خسرنا كل شيء وكسبوا كل شيء

كانت مصر هي الخاسرة، حتى قبل دخول المفاوضات، في كامب ديفيد خسرنا ما حقَّقناه بالعبور والحرب ولم نكسب السلام، بدليل أن الرئيس حسني مبارك ذكر بنفسه أنه خلال مجزرة لبنان واستعدادًا لها حشدت إسرائيل سبع عشرة فرقة من جيشها على حدودنا.

بربِّكم أيها المالئون الدنيا ضجيجًا وفرحة بتحقيق السلام وانتهاء الحرب، وتوفير الصرف على الجيش، يا هؤلاء أيُّ سلامٍ هذا الذي يمكن أن نُحسَّه أو نتصرَّف على أساسه ونحن مُهدَّدون لدى أي حركة في المشرق العربي ولدى أي اضطراب يحدث، ولا يكون لمصر أبدًا يد فيه؛ مُهدَّدون بالآلة العسكرية الإسرائيلية تنتشر على حدودنا الشرقية وتُكشِّر عن أنيابها؟ ومن يدري؟ ربما في المرة القادمة تنقضُّ وتضرب. ألا يترتب على هذا أننا لا بد رغم معاهدة «السلام» وفكرة السلام، وحكاية آخر الحروب، لا بد أن نُبقي على جيوشنا كاملةً ومُسلَّحة ومستعدَّة لنحمي بها «السلام» المزعوم؛ أم نُفرِّط ونُفرِّق جيشنا ونُصفِّيه تجاه دولة ما تكاد فيها سماء المنطقة تتعكَّر حتى تُوجِّه لنا الآلاف المؤلَّفة من فوَّهات مدافعها وطائراتها وصواريخها وبنادقها؟

أي سلام هذا الذي حصلنا عليه بمعاهدة السلام؟

إننا في الحقيقة لم نحظَ إلا بكلمة نظرية محضة اسمها السلام، علينا طول الوقت أن نُدافع عنه وعن أرضنا وعن احتمال العُدوان علينا، ونُدافع عنه ونحن «مُكتَّفون» بسيناء المنزوعة السلاح وبمعاهدة كامب ديفيد. ومُضحِك فعلًا أن نُعطي الإسرائيليين في كامب ديفيد — فوق ترسانة سلاحهم — سلاحًا أضخم هو سلاحُ غلِّ يدنا وتقييد حركتنا حتى على أرضنا في الدلتا والوادي؛ فما أخذناه إذَن في كامب ديفيد ليس السلام، وإنما أخذنا مقلب أن نُسالم نحن بينما هم يتسلَّحون ويحشدون بكامل ومطلق حريتهم، وننزع نحن سلاحنا بأيدينا عن سيناء، وننزع بأجهزة الإنذار المبكر السِّرية المفروضة أن نتكتَّم بها أمور دفاعنا الشرعي عن أنفسنا، بالسلام المزعوم حرَّرنا يد إسرائيل تُعربد في المنطقة وعلى حدودنا، وغللنا يدنا حتى عن أن تُدافع عن سلامنا وأرضنا داخل البيت المصري نفسه. بكامب ديفيد إذَن أعطينا إسرائيل منحة تفرُّغ كامل تُصفِّي فيه الموقف العسكري والسياسي في المشرق العربي كما يحلو لها.

وفي نفس الوقت خسرنا نحن الموقف هناك وعادينا دُوله.

وما لم تستطِع إسرائيل تحقيقه في جبهة القتال عام ٧٣، حقَّقته بسلاح المفاوضات والطابور الخامس الكائن في اﻟ ٩٩ ورقةً الرابحة في يد أمريكا.

وماذا كان يمكننا عمله غير هذا؛ غير كامب ديفيد؟!

والإجابة ببساطة هي لا شيء أبدًا، لم يكن مطلوبًا أن نعمل شيئًا بالمرة؛ فإذا كانت الطريقة الوحيدة لأن نعمل هي أن نعمل ضد أنفُسنا ومصالحنا فليذهب العمل إلى الجحيم، ولنأخذ نفس الموقف الذي تقفه الأردن أو السعودية ما دام الطريق السلمي إلى تحرير سيناء يعني أن نُحرِّر جزءًا من الأرض لنُكبِّل الجزء الأكبر من إرادتنا وحريتنا وحركتنا؛ فمعاهدة كامب ديفيد بمثل ما حرَّرت إسرائيل من التهديد المصري، كبَّلتنا نحن بالتهديد الإسرائيلي الذي لا نستطيع الرد عليه بتهديد مُماثل أو حتى الشكوى منه؛ فقبل كامب ديفيد كنا مُقيَّدين رغمًا عنا، ومعنى هذا أن حقَّنا الواضح كان أن نُحاوِل ونُناضل لكسر هذا القيد الإجباري، بينما بعد كامب ديفيد نحن أصبحنا مُقيَّدين «بإرادتنا» وبتوقيعنا.

ويا له من فارقٍ ضخم!

إسرائيليًّا وعربيًّا ودوليًّا كسبت إسرائيل في كامب ديفيد.

مصريًّا وعربيًّا وأيضًا دوليًّا خسرنا نحن.

أمريكيًّا … نعم أمريكيًّا كان النجاح الساحق فعلًا.

فكامب ديفيد اتفاقٌ تطوُّعي بين بيجن والسادات لتقديم المنطقة وكل نتائج حرب ٧٣ والقوة الذاتية العربية هديةً للولايات المتحدة على طبق من الفضة. بحرب ٧٣ ارتفع البترول وانخفض الدولار، وبثورة إيران تدنَّت القوة الأمريكية إلى نصف مواقعها عالميًّا.

وبكامب ديفيد ارتفع الدولار وانخفضت قدرة الأوبك، ووصل الضعف العربي إلى مستوًى لم يكن يحلم به أعدى أعداء العرب.

واقتصاديًّا تضاعفت ديوننا الخارجية.

وشُلَّ الوجود العسكري المصري تمامًا، ولم يعد ثَمة وجود عسكري إلا لإسرائيل كي تُدمر، والقوى المُتعددة الجنسيات بقيادة البنتاجون لتُحيل العربدة الهوجاء إلى وجودٍ إسرائيلي أمريكي مُنظَّم.

وما نفعل حتى بما يُسمَّى التدريبات المشتركة لقوة الانتشار السريع والنجم الساطع، لا يسطع سوى نجمنا نحن إذا هوى وتدنَّى، وأصبح عليه لكي يأخذ السلاح أن يدفع الثمن تبعية للاستراتيجية الأمريكية «للدفاع»، بالأصح تأكيد السيطرة على المنطقة العربية وثرواتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤