الفصل السابع

الدولة العباسية للمرة الثانية

من سنة ٢٩٢–٣٢٣ﻫ/٩٠٥–٩٣٤م

(١) خلافة المكتفي بن المعتضد (من ٢٩٢–٢٩٥ﻫ/٩٠٥–٩٠٨م)

فعادت مصر إلى سلطة الدولة العباسية في خلافة المكتفي فأقام عليها عيسى النوشري، وبعد ٣ سنوات توفي المكتفي يوم الاثنين في ١٣ ذي القعدة سنة ٢٩٥ﻫ وعمره ٣١ سنة و٣ أشهر بعد أن حكم ٦ سنوات و٧ أشهر و٢٢ يومًا.

(٢) خلافة المقتدر بن المعتضد (من ٢٩٥–٣٢٠ﻫ/٩٠٨–٩٣٢م)

وفي يوم وفاة المكتفي بويع أخوه جعفر المقتدر بالله وعمره ١٣ سنة. فلم يحدث في الإمارات تغييرًا يذكر فأقر عيسى النوشري على مصر. على أن هذا اضطر بعد حين أن يتخلى عنها لمحمد بن الخليج، ولم يلبث بضعة أشهر حتى اقتضت الأحوال إعادة النوشري فعاد فتولاها نحو ٣ سنوات.

وفي شعبان سنة ٢٩٧ﻫ توفي فأبدل بتكين الخزري أبي منصور، وبقي إلى سنة ٣٠٢ﻫ فأقيل، وأقيم مقامه زكا الرومي أبو حسن الأعور. فتولى مصر خمس سنوات، ومات في ربيع الأول سنة ٣٠٧ﻫ فأعيد تكين ثانية، وبعد أيام توفي تكين تاركًا ولدًا يدعى محمدًا، وهذا وضع يده على حكومة مصر بدون إذن الخليفة. أما الخليفة المقتدر فقتل في ٢٨ شوال سنة ٣٢٠ﻫ وعمره ٣٨ سنة بعد أن حكم ٢٤ سنة و١١ شهر و١٦ يومًا.

(٣) خلافة القاهر بن المعتضد (من ٣٢٠–٣٢٢ﻫ/٩٣٢–٩٣٤م)

فبويع أخوه القاهر بالله الابن الثالث للمعتضد بالله. فأراد هذا أن يقاصَّ محمد بن تكين على جسارته على مصر أبا بكر محمد بن طغج، ومن هذا نشأت دولة حكمت مصر وسوريا مدة من الزمن عُرفت بالدولة الإخشيدية.

(٣-١) مبدأ الدولة الإخشيدية

وكان أبو بكر محمد بن طغج في ذلك الحين حاكمًا في دمشق، وأصله من أولاد ملوك فرغانة، وكان المعتصم بالله بن هارون الرشيد قد جلب إليه من فرغانة جماعة من أقوياء الرجال، ووصفوا له جف (جد أبي بكر محمد) وغيره بالشجاعة، والتقدم بالحروب فوجه المعتصم من أحضره. فلما وصلوا إليه بالغ في إكرامهم، وأقطعهم قطائع في سامرا، وفي جملتها قطائع جف فأقام جف في سامرا (أو سر من رأى) وجاءته الأولاد، وتوفي في بغداد في الليلة التي قتل فيها المتوكل الأربعاء في ٣ شوال سنة ٢٤٧ﻫ وخرج أولاده إلى البلاد يتصرفون ويطلبون لهم معائش، واتصل طغج بن جف بلؤلؤ غلام ابن طولون، وهو إذ ذاك مقيم بديار مضر (في ما بين النهرين) فاستخدمه على ديار مضر، ثم انحاز طغج إلى جملة أصحاب إسحاق بن كنداج. فلم يزل معه إلى أن مات أحمد بن طولون، وجرى الصلح بين ابنه خمارويه وبين إسحاق بن كنداج.

ونظر أبو الجيش خمارويه إلى طغج بن جف في جملة أصحاب إسحاق فأعجب به، وأخذه من إسحاق، وقدمه على جميع من معه، وقلده دمشق أو طبرية، ولم يزل معه إلى أن قتل أبو الجيش فرجع طغج إلى الخليفة المكتفي بالله فخلع عليه، وعرف له ذلك، وكان وزير الخليفة يومئذٍ العباس بن الحسن، فسام طغج أن يجري بالتزلف مجرى غيره. فكبرت نفس طغج عن ذلك فأغرى به المكتفي فقبض عليه وحبسه وابنه أبا بكر محمد بن طغج المذكور، فمات في السجن، وبقي ولده أبو بكر معه محبوسًا مدة، ثم أطلق وخلع عليه، ولم يراسل العباس بن الحسن الوزير المذكور حتى أخذ بثأر أبيه هو وأخوه عبيد الله في الوقت الذي قتله فيه حسين بن أحمد بن حمدان.

وخرج أبو بكر وأخوه عبيد الله في سنة ٢٩٦ﻫ وهرب عبيد الله إلى ابن أبي الساج، وهرب أبو بكر إلى الشام، وأقام متغربًا بالبادية سنة، ثم اتصل بأبي منصور تكين الخزري فكان أكبر أركانه، ومما كبر به اسمه سريته في البعث إلى الجمع الذين تجمعوا على الحجاج؛ لقطع الطريق عليهم سنة ٣٠٦ﻫ وهو حينئذٍ يتقلد عمان وجبل الشراة من قبل تكين المذكور، وظفر بهم، ونجا الحجاج، وقد فرغ من أمرهم بقتل من قتله، وأسر من أسره، وشرد الباقين.

وكان قد حج في هذه السنة من دار الخليفة المتقدر بالله امرأة تعرف بعجوز، فحدثت المقتدر بالله بما شاهدت فأنفذ إليه خلعًا وزاده في رزقه.

ولم يزل أبو بكر في صحبة تكين إلى سنة ٣١٦ﻫ ثم فارقه بسبب اقتضى ذلك، وسار إلى الرملة فوردت كتب المقتدر إليه بولاية الرملة فأقام بها إلى سنة ٣١٨ﻫ فوردت كتب المقتدر إليه بولاية دمشق، وسار إليها، ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهر بالله ولاية مصر في رمضان سنة ٣٢١ﻫ لكنه لم يذهب إلى مصر لاستلام المنصب المشار إليه، ولم يلقب به إلا مدة شهر فقط. ثم عين الخليفة مكانه أحمد بن كيغلغ سنة ٢٢١ﻫ وحصل في تلك الأيام اضطرابات في الخلافة بلغ صداها القطر المصري.

(٤) خلافة الراضي بن المقتدر (من سنة ٣٢٢–٣٢٣ﻫ/٩٣٤–٩٣٤م)

وفي ٥ جمادى الأولى سنة ٣٢٢ﻫ عزل القاهر بالله عن دست الخلافة بعد أن حكم سنة و٦ أشهر وستة أيام، وفي اليوم الثاني بويع ابن أخيه الراضي بالله بن المقتدر، وحال توليته الخلافة عزل ابن كيغلغ عن مصر وولى مكانه محمد بن طغج فقدم لاستلام الإمارة فامتنع ابن كيغلغ من تسليمه، وتخاصما حتى عمدا إلى السلاح، وبعد محاربات شديدة كان الفوز لمحمد بن طغج، وفر أحمد بن كيغلغ بمن معه وذويه إلى برقة، ومنها إلى القيروان.

(٤-١) مبدأ الدولة الفاطمية

وكانت القيروان وسواحل الغرب تحت سلطة دولة مستقلة عن العباسيين تدعى الدولة الفاطمية نسبة إلى الفاطميين، وهم من كتامة بالقرب من فاس في الطرف الغربي من إفريقية، ويدعون أنهم من سلالة إسماعيل الإمام السادس من سبط علي، وبعبارة أخرى من سلالة فاطمة ابنة النبي ومنها لقبهم، ويلقبون أيضًا بالإسماعيليين والعبيديين والعلويين، وكانوا قد أخذوا في نشر سلطتهم منذ سنة ٢٦٩ﻫ في شمالي إفريقيا وغربيها في أحزاب من الأغالبة والإدريسيين كانوا قد خلعوا طاعة الخلفاء العباسيين في بغداد وخلفاء بني أمية في الأندلس.

وفي سنة ٢٨٠ﻫ استولى زعيم الفاطميين أبو محمد عبيد الله على القيروان، وفي سنة ٢٩٦ﻫ رأى من نفسه القوة فادعى الخلافة فبويع، ولُقب بالخليفة عبيد الله المهدي، وأنه آخر الأئمة العلويين الذي يدعي أنه منهم، وأنه أحق مِن سواه بالخلافة. فأصبحت الدولة الإسلامية بذلك منقسمة إلى ثلاث دول على كل منها خليفة يدعي الأحقية بالخلافة، وهم: بنو أمية في الأندلس، وبنو العباس في بغداد، والفاطميون في القيروان. فلما سمع عبيد الله المهدي زعيم الفاطميين عن حالة مصر مع ما هي عليه من الثروة والخصب تاقت نفسها إليها، وأخذ يسعى في الاستيلاء عليها.

وبعد خلافته بخمس سنوات أي في سنة ٣٠١ﻫ بعث إلى مصر أربعين ألف مقاتل في ٣ فرق مع الرجاء الوطيد بفوزها. فعلم الخليفة المقتدر بالله بما نواه المهدي فجهز جيشًا لدفع هذه الرزيئة عن مصر؛ فجرت بين الفريقين وقائع عديدة شفت عن فوز الجيوش المصرية. فعاد الفاطميون على أعقابهم، وطاردهم المصريون حتى أخرجوهم من حدود مصر. فرأى عبيد الله بعد هذا الفرار أن يؤجل افتتاح مصر لوقت آخر، ولكنه رأى أيضًا حصونه غير كافية؛ فأسس مدينة دعاها المهدية نسبة إليه على أن تكون عاصمة وقتية ريثما يفتح مصر فيجعل عاصمتها عاصمته؛ لأنه كان مصممًا على افتتاحها إلا أن ذلك الافتتاح لم يتيسر لعبيد الله ولا لخلفه الأول والثاني، وفي سنة ٣٢٢ﻫ توفي عبيد الله المهدي وسنه ٦٣ سنة بعد أن تولى الخلافة الفاطمية ٢٦ سنة، فتولى ابنه أبو القاسم محمد الملقب بالقائم بأمر الله، وكان أكثر تشوقًا للافتتاح من أبيه.

وفي أيام القائم هذا جاء أحمد بن كيغلغ مطرودًا من مصر يطلب ملجأ عنده، وجعل يحثه على المسير إلى مصر وافتتاحها فرأى القائم أن في افتتاحها عظمة وفخرًا؛ فجهز إليها، فعلم محمد بن طغج ذلك فحصن الحدود الغربية لمصر، وجعل فيها حامية قوية. لكن ذلك لم يمنع من نزول القضاء؛ لأن الفاطميين فتحوا الإسكندرية، وبعد أن مكنوا قدمهم فيها تقدموا بجيوشهم حتى دخلوا الفسطاط، واحتلوا قسمًا كبيرًا من الصعيد. ثم رأى القائم بأمر الله أن جنده لا يقوون على افتتاح العاصمة فأجل ذلك ريثما تضعف شوكة الدولة العباسية أكثر من ضعفها إذ ذاك فيسهل عليه افتتاحها.

أما الدولة العباسية فكانت في غاية الضعف؛ لأن إماراتها أخذت تستقل عنها شيئًا فشيئًا. فاستولى القرامطة على سوريا وقسم من جزيرة العرب، والسامانيون على خراسان، والأمويون على الأندلس، والفاطميون على إفريقيا، والحمدانيون على ما بين النهرين وديار بكر، وبنو بويه على بلاد فارس، ولم يبق للعباسيين إلا بغداد وبعض ضواحيها ومصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤