الفصل الرابع والثلاثون

رسول عزيز إلى فدوى

ففي الصباح التالي، كانت فدوى لا تزال عرضة لاضطراب الأمس، غارقة في لجج الأفكار، إذ دخلت عليها دليلة وهي تبتسم عن أسنانها المهتومة، وكان وجهها أغبش، وطرفها أعمش، وخدودها معجرة كأنها المقصودة بقول الشاعر:

لها في زوايا الوجه تسع مصائب
فواحدة منهنَّ تبدي جهنما
بوجهٍ بشيع ثمَّ ذات قبيحة
كصورة خنزير تراه ترمرما

فلما رأتها فدوى تشاءمت من رؤيتها، وكرهت مخاطبتها. أما تلك العجوز المعطاءُ فأقبلت عليها بوجه الظافر كأنها لم تبالِ بنفورها منها، وقالت: أرى سيدتي لا تزال غاضبة عليَّ وأنا لم آتِ إلَّا ما به خيرُها، ولم أقصد إلَّا ما أراده والدها.

قالت فدوى: ما تعنين بقولك؟

قالت: أعني الخاتم الذي رميته في وجهي منذ بضعة أيام؛ ستلبسينه من يدِ مَن لا يسعك مخالفته.

قالت فدوى: من ذا يا ترى يستطيع ذلك؟ قالت: إذا أذنت لي سيدتي بخلوة قصصت عليها الخبر، وأطلعتها على الأمر، فاختلت بها مع شدة كرهها لها؛ لتدرك المهمة التي أتت بها هذه الحية الرقطاء، فقالت العجوز: إن والدك قد سمح بخطبتك لمن أردتُ إلباسك خاتمه فامتنعتِ وانتهرتني.

فنفرت منها فدوى وقالت لها: هل وصل من قدرك أن تخاطبيني بمثل هذا الخطاب؟ أين الوقار والحشمة اللذان تتصف بهن اللائي مثلك؟ أقصري. لا تخرقي حرمة شيخوختك.

فقالت لها: لا يصعب عليَّ سماعك كلامي أيتها السيدة اللطيفة؛ فإني لم آتِ لأثير فيك ثائرة الغضب، بل لأطلعك على حقيقة الأمر؛ لعلي أقدر أن أعطف قلبك على ذلك الشاب الذي لا يريد من الدنيا إلَّا رضاك.

فقالت فدوى: لا أريد أن أسمع مثل هذا الكلام، ولا هو من شئونك، فما بالك لا تأتينا إلَّا بأخبار الشؤم؟

قالت: إني لا آتيك إلَّا بالخبر اليقين، وهذا كتاب يكشف لك حقيقة الأمر، ويطلعك على طوية من تعلَّق قلبك بحبه، ويريك الأشراك التي نصبها لك فوقعت فيها لصفاء قلبك.

فاضطربت فدوى عند هذا الكلام بالرغم عنها وقالت: ماذا؟ ألا تقصرين عن معاودة مثل هذا الكلام؟ فقاطعتها العجوز وقالت لها: أتحمل إهانتك بالصبر؛ لأنني كنت فتاة مثلك لا أنقاد إلَّا لما تصوره لي المخيلة؛ فخذي هذا الكتاب واقرئيه على نفسك، فتعلمي حينئذٍ صدق خدمتي لك.

فأخذت فدوى الكتاب وفضَّته ويداها ترتعشان، فإذا فيه:

حضرة السيدة فدوى

إن الموجب الأول لهذا الكتاب إليك هو عظم حبي لك، ولولا ذلك الحب البالغ في نفسي مبلغ الهيام، وإكرام سيدي والدك الجليل القدر لأوقعتك في شر أعمالك، غير أن فؤادي المتيم بحبك لم يطعني على أذيتك وقد تماديت بالجفاء والنفور، مع ما أظهرتُه لك من اللين والملاطفة، فإذا سعيت إلى التقرب منك سعيت إلى إهانتي وإذلالي، وأنا لم أقترف ذنبًا يوجب هذا، غير أني اطَّلعت على ما نصبه لك بعضهم من الأشراك، وقد ألتمس لك من أجل ذلك عذرًا على غرورك؛ فاعلمي يا حبيبتي أن الذي قد وهبتِه قلبك غلامٌ غرٌّ لا يُعرف له لا حسب ولا نسب، وإذا أردت تحقيق الخبر بالخبر، فاسأليه ينبئك إذا كان يعرف له حسبًا أو نسبًا ما خلا والديه. أيليق بك وأنت ابنة أصل كريم ومجد وسؤدد أن تسلمي زمامك إلى من لا يعرف جده ولا وطنه، ولا هو من الناس في مقام يليق بك، ويرضي والدك؟ فمن هذا أصله لا يعرف لك قدرًا، ولا يقدر لك مقامًا، ولولا ذلك ما أذاع أمرك بين الناس، وجعلك مضغة في أفواه العامة منهم. وما تزعمين أنه عاهدك عليه سرًّا تتداوله الألسنة في الفنادق والقهوات، فليس أحد ولم يبلغه خبر قصر النزهة وحكاية الزر والدبوس … وقد كتمت كل ذلك عن والدك صيانةً لحرمتك؛ فاعلمي الآن أنك قد صرت خطيبة لي بأمر والدك، فانزعي من بالك الانقياد لذلك الغلام، وأَذْعني لأمر والدك، وإذا حاولت الاستمرار على غرورك، فلا يزيد ذنبك إلَّا كبرًا، وما لا ترضينه طوعًا ستنقادين له كرهًا. والسلام.

محبك
عزيز

فما أتمت فدوى قراءة الكتاب إلَّا خارت قواها، واكفهر لون وجهها، فالتفتت إلى دليلة وقالت لها: لقد تمادى هذا الذميم تماديًا ليس وراءه حد ولا نهاية، وأراك متممة لمبادئه السفلة؛ فاخرجي من هذا البيت ولا تعودي البتة عمرك كله.

فخرجت دليلة وهي تقول: يا ابنتي، ستندمين على كل هذه الأعمال.

أما فدوى فوقعت في حيرة مما قرأته من أمر الدبوس والزر، ولم تجد تفسيرًا لحل تلك الرموز، إلَّا أنه عرف ذلك من شفيق نفسه؛ لأن ذلك محفوظ بينهما. ولما كانت تفتكر في ذلك كان يخامر فؤادها الشك في إخلاص شفيق، لكن عواطف الحب لا تصبر أن تبرِّئه من هذه التهمة، وتُجلَّه عن هذه الدنايا، ولكن هذه التهمة التي مست كرامة حبيبها ما كانت لتزول من بالها باليسير من الوقت، فلما رأت بخيتًا أطلعتْه على الحكاية، فقال: لا تصدقي ما ذكره أو يذكره هذا الخائن، فإنه كاذب مخادع، فشفيق أرفع وأشرف من أن يُقابل بهذا الوغد الذميم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤