن عليَّ الصعاب، ألا ليتك كنت تستطيعين أنْ تذهبي إلى العالم الجديد، فهو جدير بك وأنت جديرة به.» فخطر لهيفاء خاطر مرَّ ببالها بسرعة البرق، ثم قالت: «نعم! إنَّ العالم الجديد جديد في كل شيء، فلا تقاليد قديمة، ولا قيود كذابة تفصل الأخ عن أخيه، فعسى أنْ نجتمع فيه، فلا يكون هنالك ما يكدر صفاءنا، ويبعد عنا السعادة والهناء.»

مدَّ سليم يده ليصافح هيفاء فمدت يدها، ونظر الواحد إلى الآخر دون أنْ ينطق أحدهما ببنت شفة، بينما كانت العيون تنقل إلى القلوب والألباب معاني تلك النظرات، وشعر كلٌّ منهما كأن سلكًا كهربائيًّا سرى في جسمه، فارتعش الاثنان، ونظر سليم الدمع في عين هيفاء يترقرق، فقال: «صبرًا يا حبيبة القلب، الوداع يا قرة العين، صبرًا فسوف تجمعنا الأيام.» ولم يعد يقوى على نفسه، فتغلبت عواطفه عليه، وقد دنا الواحد منهما من الآخر، ووقعت العين على العين، وأحس الواحد بأنفاس الآخر ولهيب الحب يتضرم، فقال سليم: «ما أحلى وقوع العين على العين، وليس أفضل منه إلا التقاء الثغرين.» وضمها إلى صدره وقبَّلها، وأحس بشفتيها تتحركان، ولكنها بقيت صامتة، فسار وفي قلبه بركان يتضرم.

(٣-١) الشاب السوري في أميركا

وصل سليم إلى نيويورك حيث كان له قريب قصد تلك البلاد من مدة، فحلَّ سليم على قريبه ضيفًا إلى أنْ توفق إلى عمل بسيط في بادئ الأمر، فكان يصرف ساعات العمل مكبًّا على أعماله دون انقطاع، فإذا انتهى منها قصد المجتمعات الأدبية والمكاتب العمومية يسمع ويرى ويطالع ما يزيده علمًا واختبارًا.

وكانت معرفته للإنكليزية أكبر معوان له، فلم تمضِ مدة قصيرة حتى أصبح كل صاحب عمل عرفه وعرف أخلاقه يرغب في استخدامه والاستعانة به، وكأنه ورث عن أبيه الميل للتجارة، فحالما سنحت له فرصة اشترك مع صديق له كان في البلاد من قبله وخبر أحوالها، ولكنه لم يكن يحسن القراءة والكتابة بالإنكليزية فسد سليم هذا النقص، ولم يمض عليهما إلا مدة قصيرة حتى أصبحا في مقدمة التجار السوريين سمعةً ونجاحًا.

ونشبت الحرب الأوروبية، وأخذ ينسحب من سوق نيويورك الواحد بعد الآخر من التجار الأجانب الذين كانوا مسيطرين على بعض الأسواق التي كان يشتغل بها السوريون أيضًا فحل هؤلاء محلهم، وكان لسليم وشريكه نصيب كبير من هذا العمل فأثريا وجمعا مبلغًا كبيرًا من المال في مدة قصيرة، وأنشآ معملًا لصنع البضائع التي كانا يشتغلان بها في «ماديرا»، فاتسعت تجارتهما، وبلغت أرباحهما ألوف الجنيهات.

لم يبطر الربح المادي سليم ولا أنساه هيفاء، بل كتب إليها مرارًا قبلما نشبت الحرب، ثم انقطعت أخبار هيفاء، ولم يعد يعلم من أمرها إلا قليلًا، وآخر ما علمه عنها أنها تستعد للامتحان النهائي لنيل الشهادة المدرسية، ثم دخلت أميركا الحرب، فلم يعد يعلم من أمرها شيئًا، إنما علم أنَّ أخاها محمدًا انضم إلى الجيش التركي، وأُرسل إلى ميدان القوقاس، ثم انقطعت أخباره عن الأهل، فخامرت والديه الهموم والأحزان، وضعفت همَّة والده، وعجلت الكآبة عليه الشيخوخة، فانقطع عن العمل، ولزم بيته يفكِّر في مصير وحيده، ويلعن الساعة التي نشبت فيها الحرب، ودعي فيها محمد إلى الجهاد.

وذهب في أحد الأيام، وقد أخذ منه الحزن كلَّ مأخذ إلى دمشق، يستفهم عن نجله من رجال الجندية هنالك، وكان كلما حادث فريقًا يشكو إليهم همه ويلوم الدولة لدخولها هذه الحرب التي أقفرت الدور، وخربت البلاد، وجرَّت على الناس الرزايا والويلات، وحدث أنه كان سائرًا ذات يوم في أحد الأسواق، فرأى جماعة من اللبنانيين وقد عضهم الجوع، وجار عليهم الدهر فلجئوا إلى دمشق علَّهم يجدون فيها ما يسد الجوع ويدفع المكروه، وكان بين هؤلاء رجلٌ عرفه يوسف الهلالي وهو ابن نعمة لم تقوَ رجلاه على حمله، فوقع على الأرض مغميًّا عليه، فتقدم يوسف الهلالي ليرفعه عن الأرض، وإذا بجنديٍّ دنا منه قائلًا: «دع أيها الشيخ، هؤلاء الكلاب يموتون جوعًا، فإنهم خونة ملاعين.» فنظر إليه الشيخ شذرًا، وقال: «دع عنك هذه الأقوال يا بني، فإن مرض الدولة القتَّال هذا التعصبُ الذميم، ولولاه لما كنا في أسوأ حال، ولما تفرقنا طرائق وتمزقنا شيعًا وأحزابًا، فما ذنب هذا المسكين فتميتونه جوعًا، أما إنه لو عرف السلطان بما تفعلون لأمر بعقابكم أشد عقاب.» ثم همَّ برفع الرجل الجائع فلطمه الجندي، وقال: خذ هذا جزاؤك على عملك هذا، ورفس الآخر رفسةً أفقدته الرشد، وتركته لا يعي شيئًا، وسار كأنه لم يفعل شيئًا.

أطار هذا العمل صواب يوسف الهلالي، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: «اللهم ارحم هذا المسكين واجزِ بعدلك الظالمين.» وكان على مقربة منه رجل عُرف بالمداهنة والرياء، فاغتنم هذه الفرصة، وسار توًّا إلى أقرب نقطة للبوليس، وشكا أمر يوسف الهلالي، وقال: إنه سبَّ الدولة ورجالها الكرام، ولعن الساعة التي نشبت فيها الحرب، وجرَّت الناس إلى البلاء، واستشهد ببعض المارة الذين رأوا يوسف الهلالي يساعد ذلك الجائع البائس المسكين، الذي رقَّ له قلبه فأحسن إليه، فلم يكن إلا بضع دقائق حتى رأى يوسف الهلالي بعض رجال البوليس يحيطون به، فظنهم أولًا قادمين لمساعدته وإنهاض ذلك البائس الذي رثى لحاله ورق له قلبه؛ إذ تصور مصير وحيده، وما قد يكون حل به في أرض الغربة وما فيها من مصاب وبلاء، ولكنه دهش؛ إذ رأى الجنود يقتربون إليه دون اكتراث بذلك الرجل البائس الذي تركوه بين حيٍّ وميت، واقتادوا الهلالي إلى السجن وتركوه فيه لا يعرف له ذنبًا، ولا اهتم أحد أن يعرف من أمره إلا أنه خائن مفسد شرير.

مضى عليه ساعات وهو في سجنه لا يعلم لذلك سببًا، وظن أن ذلك الجندي الجبان شكاه إلى الحكومة خوفًا من أنْ يسبقه هو في الشكاية، فأخذ يزعق وينادي «العدل» «العدل يا ناس.» فكان يُحمل كلامه على غير محمل، وكلما سمعه واحد ظن أنه ثائر أو أنه خائن يستحق أشدَّ العقاب.

ودخل عليه السجان بعد برهة وبيده كرباج، فقال: ما لك يا شيخ السوء تزعق وتزعج الناس بهذا العواء؟ وهمَّ بضربه، فقال: «صبرًا» إمَا أن أكون أنا مجنونًا أو جن الناس أجمعون.

قال: لا بل أنت المجنون؛ ولهذا ترانا مجانين. فقل لي ما أمرك؟ فأنا أراك ذاهلًا لا تعلم ما أنت فيه، ولا تفهم سوء مغبة ما تقول.

قال: هل يُلامُ في عرفكم مَن يحسن إلى الناس؟ قال: بل يكافأ على الإحسان بمثله. قال: وهل السجن جزاء الإحسان؟ قال: لا، بل هو عقاب المجرمين. قال: إذن لماذا أنا مسجون، فإني قدمت أسأل عن ابني وهو جنديٌّ من جنود الدولة الأمناء، فرأيت رجلًا مسكينًا سقط أمامي من الإعياء والجوع، فانحنيت لأرفعه عن الأرض وأساعده، وخُيل إليَّ أنَّ ابني قد يكون بحالة مثل حالته، فيجد مَن يعينه وينصره كما أعنت هذا البائس المسكين، وإذا أنا بجنديٍّ لطمني على خدي، ثم رفس الرجل رفسة مؤلمة، وتركني ذاهلًا ألعن الساعة التي قست فيها القلوب وماتت فيها الضمائر، وإذا أنا بالجند يطوقني، وأُقاد إلى السجن ذليلًا مهانًا، فهل أنا في يقظة أم في منام؟ فطالما جئت «للشام»، فلم أرَ مثلما رأيتُ، ولا عوملت كما عوملت هذه المرة، بل نحن نحب أهل دمشق الذين اشتهروا باللطف والدعة وحب الضيافة والعطف على الغريب، ولم أرَ في حياتي ولا سمعت أنَّ أحدًا عومل في دمشق كما عوملت.

فرجع السَّجَّان إلى الوراء مذعورًا، وأحس أنَّ هنالك غلطة ارتُكبت، ولكنه لم يكن يملك أمرًا بإطلاق سراح ذلك الشيخ البريء، الذي ظهر له أنه ضحية وشاية وسعاية، أو أن هنالك مَن يريد أنْ يوقع به الأذى، فكاد الدمع ينهمر من عيني السَّجَّان، وخرج دون أنْ يرى الهلالي ما به من تأثر، وسار إلى غرفته يفكر فيما آلت إليه الأحوال، وكيف يُظلم الأبرياء، وليس في وسعه إلا أنْ يكون منفذًا لأوامر رؤسائه، فودَّ لو أنَّ في استطاعته إطلاق سراح الشيخ، ولكنه خشي أنْ يكون في الأمر جريمة توقعه تحت طائلة العقاب، فانتظر ريثما يرده علم من المراجع العليا. وفي اليوم التالي دخل على الهلالي ضابط كبير، وقال: «من تكون؟» فقال: أنا يوسف الهلالي من قرية العمروسة، وقد جئت أستفهم عن ابني، وهو جنديٌّ من جنود مولانا أمير المؤمنين، فرأيت رجلًا مسكينًا واقعًا في الطريق، فمددت إليه يد المساعدة، فقادني الجند إلى هذا المكان، وأنا لا أعلم لي ذنبًا، قال: بل ذنبك عظيم، فأنت متهم بسب الدولة ورجالها والتفوه بألفاظ تعد جريمة عظيمة؛ لأنك تثير الكراهية في نفوس السامعين.

قال: يا مولاي صبرًا، فما أنا إلا شيخ طاعن في السن لم أتدخل في السياسة في حياتي، ولولا وجود ابني في الجندية لما جئت إلى هذه المدينة زائرًا، وهل يُعاقب — يا مولاي — رجلٌ أحسن إلى رجل بائس؟ قال: كلَّا! بل يكون مثل هذا رجلًا كريمًا. فأشرق وجه يوسف الهلالي، وقال: «الحمد لله؛ فقد أرسلك الله إليَّ منقذًا.» ثم قصَّ عليه قصته كما هي من أولها إلى آخرها، فكاد الضابط يتميز من الغيظ، وقال: «لعن الله هؤلاء السفلة الخونة الأغرار، فهم علة العلل ومرض الدولة الذي لا يُشفى، فسوف أنكِّل بهم تنكيلًا.» وخرج وبعد قليل دخل السجان بأمر الإفراج عن يوسف الهلالي، فهنأه، وقال: «إياك أنْ تقيم في هذه البلدة يومًا إلا إذا كنت بحاجة إلى أمر، وحاذر من كل إنسان، ومن كل كلمة تفوه بها، فللحيطان آذان وللصخور عيون.»

فتركه وعاد إلى البلدة، فقصد الخان الذي كانت فيه دابته، وجمع حوائجه وما اشتراه من الشام، ثم خرج لا يلوي على شيء عائدًا إلى العمروسة، وفي صدره بركان من الغيظ يتأجج.

فلما وصل إلى العمروسة قابله الشيخ صالح، وعلم منه ما كان، فتأثر جدًّا وقال: «هذا هو الداء العَياء الذي ليس منه شفاء، هؤلاء الذين يغارون على الدولة والدين هم أعداء الدولة والدين. ألا من منقذ من هؤلاء! العلم! العلم! نور العرفان! وهدى للذين يؤمنون. قاتل الله الجهل، فهو علة هذا الشقاء! ألا من مصلح عاقل حازم يقضي على الجهل والتعصب الأعمى، فيريح العباد ويصلح البلاد ويرقي الأخلاق؟»

وبينما هو يحدثه بمثل هذا الكلام إذا بهم يرون بعض أبناء القرية قادمين نحوهم، فهنئوا الشيخ يوسف الهلالي بعودته سالمًا، وسألوه عن محمد، فقال: لم أعرف عنه شيئًا، ولا استطعت أنْ أستفهم من أحد، فأخذ أحدهم جريدة قال إنَّ طيارة رمت بها من حالق، ففتحها الشيخ صالح وقرأها، فإذا بها جريدة مصرية قذفت بها الطيارة من حالق؛ لتُعلم الناس بأمر الحرب، وفيها أنَّ جيش القوقاس قد حلت به نكبة كبيرة ففني معظمه وتشتت الباقون، فوقع هذا على الجميع وقوع الصاعقة، ولعنوا الساعة التي اشتبكت فيها الدولة بهذه الحرب الهوجاء، ثم علموا ما كان من أمر الشيخ يوسف، وما جرى له في دمشق فتأثروا جدًّا، وهنئوه بالسلامة وانصرفوا مكتئبين.

مضت سنة على هذه الحادثة وأهل العمروسة كلما ذكروها تأثروا مما جرى للشيخ يوسف، وفي أحد الأيام جاء بلدتهم رجل من حوران، وأخبرهم بأن العرب انضموا للإنكليز الذين فتحوا بئر السبع وكسروا الأتراك وأن لهم أعوانًا في البلاد يؤيدونهم سرًّا، فنظر الشيخ صالح إلى يوسف الهلالي، وقال: «هل تظن أنَّ العرب قاموا على الأتراك عبثًا؟» ثم أنشد متأثرًا:

أُعطيت مُلكًا فَلَم تُحسِنْ سياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يسوسُ المُلكَ يُنزَعَهُ

هذا ما قاله الشاعر، وهذا ما أصابنا.

لقد كانت دولتنا أكبر الدول شأنًا وأعظمها قوة، فأصبحت لا حول لها ولا طول، ولولا أموال الألمان وقواد الألمان لاندحر الجيش التركي من قبل، ولكن تأكد يا يوسف أنَّ الجندي التركي الباسل يقاتل بكل ما أوتي من عزيمة وصدق نية وإيمان، ولكن ما رأيت في الشام ترى مثله في بيروت وأكثر منه في الأستانة، فالناس هنا وهنالك سواء، بل كلٌّ يسعى إلى غرضه غير ناظر إلى مصلحة سواه، وكلٌّ يقول «من بعدي الطوفان.» فكيف تصلح حال بلاد والناس فيها غير معتقدين بإصلاح الأحوال، بل إنَّ فريقًا يحب أنْ يتخلص من هذا النير الثقيل، نير عدم الاستقرار، ويود لو أنَّ البلاد تخرج من هذه الحالة التي لا قرار لها إلى حالة يعلم الإنسان منها ما يكون، ولو لم يكن ذلك على حسب ما يشتهي ويريد «الله أكبر» وا خيبتاه! وا ذلاه! ضاعت أمانينا وآمالنا بالإصلاح الداخلي، فهل يرسل لنا الله خيرًا ممن نحن فيه؟ أم نخرج من الظلم والاستبداد، ثم توضع في أعناقنا أغلال الاستعباد، نخلص من الاستئثار، فنقع في الاستعمار، نخلص من استعباد أخينا الجاهل، فنقع في أسر عدوٍّ عاقل.

هل لنا أمل في تكسير الأصفاد والخروج من هذا الاستعباد؟

إنَّ العرب لم ينضموا للإنكليز عبثًا، ولا بدَّ أنْ يكونوا قد نالوا من الوعود ما حملهم على القيام ضد دولتهم، ولكنَّ وعود المستعمرين خلابة وأعمالهم على عكس ما يعدون.

ثم وجم قليلًا، وقال: «يا يوسف، استبشر خيرًا، فالإنكليز أفضل المستعمرين، وإنهم إذا دخلوا البلاد أصلحوها، وأغنوا أهلها، ولم يتعرضوا لدينهم أو لتقاليدهم، فهم من هذا القبيل أفضل الأسياد، ولقد علمت أنَّ الشريف انضم إليهم، وهم وعدوه بتأييد في إنشاء دولة عربية، فعسى أنْ يتم ذلك فنكون قد جنينا من الحرب ثمرة الجهاد، وحققنا أملًا طالما جال في الفؤاد، فهاك مصر إني زرتها قبل الاحتلال الإنكليزي وزرتها من عهد قريب، فأين العهدان؟! فالناس اليوم أحرار في مصر أكثر مما هم أحرار في سوريا أو أي بلاد إسلامية مستقلة، وهم لا يكادون يشعرون بالاحتلال إلا إذا خرجوا عن القانون، أو أرادوا استعمال سلطة لا خير منها للبلاد، ولولا ما تهيم به النفوس من حب الحرية والاستقلال لقلت: إنَّ مصر المحتلة أكثر حرية من تركيا المستقلة وإيران المستقلة، وأي بلاد إسلامية أخرى، بل إنَّ شيوخ الدين في مصر أفضل حالًا وأوفر نعمة وأسعد حظًّا من سواهم في بقية الأقطار؛ فهم يضمنون مرتباتهم ويأمنون على أرواحهم وأرزاقهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

إنَّ الحرية كلمة عذبة اللفظ شديدة المعنى، فطالما استعملها المتشدقون لقضاء الأوتار وسفك الدماء والانتقام من الخصوم، الحرية كلمة مطاطة؛ فهي تكون كما يريدها مَن بِيَدِهم الأمر، أو مَن يسعون لقلب نظام الحكم وينجحون، فكم من دماء بريئة أهريقت في سبيل الحرية! وكم من جريمة ارتكبها الأدعياء باسم الحرية المقدس حتى إذا ظهر للناس ما يبطنون كانوا أشد ظلمًا واستبدادًا من الظالمين الذين قاوموا الحرية التي يسعى لها الناس وتخفق لها القلوب!

إنَّ الله مدبر الكائنات، وهو واهب الملك لمن يشاء، فمن يعدل في الناس يدم حكمه، ومن يظلم الناس يهلك رعيته ويضعف ملكه، فيئول به ذلك إلى البوار. فلقد أسس المسلمون ملكهم على العدل، فبسطوا سلطانهم على الشرق كله، واتسع ملكهم حتى الأندلس في الغرب، ثم زاغت القلوب وضلَّ الحكام سواء السبيل فضاع الملك وفقدوا الأمصار.

فهل من سبيل لإرجاع ما ضاع أو حفظ ما هو باقٍ للآن؟

عسى أنْ يكون لله يد في هذا الانقلاب، فيعيد للعرب سلطانهم، ويؤيد ملكهم، ويمنع عنهم كيد الكائدين، فقد مزقت هذه الدسائس جسم هذه الأمة الحية تمزيقًا، ولكن القوة لا تزال في الصحراء، وهي كامنة كمون النار في الحجر.

ليت التاريخ يعيد نفسه، فيخرج ابن النبي من مكة لتجديد عهد الإسلام، ورفع المظالم عن المسلمين.

هذه آمال تجول في الصدر، ولكن لتحقيق هذه الرغبات مصاعب تحول دونها؛ منها ما هو داخلي؛ ففي الجزيرة أمراء وأسياد لا يرضى الواحد منهم بالآخر سيدًا، وكلٌّ يضمر للآخر السوء، فكيف تتحد البلاد ومقاليدها في يد هؤلاء، والعرب أطوع لزعمائهم من البنان، ولكل زعيم قوة من الخارج تؤيده لتربح بواسطته نصيبها من التوسع في بلاد الدولة الواسعة الأطراف المضعضعة القوى، وأكثر هؤلاء الزعماء يعيشون بالمال الأجنبي، ويبقون على سلطانهم بهذا المال، فكيف يكونون مستقلين، وهم عبيد المال أعداء الحرية التامة والاستقلال؛ لأن الحرية تنير عقول الأنصار، فينفضُّون عن مثل هؤلاء الزعماء، ويصبحون بلا حول ولا طول، اللهم ارفع عنا الحيف، وهب العرب زعيمًا كريمًا واسع الصدر، وأيده بقوة من عندك حتى يتغلب على نفسه، فلا يكون عبدًا للشهوات، وليتغلب على ما يقف في سبيل بلاده من العقبات، فيتمكن بواسع حيلته من استمالة القلوب والأعوان وبعدله ونزاهته من تعمير البلدان وتقريب القلوب.»

وبينما الشيخان يتكلمان بمثل هذا الكلام جاءهما صديق يخبرهما بوفاة أحد الكبراء في قرية مجاورة، فسار كلٌّ في سبيله يستعد للذهاب إلى القرية المجاورة لقضاء واجب العزاء.

ذهب الشيخ صالح ويوسف الهلالي وجمهور كبير من أهل القرية لحضور المأتم الذي أقيم في قرية مجاورة لكبير من أهل تلك القرية؛ حيث ضم المأتم ألوف الخلائق من أهل القضاء، وبينما الناس مجتمعون في ذلك المأتم إذا بطيارة تحوم فوق الرءوس، فخاف القوم شرَّها، وظنوا أنها ستصب عليهم نارًا حامية، وإذا بهم يرون أوراقًا متناثرة تسقط من الطيارة فوق الرءوس، فرآها البعض والتقطوا بعضها وتلوا ما فيها، فإذا بها تخبر القوم باحتلال جنود الحلفاء للقدس الشريف، وتبشرهم بأن قوات الحلفاء بمساعدة حلفائهم العرب ستدخل البلاد فاتحة عما قريب، وتطمئن الخواطر، وتدعو الناس إلى الإخلاد إلى السكينة، فقرأ كلُّ مَن يعرف القراءة من الحاضرين هذه الأوراق ومزقوها تمزيقًا؛ لأنهم خافوا من سوء المغبة بعد ذلك، وكانوا محقين في تخوفهم؛ لأنهم أبصروا بعد قليل نفرًا من الجنود ومعهم ضابط استخبارات جاءوا إلى حيث كان المأتم، وأخذوا يستقصون أخبار الطيارة وما رمت من الأوراق، وفتشوا البيوت والجيوب، وأخذوا في التحقيق، ومع أنَّ جميع الحاضرين أفهموهم أنَّ الطيارة جاءت من نفسها، وأنهم لعنوا مَن فيها؛ لأنهم رموا بأوراق شريرة لإفساد أفكارهم بما فيها من الأكاذيب، فإنهم لم يصدقوا، واقتادوا لرياق عددًا من الوجهاء عوملوا معاملة المجرمين، وأُبقوا تحت الحفظ أيامًا دون أنْ يعرفوا سببًا لهذه المعاملة، والناس يتوسطون دون فائدة، حتى إذا كان ذات يوم وأحد المشايخ الذين أوقفوا يقول: ماذا جرى بنا؟! أنبقى في هذا الأسر ولا نعلم لنا ذنبًا؟! أطل عليه السجان، وكان من أهل تلك الناحية، وقد ساءه معاملة أبناء مركزه بمثل هذه القسوة والفظاظة، فقال: «طب نفسًا فالفرج قريب»؛ لأن الجيش على وشك الرحيل، وسأفرج عنكم حالما أصبح حرًّا من القيود، قال: وما تعني بالقيود؟ قال: الجيش يستعد للرحيل سرًّا والعرب والإنكليز أصبحوا على قاب قوسين منا، وربما أطلقت سبيلكم في الليلة المقبلة، وسرت معكم إذا رأيت من محذور يصيبني، فاستعدوا للفرار، والآن ادخلوا إلى حيث أنتم مخفورين، ولا تُظهروا قلقًا، ولا تخشوا محذورًا، فاجتمع السجناء السياسيون في غرفهم، وأخبروا بعضهم البعض بما كان، وأصبحوا ينتظرون الفرج، ويدعون لله أنْ يعجِّل دخول العرب البلاد بعد أنْ ذاقوا الأمرين في أيام الحرب السوداء.

هكذا مهدت السياسة للخلفاء سبيل الدخول إلى سوريا برضى أهلها، فالمسلمون ناقمون لما أصابهم من الظلم والخسائر المادية، ولفقدان زهرة الشباب في حروب لا خير فيها لأحد، والمسيحيون ناقمون لما ذاقوا من الظلم والاستبداد والخوف على الأرواح والأموال.

دخل الحلفاء سوريا فاتحين، فقابلهم الأهالي حيث حلوا بالترحيب، وكان أكثرهم سرورًا بذلك هيفاء؛ لأنها كانت تنقم على الأتراك لما أصاب والدها في دمشق، مما زاد في حزنه على وحيده وعجَّل منيته، فقضى مبكيًا عليه من كل مَن عرف أخلاقه الطيبة؛ ولأن الحرب جرَّت عليهم النوائب، وقضت على شقيقها العزيز ووالدتها المحبوبة وحرمتها من أخبار سليم، فكان أول ما فعلته حين دخل الحلفاء بيروت — حيث كانت في ذلك الحين — أنْ كتبت إلى سليم كتابًا رقيقًا هذا مؤداه:

لا أدري ماذا أكتب الآن، ولم يعد لي في هذه البلاد من أحد ألوذ به وأعتمد عليه، فقد قضت الحرب على شقيقي العزيز، فقضى شهيد الواجب، رحمه الله. وكان مصابنا الفادح علة اعتلال صحة أبي الذي قضى إلى رحمة الله حزنًا وأسًى على محمد، ولم تمهل المنية والدتي إلا مدة قصيرة بعد ذلك، فترى كيف نزلت بنا النوازل، وكانت والدتك لي كأمٍّ حنون، فشاء الله أنْ يحرمني إياها وعمَّ المصاب، ولولا بقية أمل بلقياك لكنت الآن في عداد من ذكرت، رحمة الله عليهم أجمعين.

ولقد شاهدت سعدى ابنة عمك منذ أيام، فعلمت منها أنك تسأل عني، فعلمت أنْ لي في العالم الجديد سندًا يعوض عليَّ ما خسرته في الوطن العزيز.

وإن ما نزل بي من الكوارث أثَّر على صحتي فاعتلت قليلًا، ولكن تغيير الهواء أيامًا وما علمته عنك قد جدَّد همتي وحَسَّن صحتي، وأرجو أنْ أراك قريبًا في نيويورك؛ لأنني ذاهبة لحضور مؤتمر للتعليم، وربما أبقى هنالك إذا ساعدني الحظ، وتوفقت إلى دخول مدرسة في تلك الديار، فأستودعك الله إلى اللقاء في نيويورك في آخر الشهر القادم.

تلا سليم هذا الكتاب مرارًا، ورأى أنَّ هيفاء حافظت في كتابها كل المحافظة على ألَّا تذكر شيئًا عن حبِّها له، فعلم أنها لم تختر في تلك الفرصة التي أنبأته فيها بوفاة والديها وشقيقها ووفاة والدته وتعزيته أنْ تطيل الكلام عن الشوق والغرام، ولكنه علم من كتابها أنها باقية على العهد لم تفتكر بسواه، وهذا ما كان يرجو أنْ يعلمه من أمرها، فأصبح يعد الأيام والساعات للقاء.

اللقاء

علم سليم بميعاد وصول الباخرة التي تقل هيفاء، فكان أول مَن ذهب إلى الميناء غير مصدق أنَّ هيفاء ستصل إلى نيويورك قريبًا، وكاد قلبه يطير شعاعًا حين سمع صفير الباخرة، ورأى المسافرين ينزلون إلى البر، وكان قد بذل جهده مع موظفي قلم المهاجرين لتسهيل نزول أعضاء المؤتمر من السوريين. وبينما هو يتأمل وجوه المسافرين رأى سيدة جميلة، ظنَّها أول الأمر أوروبية تدنو منه، وتنظر إليه فحول ذلك بصره نحوها، فعرف هيفاء واقترب منها، وبغتت هي؛ إذ رأت سليمًا، ولم تكن تنتظره في ذلك المكان، فتصافح الصديقان وضغط على يدها، ثم خرج من دائرة الجمرك إلى حيث تنتظرهما سيارة سليم فركباها، وسار سليم بهيفاء إلى حيث أُعد لأعضاء المؤتمر مكان خاص به، وما كان أعظم سرورهما بالاجتماع.

أوصل سليم هيفاء إلى حيث كانت تقصد، وقال: سأتركك الآن ريثما تستريحين من تعب السفر وتغيرين ملابسك، وسأعود إليك مساء حينما تكونين قد انتهيت من العمل، فآخذك في سيارتي لمشاهدة هذه البلدة العظيمة.

فشكرته ومضى وهي تفكر في كيف مهد الدهر لها سبيل الاجتماع بسليم بعد هذا الفراق الطويل، وكيف أنَّ حوادث السنوات الماضية مع ما فيها من نكبات حلت بها انتهت إلى هذا اللقاء السعيد، فشكرت الله الذي بدَّد أحزانها، وأحيى في قلبها الرجاء بعد اليأس، ومهَّد لها سبيل اللقاء بمن يحبه قلبها، ويحبها بكل ما في قلبه من حرارة ووداد. واستراحت قبل اجتماع المؤتمر أيامًا شاهدت في خلالها سليمًا مرارًا، فجدَّدا ما بينهما من مودة، ووجد كلٌّ منهما في الآخر ما كان يرجو أنْ يجده فيه من حبٍّ وإخلاص وأنفة وأدب وعلو نفس وحسن تربية، وغير ذلك مما يقرب بين القلوب.

ولما حان ميعاد عقد المؤتمر الذي جاءت سعدى لأجله استعدت لإلقاء محاضرة عما كلِّفت بدرسه، وعرضت ما كتبته على سليم، فسُر جدًّا بآرائها، وشجعها على إلقاء محاضرتها الإنكليزية بصوت جهوري دون أنْ تأخذها روعة أو تخشى كثرة المجتمعين.

علم سليم من هيفاء كل ما جرى لها ولأهلها، وكيف نُكبت بأخيها ووالديها، وكيف كان الشيخ صالح في كل تلك الأدوار عنوان الصداقة والإخاء وأكبر معزٍّ لوالديها حتى حمَّ القضاء، وأنها لم تعد تقدر أنْ تذهب إلى قريتها بعد كل ما أصابها، وقد زارها الشيخ صالح قبل سفرها، وكلفها إهداء سليم سلامه القلبي، فقال سليم: لا أنسى الشيخ صالح ما دمت في قيد الحياة، فهو الذي كان سبب إنقاذك من ذلك الفاجر الشرير، وأكبر مساعد على إرسالك للمدرسة، فنعم الرجل هو.

وعُقدت الجلسة الأولى للمؤتمر، فكانت حفلة افتتاحية فقط، اقتصرت على توزيع البروغرامات للاجتماعات العديدة في الأيام التالية، ثم انصرف الأعضاء كلٌّ في سبيله، فمضت هيفاء إلى غرفتها، وأعدت نفسها لمقابلة سليم، وذهبت إلى قاعة الاستقبال تنتظر قدومه بشوق ولهفة.

وكان هنالك «بيانو»، فجلست تضرب نغمًا شجيًّا؛ إذ تذكرت مصائبها التي تنوء تحتها الجبال، فدخل سليم دون أن تشعر به، ووقف يستمع منصتًا، ثم عادت فضربت لحنًا عربيًّا مطربًا، فرقص فؤاده ودنا منها حتى كاد يلمس جسمها، ثم أحست بأن هنالك شخصًا بجانبها، فأدارت وجهها إلى الوراء مجفلة فأبصرت سليم، وكم كان سروره عظيمًا لسماع تلك الألحان من هيفاء، ورأى الفرق العظيم الذي تفعله المدرسة في النفوس، فطلب إليها أنْ تستمر في عملها هذا، ثم وقف وراءها يسمع والطرب ملء الفؤاد، وغنَّى معها قسمًا من تلك الأنشودة المطربة، ثم جلس وتركها تعزف على البيانو، وكتب على ورقة صغيرة هذه الأبيات:

اضربْ على أوتارِ قلبي والعَب
باللب لعبكَ بالبيانو المُطرِبِ
وأَعِدْ أناشيدَ الغرامِ فإنها
خَطراتُ فِكرٍ بالهيام مؤدَّبِ
فالشعرُ لولا وَحْيُ حسنكِ لم يَطِبْ
وكذا الغِنا لولا الهوى لم يعذُبِ
يا مَن جمالُك قبلتي ومحجَتي
وإلى محيَّاك الجميلِ تقرُبي
أدنو إليكِ وقد عَرَتني هزَةٌ
والقلبُ يخفق من جَوًى وتهيبِ
حتى إذا ثملَ الفؤادُ وساقني
داعٍ إلى ريا عبيرِك غرَّ بي
جردت لَحظًا كالحسامِ بِحدِّهِ
وطعَنت عَمدًا صَدرَ مَن لم يُذْنبِ
فأعودُ حيرانًا وقلبي داخلي
عاصٍ عليَّ بجُندِهِ المتألِّبِ
فالشوقُ يدفعني إليكِ وصبوتي
واللحظُ يمنعُني وفرطُ تأدُبي
يهتاجُ قلبي الشوقُ لكن الإبا
ءَ يصون نفسي عن وعورةِ مَطلَبي
فأروحُ أنشدُ معك أنغامَ الهوى
مُتهللًا بالروح قُرب معذِّبي
أتلو كما شاءَ الغرامُ قصائدًا
تروي حديثَ القلبِ فاسمعْ واطربِ
ودَعِ الصدودَ فقد كَفَى ماضي الجَفا
وارفقْ بمضناك المحب المعجب

وترك هذه الورقة على المكتب تحت محفظة هيفاء، وسار مودِّعًا بعد أن اتفقا على الذهاب في اليوم التالي إلى حدائق نيويورك العمومية، فلما سار سليم أخذت هيفاء محفظتها، وإذا بها ترى تلك الورقة فتلتها مرارًا وقبلتها تكرارًا، وأصبحت تعد الساعات للاجتماع بسليم.

وفي الميعاد المضروب أقبل سليم والبشر يطفح من محياه، فتصافحا وخرجا إلى حيث كانت سيارته بالانتظار، فاستقلاها وسارا بين الشوارع العظيمة التي كانت تبدو كأنها أودية صغيرة مسطحة بين جبال مرصوصة عن الجانبين، ثم خرجا من تلك المنطقة إلى ضواحي البلدة، فانتهيا إلى حديقة غناء حيث نزلا من السيارة، ودخلا إلى الحديقة يسيران الهوينا، ولا يصدق الواحد منهما أنْ من يمشي بجانبه هو الشخص الذي طالما تمنى أنْ يراه على هذا الحال.

فبدأ سليم الحديث، وقال: كيف رأيت هذه البلاد العظيمة؟ قالت: أرى كل شيء فيها جديدًا، فعسى ألَّا تكون تغيرت فيها، قال: إنَّ ما هو مألوف عندنا من بقاء القديم على قدمه غير مألوف هنا، بل ترين كل شيء متحولًا متحركًا متجددًا والبلاد سائرة بخطًى واسعة إلى الأمام، ولكن القلوب لا تتغير والحب لا يتبدل والأفكار لا تتحول إذا رسخت على قاعدة الحب، بل يزيد اجتماع المحبين توقدها، فما أحلى هذا الاجتماع، والآن قد أصبحنا أحرارًا في هذا العالم الجديد، فهل تودين البقاء هنا فتشبعين نفسك المتعطشة إلى العلم، وتشبعين نفسًا أخرى متعطشة إلى لقياك، وهو اللقاء الذي قال فيه الشاعر العصري:

فلقاء يكون منه دواء

قالت: أراك الآن تميل إلى الشعر، فهل زالت القيود التي كانت تحول دونك ودون النظم أيام كنت في العمروسة؟ قال: تلك أيام مضت كان يحول فيها بيني وبين النظم ما تحظره علينا العادات والتقاليد، أما الآن فنحن في العالم الجديد حيث الناس إخوة مهما اختلفت نزعاتهم وعقائدهم، وليس ما يقف في سبيل اتحادنا بعد الآن إلا إرادتنا، فهل تودين أن تسمعي من الشعر ما طالما تمنيت أنْ أسمعك إياه قبلًا ولم تسمح بذلك الأيام؟

قالت: قل ما بدا لك، فإنه لا أحلى وقعًا في أذني من كلامك، فنظر إليها نظرة أحرقت فؤادها، وقال: ليس كلقاء المحبين بعد الفراق، ولا أرقَّ من حديث الغرام لمن برَّحت به الأشواق وحرَّكت فؤاده العيون.

لم أستطع أنْ أنظم لك في العمروسة شيئًا لأسباب تعلمينها الآن، وأما في هذا اليوم البهيج فقد انطلقت القريحة من عقالها، فانظري حولك إلى هذه الأشجار الباسقة والأزهار الزاهية والخضرة النضرة والمياه المتدفقة الصافية، فكأنها أُعدت لهذا اللقاء السعيد.

تتمايل الغصون بأزهارها كما تتمايلين، ولكن أنى لها من معاني الحياة وجمال التكوين ما لهذا الجمال الساحر الفتان، وهاك الطيور تغرِّد، ولكن أين نغماتها من صوتك العذب الرنان الذي يضرب على أوتار القلب فيحرك الشجون.

يذكرني ذلك يوم خلونا معًا في كروم لبنان نتدانى بين الأغصان ونتهادى عناقيد العنب، ونحن لاهون ثملون بما تقر به العيون.

بل ما أحسن ذكرى ذلك اليوم الذي وقفنا فيه أمام الشلال وهو يقذف بلآلئه الدرية من شاهق، ثم تجتمع تلك اللآلئ الحسان، وتسير كأنها مجارٍ من البلور المذاب، فتمر بين مخضل العشب الأخضر، وأزاهر الرياض الناضرة، وأغصان الصفصاف المتدلية التي كانت تظللنا عن أعين الرقباء حينما كان قلبانا كأنهما ساعتان دقاقتان تخفقان معًا من شدَّة الطرب والسرور، وأنا أتبعك محاولًا الوصول إليك ونظراتك الحادة تفصل بيننا، ومهابة جمالك تلقي حولك درعًا منيعًا يقي هذه المحاسن الغراء، فبورك في جمالك ما أبهاه، وبورك في طهرك ما أسماه، وبورك في يومٍ تلاقينا فيه فكان أفضل أيام الحياة.

هاك قلبي المضطرم أطرحه أمامك على مذبح الحب الطاهر، وهاك قريحتي التي أضرمت فيها نار الذكاء أقدمها لك عربون المحبة والولاء، وهاك لساني الذي علَّمه جمالك الفصاحة والبيان، لا ينطق إلا بما توحين ولا يستعذب إلا ذكر اسمك المحبوب الذي هو أحلى ما ينطق به بين الأسماء.

فهل ترغبين في أنْ يكون هذا اللقاء فاتحة الاتحاد والسعادة؟ وهل تسمحين لي أنْ أنظم في جيدك عقدًا من الآلئ الحسان يحلو منظره في هذا الجيد الناعم الفتان، وتسمحين لي أنْ أضع في يدك هذا الخاتم الذهبي الذي أعددته ليكون أفضل علامة للمحبَّة والإخلاص؟

ثم وقف وأخرج من جيبه عقدًا جميلًا فطوَّق به عنقها، وخاتمًا عليه اسمه وضعه في يدها، وقال: لك الحرية أنْ يكون القران مدنيًّا أم دينيًّا، إنما أرجو أنْ تَقْبَلي هذه الهدية، فتجعلين هذا العاجز أسعد الناس.

فتأثرت هيفاء حتى كادت تسقط عن المقعد الذي جلست عليه، ثم نظرت إلى سليم، وكأن الحب قد تمثل في صورتها البشرية، ثم قالت: آه! ما أحلى كلماتك العذبة! فقد آسيت بها قلبي المكلوم، وجعلتني أشعر بدبيب الحياة الجديدة في صدري، فما أقوى سلطان الحب على القلوب، وما أفعل الشعر في النفس إذا كان صادرًا من شاعر يتكلم بقلبه لا بلسانه، أنا أحب نفسك؛ لأنها جميلة وأقوالك لأنها عذبة ومعانيك الحسان لأنها تفتن فؤادي، وتهيج بي عاطفة الاستحسان فالشكران، فالميل إليك دون سواك من عباد الجمال.

أنت تعشق بقلبك وعقلك ونفسك، وأما أولئك فيعشقون بنفوس ملؤها الشهوات، وكم رأيت من الرجال مَن يتظاهرون بالحب، ويتقربون إليَّ وهم مملوءون رجاسة وخبثًا، هم يحاولون أنْ يشتروا قلوب العذارى، وأما أنت فتأسر القلوب بالمعروف، وترفع قدر العفاف، وتحيي الذكر الخامل، فيبقى حبك خالدًا لا يموت.

فقد أحببتك من أول نظرة، ولكني لم أكن أرجو أنْ يتم لنا هذا الهناء، ونجتمع بعد طول الفراق، حيث لا يمنع اتحادنا شيء، فهل قُدِّر لنا أنْ نجتمع فلا نفترق فيما بعد؟ أم إنَّ هنالك ما يكدر هذا الصفاء والهناء؟ ولقد سرني منك أنك لم تنسَ لغتك ووطنك وأصحابك القدماء، وأنا لم يبقَ لي في الوطن إلا الشيخ صالح أنظر إليه كأنه والدي الحبيب، وأنت لي بعده كل شيء، وإنني منذ عرفتك، وأنا أنظر إليك كأخ حبيب، بل أكثر من الأخ.

فضمها إلى صدره، وقال: «بل أنت لي كل شيء في الدنيا.» وافترقا ذلك المساء على ألَّا يفترقا فيما بعد، بل يكونان روحًا واحدة في جسمين يعيشان الواحد للآخر، وكلاهما لله وللوطن، فعاش ذلك الحب خالدًا في طيات القلبين، وخلَّده سليم وهيفاء بأول عمل عملاه بعد أنْ وطَّدا النفس على الإقامة في العالم الجديد بأن أرسل سليم إلى الشيخ صالح صديقه القديم كتابًا رقيقًا، هذا مؤدَّاه:

تحية واحترامًا وبعد، فقد وصلت إلى نيويورك هيفاء كريمة المرحوم يوسف الهلالي تحمل لي منك سلامًا، هو عندي سلام الوالد إلى ابنه البعيد عنه المتشوق إلى لقياه، وكم كانت تطيب لي أنباؤكم لو كان آل الهلالي كما كانوا حين عرفتهم سعداء يبسم لهم الدهر، فشاء الله أنْ يشتِّت شمل هذه العائلة الكريمة التي يحتاج الوطن إلى مثلها كثيرًا، فقد كان أفرادها عنوان المروءة، والنخوة، والضيافة، والصدق، والولاء، وهذه أهم ما تحتاجه البلاد من الأخلاق، مع ما كانوا متصفين به من الاجتهاد في الأعمال والاستفادة من خبرة ذوي الاختبار، فقد كانت زراعتهم أفضل زراعة، وحاصلاتهم أفضل الحاصلات، وبيتهم أكرم البيوت.

وشاء الله أنْ أتقدم هيفاء إلى هذه الديار لأسهل مهمتها، كما شاء أنْ يعيد صداقة البيتين وعلاقة العائلتين بما هو خير حافظ لذكرى الود القديم، والصداقة التي دامت جيلًا كاملًا؛ فقد كان آل الهلالي أحب الناس إلى والدي، وكان هو أحب الناس إليهم، فلما شاهدت هيفاء تذكرت تلك الصداقة القديمة ورأيت بها من علو الكعب في الأدب وكرم الطباع وسمو المدارك، ما جعلني أشعر أنها أفضل مَن أعرف من النساء اللواتي أتين من الوطن العزيز إلى هذه الديار، وتأدبن بآداب الغرب، وحافظن على تقاليد الشرق، واكتسبن من العلم درجة عالية، ومن الأخلاق ما ليس بعده من مستزيد، فكان هذا مما زادنا تقربًا، وتعاهدنا على أنْ يكون الواحد منَّا للآخر.

ولقد ترددت في بادئ الأمر عن أنْ أفاتحها بالحب أو أنظر إليها إلَّا نظرة الأخ إلى أخته؛ لما بيننا من الفروق الدينية التي توجب في الوطن الابتعاد عن بعضنا البعض، ولكننا في العالم الجديد غير ما نحن عليه في الوطن، فالناس هنا إخوان لا فضل لمسلم على مسيحي أو لمسيحي على مسلم، إلَّا بأخلاقه ومنفعته لأمته وشعبه وللعالم.

نحن ننظر الواحد إلى الآخر نظرة الأخ إلى أخيه، وطالما فكرت في أنَّ مبادئ القوم هي مبادئ الشيخ صالح الراقية، فكما سمعتك تقول: إنَّ الناس إخوان، وإنَّ أفضلهم عند الله أقربهم إلى عياله وأكثرهم إحسانًا، وإنَّ الدين المعاملة، وعاملوا الناس كما تريدون أنْ يعاملكم الناس، وما أشبه ذلك من التعاليم العالية التي غُرست في نفسي، فلا أرى فرقًا بين أبناء طائفة وأخرى. وإنني أشعر بأن مَن تخلق بأخلاقي وتهذَّب مثل تهذيبي، وكانت مبادئه قريبة من مبادئي أقرب إليَّ من أهلي الأقربين إذا لم يكونوا كذلك.

والحق يقال: إنَّ هيفاء أقرب الناس إليَّ ذوقًا وأخلاقًا وتهذيبًا، واعتقادًا بالمبادئ الإنسانية السامية، فنحن نكاد نرى الأمور بمنظار واحد، ولقد حُرمت من أهلي وحُرمت هي من أهلها، وكلانا ينظر إليك كأبٍ ثانٍ، ونرجو أنْ تبارك هذا القران وترضى عن هذا الاتحاد الذي نرجو أنْ يكون سببًا لسعادة الاثنين، وخير ما نستطيع أنْ نفعله الآن؛ دليلًا على حبنا لأهل العمروسة وإخلاصنا لك، هو أنْ أرسل من هيفاء تنازلًا عن كل ما يخصها من تركة والدها؛ لأنها مع شدة حبها لأهل بلدتها لا تستطيع أنْ تعود إلى هنالك وتقيم في بلدتها؛ لما فيها من التذكارات المؤلمة لها؛ ولذا أحبت أنْ تترك ما لها لأبناء قريتها، وأنا أزيد على ذلك حوالة مالية من عندي لتوزعوا قسمًا من المال على المعوزين، وتنشئوا مدرسة في العمروسة تحت إشرافكم تعلِّم حب الوطن والاتحاد بين الأفراد وطوائف البلاد، وتكون مثالًا للمدارس التي تخدم الله والوطن.

انتهى المؤتمر الذي جاءت هيفاء لحضوره، وكان لهيفاء نصيب كبير في نجاحه، وقبل انفراط عقد المدعوين وصل إليهم دعوة لحضور حفلة إكليل سليم على هيفاء، فبُوغت الجميع بهذا الخبر الفجائي، ولما حان الموعد المضروب حضر جمهور كبير من السوريين المقيمين في نيويورك وأصدقاء سليم وهيفاء من الأمريكيين، وتجلت في تلك الحفلة الوطنية الصحيحة والإخلاص بما كان يبدو على العروسين من الهناء، وودَّ كل مَن حضر لو أنَّ هذه الروح التي ظهرت بأتمها في نيويورك تتمشى في سوريا، فيشعر الجميع أنهم أبناء وطن واحد وشعب واحد ولغة واحدة، وأنَّ الله والوطن للجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤