حوار خاص

لا بد أنه الإحساس الكامل بالسيادة. السيارة موتور قوي يئن أزيز الاتصال واللاخلل. عجلة القيادة في يدي كالريشة. بحركة أصبع أقود. بحركة قدم أندفع. أنا السيد، على الأقل سيد الكون كله إلا موتور حركة. الكهرباء موتور، الذرة موتور، البنزين موتور …

أنا الإرادة. أنا العاقل الكامل وسط أكوام وأحراش من اللاعقل واللاوعي واللاإرادة …

الطريق وسط الصحراء قاحل وأسود ولامع. الوحشة تزيدني إحساسًا بالتفرد. كأني الكامل وحدي في هذه الدنيا. والدنيا طريق أسود طويل ليس فيه سوى الأفق. بعد كل أفق أفق. الدنيا أنا وأنا الدنيا. سعيد. منذ بضعة أشهر نجوت من موت محقق. قال لي الطبيب: حظك نار. لا بد أنك تملك في جسدك قدرات غير عادية. ما أحلى الثقة بالجسد! إنها كالثقة في عربة خارجة لتوها من «الأجنس». القوة، نعبدها حتى في أجسامنا، بالذات في أجسامنا. زهو أني انتصرت. كان الموت فوق القلب تمامًا، لكن القلب طرد الموت؛ بل لمحت الحسد في وجه الطبيب وهو يقول: أتعرف أن قلبك بعد المرض أقوى وأكثر صحة مما كان قبل الأزمة؟! هذا النوع من الأزمات أعرفه. أخرج من الأزمة لأدخل في أخرى، لأعود أخرج منها أقوى. إرادتي شحذتها الأزمات، تعالَ إذن يا إلهي العظيم نتحادث. ما أروع الحديث معك في هذا المكان القحل، في طريقٍ صحراوي لا ناقة فيه ولا نبتة. إنها قصة طويلة طويلة لي معك. واسمح لي ألا أخاطبك بألقاب التعظيم؛ فقد استعملها الناس كثيرًا في مخاطبة الطغاة والحُكَّام حتى أصبحت غير جديرة بك. تلك الأزمة الخاطفة التي مرت بي لم أرَك؛ فأنت لا تُرى لست بالخارج. أنت هنا فينا أقرب إلينا من حبل الوريد.

أنا الذات الصغرى بنت الذات الكبرى. أنا المخلوق وأنت الخالق والبرزخ والكائن بيننا ما لا نهاية في الصغر وما لا نهاية في الكبر؛ لأنه برزخ بابك وبرزخ قدرتي. أنا يا إلهي لا أحب أن أعبدك عبادة هؤلاء الذين يتذللون لك؛ فلقد خلقتنا في أعظم تكوين وأن ننذل حتى لك معناه أننا نحد من قدرتك؛ فمخلوقك لا بد أن يتيه ولا يحني الهامة، وإذا كنا نسجد لك في الصلاة فإنما لنرتفع بقيمنا وابتهالاتنا إلى مكانك. وقد لا يكون هذا رأي الجميع ولكني أعبدك عبادتي الخاصة بطريقتي أنا. ولست المسئول عن هذا يا إلهي؛ فأنت الذي خلقتني هكذا، متمردًا لا يقبل الضيم، رافضًا لا يقبل المساوية، طامحًا للكمال في كل شيء حتى يصبح كل شيء قريبًا من كمالك. أنا هكذا لم أخلق نفسي ولكنك من ملايين الملايين من الذرات والجزئيات والوراثات والتأثيرات والخواص اخترتني لأكون هكذا وتكون لي شخصيتي تلك.

•••

كانت العربة تنطلق بسرعة مائة وعشرين كيلومترًا، وكان الصمت — إلا من أزيز الهواء والموتور — كاملًا. صمت الصحراء الأصفر. صمت الكون حين تتوقف حركة الخارج وكأنه مات. وخفت، أحسست أن المضي في أفكارٍ كهذه سيخرجني بعد حين عن إطار الجاذبية وأنطلق في الفضاء حتى أهلك تمامًا في قلب الشمس. ولكنك هكذا خلقتني. حتى لو عرفت أني هالك في قلب الشمس لن أتوقف. لا أكتمك — إلهي — أني ظللت وأنا في المستشفى أتفكر في مسألة الله والإنسان والعمر. أنا أعرف علميًّا أن الذي يحدد العمر هو الطاقة الحيوية المنبثة في القلب وفي كل أنحاء الجسد، فأنا مررت بالأزمة إذن لأن الطاقة الحيوية عندي كانت الأقوى. ولكن المشكلة أن هذه الطاقة يعوقها عامل صغير، مثل قشرة الموز يتزحلق فوقها قدم العملاق فينطرح أرضًا، فلماذا خفت رحلة الأزمة من قشرة الموز؟ الصدفة! جائز. ولكن الصدف لا تتكرر إلا كل عشرات الملايين من المرات. وثلاث مرات تكررت الأزمة، واحدة في الرقبة، وواحدة في الوريد، وواحدة في القلب. أنا إذن حالة في كل ألف مليون مرة. هكذا العلم يقول. علمنا القاصر الآن عن إيجاد علاجٍ لأزمة البرد. ولكنه حد علمي وحد تفكيري. أما ما هو خارج هذا فلا بد أن الله يحبني وقد اختارني لأعيش حتى ولو كان الاختيار مرة من ألف مليون مرة. أنت إذن تحبني أيها الإله، تحبني لأني هكذا. ربما أيضًا لأني أقف وقفة المحب أتساءل دون أن يرتجف قلبي من الهلع القاصر ودون أن تصطك أسناني وإنما بثقة المحب للمحبوب وبحريته أسأل. وبنفس هذه الثقة أقود السيارة، منطلقًا بهذه السرعة، سيدًا، سعيدًا، حرًّا، أزاول الإنسان الحر الذي في كلمة، أزاوله حتى في مواجهة الخالق يا ذا الخالق. أيها الضارب بعيدًا في أغوار الكون حتى ينتهي النور، وأبدًا لا ينتهي النور لأنك لا تنتهي. الضارب بعيدًا في أغوار الماضي وآفاق المستقبل حتى ينتهي الزمن، وأبدًا لا ينتهي الزمن لأنك أبدًا لا تنتهي، لأنك أبدًا لا تبدأ، لأنك أبدًا لا تغيب أبدًا لا تحضر، أبدًا لا تعرف لأنك العارف، ولا تنسى لأنك الذاكرة، ولا تخلق لأن كل شيء من خلقك لأنك أنت كل شيء، أنت شعلة في كل شيء، وميض التغيير المستمر إلى الأفضل والأفضل والأفضل، تجسد الطاقة مادة، والمادة حياة، والحياة عقلًا والعقل إنسانًا أسمى وأسمى وأسمى، إله أصغر.

ومع هذا فإني أسأل: أهذا هو مجرد شعور الفالت من خطر، مجرد تجسيد لهواجس تربينا في ظلالها وحواديت سُردت علينا ونحن صغار وعلماء عجزوا عن التفسير فقالوا: الله.

أأنت حقًّا هناك يا إلهي؟

•••

وصمتت أفكاري عن أن تمضي. دق قلبي كأني دخلت بالقدم في حرمٍ مقدَّس. تخطيت عتبة الممكن والمباح. حملتني السيارة فوق الطريق، وفوق الصحراء، وقائدها أنا اخترقت عنان السماء أتلفت حولي أتساءل عن «الحق». ثانية واحدة مضت لا أكثر، أقل من ثانية ربما، وحدة الزمن الممكن أن يحسها ويدركها الإنسان وبدأت أحس التغيير. أصبحت عجلة القيادة في يدي أسهل وأخف كثيرًا عما كانت، لكأنها تتحرك من تلقاء نفسها، وكأن سيطرتي الروحانية أصبحت هي التي تخضع لها العجلة دون حاجة إلى توجيه من يدي.

ثم مروعًا اكتشفت أن المسألة ليست شدة سيطرة من إرادتي على عجلة القيادة، إنما الحقيقة الباردة المجردة أن عجلة القيادة نفسها انفلتت من سيطرتي عليها. وبخبرني مع العربات وحوادثها أدركت السبب، أن إطار العجلة الخلفية قد انفجر ببطء لم أسمعه وأن العربة نتيجة لهذا ارتفعت عجلاتها الأمامية وأصبحت غير خاضعة مطلقًا لتوجيه «الدركسيون». هي التي تتوجه كيفما يحلو لها، وفي أي اتجاه تشاء. وأنت هنا لا تستطيع أن «تفرمل» لأن مجرد لمس الفرامل يخل بتوازن العربة مع هذه السرعة العالية ويقلبها فورًا.

صفر الخاطر في رأسي:

ماذا لو كان بعنف ورعب واختلال مضى قلبي يدق؟ نظرة إلى أسرتي التي تحتل العربة معي زادتني رعبًا، ولداي من الخلف وزوجتي بجواري وابنتي الصغيرة وبراءة الدنيا في عينيها ستموت بعد ثوانٍ؛ فكل شيء وكل خطر قد تكوَّن بسرعة. الطريق الذي كان خاويًا وامتلأ فجأة بعربات جيش لتعليم السواقة قادمة في الاتجاه المضاد، وأي خلل في اتجاه العجل الأمامي للعربة سيجعلنا نُرطم الارتطامة القاتلة المُهلِكة في واحدة من العربات الكثيرة. أكثر من ثلاثين عربة، واحدة وراء الأخرى.

تحوَّل السيد فيَّ إلى أكثر كائنات الدنيا تواضعًا وذعرًا. تحت رحمة مَن أنا الآن؟ عجلات الكاوتش تسير كيفما تشاء، أي بروز في الأسفلت أو حجر، بل حتى لو لم يكن هناك شيء بالمرة فاتجاه الريح، ميل جانب أكثر من جانب، عوامل ميكانيكية لا تُعَد ولا تُحصى، ألف مليون عامل وعامل قد يؤدي أيٌّ منها لأن تُدفَع عربتي تجاه أي عربة قادمة أو تجاه الصحراء وتتم الكارثة.

بينما الأولاد يضحكون وزوجتي مع الصغيرة تمرح والقيامة ستقوم بعد ومضة، وجدت نفسي أهتف: يا ستار يا رب، يا ستار يا رب.

أي قوة أخرى في هذا الكون الواسع كان ممكنًا أن تنقذني؟! والكارثة ليست فيَّ، الكارثة في هؤلاء الأبرياء، ضحية اللعبة، الضاحكون، السعداء سعادة من يعبرون عن السعادة. حتى ردًّا على هتافي: يا ستار يا رب؛ ضحكوا وأغرقوا في الضحك فلم يكن أمامهم ما يستحق أن أناديه. كل شيء في نظرهم كان على ما يُرام والدنيا جميلة والحياة ممتدة إلى أقصى مدًى.

اليأس المطلق حلَّ، لا فائدة. لا أملك أن أصنع شيئًا. المصير بيده، هو وحده القادر. العربة، الصدفة، الواحد في الألف مليون، تحت رحمته. لا أملك إلا أن أيأس وأجلس وأصرخ على زوجتي وهي تضحك أن تتشبث بالابنة وتحسبني أهزل فلا خطر أمامها هناك وتبالغ في تركها حرة تعبث. والعربات قادمة، واحدة وراء الأخرى كلٌّ منها الموت متحركًا ومقبلًا، والصحراء على يميني مجرد انحرافة بسيطة تدخل العجلات في بحر الرمال.

الأمل كله، أن يحدث الأمر القاهر المعجز أن تظل العربة تسير غير منحرفة يمينًا أو يسارًا وتظل وتبطئ حتى توقف من تلقاء نفسها، وإلى أن يحدث هذا، فالموت في كل ومضة وقت. فقدت الجاذبية الأرضية وفي طريقي أنا إلى قلب الشمس.

•••

وقفت بجوار العربة. أخيرًا ثبت كل شيء. قلبي هاجع وكأنه هو الآخر توقف. حلقي جاف. السكون هائل الضخامة كأنه الكون. الأزيز متصل دائم. نملة رأيتها تناضل تحمل شيئًا بين ذرات الرمل القليلة فوق حافة الطريق. مروَّع ومذهول ورأسي ذائب في السكون، نظرت إلى السماء إلى الأرض إلى مثبِّت الدقة في قلبي وبالحلق الجاف سألت هامسًا: أهكذا يجيب الإله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤