مقدمة تاريخية

تمتد هضبة إيران من وادي دجلة والفرات غربًا إلى وادي نهر السند شرقًا، ومن خليج فارس وبحر العرب جنوبًا إلى بحر قزوين ونهر جيحون شمالًا، فهي بذلك تشمل بلاد إيران الحالية وأفغانستان وبلوخستان وجنوب التركستان الروسية.

ولأن الأسرتين الكيانية (الأكَمينية) والساسانية، أعظم الأسر الملكية التي حكمت البلاد، نشأتا في إقليم فارس بالجنوب الغربي من إيران غلب اسم هذا الإقليم على بلاد إيران كلها، وأصبحت تعرف به عند اليونان والرومان والعرب والأوروبيين.

ولفظ إيران مشتق من لفظ آري، فإيران بلاد الإيرانيين الذين هم قسم من الآريين نزحوا إلى وطنهم الجديد من أواسط آسيا.

ولا ريب في أن حضارة الشعوب التي كانت تسكن إيران قديمة جدًّا؛ فقد وجد السر أوريل شتاين، والأستاذ هرتزفلد، قطعًا من خزف رقيق متقن الصنع تزينه أشرطة جميلة من الخطوط والأشكال الهندسية، وعلماء الآثار مختلفون في تعيين العهد الذي صنع فيه هذا الخزف، ولعل أرجح الآراء أنه صنع في الألف الرابع أو الثالث قبل الميلاد.

وقد عثر المنقبون أيضًا على نوع آخر من الخزف كشفوا أكثره في إقليم نهاوند، وليس لهذا الخزف رقة النوع السابق أو حسن صناعته، ويرجعه كثير من العلماء إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.

وكان معرض الفن الفارسي في لندن عام ١٩٣١ سببًا في شهرة ما اكتشف في لورستان من أوعية وأسلحة وأدوات زينة وغيرها من البرنز، اختلف العلماء كثيرًا في تاريخها، ولكن أكثرهم يرجعونها إلى نحو ١٠٠٠ سنة قبل الميلاد.

على أن تاريخ إيران قبل قيام قورش Cyrus خرافي غامض؛ ولكنا نعلم أنه في القرن السادس قبل الميلاد كان القسم الغربي من إيران يسكنه شعبان من الجنس الآري، الميديون في الشمال، والفرس في الجنوب.

أما الميديون فكانوا قد نزحوا إلى هذه البلاد قبل ذلك بعصور طويلة، وكان اختلاطهم بالآشوريين والبابليين من سكان الجزيرة والعراق عاملًا كبيرًا في رقيهم، فتعلموا الكتابة وبلغوا من الحضارة مبلغًا كبيرًا مكنهم من إخضاع الفرس وإلزامهم دفع الجزية.

وكان الفرس أحدث عهدًا بسكنى إيران، ولكن ضعفهم لم يدم طويلًا؛ إذ تمكن قورش السالف الذكر من توحيد كلمتهم، ثم غزا شمال إيران فهزم الميديين واستولى على عاصمتهم اكبطانه (همذان الحالية)، ووحد ملك البلاد سنة ٥٥٠ قبل الميلاد وأسس الدولة الكيانية.

الدولة الكيانية (٥٥٩–٣٣١ قبل الميلاد)

مدَّ قورش سلطانه شرقًا حتى نهر السند، ثم ضم إلى بلاده آسيا الصغرى بعد أن هزم الليديين وأسر ملكهم كروسس، وانتصر بعد ذلك على الكلدانيين فاستولى على بابل سنة ٥٣٩ق.م، وسار خلفاؤه على سنته؛ ففتح ابنه قمبيز مصر سنة ٥٣٥ق.م، والتقى الفرس والإغريق بعد هذه الفتوح، فكان بينهما الكفاح المعروف، وتكررت حملات الفرس على بلاد الإغريق وما بقي لها من المستعمرات (٥٠٠–٤٧٩ق.م)، وظلت دولة الكيانيين قائمة إلى أن ظهر الإسكندر المقدوني وقضى على ملكهم (٣٣٤–٣٣١ق.م).

وكان الآريون في العصور القديمة يعبدون مظاهر الطبيعة ويعتقدون بوجود نزاع بين قواها المختلفة، إلى أن ظهر زردشت في الألف الأول قبل الميلاد؛ فوحد قوى الخير في معبود واحد سماه أهورامزدا، كما جعل من الأرواح الشريرة وحدة هي أهريمان. والقوتان في نزاع دائم: خلق أهورامزدا كل ما هو خير ونافع، وخلق أهريمان كل ما هو شر وضار، وواجب الإنسان أن ينصر روح الخير، وأن يخذل روح الشر، وأن يعتقد باليوم الآخر. وأيَّد زردشت في تعاليمه تقديس الآريين للنار واتخذها رمزًا للخير والنور، وكان إيقاد النار على موقد في العراء أهم مظاهر ديانته.

الإسكندر وخلفاؤه (٣٣٠–٢٤٨ق.م)

مزق الإسكندر ملك الفرس ومهد انتصاره الطريق لنشر الحضارة الإغريقية في الشرق الأدنى وشمالي الهند، وكان أكبر ما يطمح إليه أن يوحد الشرق والغرب ويجعل منهما إمبراطورية عالمية تحت سلطانه؛ فتزوج ببنت دارا الثالث، وتبعه قواده فتزوج كثير منهم بفارسيات.

ولكن المنية عاجلته، وانقسم ملكه من بعده أقسامًا تولى الأمر فيها قواده، ولم يصب أحدهم سلويقوس Seleucus شيئًا يذكر، ولم يلبث النزاع أن دب بين خلفاء الإسكندر، فانضم سلويقوس هذا إلى أنتيجون وحصل بذلك على بابل، ولكن أنتيجون أراد بعد ذلك أن ينفرد بإرث الإسكندر فغلبه سلويقوس على أمره، ومد سلطانه على أكثر الأملاك الآسيوية التي خلفها العاهل المقدوني، وأخذت الحضارة الإغريقية تنتشر في الشرق الأدنى إبان حكمه وفي عصر خلفائه السلويقيين.

البارثيون Les Parthes (٢٥٠ق.م–٢٢٦م)

كان يسكن خراسان (بارثيا) في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد شعب آرى نزح إليها من أواسط آسيا، واستطاع ملكه أرزاكس Arsakes أن يستقل بإقليمه، وظل البارثيون في نزاع مع خلفاء سلويقوس حتى انتزعوا منهم غربي إيران وشرقي بلاد الجزيرة، ثم مع الرومان فسلبوهم أرمينية وغربي بلاد الجزيرة، وفي عهد ميتراداثا الأكبر (١٧٤–١٣٦) بلغت إمبراطورية البارثيين أبعد حدودها، ومع أن هؤلاء البارثيين كانوا إيرانيين فيما يُظن، لم تكن تتمثل الحضارة الإيرانية في عصرهم تمامًا إلا في طبقات الشعب، أما البلاط وكبار رجال الدولة فقد غلبت عليهم الحضارة الإغريقية، وكان إلحاق الملوك البارثيين نسبهم بالكيانيين غير ذي أثر كبير بعد أن صبغ الإسكندر وخلفاؤه البلاد بصبغة إغريقية قوية.

الساسانيون Les Sassanides (٢٢٦–٦٤١م)

ينتسبون إلى ساسان وهو شخص خرافي يزعمون أنه كان كاهنًا في إصطخر. وهم فوق ذلك يصلون نسبهم بالكيانيين.

وقد كانت إيران في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد يحكمها عدة أسر صغيرة تخضع للبارثيين، فسمى العرب هذا العصر عصر ملوك الطوائف، وكان بابك على رأس إحدى هذه الأسر الصغيرة يحكم إقليمًا في فارس، ثم بدأ في التوسع على حساب جيرانه، واستطاع حفيده أردشير أن يهزم أردوان آخر ملوك البارثيين في إيران، فاغتصب عرشه وأسس الأسرة الساسانية التي ورثت، فيما ورثته عن البارثيين، النزاع بين إيران وروما ثم بيزنطة، فغزا أردشير أرمينية، وبدأ ذلك الكفاح الذي ظل قائمًا بين الإمبراطوريتين حتى سقوط الساسانيين لا تتخلله إلا فترات قصيرة، ولا ريب أن الفضل في العودة بإيران إلى مجدها الأول، والسير بها في ميدان الحضارة شوطًا بعيدًا؛ إنما يرجع إلى الدولة الساسانية، التي كان ملوكها أبطال الدفاع عن إيران والحضارة الإيرانية ضد الرومان ثم الإغريق في الغرب، وضد القبائل المغولية التركية في الشرق.

وقد اشتهر من ملوك هذه الأسرة شابور الأول، الذي غزا سورية وقاتل الرومان سنة ٢٦٠، فأوقع بجيشهم هزيمة كبيرة وأسر إمبراطورهم (فالريان)، فخلد الفرس ذكرى هذا الحادث الجلل في نقوشهم البارزة على الصخور.

ومنهم بهرام الخامس الذي ارتقى عرش إيران بمعونة النعمان ملك الحيرة، والذي برع في الصيد فلقبوه بهرام جور (من گور بالفارسية ومعناها حمار الوحش)، وكانت أكبر مجهوداته صد القبائل التي كانت تهاجم الحدود الشمالية والشرقية لإمبراطوريته.

وفي سنة ٥٣١ ارتقى عرش إيران أنوشروان العادل الذي يتغنى بذكره شعراء العرب، فأصلح القوانين، ونظم الضرائب، واستتب الأمن في عصره، وانتصرت جيوشه في الحدود الشرقية والغربية، فأخضع سوريا ومد سلطانه إلى بلاد اليمن. واستطاع أبرويز الثاني أن يخضع سوريا والشام ومصر وآسيا الصغرى، وكاد يستولي على القسطنطينية، لولا أن نهض لصده الإمبراطور هرقل، فأوقع بالفرس في بلاد الجزيرة هزيمة كبيرة، واسترد ما استولى عليه أبرويز.

ولما كانت الإمبراطورية الساسانية وليدة نهضة وطنية ملكية دينية، فقد ظلت طول حكمها إيرانية وطنية للدين فيها المنزلة العليا، واستطاع ملوكها أن يبعثوا النظم الإدارية التي استحدثها دارا في عصر الدولة الكيانية، وأن يبثوا احترام الإدارة المركزية في نفوس حكام الأقاليم والمدن، وكان دين زردشت مرتبطًا أوثق ارتباط بهذه النهضة المباركة، فكان دين الدولة الرسمي، وعظم نفوذ رجال الدين حتى أصبحوا خطرًا على نظام الملكية نفسه، فحاول الملوك في القرن الرابع أن يصدُّوا هذا التيار، وذهب بعضهم ضحية مساعيه هذه، فخلع أردشير الثاني (٣٧٩–٣٨٣)، وقتل شابور الثالث (٣٨٣–٣٨٨) ويزدجرد الأول (٣٩٩–٤٢٠)، وكان هرمز الأول (٢٧٢-٢٧٣) قد اعتنق مذهب المانوية، وهو مزيج من الزردشتية والنصرانية، أساسه أن العالم نشأ عن أصلين: النور والظلمة، وعن النور نشأ كل خير، وعن الظلمة نشأ كل شر، ولكن امتزاج الخير والشر في هذا العالم شر يجب الخلاص منه، والمانوية يدعون إلى الزهد ويحرمون النكاح استعجالًا للفناء، ويقرون بنبوة عيسى وزردشت، ويزعمون أن ماني هو النبي الذي بشَّر به المسيح، على أن تعاليمهم لم تلق في إيران نجاحًا كبيرًا، فلما مات هرمز وخلفه بهرام الأول (٣٧٣–٣٧٦) قتل ماني وشرد أصحابه.

وآخر من خرج على دين زردشت من ملوك إيران قباذ الأول (٤٨٨–٥٣١) فاتبع مذهب مزدك وهو ثنوي أيضًا، ولكنه يمتاز بتعاليمه الاشتراكية وإباحته الأموال والنساء، وكان قباذ يرمي بتأييد هذا المذهب إلى القضاء على نفوذ الأشراف ورجال الدين، ولكنه غلب على أمره وأقصي عن العرش، ورجع إليه ثانية بعد أن هجر تعاليم مزدك، ولا غرو في ذلك؛ فإنه مع أن الدولة الساسانية كان على رأسها عاهل يقدسه الشعب وينزله منزلة الآلهة، كانت طبقة الأشراف تنعم بسلطة واسعة وتسيطر على الأرض وتخرِّج للحكومة الموظفين ورجال الجيش، كما كان رجال الدين يحافظون على تعاليم زردشت، ولا يقف في سبيلهم شيء دون قمع كل الحركات الإصلاحية.

على أن النزاع الذي ظل قائمًا عدة قرون بين إيران وبيزنطة، كانت نتيجته إضعافها وقت بدء الدعوة الإسلامية وعجزها عن وقف تيار العرب حين بدءوا فتوحهم العظيمة، التي ما لبثت أن امتدت على إيران كلها.

الفتح الإسلامي

كانت قوة إيمان العرب بالعقيدة الإسلامية، ورغبتهم في نشر هذه الديانة، واعتقادهم بالقضاء والقدر، وعرفانهم خصوبة إيران ومصر والشام؛ نقول كان ذلك وغيره أكبر مشجع لهم في فتوحهم الواسعة، كما ساعدهم على ذلك ضعف الأمم العظيمة في ذلك الحين: الفرس في الشرق والرومان في الشمال، فسقطت مملكة الفرس في أيديهم، وبقيت تابعة رأسًا للخلفاء، يرسلون إليها حكامًا من قبلهم حتى أوائل القرن الثالث (التاسع الميلادي)، وكانت سياسة بني أمية العمل على إعلاء شأن العرب، وصبغ الدولة الإسلامية المترامية الأطراف بالصبغة العربية، فلم يلعب الفرس في عهدهم دورًا كبيرًا. ثم جاء العباسيون، فانتقل السلطان إلى يد الفرس الذين قامت على أكتافهم الأسرة الجديدة.

وما لبث العصر الذهبي للدولة العباسية أن آذن بالغروب، وبدأ الانحلال يدب في أركان الدولة الإسلامية، فأخذ حكام الأقاليم يطمعون في الاستقلال بها. وأقدمهم في إيران بنو طاهر وبنو الصفار.

الدولتان: الطاهرية ٢٠٥–٢٥٩ﻫ/٨٢٠–٨٧٢م، الصفارية ٢٥٤–٢٩٠ﻫ/٨٦٧–٩٠٣م

وتنسب الأولى إلى طاهر بن الحسين المشهور بذي اليمينين، والذي كان قائدًا في خدمة المأمون فكافأه بولاية خراسان، وبقي الحكم في أسرته أكثر من خمسين عامًا حتى قضى عليها بنو الصفار. وأول ما كان من أمر هؤلاء أن عميدهم يعقوب بن الليث، الذي كان يصنع الصفر (النحاس)، تولى حكم سجستان ومد سلطانه في هراة وفارس، ثم هزم بني طاهر واستولى على خراسان، وأراد فتح بغداد فهزمه الموفق أخو الخليفة، ومات يعقوب سنة ٢٦٥ﻫ/٨٧٨م فخلفه أخوه، ولكن بني سامان ما لبثوا أن أزالوا دولته.

الدولة السامانية ٢٦١–٣٨٩ﻫ/٨٧٤–٩٩٩م

كان سامان فارسيًّا من أشراف بلخ، دخل في الإسلام في عصر الدولة العباسية وظهر أحفاده الأربعة في خدمة المأمون، فولاهم بلاد ما وراء النهر، وحكم أحدهم فرغانة وسمرقند وكشغر، واستطاع ابنه من بعده أن يمد سلطانه من حدود الهند إلى قرب بغداد، واشتهرت بخارى في عهد هذه الأسرة بفطاحل العلماء ونوابغ الباحثين. وعمل السامانيون على إحياء السنن الإيرانية وألحقوا نسبهم بالبطل الإيراني بهرام چوبين، وبدأت في عهدهم الحركة الوطنية للنهضة باللغة الفارسية؛ فظهر الرودكي عميد شعراء الفرس الأولين، ونظم الدقيقي منظومة كبيرة لنوح بن نصر يقص فيها حوادث إيران في عهد أحد ملوكها الخرافيين، وقد أدخل الفردوسي هذه المنظومة في الشاهنامة، والفردوسي نفسه بدأ حياته الأدبية في خدمة السامانيين.

بنو بويه ٣٢٠–٤٤٨ﻫ/٩٣٢–١٠٥٦م

بينما كان السامانيون يحكمون شرقي إيران ظهر في غربها بنو بويه الذين يدعون أيضًا أنهم من نسل الساسانيين، وكان بويه يرأس قبيلة عظيمة تسكن جنوبي بحر قزوين، خضعت للسامانيين ثم لمردويج الزياري، الذي ولى علي بن بويه الخراج، وما لبث ابن بويه أن اتخذ جندًا من الديلم وجعل يمد نفوذه جنوبًا بمساعدة إخوته، حتى اضطر الخليفة أن يعترف بولايتهم على ما فتحوه، فاستقر بذلك سلطانهم في جنوبي فارس، ثم مدوه إلى بغداد نفسها حين دخلوها سنة ٣٣٤ﻫ/٩٤٥م، ومنح الخليفة أحدهم لقب أمير الأمراء، فصارت لهم الكلمة العليا في أمور الدولة حتى سنة ٤٤٧ﻫ/١٠٥٥م، وكان أشهرهم عضد الدولة ٣٣٨–٣٧٢ﻫ الذي وسع نطاق التجارة وشمل برعايته العلوم والفنون.

الدولة الغزنوية ٣٥١–٥٨٢ﻫ/٩٦٢–١١٨٦م

بدأ العنصر التركي يلعب في الإمبراطورية الإسلامية دورًا مهمًّا منذ أخذ الخلفاء العباسيون وملوك الأسر الفارسية يستخدمون أفراده في بلاطهم ويتخذون منهم الجند المرتزقة، وكان سقوط بني سامان في نهاية القرن الرابع إيذانًا بانتقال السيادة في بلاد العجم من الإيرانيين إلى أتراك أواسط آسيا، وظلت إيران حتى القرن العاشر يحكمها ملوك من الترك أو المغول؛ على أن هذه العناصر كانت تصطبغ فيها بالصبغة الإيرانية، حتى ليمكن القول إن الأسر التي توالت على عرش إيران منذ القرن العاشر حتى القرن العشرين يمكن اعتبارها وطنية، سواء في ذلك من كان منها تركي الأصل ومن كان منها عريقًا في إيرانيته.

وأول الدول التركية التي حكمت إيران هي الأسرة الغزنوية، والأصل في تكوينها أن مملوكًا تركيًّا يسمى ألبتكين، ترقى في خدمة عبد الملك الساماني، ثم اعتصم بعد وفاته بجبال أفغانستان متحديًا سلطان السامانيين، وما لبث أن أقام حكومة صغيرة في غزنة بأفغانستان، ولكن المؤسس الحقيقي للأسرة الغزنوية هو صهره سُبُكتكين، الذي اعترف به الخليفة وغزا البنجاب؛ وانتهز ابنه محمود من بعده فرصة انحلال الدولة السامانية، فضم خراسان إلى أملاكه، وأخذ من البويهيين العراق العجمي وجرجان، وأحرزت جيوشه انتصارات عديدة في البنجاب؛ حيث بذر بذور الإسلام في الهند، وامتدت أملاكه إلى لاهوز، كما امتدت إلى سمرقند وأصبهان، وكان محمود بن سبكتكين من السنيين الغلاة، فاضطهد المعتزلة وحرق مؤلفاتهم، ولكن الدولة بلغت في عهده أوج عزها، وكان بلاطه محط شعراء الفرس، فقدم له الفردوسي الشاهنامة أعظم الكتب الفارسية القصصية.

السلاجقة ٤٢٩–٧٠٠ﻫ/١٠٣٧–١٣٠٠م

عرفنا كيف ضعف سلطان العباسيين منذ القرن العاشر ولم يتعد نفوذهم بلاد العراق، وكيف كثرت الجنود المرتزقة من الأتراك في خدمة الخليفة، فاغتصبوا السلطان السياسي منه شيئًا فشيئًا، وزاد نفوذ قومهم في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية.

والسلاجقة يعرفون بهذا الاسم نسبة إلى زعيمهم سلجوق، الذي كان رئيس قبيلة تركمانية من بلاد ما وراء النهر، تمكنت من بسط نفوذها على خراسان، وزادت قوتها بعد سلجوق حتى استولى حفيده طغرلبك على الولايات الغربية للدولة الغزنوية، ثم سار إلى بغداد فدخلها سنة ٤٤٧ﻫ/١٠٥٥م، وقضى على دولة بني بويه الشيعية فقلده الخليفة السلطة الدنيوية، وأخذ السلاجقة يمدون نفوذهم شيئًا فشيئًا؛ حتى شمل إيران والعراق وآسيا الصغرى والشام.

وفي عهد السلطان ألب أرسلان الذي خلف طغرلبك أوقع السلاجقة بالبيزنطيين هزيمة كبيرة في ملاذكرد سنة ٤٦٤ﻫ/١٠٧١م، فوقعت أرمينيا في أيديهم وتمهد الطريق أمامهم للسيطرة على آسيا الصغرى وتهديد القسطنطينية.

وبلغت دولة السلاجقة أوج عزها في عصر ملكشاه ووزيره نظام الملك، اللذين اهتما بشئون الرعية وعطفا على الشعراء والعلماء، وظهرت في عهدهما المدارس والجامعات، ولما مات ملكشاه سنة ٤٨٥ﻫ/١٠٩٢م ضعفت دولته وانقسمت بين أبنائه وأقاربه الذين كان يعينهم حكامًا ويطلق عليهم اسم الأتابكة.

هذا ولا ريب في أن المدة التي حكمها السلاجقة منذ دخولهم بغداد إلى وفاة السلطان سنجر سنة ٥٥٢ﻫ/١١٥٧م تعتبر من أزهى عصور الفن الفارسي، وممن أنجبهم العصر السلجوقي الإمام الغزالي وعمر الخيام.

دولة ملوك خوارزم ٤٧٠–٦١٧ﻫ/١٠٧٧–١٢٢٠م

أول أمرها أن أنوشتكين الذي كان عاملا على خوارزم من قبل السلطان السلجوقي ملكشاه مات، فخلفه ابنه وأراد أن يشق عصا الطاعة فطرده السلطان سنجر من خوارزم، ولكنه أفلح في العودة إلى هذا الإقليم وأخذ هو وخلفاؤه يبسطون نفوذهم في إيران، ثم انحازوا إلى المذهب الشيعي، وعقدوا العزم على القضاء على الخلافة العباسية لو لم يداهمهم جنكيز خان بجنوده المغول، وقد ظهر في عصر هذه الأسرة كثير من أدباء الفرس وشعرائهم، كنظامي وعطار.

المغول ٦٥٦–٧٣٦ﻫ/١٢٥٨–١٣٣٦م

غزا المغول بأمر جنكيز خان بلاد ما وراء النهر وشرقي إيران سنة ٦١٨ﻫ/١٢٢١م ودمروا كثيرًا من المدن التي مروا بها، وكان ذلك من أكبر الكوارث في تاريخ إيران.

ولكن الذي وطد قدم المغول في بلاد الفرس إنما هو هولاكو، الذي كان يحكمها في منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر) من قبل أخيه الأكبر، والذي استولى على بغداد سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م وقتل المستعصم آخر خلفاء العباسيين، ثم أسس في فارس أسرة حكمتها حتى سنة ٧٣٦ﻫ/١٣٣٦م هي الأسرة الإيلخانية، وكان احتكاك التتار بالحضارة الإيرانية مهذبًا لهم؛ فكانت إدارتهم بعد هولاكو حازمة رشيدة تمتاز بالتسامح، وما لبثوا أن اعتنقوا الإسلام، وظلوا حريصين على الاتصال ببني عمومتهم من التتار البوذيين في الصين، ومن ثم كان عصر هذه الأسرة يمتاز في إيران بالأثر الصيني في الفن وفي الحياة الاجتماعية.

وقد كان نمو النظام الإقطاعي في إيران سببًا في القضاء على حكم خلفاء هولاكو، وظلت البلاد نحو خمسين عامًا بعد سقوط هذه الأسرة مقسمة إلى دويلات محلية صغيرة، مثل الدولة المظفرية في فارس وكرمان ٧١٣–٧٩٥ﻫ/١٣١٣–١٣٩٣م، ودولة الكُرت في هراة، ودولة الجلائريين في العراق، وغيرها من الدويلات التي بقيت حتى قضى عليها تيمورلنك في نهاية القرن الثامن الهجري (الرابع عشر).

تيمورلنك وخلفاؤه ٧٧١–٩٠٦ﻫ/١٣٦٩–١٥٠٠م

ولد تيمورلنك في بلاد ما وراء النهر سنة ٧٣٦ﻫ/١٣٣٥م من أسرة تركية عريقة في المجد، ولما وطد نفوذه في وطنه سار إلى إيران فهزم دويلاتها المختلفة ووحد السلطان فيها، ثم انطلق إلى روسيا وزحف إلى موسكو، وتحول بعد ذلك إلى الهند فتتابعت انتصاراته حتى احتل دهلي سنة ٨٠١ﻫ/١٣٩٨م، وما لبث أن أوقع بالسلطان العثماني بايزيد الهزيمة الكبرى عند أنقره سنة ٨٠٤ﻫ/١٤٠٢م، وقد كان تيمورلنك مخربًا في فتوحه متناهيًا في القسوة والهمجية، ولكنه إن كان قد خرب شيراز ودهلي ودمشق وبغداد فإنما فعل ذلك ليجمل سمرقند عاصمة ملكه؛ حيث يوجد قبره الذي يعد من عجائب الفن الإسلامي.

وبعد وفاة تيمورلنك سنة ٨٠٧ﻫ/١٤٠٥م دب النزاع بين ورثته، واستطاع أخيرًا شاه رُخ رابع أبنائه أن يرغم أقرباءه على الاعتراف به، فتربع على عرش إيران وبلاد ما وراء النهر، وجعل هراة عاصمته وجذب إليها طائفة كبيرة من الشعراء ورجال الفن؛ فازدهرت الآداب والفنون في عهده وفي عهد خلفائه.

الدولة الصفوية ٩٠٧–١١٤٨ﻫ/١٥٠٢–١٧٣٦م

وتنتسب للشيخ صفي الدين أحد أولياء أردبيل الذي استطاع حفيده الشاه إسماعيل أن يهزم التركمان في غرب إيران، وأن يؤسس سنة ٩٠٧ﻫ/١٥٠٢م أسرة حكمت بلاد الفرس حتى سنة ١١٤٨ﻫ/١٧٣٦م وألحقت نسبها بالإمام علي بن أبي طالب، وأصبح المذهب الشيعي منذ توليها الحكم المذهب الرسمي لبلاد إيران، ولم يكن العثمانيون — وهم أبطال الجنس التركي والمذهب السني — ليتركوا الفرس تتحد كلمتهم ويزداد نفوذهم، فبدأ نزاع طويل بين الشعبين، وسار السلطان سليم سنة ٩٢٠ﻫ/١٥١٤م بجيوشه قاصدًا تبريز عاصمة الشاه إسماعيل، فانتصر على جيوش إيران نصرًا مبينًا واستولى العثمانيون على الأملاك الغربية للإمبراطورية الصفوية، وزاد الطين بلة أن قبائل التركمان كانت دائمة الغزو للحدود الشرقية، فقضى الشاه طهماسب (٩٣٠–٩٨٤) مدة حكمه يكافح هذين الخطرين.

على أن العصر الذهبي للأسرة الصفوية إنما هو حكم الشاه عباس الأكبر (٩٨٥–١٠٣٨)، فقد اعتلى العرش والخطر محدق بإيران، يهدد التركمان حدودها الشرقية الشمالية، ويستولي الأتراك على أذربيجان، فتمكن من استعادة أملاكه المحتلة وتابع انتصاراته حتى طرد الترك من بغداد سنة ١٠٣٢ﻫ/١٦٢٣م، ثم عمل على مضايقتهم بإنشائه العلاقات الحسنة مع الدول الأوروبية وبإدخاله النظم الحديثة في جيشه وإدارته. ومن أهم حوادث حكمه نقل العاصمة إلى أصفهان التي جملها وبنى فيها المساجد والقصور والطرق المعبدة، فزارها ووصف عظمتها الغربيون من الأجناس المختلفة.

وأما خلفاؤه فقد اتبعوا سياسته بالرغم من استبدادهم وخلاعتهم، وهم إن لم يستطيعوا الاحتفاظ ببغداد فاستعادتها الدولة العثمانية، فقد حافظوا على البلاد الإيرانية وقلدوا الشاه عباس في تعضيد الفن ورجاله، وفي مواصلة العلاقات الطيبة بالدول الأوروبية.

ولكن عوامل الضعف أخذت تدب في الدولة الصفوية حتى ثار الأفغان عليها في عهد الشاه حسين (١١٠٥–١١٣٥)، وقد كانوا حتى ذلك التاريخ تابعين لها، ويمكن اعتبار هزيمتهم للشاه حسين سنة ١١٣٥ﻫ/١٧٢٢م واستيلائهم على أصفهان إيذانًا بسقوط الدولة الصفوية، ولو أن بعض أفرادها ظلوا يحكمون في مازندران نحو عشر سنين.

نادر شاه

اقترن غزو الأفغان لفارس بفوضى شاملة هب على أثرها القائد الأفشاري نادر قُلي، معلنًا عزمه على طردهم وتثبيت عرش الصفويين، ولكنه ما لبث أن خلع آخر ملوكهم واغتصب العرش لنفسه سنة ١١٤٨ﻫ/١٧٣٦م، ثم سار على رأس جيوشه، فأخضع أفغانستان وتوغل في الهند حتى استولى على دهلي ونهب كنوزها، ولكن حكمه لم يدم طويلًا، ووقعت البلاد بعد قتله سنة ١١٦٠ﻫ/١٧٤٧م في فوضى كبيرة.

الزنديون ١١٦٣–١٢٠٩ﻫ/١٧٥٠–١٧٩٤م

انقسمت إيران في عهد خلفاء نادر شاه إلى دويلات صغيرة، ولكن كريم خان الزندي ما لبث أن مد سلطانه على كل إيران إلا خراسان، حيث بقي آخر خلفاء نادر شاه.

أسرة قاجار ١١٩٣–١٣٤٥ﻫ/١٧٧٩–١٩٢٦م

بعد وفاة كريم خان قام نزاع طويل بين خلفائه وبين محمد أغا من قبيلة قاجار التركية، واستطاع الأخير أن يؤسس أسرة جديدة وأن ينقل العاصمة إلى طهران، ومن أشهر ملوك هذه الأسرة ناصر الدين شاه، الذي خطا في سبيل إدخال الحضارة الأوروبية في إيران خطوات كبيرة، وفي عهد هذه الأسرة ظلت روسيا تهدد إيران وتغتصب أطرافها البعيدة، وبدأت الدول الأوروبية تقسمها إلى مناطق نفوذ، ثم كانت الحرب الكبرى وخلفت في إيران ما خلفته في غيرها من مشاكل وأزمات، انتهت بظهور رجل قوي لتوحيد البلاد والنهضة بها.

رضا خان بهلوي ١٣٤٥ﻫ/١٩٢٦م

وهو جلالة شاه إيران الحالي أصله من فلاحي مازندران، دخل الجيش ووصل فيه إلى مرتبة القيادة، ثم سار إلى العاصمة بعد قتال مع الروس سنة ١٩٢١م، فألف وزارة دخلها وزيرًا للحربية، وضعف نفوذ الشاه أحمد فغادر البلاد وأقام في باريس حتى عزل في سنة ١٩٢٥م، واعتلى العرش جلالة شاه رضا خان مؤسسًا الأسرة البهلوية، ونهضت البلاد في عهده بفضل إدخال الأنظمة الحديثة وإرسال البعثات العلمية ودخول إيران في عصبة الأمم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤