تراجيديا السياسة

يعتمد الفن المسرحي، أو بمعنًى آخر الدراما، على قاعدة أنَّ نوع الشخصية يخلق نوع الموقف الذي تُعاني منه، وأيضًا يستطيع الموقف أن يخلق ويوجد الشخصية المُلائمة له.

الموقف بدأ بهزيمة ٦٧؛ لأن عبد الناصر كان هناك؛ فمع الهزيمة بدأت المقاومة وحرب الاستنزاف وإعادة تكوين القوات المسلحة، تلك التي تُوِّجت في النهاية بحرب وانتصار ٧٣.

ولكن لأن الذي قاد ٦٧ كان عبد الحكيم عامر، وكان مؤكَّدًا أن تؤدي طريقته والمُسيطرين على القوات المسلحة من أصدقائه إلى الهزيمة النكراء.

والذي قاد الجيش من ٦٧ إلى ٧٠ كان عبد الناصر؛ فقد كان مُحتَّمًا أن يُحارب الجيش ويبني نفسه إلى أن يصل إلى ذروة قوته في عام ٧٣، بل حتى قبلها بكثير، ولكن لأن الذي قاد في ٧٣ كان الرجل الذي دخل الحرب ليُحافظ على حكمه ودولته، إلى درجة أن الانتصار المبدئي قوَّض طموحه وأصبح، وهو المنتصر، أحرص الناس على إنهاء الحرب الدفاعية بأي ثمن.

وهكذا وبهذه الروح نفسها قاد عملية السلام، روح غير المؤمن بأهمية وحجم وكُنه انتصاره الذي نحَّى قوته الذاتية جانبًا، وراح يستمدُّ القوة من خضوعه التام للولايات المتحدة، الشريك الكامل، ليس في عملية السلام، وإنما، وهذا هو الأهم، في عملية الضمان الأكيد لبقاء ودعم نظام السادات والدفاع عنه ضد ويلات الحرب وزوابع السلام.١ رجل كل حُلمه أن يحظى برضاء قوة أعظم، وليس كما فعل عبد الناصر أن يستخدم القوة العظمى وسلاحها لتدعيم قوته هو الذاتية، بحيث حين يُحقِّق المكاسب والنتائج لا يُحقِّقها منحة أو نتيجة لتوسُّلاته، وإنما يُحقِّقها بإرادته وأنَفته وذراعه.

الشخصية تخلق الموقف، والموقف يخلق الشخصية.

وثورة ٥٢ خلقت جمال عبد الناصر خلقًا ليعود يقودها، ولو لم تكن ثورة، ولو كانت إصلاحًا أو حركة استقلال لخلقت محمد نجيب أو غيره.

ورغم الهزائم التي مُنِي بها عبد الناصر عسكريًّا، فقد كانت هزائم عسكرية فقط، ونتائجها دائمًا كانت قوة للثورة.

في الخرطوم عقب الهزيمة كان العرب أقوى ألف مرة من موقفهم عام ٥٦ عقب انتصار، وحتى في موقفهم عام ٧٣ بعد الأسابيع الأولى من الانتصار، وحين بدأت شخصية السادات تتدخَّل لتخلق من الموقف المُنتصِر موقفًا مرعوبًا مُنقسِمًا مُهدِّدًا بضعف قادم أكثر.

ولو كان شخص آخر غير السادات لتغيَّرت نتيجة الحرب.

ولو كان شخص آخر غيره دخل معركة السلام لاختلفت النتيجة أيضًا.

وهكذا كان من المستحيل على الرجل الذي أعلن بيان ثورة يوليو وفي جيبه تذكرة السينما، يُثبِت بها أنه لم يَثُر ولم يشترك، كان من المستحيل على رجل كهذا إلا أن يدخل حرب ٧٣ حين تولَّى؛ خوفًا من التذمر الشعبي الهائل نتيجة لحالة اللاسلم واللاحرب.

خوفًا من المصير وعوامل أخرى ستكشف عنها الأيام حتمًا، دخل الحرب.

وخوفًا على المصير أنهاها وبسرعة البرق.

وللإبقاء على بقايا البقايا من نتائج الحرب، وبإرادة خائفة ملهوفة، دخل خيمة السلام أو بالأصح سردابه.

وماذا تنتظر من خائف يتلمَّس طريقه في ظلام سرداب السلام إلا أن يتخبَّط؟ ومع كل خطوة يتنازل خوفًا من عفاريت الظلام، وانعدام ثقة كامل في الشعب الذي به حارَب وبه انتصر، واعتمادًا على الممسك بيده من كيسنجر إلى كارتر وليس اعتمادًا أبدًا على نور الواقع والحقيقة الذي يملأ الدنيا، نور الإيمان بالقضية والشعب، ذلك النور الذي أطفأه في نفسه حين قَبِل العودة للجيش بثمن أن يكون مع الملك ضد القضية وضد الجيش.

رجل كهذا لا بد إذا تمكَّن وحكم، وصوَّر الأمر لنفسه على أنه حارَب، وأنه عليه مثلما كان إله الحرب، أن يُمثِّل دور ملاك السلام، مُمثِّل مُهرِّج، الاستراحات اشتكت من نوبات راحته حتى قُتِل وهو يُدبِّر لأيامٍ قادمة يقضيها مُسترخيًا في وادي الراحة، يستريح وكأن جهده في ارتداء البدلة البروسي العسكرية الفاخرة وجلوسه الساعات يُراقِب «جيشه» في زهو طالب الكلية العسكرية المُراهق لدى خروجه من الكلية بلبس الفسحة.

رجل جاءته ثورة، لم يعمل عملًا واحدًا من أجل تنظيمها، وجاءته الثورة بحكم لم يكن يحلم أن يصبح أحد دعاماته، وحين وجد في الحكم خطورة ومسئولية العمل السياسي ركنَ نفسه بنفسه حتى جاءته الرئاسة من حيث لا يعلم ولا يدري، واصطدم بأناس كانوا أخيَب المتآمرين عليه؛ فقد بادروا واستقالوا وسلَّموا أسلحتهم قبل المعركة، وحين جرَّب أن يُراوِغ الشعب وعقد معاهدة مع الروس لم يكن يعلم لها معنًى، وأخذ الشعب المعركة جدًّا، وخيَّره بين الحرب أو السقوط، غمَّى عينَيه وحارَب، وبجيش عبد الناصر وفوزي انتصر. محظوظًا انتصر، مثلما محظوظًا حكم، ومحظوظًا أصبح غلاف التايمز والنيوزويك والدير شبيجل، والوجه الدائم في أي تليفزيون غربي، هو الذي أرسل صورة له — وهو ضابط — يطلب عملًا كمُمثِّل. محظوظًا أجلسه كيسنجر كما يقول فوق حجره، ورعته وكالات الأنباء الصهيونية وأرضعته ما لم يحلم به من لبن المجد والشهرة، وجعلت له في الخافقَين مجد أباطرة إيران، ويونيفورم كيتل وروميل، وشوارب أعظم من شوارب هتلر، وأنواع من الملابس جعلته من العشرة المختارين للأناقة والرشاقة. رجل كان يُمضي بين أيدي مُدلِّكه الخاص أكثر بكثير مما يُمضيه في أي اجتماعات سياسية، حتى إنه اصطحب ذلك المُدلِّك إلى كامب ديفيد، وكان وقته مع المُدلِّك أضعاف أضعاف وقته مع الوفد المصري أو حتى مع الوفود الأخرى. رجل في نفس الوقت الذي كان يُنادي بنفسه زعيمًا لثورة وتنظيم الضباط الأحرار ضد الملك، كان أروع من مائة ملك وخديوي يحيا، في الوقت الذي يجهر بسيادة القانون يخرق القانون، ابتداءً من إنجاح ابنه إلى دكتوراه زوجته إلى توفيق وعثمان وعصمت وعائلة كبيرة فعلًا، ولكنها عائلة غيلان تنطلق في كل اتجاه تغشُّ وتسرق وتقتل وتضرب وتنهب، وكبيرها بنفس الدف واللكمة يضرب، وبقسوة عصمت على رشاد يخنق أي مُعارض، ومن أقصى الأقباط إلى أقصى المسلمين ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن فتحي رضوان ذي السبعين إلى عمر التلمساني المقترب من الثمانين إلى شباب المسلمين في الثامنة عشرة يخنق ويسجن ويضرب، وبأفحش الألفاظ ينهال علنًا وأمام العالم سبًّا على الناس جميعًا من برجنيف إلى الخميني، ومن القذافي إلى الأمراء والملوك. رجل لم يُنادِ أحدًا بكلمة الصديق إلا مُعلمه كيسنجر، ويُسمِّي رجلًا وطنيًّا مسلمًا فاضلًا كعمر التلمساني ﺑ «الكلب»، بينما يُسمِّي المُجرم بيجن بأخيه وصديقه الوفي. رجل من المال العام يزهو بأن يبني قريته ويُزوِّد بيوتها بالماء الساخن، وفي نفس الوقت يعيب على هيكل أنه يستخدم في منزله ذلك الماء وأنه يفطر في رمضان. رجل أطارت ضربات الحظ المتتالية التي صادفته منذ أن قامت الثورة حكم الإنسان السوي فيه على الأمور، وأطلقت العنان للسفه.

أجل، يفعل هذا كله، ويفعل هذا كله أمام الناس أجمعين؛ بمعنى أن كل ما ذكرته آنفًا جرى أمام الدنيا والعالم وليس في حجراتٍ مُغلِقة. ألا نفترض إذَن أن يكون ما جرى في الحجرات المُغلَقة هو أدهى وأمرَّ؟ وإذا كان هذا هو الجزء الذي ظهر لنا، أو بالأصح أظهره هو لنا، فيا لهول ذلك الجزء الخفي الذي — إلى الآن — لم يظهر، وتصرفات هذه شأنها تمتدُّ من التصرفات اليومية إلى تصرفاتٍ مسرحها العالم والدنيا عليها شاهدة، تصرفات أعطت النور الأخضر لطبقة بأكملها من المُجرِمين واللصوص وقطَّاع الطُّرق أن يُصيبها الصرع، وتمضي تنهش وتلهف وتُسجِّل ثروات فلكية في أعوام، بل في شهور، بحيث يمتلك ابنٌ واحد لعصمت، واحد من الخمسة عشر ابنًا والخمس زوجات، ٥٩ مليون جنيه أسهُمًا، وملايين الجنيهات والدولارات سائلة، وتليفونات وعربات وقصور. كيف يتسنَّى لشقيق رئيس جمهورية في عالم اليوم أن يمتلك مالًا وعقارات تُساوي إلى الآن مائة وثلاثين مليونًا من الجنيهات، في زمن لم يتجاوز الخمس سنوات، وبادئة من حضيض الحضيض؟! وكل ما يفعله الشقيق الرئيس من عقاب أن «يمنع» أخاه وأبناءه من «دخول» الميناء، ويثبت أن هذا المنع كان لخوفه على حياتهم وليس زجرًا لهم أو إظهارًا لعين أو نظرة حمراء مانعة.

وهل نفصل سرقة مجوهرات أو قصور أو اغتيال أرض دير وضرب شريك بالرصاص وسكوت كبير العائلة؟ هل يمكن فصل هذا عن الجرائم على النطاق القومي؟

وهل الذي يُبيح للفاسدين أموال الدولة والشعب يتعفَّف أن يبيع حقوق بلاده كلها مُقابل جائزة لنوبل، أو صورة على غلاف، أو مزارع في كاليفورنيا؟

١  والدليل الذي تكشَّف أخيرًا جدًّا واضح الدلالة؛ فقد كان من أوائل ما طلبه السادات من كيسنجر في أول لقاء معه حرسٌ أمريكي شخصي للسادات، مع أن العلاقات المصرية الأمريكية الرسمية لم تكن قد عادت؛ ومعنى هذا ببساطة أنه من لحظتها قرَّر أن يرتمي تمامًا في حضن أمريكا وإسرائيل، وأن يعهد إليهما بحمايته من شعبه باعتبار أنه سيقوم من الآن فصاعدًا بأعمال ضد هذا الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤