الفصل السبعون

إحياء الأمل

فلما خلت فدوى بنفسها أطلقت العنان لبكائها، وأخذت تخاطب نفسها قائلة: أواه من الدهر الخئون الذي أبقى لهذا النذل أرجلًا يسعى بها إلينا، وبعث ذاك الملاك إلى أقاصي البلاد حيث لا نعلم له مقرًّا، فهل يا ترى ألتقي به بعد هذه المشاق؟ وهل تراه عيني؟ آه آه! ثم آه! وأخذت تلطم وتبكي حتى كاد يغمى عليها، ثم عادت إلى مناجاة نفسها قائلة: إني وحبُّك لا أزال على حبِّك حيًّا كنت أو ميتًا؛ فإنك عندي بجميع أحياء هذا العالم، فكيف بمثل هذا الخائن النذل؟! أين عينك تراه وتبصر ما يفعل؟ تبًّا لك يا خائن، يا غادر! وأما أنت يا أبتاه، فما الذي هاج غضبك على ابنتك ووحيدتك التي كنت تقسم بحياتها، ولا ترضى الحياة إلا من أجلها، أتريد مني أن أبدل ذلك الملاك بهذا الشيطان، أم تريد أن أسلو ذاك الشهم؛ رب المروءة والنخوة، رب المحبة والوداد، وأتمسك بهذا النذل الكاذب الخادع المنافق. إن الحياة بعد ذلك لم تعد تحلو لي … وفيما هي في الكلام سمعت الباب يطرق طرقًا خفيفًا، فأصاخت، وإذا ببخيت يقول: لا تخافي، يا سيدتي، إني عبدك بخيت. وفتح الباب ودخل وهو يستشيط غيظًا، فأمسك بيدها وأجلسها، وأخذ يخفف عنها، فانتهرته قائلة: دعني وشأني يا بخيت، فلم يعد لي مطمع بالحياة بعد أن صارت الكلاب تدخل عرين الأسود، فهل مات ذلك الأسد؟ مَن لي بمن ينبئني بمقامه حيًّا أو ميتًا فأفديه بروحي، وعند ذلك إما أن أُحيي أملي، أو أصرم أجلي وأتخلص من العار.

فأسكتها بخيت بلطف قائلًا: طيبي نفسًا يا سيدتي؛ لعل وقت الفرج قد دنا، وقد قيل:

ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تُفرج

فالتفتت إليه مصغية وقد سكتت بغتة وقالت له: هل عندك خبر جديد؟ أخبرني.

قال: إن عندي خبرًا جديدًا أخبرك به متى سكن روعك وأصغيت إلى ما أقول. فمسحت دموعها وقالت ها أنا ذا قد أصغيت، فقل ما عندك.

فقال: اسمعي يا سيدتي، إن هذا الخائن إذا بقي حيًّا إلى الغد، فلن يبقى إلى ما بعده، ولو ساعدتني الأقدار لسقيته كأس المنون أمس، ولكن أبشري سوف أذيقه تلك الكأس عاجلًا أو آجلًا. آه من الأنذال، وأما المسألة الثانية، وهي الأهم، فقد عرفت شيئًا جديدًا عنها مما يختص بالدبوس.

فقالت مسرعة: قل حالًا ماذا عرفت.

قال: قد عرفت أنه دبوس سيدي.

قالت: ذلك عرفناه من قبل، ولكن كيف وصل إلى هذه المرأة؟

قال: قد عرفت الرجل الذي جاء به إليها.

قالت: وأين هو؟ هل هو بعيد من هنا؟

قال: كلا يا سيدتي، بل هو قريب جدًّا، بل هو في هذا الفندق.

فوقفت فدوى على قدميها بغتة وقالت: أين هو؟ أخبرني، ومن هو؟ ماذا قال عن شفيق؟

قال: يا سيدتي هو الطباخ، وقد قال: إن سيدي شفيقًا لم يسر في حملة هكيس باشا، بل …

فانتفضت فدوى واشتدت عزائمها ومالت بكليتها إلى بخيت، وأمسكته بيده وهزته وقد لاحت على وجهها أمارات السرور قائلة: أين ذهب إذن؟ قل حالًا.

قال: قد ذهب يا سيدتي في مهمة سرية إلى الأُبيِّض.

فقالت: وهل هو حي بعد؟

قال: لا نعلم. عسى أن يكون حيًّا.

فأخذت فدوى تثب في أرض الغرفة كأنها أصيبت بجِنَّة وهي تقول: حبيبي شفيق؛ سندي؛ فلذة كبدي. هل أنت حيٌّ بعد؟ قل يا بخيت، قل عن الأُبيِّض — بيَّض الله وجهك، ونصرك على عدوِّك.

قال بخيت قارعًا صدره: آمين، إن شاء الله، وأمسك فدوى بيدها وأجلسها، وقد اغرورقت عيناه بالدموع لِمَا رأى من تلهف سيدته وقال: اجلسي يا سيدتي فأُحدِّثك. فجلست وقص عليها الحكاية كما هي.

فلما استوعبتْها وتأملتها جيدًا قالت: ما رأيك يا بخيت؟

قال: الرأي أولًا أن أقتل هذا الخائن، ثم أقول لكِ ماذا أفعل.

فقالت: اقتله. لا بارك الله فيه، ولكن … وسكتت برهة.

فقال بخيت: لكن إيه … إنه مستوجب القتل حرقًا، فلا درَّ درُّه من خائن غادر.

فقالت: لا يا بخيت، لا تقتله. إن شفيقًا أوصى ألا نقتله، فهل نخالف الوصية؟

فوثب بخيت عن الأرض وحملق بعينه وقال: كيف لا نقتله وقد فرح بمقتل شفيق؟

قالت: لا لم يفرح، وإنما …

قال: كيف لم يفرح وقد كتب إليك يوم سمع بمذبحة هيكس باشا يقول في جملة قوله:

من عاش بعد عدوه
يومًا فقد بلغ المنى؟

قالت: ومتى كان ذلك؟ وكيف؟ فأخبرها.

فسكتت برهة ثم قالت: إن أخلاق شفيق لتأبى قتله مع ذلك، وأما الأمر الجدير بالاهتمام فإنما هو التفتيش عن شفيق، وإذا قدر لنا الظفر به، فإني أصفح عن هذا الخائن إكرامًا له.

فقال: لا، بل نقتله ليذهب فداءً عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤