الفصل الأول

القاهرة

القاهرة عاصمة الديار المصريَّة، بناها الخلفاء الفاطميون في منتصف القرن الرابع للهجرة في مكان أناخوا فيه جِمَالهم يوم جاءوا لافتتاح الفسطاط؛ عاصمة القطر إذ ذاك. وفي ذلك المكان الآن حي الجمالية والجامع الأزهر وما جاورهما من الجوامع القديمة. وما زالت القاهرة منذ بُنيت تتسع عمارتها، ولا سيما منذ حكمت العائلة المحمدية العلوية، وعلى نوع خاص في عهد الخديوي إسماعيل باشا؛ لأنه كان مُغرمًا بفتح الشوارع، وتنظيم المدينة وتزيينها، فكثرت الشوارع الحديثة، وأُنشئت المنازل والقصور خارج المدينة الأصلية، فكان لنا بذلك أحياء الإسماعيلية والفجالة، وشوارع الدواوين والعباسية وشبرا وغيرها. وجميع هذه الشوارع متسعة، والأشجار محدقة بها من الجانبين. وقد أنار الخديوي المشار إليه المدينة بالغاز، فأصبح ليلها كنهارها، وازدادت بهجة ورونقًا، واستأنس الناس بالأنوار، واتساع الشوارع، وزخرفة الحدائق والمنازل والقصور، فأحبوا الطواف في المدينة في ليالي الصيف، فكثرت بسبب ذلك الأماكن العمومية، ولا سيما حول حديقة الأزبكية التي أصبحت الآن في منتصف المدينة، بعد أن كانت خارجها؛ لتكاثر العمارة هناك. وقد بنى الخديوي إسماعيل باشا حول الحديقة سورًا محاطًا بشبك الحديد تحدق به هالةٌ من الأنوار الغازيَّة، ورتَّب لها الموسيقى العسكرية تعزف كل مساءٍ بالقرب من بحيراتها المستديرة.

فإذا دخلت الحديقة في المساء وأتيتَ الدكة المستديرة المزينة بالأنوار الغازيَّة؛ حيث تعزف الموسيقى، ترى الناس محدقين بها أفواجًا على اختلاف أجناسهم ونزعاتهم ومراتبهم ولغاتهم وألوانهم؛ من القوقاسي الأبيض الناصع إلى الزنجي الأسود الحالك، وترى في اختلاف لباسهم من العمامة العربية، والطربوش العثماني، والقاووق الفارسي، والبرنيطة الإفرنجية، والخمار المغربي، والحَبرة المصريَّة، والإزار والبنطلون والقفطان والسراويل وغير ذلك. وقسْ عليه سائر ما يخطر كل من امتزاج الأنواع والأشكال، مما لا يتفق وجوده في غير مصر من الأمصار.

أما المدينة الأصلية، فبعكس كل ذلك؛ إذ لا يزال معظم أسواقها على النمط القديم مع الضيق وعدم الانتظام، وأما حاراتها فلم تنجع فيها وسائل التنظيف مع ما أراده الخديوي من الترتيب، وما تحداه من التنظيم، فهي لا تزال ضيقة الطرق، معوجَّة الدروب، وكأن الأقدمين أرادوا بتضييق الطرق استجلاب البرودة بحجب أشعة الشمس عنها. وأما الخديوي فعوَّض عن ذلك في الشوارع الحديثة بغرس الأشجار التي تظلل الطرق، وترطب الهواء بما يتصاعد عنها وعن الطرق المرشوشة بالماء من البخار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤