الغوص في حقبة السادات

لكي أستطيع الحكم على السادات من خلال مذكرات محمد إبراهيم كامل، والوقائع التي أوردها كشاهد عيان أو شاهد ملك (رئيس جمهورية هذه المرة) عن المدة التي قضاها وزيرًا لخارجية مصر في أحرج فترة تحدَّدت فيها سياسة جديدة تبعد بزاويةٍ قدرها ١٨٠ درجة عن سياستها في الأحقاب السابقة، وحتى في عصر ما قبل ثورة يوليو أيام حكم السراي والأقليات والإنجليز، كان عليَّ أولًا أن أحكم على المذكرات نفسها؛ ولهذا كان عليَّ أن أنتظر حتى يفرغ نشرها تمامًا. ليس هذا فقط، بل وجدت نفسي أتصرَّف بما يُمليه ضمير أي قاضٍ، أو بالأصح بما يُمليه ضمير أي إنسان ينشد إصدار أي حكم موضوعي عادل على أي إنسان أو حقبة. وأنا ممن يؤمنون كثيرًا بأهمية أن أرى من يهمُّني الحكم عليهم أو على أعمالهم وجهًا لوجه.

فالشكل البشري والجسد البشري نفسه والملامح، والنواة العقلية العصبية المدفونة بعمقٍ داخل الإنسان، لا يستطيع هو نفسه في معظم الأحيان أن يُعبِّر عن كل ما تحتويه، وتستطيع هي ودون وعي منه أن تُصدِر إشارات من تصرُّفات وإيحاءات وطريقة تأكيد كلمة أو رسم شخص، أو فلتة لسان تومئ إلى ما يريد الإنسان أن يمنع لسانه من الخوض فيه، أشياء كثيرة جدًّا علمتني الحياة بعدها لكي أكون موضوعيًّا تمامًا في حكمي على إنسان أن أراه، وأعتمد على إحساسي الذاتي المحض، الذي تستجيب فيه نواتي الداخلية الدفينة لإشاراتٍ واعية أو غير واعية تصدر عن الإنسان الآخر، وبإدراك واعٍ وغير واعٍ منِّي، إدراك أطلقنا عليه — نحن العرب — كلمة «الفِراسة». والفِراسة موهبة يمتلكها كثيرون في موطني الأصلي بمحافظة الشرقية بمصر؛ فالشراقوة يمتلكون طيبة وخبث الفلَّاح المصري القديم، وأيضًا ولطول وكثرة ما احتكُّوا بالقبائل والمماليك العربية الشرقية، بحضرها وتُجَّارها وبَدوها، يمتلكون أيضًا نوعًا من الفِراسة يتخصَّص بعضهم فيها و«يقيسون الأثر»، أو يقيمون العدالة في مجالس القضاء الشعبي والعربي، أو يشتهر عنهم القدرة على فرز معادن وأنواع واستكشاف خواص الرجال.

وثلاثة أرباع أحكامي على الآخرين أُصدرها من أول دقائق تعرُّفي بهم، ولم أُخطئ في حكمي مرةً واحدة. ولا أقول هذا تفاخرًا أرعن بالذات، وإنما لأُذكِّر المُتشكِّك من القرَّاء أن المعرفة «الفِراسية» أو المعرفة ﺑ «الأنتويشن» أو بالإدراك الحدسي هي حقيقةٌ علمية مُعترَف بها، وأحيانًا يعتبرونها طريقةً أكثر مباشرة وأكثر دقة وصحة من المعرفة المبنية على التحليل أو التجميع أو الإدراك العقلي المحض غير المختلط بالإحساس الجوَّاني الذاتي المُرهَف.

وهكذا لم أكتفِ بقراءة المذكرات، وإنما رحَّبت بالفكرة التي عرضها صديقٌ مشترك، والتقيت بوزير خارجيَّتنا السابق لأول مرة، ورأيته رأي العين.

والحق أني سعدت بمعرفته، وسعدت أكثر أن الصورة التي كنت قد كوَّنتها عنه لم تتغيَّر أبدًا حين عن عمدٍ حاولت جهدي — وليغفر لي هذا — أن أستخلص أي زاوية أو كسر من زاوية تغيُّر في حكمي الغيبي عنه، حتى ما تصوَّرته من وجود ذلك العامل الهام جدًّا في عالمنا الثالث، بل وفي كل العالم، من رغبة أو هزَّة لمنصب الوزير تعمل عملها لدى أي عرض بالوزارة يتلقَّاه المُواطن، خاصةً إذا كان هذا المُواطن قد قضى عمره مُوظَّفًا في نفس الوزارة التي يُعرَض عليه الآن وزارتها، مسائل طبيعية بشرية، بعض الناس يضع نفسه فوق مستوى البشر في مصافِّ الملائكة، ويجزم أنه لا يُحسُّها ولا يُوليها أي اهتمام، ولكن مشكلتي أني لست ذلك المُتحزِّب السياسي وحيد النظرة، بل لست حتى كاتبًا سياسيًّا، أنا كاتبٌ درامي حين أكتب في السياسة وعنها وعن رجالها، أستخدم كل قدراتي الدرامية والفنية لأُحاول تخيُّل كنه ما حدث بالضبط، وأيضًا، وهذا هو المهم، أُحاول ألَّا أجعل السياسيين مجرد قضايا، ولكن أراهم كما هم بشرًا وشخصيات ونقاط ضعف ونقاط اختراق، ونقاط قوة أيضًا، بل أحيانًا أعرف الكثير عن مبدأ السياسي أو طريقته، من شخصية زوجته ورأيه فيها ورأيها فيه، والعلاقة القائمة بينهما أو بينه وبين عائلته؛ فالزوجة للسياسي أول اختياراته الشخصية الحاسمة، وامتحان يُحسَب له أو عليه، بل قد يقوده — كما حدث في أحيانٍ كثيرة — إلى حتفه.

وفي اللقاء ملأت — بالأسئلة الكثيرة وما تلقَّيته من إجابات — الفجوات المتعددة التي خلَّفتها قراءة مذكرات الرجل؛ فلقد كتب المذكرات وكأنما يعيد على مسامع نفسه بصوت عالٍ كل ما جرى وكان، في حين أن كل قارئ لا بد أن يقرأ هذه المذكرات ليستكمل بها الجزء الناقص من صورة ما عِشناه جميعًا، بدءًا من مبادرة القدس ٧٩ إلى توقيع معاهدتَي كامب ديفيد. ولأن هدفي الشخصي، أو بالأحرى موضوعي كان هو بطل تلك الفترة (أنور السادات)، فقد كنت أقرأ المذكرات وأتتبعها، وها أنا ذا أتصدَّى للتعليق عليها رغم أن أحدًا لم يطلب منِّي هذا التعليق، ورغم أنه قد يخلق لي مشاكل لا أول لها ولا آخر، وما فعلت هذا إلا لإحساسٍ جادٍّ بالواجب الذي أملى عليَّ أن أُسمِّي آخر مجموعة من «مفكرة يوسف إدريس» صدرت في كتاب باسم: شاهد عصره.

فالكاتب في رأيي شاهد، ليس شاهد «ما شافش حاجة»، وإنما شاهد بحكم عمله وبالضرورة رأى كل شيء، وجائزٌ أنه رأى ولم يُدرك، أو أدرك معنى بعض ما رأى، ولكن الكاتب بحكم وظيفته الحيوية الاجتماعية عملُه أن يرى ويسمع وأحيانًا يقرأ، ويعيش عصره وبلده وعائلته الصغيرة والكبيرة؛ فإذا حدث هذا فإن عمله التالي المُحتَّم أن يُدليَ بشهادته، ليس بعد فوات العصر وإنما أيام العصر نفسه؛ فهو شاهد عصره على عصره وأمام مُعاصريه؛ فالكاتب الحق لا يكتب ليُسجِّل موقفًا، وإنما هو يكتب ليُغيِّر، ليُغيِّر الناس؛ وبالتالي ليُغيِّر العصر، وإلا خرج عن دائرة الكتابة أصلًا، أو أهمل دوره إهمالًا يصل أحيانًا إلى حد الخيانة.

شاهد عصره، لا بد أن يكون الكاتب، شاء أم أبى. وأحد هواياتي كقارئ أن أتفرَّج على زملائي الكُتاب والصحفيين وأرى كيف ومتى يُدلون بشهاداتهم وأمام من.

ومن المُضحِك أن الكثيرين منهم أعتبرهم وبضميرٍ مُستريح شهودَ زور؛ لأنهم في الغالب يُدلون بشهادتهم على عصرٍ أمام عصر آخر يستعذب التُّهم المنسوبة لمن سبق، بل وأعرف كاتبًا على وجه التحديد لا عمل له إلا الإدلاء بشهادات مُخالفة تمامًا لدوره الحقيقي الذي عرفه الناس عنه، وكان دائم الجهر به، ويفعل هذا بحماسٍ شديد وبنوع من الكذب المُتحمِّس تمامًا على الذات وعلى الناس وعلى التاريخ، وحتى على أولئك الذين رأوه رأيَ العين داعية ومُبشِّرًا وقارع أجراس القداسة لعصر بأكمله. أليس من المُضحِك أن تقرأ له بعد هذا بطولاته في عداء ذلك العصر وملكه وانحيازه للشعب الكادح أيامها وقضيَّته؟

مهزلة.

شهادة الكاتب على العصر، كم من الجرائد تُرتكَب في حقك وباسمك أيتها الشهادة، وإلى الآن، وبلا أدنى خجل، قليل من الخجل أيها الكذابون الكبار، قليل من الخجل؛ فعلى من تضحكون؟ ومن تخدعون؟ وأصابع الناس حتى الصِّبية الذين لم يشهدوا عصركم «المجيد» ذاك يُشيرون عليكم بها من خلف ظهوركم سخريةً، سخرية من الذين يُحاضرونهم صباح مساء عن الصدق وقدسية الكلمة وشجاعة قول الحق، وهم وهم أنفُسهم يُفوِّتون الجَمل أمام الأعيُن من ثَقبِ الإبرة، والكذبة التي يعرف الجميع كذبها مهما يُغطونها بالتهاويل والتحسينات والكساوي عاريةٌ مِثلهم، هكذا الكل يراها، عارية مِثلهم حتى من ورقة التوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤