فاتحة الكتاب للطبعة الأولى

حمدًا لمن جعل أقاصيص الأولين عبرة للآخرين، أما بعد: فلا أزيد القارئ علمًا بحد التاريخ، ولا بما له من المنزلة الرفيعة بين سائر العلوم، ولا بما يترتب على الإقبال عليه من إصلاح الشئون، وإنما أكتفي بكونه أكثر ارتباطًا بمصالح خاصة الناس منه بمصالح عامتهم. فقادة التمدن، ورجال السياسة، وكبار المصلحين أحوج إلى معرفته من سائر أفراد الأمة، ولذلك رأينا ولاة الأمور على اختلاف الأزمان والأحوال يصرفون العناية في مطالعته، وتفهم خفاياه، ويبذلون النفيس في استطلاع مكنوناته، وجمع شظاياه، فتكاد لا ترى مؤرخًا من القدماء إلا وقد أوعز إليه ولي الأمر أو من جرى مجراه أن يضع في التاريخ كتابًا، بل كثيرًا ما رأينا من ولاة الأمور أنفسهم من ألف فيه كتابًا غير مبالٍ بما يقتضيه ذلك من تجشم المشاق، ولا مستنكف من أن يقول الناس: إنه اعتنى بما هو دون مقامه.

ذلك كان شأن هذا العلم في الأزمنة الخالية، يوم لم يكن يتيسر لضعيف مثلي أن يطرق بابه أو يخوض عبابه؛ لقصر باعه عما يحتاج إليه في ذلك من المادة التي تمتنع إلا على الملوك أو المقربين منهم.

أما الآن فما يتباحث فيه الملوك صباحًا في مؤتمراتهم السرية بأقاصي المغرب لا يأتي عليه الضحى حتى يذيع بين الصانع والتاجر في أقاصي المشرق، والفضل في ذلك لأسلاك البرق وصحف الأخبار التي لم تغادر بين الخاصة والعامة حجابًا. فلا غرو — والحالة هذه — إذا تجرأ من كان عاجزًا مثلي على أن يضع في مثل ذلك كتابًا.

ولما كانت المملكة المصرية من أقدم الممالك تمدنًا، وأكثرها حوادث وطوارئ ومحنًا؛ لكثرة ما تداول عليها من الدول المتباينة نزعة ولغةً ووطنًا، كانت أجدرها بتدوين تاريخها عبرة للذين يعتبرون.

وبما أن تاريخها بعد الفتح الإسلامي أكثر ارتباطًا بحالتها الحاضرة من تاريخها قبله كان أكثر فائدة وأحوج إلى التدوين، وهذا ما ندعوه بتاريخ مصر الحديث.

وقد قام من كتبة العرب وأفاضلهم كثيرون اعتنوا بالكتابة عن مصر وتاريخها القديم والحديث، وسيأتي ذكرهم، وذكر مؤلفاتهم في الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام عن مصادر تاريخ مصر الحديث، وأحدث هذه المؤلفات: «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة، ومدنها، وبلادها القديمة والشهيرة» تأليف العلامة الفاضل صاحب السعادة علي باشا مبارك، ناظر عموم المعارف، جعله عشرين جزءًا كبيرًا، وهو من التآليف التي لا يقدم على كتابتها إلا أصحاب الهمم العالية، والمعارف الواسعة، وقد كان عليه معتمدي، وإليه مرجعي في كثير من المواضيع، ولا سيما فيما يتعلق بالشوارع والجوامع.

ومن الغريب أني لم أرَ بين المؤرخين الذين كتبوا عن مصر من اعتنى بوضع تاريخٍ لها مستوفٍ على أسلوب قريب من فهم العامة، ورضى الخاصة، تتعاقب فيه الحوادث بتعاقب السنين مع علاقة كل ذلك بالدولة الإسلامية عمومًا وسائر الدول المعاصرة، وأغرب من ذلك أني لم أر بين مدارس القطر السعيد — من أميرية وغير أميرية — مدرسة تعتني بتدريس هذا التاريخ الذي هو تاريخ بلادها، ولعل السبب في ذلك: عدم وجود الكتب الموضوعة على أسلوب مناسب للتدريس.

وقد رأيت الناس يلهجون باحتياج البلاد إلى مثل هذا التاريخ؛ فأخذت على نفسي — مع علمي بعجزي — أن أبذل الجهد في سد هذا العوز، معتمدًا على أصح الروايات، وأصدق الكتبة من ثقات المشرق والمغرب، ملتزمًا في كل ذلك صحة النقل، وانتقاء أصح الروايات، وتطبيق كل ذلك على الأحكام العقلية، وإغفال كل ما هو مقول بغير قياس من التقاليد والخرافات.

وقد عنيت إتمامًا لمعدات التأليف بتفقد الآثار العربية بنفسي بإذن من نظارة الأوقاف الجليلة، فزرت معظم جوامع القاهرة وضواحيها، ولا سيما ما كان منها قديمًا كجامع عمرو، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وجامع السلطان حسن، وجامع السلطان برقوق، وجامع قايت باي، وجامع الغوري … وغيرها، وزرت ما هنالك من البنايات القديمة كالقلعة وما جرى مجراها، وتسلقت ما صعب مسلكه منها، ولا سيما أسوار القاهرة القديمة وأبوابها كباب النصر، وباب الفتوح، وباب الشعرية … وغيرها، ومن هذه الأماكن ما قد تداعت أركانه، وصعب الصعود إليه إلا بالمخاطرة. فكثيرًا ما كنت أخاطر بحياتي لهذه الغاية، ومن الآثار العربية التي تفقدتها — ما عدا الجوامع والمشاهد والتكيات والشوارع — قصر الشمع، أو دير النصارى في مصر القديمة، ودار التحف العربية في جامع الحاكم بشارع النحاسين، وغير هذه الأماكن في القاهرة وضواحيها كالقناطر الخيرية … وغيرها.

أما الآثار المصرية القديمة: فقد تفقدتها كلها أيضًا، ولا سيما ما هو منها في مصر العليا مبتدئًا من أهرام الجيزة بجوار القاهرة إلى ما وراء وادي حلفا آخر حدود مصر، فزرت خرائب سقارة وإسنا، وطيبة، والكرنك، وبيبان الملوك، وجبل السلسلة، وأنس الوجود، وأبا سنبل … وغيرها، ومثل ذلك آثار مصر السفلى مبتدئًا بالمطرية فأتريب فغيرها، وفي مصر العليا فضلًا عن الآثار المصرية القديمة آثار استحكامات وبنايات بناها المماليك أو غيرهم في حال محاربتهم حكومة البلاد أو دفاعهم عنها.

كل هذه الأماكن تفقدتها جيدًا إتمامًا لمعدات التأليف، ولما توفرت لديّ المواد اللازمة باشرت تأليف هذا الكتاب، ودعوته: «تاريخ مصر الحديث» من الفتح الإسلامي إلى هذه الأيام. ثم رأيت أن الفائدة لا تتم إلا إذا جعلت في مقدمته ملخص تاريخ مصر القديم؛ ربطًا للحوادث بعضها ببعض، وبتزيينه بالرسوم، والخارطات، وإيضاحات أخرى. فجاء بحمد الله كتابًا في جزأين كبيرين، وهاك ملخص ما تضمنه:
  • (١)

    فذلكة في تاريخ مصر القديم من أول عهدها إلى الفتح الإسلامي.

  • (٢)

    تاريخ مصر الحديث من الفتح الإسلامي إلى هذه الأيام، وهو مقسوم إلى دول تحتها خلافات أو سلطنات أو أمارات مرتبة حسب أزمان حكمها، فيبدأ بدولة الخلفاء الراشدين، فبني أمية، فالعباسيين، وهكذا حتى العائلة المحمدية العلوية الحاضرة.

  • (٣)

    وفي الكتاب زهاء مائة رسم، بينها رسوم الجناب العالي والمغفور له محمد علي باشا، والخديوي السابق، وبونابرت، ورعمسيس الثاني، وتحوتمس الثالث، وأمنوفيس الثالث وغيرهم، وبين هذه الرسوم أيضًا معظم النقود الإسلامية، ولا سيما المضروبة في مصر منذ صدر الإسلام إلى اليوم، ورسوم أخرى كحجر رشيد، وآلهة المصريين، وخرائب المطرية، وأنس الوجود، وإدفو … وغيرها.

  • (٤)

    وفي ذيل الكتاب جدول عام لأسماء الذين تولوا مصر من الأمراء والخلفاء والسلاطين والباشوات، من الفتح الإسلامي إلى اليوم، مرتبة حسب أزمان حكمهم، وبجانب ذلك عدد الصفحة التي ذكرت فيها تولياتهم من هذا الكتاب، ثم إذا كانوا أمراء أو ولاة يذكر بإزاء ذلك أسماء الخلفاء أو السلاطين الذين تولوا البلاد باسمهم.

  • (٥)

    في خاتمة الكتاب فهرس أبجدي عام لكل ما ورد في هذا الكتاب من المواضيع المهمة كالفتوحات، والمحاربات، والبنايات، والتقلبات، وأسماء الخلفاء والسلاطين والأمراء والباشوات … وغيرهم ممن حكموا مصر. هذا فضلًا عن فهرس خاص لكلٍّ من جزئي الكتاب.

  • (٦)

    قد جعلت للكتاب فضلًا عن الرسوم المتقدم ذكرها أربع خارطات، وهي: أولًا: خارطة مدينة القاهرة كما هي الآن. ثانيًا: خارطة مصر السفلى. ثالثًا: خارطة مصر العليا. رابعًا: خارطة القطر المصري قبل الفتح الإسلامي.

وقد عنيت في ضبط هذا التاريخ، وربط حوادثه جهد الطاقة، مغفلًا كثيرًا من الروايات التي ترجح فسادها بعد النظر والتروي، متحاشيًا الألفاظ المستهجنة، والتعبيرات المعقدة ما أمكن، متخذًا أفضل أسلوبٍ تفهمه العامة، وترضاه الخاصة بغير إخلال ولا إملال. راجيًا من أصحاب النقد أن ينظروا إليه بعين الرضى إذ العصمة لله وحده سبحانه وتعالى.

يقال في الأمثال «من ألف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف» أما أنا فإن أحسنت فإن الفضل لأفاضل الكتبة، وثقات الرواة الذين سبقوني؛ لأني لم آت بشيء من عند نفسي ما خلا الحوادث التي قدر لي أن أكون فيها شاهد عين، وما تفقدته بنفسي من الآثار العربية والمصرية، وإن أسأت فذلك دأب العاجز، ولكني أرغب إلى من يعثر لي على خطأ أن ينبهني إليه، فأشكر سعيه، وأثني عليه؛ لأني أستحيي من الحق إذا عرفته أن لا أرجع إليه. أو يعذرني فإن أعقل الناس أعذرهم للناس، ولا أقول إن كل خطأ سهوٌ جرى به القلم، بل أعترف أن ما أجهل أكثر مما أعلم، وما تمام العلم إلا لمن علّم الإنسان ما لم يعلم.

هذا، وأرجو أن تصادف خدمتي هذه لدى إخواني أبناء هذا القطر السعيد قبولًا وإقبالًا، وأتقدم إلى رجال العلم منهم أن يتحفونا من نفثات أقلامهم بما هو أوفر مادة وأجزل نفعًا؛ لأني أعلم أن بين ظهرانيهم رجالًا لهم من العلم وسعة المعرفة ما يؤهلهم لما هو أفضل من ذلك كثيرًا. فتتم سعادة البلاد، ونكون قد قمنا ببعض الواجب علينا نحوها ونحو أميرها الخطير سمو خديوينا المعظم محمد توفيق باشا الأفخم أدام الله أيامه باسمة الثغور، في ظل صاحب الخلافة العظمى مولانا السلطان الغازي عبد الحميد خان أيد الله أيام دولته بالعز والإقبال، وأدام شوكته واقتداره ما تكرر الجديدان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤