مقدمة

بقلم الأستاذ الجليل الدكتور عبد الوهاب عزام

١

حرَّم الإسلام تصوير ذوات الروح قضاء على الوثنية في كل مظاهرها، فلم يُعن المسلمون بتصوير الإنسان والحيوان، ووجهوا عنايتهم، حينما ازدهرت حضارتهم، إلى النقش والخط وتصوير النبات والجماد، فأتوا في ذلك بآيات من الجمال.

على أن المسلمين ترخصوا على مر الزمان في تصوير ذوات الروح وتجسيدها، ولا سيما في العصور المتأخرة، القرن السابع الهجري فما بعده.

ففي قصر عمرا الذي كشفت بقاياه في بادية الشام، ويظن أن بانيه أحد الأمراء الأمويين، صور كثيرة حيوانية ونباتية، فلم يقتصر الأمويون على صور النبات والجماد، التي نرى مثالها الجميل في الفسيفساء التي لا تزال تزين جدران جامع بني أمية بدمشق.

وقد رُوي أن المنصور العباسي حينما بنى بغداد أمر أن يوضع على إحدى قبابها صورة فارس تحركها الريح. وكذلك كشفت آثار سامرَّا وآثار الفاطميين في مصر عن صور حيوانية كثيرة، ولا تزال آثار الأندلس شاهدة بمثل هذا.

وكانت الكتب الإسلامية من أجمل المظاهر للفنون الجميلة في الخط والنقش والتذهيب والتلوين، وكانت صفحاتها أوسع مجال للصور الروحية التي نفر منها المسلمون دهرًا.

ففي القرن السابع الهجري أولع الناس في العراق بالتصوير في الكتب لتمثيل بعض قصصها، ومن أنبه الكتب في هذا مقامات الحريري؛ فقد أغرم المصورون بتمثيل نوادر أبي زيد السروجي، فمثلوا كثيرًا من أزياء ذلك العهد وعاداته، وفي المكتبة الأهلية بباريس نسخة من المقامات فيها زهاء مائة صورة صوِّرت في منتصف القرن السابع الهجري.

وكان في مصر والشام لهذا العهد اهتمام لتصوير الكتب كذلك.

ثم تجلى هذا الفن في البلاد الفارسية، ولم يقف المصورون هناك عند حد فصوروا حتى الأنبياء والصحابة. وقد كان للفن هناك أطوار متداولة بتأثير الفن الصيني، وبترقيه على مر الزمان، وقد تولى رعايته الملوك الذين امتد سلطانهم على البلاد الفارسية: الإيلخانيون والتيموريون فالصفويون. ولا تزال آثار تلك العهود ناطقة باهتمام القوم وتنافسهم في تزيين الكتب والقصور بالصور.

وكانت سمرقند وهراة في عهد تيمور وشاهرخ وبَيْسُنْقُر وحسين بَيْقَرا ووزيره مير علي شير مجمع الكاتبين والمصورين. وختم هذا العصر بالمصور الذائع الصيت بهزاد.

وفي عهد الصفويين ازدهر التصوير ازدهارًا؛ إذ عني به السلاطين عناية كبيرة، ولا سيما الشاه طهماسب (٩٣٠–٩٨٤) والشاه عباس الكبير (٩٨٥–١٠٣٨).

وفي عهد عباس ازدانت قصور أصفهان بآيات من النقش والتصوير رأيت بقاياها في قصر چهل ستون (الأربعين عمودًا) وغيره من قصور أصفهان. وفي ذلك العهد ظهرت بجانب الصور الفارسية صور يظهر فيها الفن الأوروبي. وفي قصر چهل ستون صور تمثل سفراء أوروبا إلى الشاه عباس، وتمثل مواقع حربية تذكر رائيها بصور قصر فرساي في فرنسا.

ويمثل هذا العصر المصور النابه رضا عباسي.

وكان للتصوير من بعد أطوار أدَّت به نحو الذبول.

ثم إلى جانب التصوير الفارسي التصوير الإسلامي في الهند وغيرها، وكل ذلكم جدير بدرس واسع.

٢

وقد عُني الأوروبيون كثيرًا بدراسة التصوير الإسلامي والعمارة الإسلامية، فجمعوا الكتب المصورة والصور المفردة ورتبوها على التاريخ ووصفوها. وجعلوا للفن الإسلامي تاريخًا واضحًا حتى كتب الأستاذ أرنولد وزميل له كتابًا في فن الكتب خاصة سموه «الكتاب الإسلامي».

٣

واهتم المسلمون في هذه السنين بدرس الفنون الإسلامية اقتداء بالأوروبيين. وكان من آثار هذا الاهتمام أن أرسلت وزارة المعارف المصرية طالبًا لدرس الفنون الإسلامية، وهو شاب نجيب تخرج في كلية الآداب ومدرسة المعلمين العليا. أرسل إلى باريس فدرس مجدًّا حتى نال درجة الدكتوراه، وأكمل درسه في متاحف ألمانيا وغيرها، ثم عاد إلى مصر موفقًا يُعنى بأن يمد اللغة العربية بما تحتاجه من كتب الفن الإسلامي، وذلكم هو تلميذنا ثم زميلنا الدكتور زكي محمد حسن.

٤

وقد كتب عن «الفن الإسلامي في مصر» كتابًا ظهر منه الجزء الأول، ثم وضع الكتاب الذي نقدمه إلى القراء بهذه الكلمة — كتاب «التصوير في الإسلام عند الفرس».

وإنا لنرجو في همة الدكتور زكي محمد حسن ونبوغه رجاء كبيرًا، آملين أن يبذل جهده في إمتاع قراء العربية بين الحين والحين ببحث في هذا الموضوع الطريف.

والله ييسر له كل خير، ويقدر له النجاح في كل عمل.

بغداد ٢٨ شوال سنة ١٣٥٤ / ٢٣ يناير سنة ١٩٣٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤