قطع العلائق السياسية بين فرنسا والدولة العثمانية

في منتصف سنة ١٩٠١م، أي بعد تصرُّم ثلاث سنوات على تولي قنصلية جنرال بلجيكا، وكان جوُّ السياسة صافيًا والأحوال سائرة بانتظام، فوجئنا في السابع والعشرين من شهر آب من تلك السنة بنبأ كان وقعُه علينا كما قال الشاعر: «كجلمودِ صخرٍ حطَّهُ السيلُ منْ علِ»؛ إذ لم نكن نتوقع حدوثه، ولم تكن في أفق السياسة علامة ما تدل على قرب هبوب تلك العاصفة السياسية الهوجاء وإليك صفوة النبأ:

«طلب المسيو «كونستان» سفير فرنسا في الأستانة يومئذ جوازَ سفره، وغادر تركيا دون أن يترك متوليًا للسفارة؛ الأمر الذي يدل على قطع العلائق السياسية فقط. فاضطر بالطبع السفير العثماني في باريس «منير باشا» أن يطلب جوازه أيضًا من الحكومة الإفرنسية؛ كي يعود إلى الأستانة. وقد أفادت البرقيات أنه سيتوجه إلى مدينة «بال» في سويسرا لينتظر مرور قطار الإكسبرس أوريان.»

لم ندرك بادئ بدء السببَ الحقيقي الذي دعا إلى هذه المقاطعة الفجائية؛ إذ كان للمسيو «كونستان» سفير فرنسا دالة خاصة عند السلطان عبد الحميد، الذي كان يُغدق عليه الهدايا والعطايا — ولا يخفى أن الفرنسويين على العموم مُولعون بالهدايا — وقد كان وقع النبأ علينا، نحن مأموري السفارة والقنصلية في بلجيكا، أعظم من بقية السفارات؛ لأن مركزنا ازداد حراجة بسبب تغيب سفيرنا فيها؛ لأن ملك بلجيكا لم يشَأْ أن يعترف به سفيرًا في بلاطه. فأصبحنا، والحالة هذه، بلا رئيس نرجع إليه (وسيرى القارئ فيما يلي تفصيل ذلك الخلاف بين السلطان عبد الحميد، وملك البلجيك). وبينا نضرب أخماسًا بأسداسٍ متشائمين من سوء العاقبة؛ إذ دخل عليَّ متولِّي سفارتنا «مفيد بك» وبيده برقية، وقال:

وردتني هذه البرقية الرقمية الآن من سفيرنا يفيدني بها أنه قادمٌ إلينا هذا المساء متنكرًا، وسيصل في قطار نصف الليل، ويوصيني ألا أخبر أحدًا بذلك الآن.

كان بيني وبين «مفيد بك» صداقةٌ حميمة متينة، وهو متحدر من إحدى الأسر الشريفة العريقة في ألبانيا، وكان شهمًا مخلصًا أمينًا. فبعد أن تناولنا طعام المساء معًا حسب العادة، أخذنا نتجاذب أطراف الأحاديث حتى قُربِ الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثلاثين، فقصَدْنا محطة قطار الجنوب. ولمَّا دخلنا وجدنا أن أول المنتظرين كان الدوق «دورليان» ولي عهد فرنسا لسلالة البوربون، فقلت لمفيد بك: إن الآنسة فلانة من المسرح الإفرنسي الرسمي في باريس قادمةٌ في هذا القطار.» فقال: «عجبًا وكيف تعرف ذلك؟» فأجبت: «هذا هو الدوق «دورليان» ينتظر، وهو أحد عشاقها الثلاثة.»

قال: «وكيف ذلك؟» قلت: «إني أعرف الممثلة المذكورة شخصيًّا، وهي عشيقة لرئيس بلدية باريس سابقًا «ألفونس هامبر» أحد أصدقائي الحميميِّين. وفضلًا عنه فلها عاشق مليونير من كبار سماسرة البورصة يُغدق عليها الأموال بالألوف. وخلا هذين فهذا الدوق عاشق ثالث للشرف. بنوع أن تلك الآنسة … المحترمة قد جمَعَتْ بين النفوذ والمال والجاه. وهكذا يكون الذكاء، وإلا فلا. وبما أن الدوق منفيٌّ من فرنسا، عندما نفَتِ الحكومة الإفرنسية جميع أفراد الأسرة المالكة؛ فقد اختار إنكلترة موطنًا أو منفًى له. وكلما حنَّ إلى هذه العشيقة يتواعدان للاجتماع معًا في هذه المدينة، فيَقدَم هو من إنكلترة، وتأتي هي من باريس، فيقضيان بضعة أيام في عناق وهناء.»

وبينما نحن نتمشى جيئةً وذهابًا ننتظر القطار، قصصت على «مفيد بك» النكتة اللطيفة الآتية، التي أخبرنيها صديقي «ألفونس هامبر» نفسه. قال: «رغبت ذات يوم أن أقضي سحابة ذلك النهار متنزِّهًا مع صديقتي هذه، وإذ كنا نشاء أن نكون حرين لا يعرفنا أحد ولا نلتقي بواشٍ ينمُّ علينا؛ قررنا اختيار نزهة لا يقصدها إلا الطبقة الوسطى من الناس، وهي جزيرة روبنصن (هي جزيرة صغيرة في منتصف نهر السين الذي يخترق باريس، يقصدها العشاق من عامة الناس، ومن خصائصها شجرة قديمة ضخمة جدًّا صُنع في جذوعها مساطب خشبية ومائدة للطعام والشراب). قال: فلما وصلنا وجدنا جميع محرري جريدة الفيغارو قد اجتمعوا ليحتفلوا بعرس رفيق لهم.»

وأخيرًا لما أزفت الساعة سمعنا صفير القطار، وبعد هنيهة رأيناه ينساب كالأفعى داخلًا وكرِه، فأول من أطلَّت من حجرتها كانت الممثلة المذكورة الرشيقة القوام تتيه عجبًا ودلالًا. فتقدم الدوق مسرعًا، وأخذ يدها وقبَّلها، ثم تناول حقيبتها، وتأبَّطَتْ هي ذراعه، وخرجا معًا غير مبالين بأحد من الناس.

وأخذنا نبحث عن دولة السفير نحدِّق هنا وهناك بكل مسافر. وخرج الناس أجمعون، فلم نعثر على أثر لرئيسنا فأخذتنا الدهشة، وقدرنا أنه وصل محطة القطار متأخرًا فأضاعه. وبينا كنَّا على أهبة العودة بخُفَّي حُنين؛ وإذ سمعنا صوتًا من داخل حجرة مظلمة، يقول بالعربية «يا أسد لبنان.» فكان السفير، وكان هكذا يخاطبني عادةً صداقةً ولطفًا منه. وكان إذا كتب لي يستهلُّ رسالته بما يلي «الأمير صاحب التدبير»، فتوجهنا إليه، فسأل: هل خرج جميع الناس؟ قلنا: نعم. فنزل، وقال: خذاني أولًا إلى مطعم؛ لأني لم أشَأ الأكل في ساعة الطعام؛ إذ لا أريد أن يعرف أحد أني جئتُ إلى هنا. فركبنا عربة وقصدنا مطعمًا واحتفظنا بغرفة خاصة فيه. وبينا كان دولته يأكل، أخذ يقصُّ علينا تاريخ ذلك الخلاف الذي أوجب المقاطعة بين الحكومتين الإفرنسية والعثمانية. وخلاصته أنه منذ ثمانٍ وعشرين سنة استدان السلطان «مراد»، لمَّا كان ولي العهد، ثمانين ألف ليرة عثمانية من صيرفي أرمني اسمه «أغوب أفندي»، دفع منها ثلاثين ألف ليرة، وبقِي خمسون ألفًا. إلا أن الصيرفي باع حقوقه قبل مماته إلى صيرفي آخر اسمه «لوراندو». وهذا بدوره باع حقوقه من رجل آخر اسمه «كوبيني» تحت حماية فرنسا، وليس من تبعتها. فهذه الخمسون ألف ليرة أصبحت اليوم ثلاثين مليونًا من الفرنكات، يطلب سفير فرنسا دفعها عدًّا ونقدًا. وقد أجاب الباب العالي أنه لا يُنكر هذا الدين، وإنما يطلب فحصه أولًا والنظر في فوائده، وأشار على السفير بمراجعة وزارة المالية.

بيد أن السفير أصرَّ على الدفع عادًّا جواب الوزارة مماطلةً. هذه هي الحجة حسب الظاهر، ولكنني أعتقد أن للسفير مآربَ أخرى، ورغب أن يخرج من الأستانة على هذه الصورة؛ أملًا أن التهديد يخيفنا.

فقلت: ألا تظن، يا صاحب الدولة أن وراء الأكَمَة ما وراءها، وأن صنيع السفير هذا هو انتقام من المسألة التي تعرفونها. فأومأ إليَّ بطرف خفي ألا أشير إلى تلك المسألة؛ لأنه لم يشأ أن يعرفها متولِّي السفارة. ثم أخذ دولته يسرد علينا ما دار بين توفيق باشا وزير خارجيتنا والمسيو «كونستان» سفير فرنسا من المخابرات، إلى أن قال: أواه! لو أمكن نشر تلك المخابرات؛ لما شك أحد أن الذنب هو ذنبنا. فقلت: ولمَ يا حضرة السفير لا تنشر تلك المخابرات، فتُوقف الرأيَ العام على الحقيقة، ويعرف الجميع أن ما فعله السفير الإفرنسي ليس هو إلا «شانتاج» سياسي؛ اعتمادًا على قوة فرنسا وضعفنا؟ ثم أضفت: لسوء الحظ نحن، سواء كنا محقين أم مخطئين؛ فلا بدَّ لنا من دفع القيمة صاغرين. فصمتَ السفير هنيهة، ريثما أشعل لُفافته، ثم قال: الحق معك، ولكن من يتجاسر أن يأخذ على مسئوليتِه نشر تلك المخابرات؟ فأجبت على الفور بحدة: أنا يا صاحب الدولة، وأتعهد لك بنشرها في أية جريدة شئت مِن أكبر جرائد أوروبا؛ إذ لو كنت قد تركتُ الصحافة؛ فلا أزال عضوًا في نقابتها، وصديقًا لأصحاب كُبراها، كجريدة «التايمس» الإنكليزية التي، كما تعلمون، بدأتُ أحرر بها منذ وصولي إلى باريس، على عهد «بلوفيتز» الشهير. وتعلمون دولتكم أني كنت عضوًا في مؤتمر الصحافة الدولي، وعليه تمكَّنت من التعرُّف بأكبر أصحاب وكُتَّاب جرائد أوروبا من ألمانيَّة وروسيَّة أو نمساويَّة. فضحك السفير، وقال: لا أستغرب ذلك منك، بعد برقيتك إلى «تحسين باشا» (باشكاتب السلطان عبد الحميد يومئذٍ)؛ إذ اتفق أنني كنت موجودًا في يلديز يوم وصول برقيتك، وقد أطلعني عليها قائلًا: «بودالي.» يعني: مجنون هو.

وإلى القارئ قصة تلك البرقية:

اتصل بي في أحد الأيام أن «تحسين باشا» أجاب ذات يوم متوظفًا طالبَ برواتبه المتأخرة، أن تلك الرواتب ليست إلا حسنة من حسنات الحضرة الشاهانية. فأخذ الهياج منِّي مأخذه للاحتقار الذي وُجِّه لمتوظفي الدولة، وأبرقت إليه ما يأتي:

اتصل بي أن دولتكم قد صرَّحتم بأن معاشاتنا هي من نِعَم الحضرة الشاهانية وإحساناتها. أما أنا؛ فلا أحسب أن معاشي هو إحسان من أحدٍ؛ بل هو حق لي مقابل خدماتي المخلصة للدولة والأمة.

وأمضتها صريحًا: «أمين أرسلان، بروكسل باش شهبندري.»

فليتصور القارئ وَقْعَ تلك البرقية من قنصل في ذلك العهد الحميدي حيث كان الوزراء والسفراء والمشيرون يرتجفون وَجَلًا من كلمة يتلفظون بها. وكان جميع زملائي ينتظرون الساعة إثر الساعة الأوامرَ بعزلي من وظيفتي. فلما مضت الأيام وتوالت الأسابيع والشهور، ولم يحدث شيءٌ، ساء فَأْلُهم وخابَتْ آمالُهم!

وبعد أن أعاد السفير هذه القصة على سمع «مفيد بك»؛ قال: حقًّا لا يوجد من يُقدم على هذه الجسارة إلَّاك، ولكن من ذا الذي يأخذ على نفسه مسئولية الترخيص بنشر هذه المخابرات؟ وكنَّا قد انتهينا من الطعام، فنهض قائلًا وذاكرًا المثل الإفرنسي: الليل يجلب الأفكار، سنرى غدًا.

فدعوته لتناول طعام الظهر في القنصلية، فقبل شاكرًا.

وفي صباح اليوم الثاني رأيته قد جاء باكرًا، وبعد أن أخذ قسطًا من الراحة قال: قد فكَّرت أمس مليًّا فيما أشرتَ به، فوجدتك مصيبًا؛ إذ يجب أن يعرف الرأي العام أن الحق بجانبنا، وأنه إذا أُكرهنا على الدفع فما هو إلا إذعان للقوة، وليس للحق والعدالة. وعليه سأخبر «مفيد بك» أنه عندما تنشر الصحف خبر وصولي الأستانة، أن يرسل لي برقية مكتوبة بالأرقام طبعًا، يقول فيها إنك تتعهد بنشر تلك المخابرات.

وبما أن جميع البرقيات التي تُرسل إلى الأستانة تمرُّ أولًا على «يلديز» وتُعرض على السلطان؛ فبناءً على ذلك سيطلع جلالته عليها قبل وصولها ليَدي، وأنا بعد ذلك أعرضها على جلالته كالعادة. فإذا أمر هو بالترخيص؛ أبرق إليَّ مفيد بك حالًا؛ وإلا فصمتًا وصبرًا. وأضاف باسمًا بالعربية، وإنما بلهجة تركية: إن الله مع الصابرين، يا مير صاحب التدبير. وبعد هنيهة جاء «مفيد بك»، فأعطاه دولته التعليمات اللازمة بهذا الخصوص. ولما جلسنا على المائدة أخذ يحدثنا بأمور كثيرة، فإنه كان عذب الحديث لطيف العشرة، متوقِّد الذكاء محبًّا للمداعبة مع مَن يثق به.

ولما دقت الساعة الثانية، وكانت ساعة افتتاح دوائر قنصليتي، نهض قائلًا: لا أريد أن أؤخر عليك أشغالك، وإنما بعد الفراغ تعالَ إلى السفارة، ثم ودَّعني وانصرف، يتبعه «مفيد بك» متولي السفارة.

وعند الساعة الخامسة توجهت إلى السفارة، فوجدت السفير و«مفيد بك» مهتمين بكتابة برقية بالأرقام. فجلست على جانب، ولبثت صامتًا إلى أن طلب السفير من «مفيد بك» أن يُعيد قراءة ما رقمه، ففهمت من سماع تلاوتها أن تلك البرقية هي موجَّهة إلى «نابي بك» مستشار سفارتنا في باريس (هذا هو الذي وقَّع معاهدة رومية بعد حرب طرابلس الغرب، وكان رُقِّي إلى رتبة سفير في رومية) والبرقية هذه كانت بالتركية؛ ولهذا فإن كتابتها بالأرقام هي أصعب منها بالإفرنسية وأطول. فاستأذنت السفير السماح لي بإبداء ملاحظة، فأذن فقلت: فهمت من مآل هذه البرقية أنها موجهة إلى «نابي بك». قال: هو كذلك. قلت: إنها تحتاج ساعة على الأقل للفراغ من ترقيمها. أجاب: على الأقل. قلت: لو فرضنا أن إدارة التلغراف هنا أرسلتها بعجل؛ فيلزم لها ساعتان؛ كي تصل إلى باريس. وها الآن الساعة السادسة، وعليه فستصل إلى باريس الساعة الثامنة. وإذا قدَّرنا ساعتين؛ كي تصل البرقية إلى «نابي بك»؛ فتكون عندئذ الساعة العاشرة. ولما كان يلزم ساعة لحل أرقامها؛ فلا يتسنَّى إذن لنابي بك الوقوف على مآلها إلا عند منتصفِ الليل. قال: هو كذلك، ولكن ما الحيلة؟! قلت: لم لا تكلمونه دولتكم بالتليفون؟ ففي ثلاث دقائق يمكن لدولتكم أن تقولوا له ما تريدون، وتحصلون على الجواب أيضًا، والاستعلام منه عما تشاءون. فضحك، وأجاب مداعبًا: ولم يا حضرة القنصل الجنرال صبرتَ حتى الساعة؛ كي تبوح لنا بهذه الحيلة؟ ثم قال: هيا عاجلًا، واطلب نابي بك بالتلفون. فقلت: لا أرى من الصواب مكالمته من سفارتنا هنا؛ إذ سيُعرف حالًا في باريس أن سفارة تركيا تطلب مكالمة سفارة باريس، ولا شك أن القوم عالمون أن دولتكم هنا من الجاسوس الذي يترقَّبكم، ويتتبع أثركم خطوة خطوة. فالأولى أن نذهب إلى إدارة التليفون الرئيسية (السنترال)، وهناك نطلب نمرة السفارة فقط. فنهض قائلًا: هل عربتك في الباب؟ قلت: نعم. قال: هيا بنا حالًا. فتوجهنا إلى إدارة التليفون، ولما وصلناها سألته: ما هو رقم تلفون السفارة؟ فبُهت، وقال بالتركية: والله بيلميوروم. أي: والله لا أعلم. فلم أتمالك من الضحك وقلت: وكيف دولتكم تطلبون السفارة في باريس؟ قال: لم أطلبها قط رأسًا، فضلًا عن أن هنالك يكفي أن يقول المتكلم أريد سفارة تركيا، فيعطونه إياها. فأخذت حينئذ دليل باريس، وقيدت نمرة السفارة وأعطيتها إلى المأمور، فقيدها للحال، ثم قال: إن نمرتكم هي الثالثة؛ أي: يجب انتظار تكلم ثلاثة أشخاص قبلنا، أو عبارة عن تسع دقائق؛ لأن المخابرة هي ثلاث دقائق. فأخذنا نتمشى في فناء الإدارة ذهابًا وإيابًا إلى أن سمعت المأمور يصيح: قد جاء دورك في الحجرة الأولى. فدخلتها وسمعت خادم السفير يردد القول: من المتكلم؟ فعرفته من لهجته؛ إذ كان من جنوبي فرنسا، وقلت له: عَجِّل يا فرنسوي، وأعطني مع نابي بك، لا تضيع الوقت بالسؤال عَجِّل. وبالحال سمعت صوت نابي بك، فخرجت للحال وقلت للسفير: هذا نابي بك. فدخل الحجرة بعد أن خرجت، وقد سمعته يقول: كتم جانم؛ يعني: أنا هو. فخفت أن يضيع الوقت، وتدري المراقبة بذلك. ففتحت الباب وقلت: عَجِّل دولتكم بالكلام، فسيفهم مرادك، وهكذا كان. ولم يتمكن السفير من التكلم إلا مدة دقيقة ونصف؛ إذ انقطعت المواصلة بالحال، ولم يعد بالإمكان فهم شيء. فخرج السفير باشا، وقال: لا بأس قد قلت ما شئت وفهمت ما أريد. والظاهر أنه عندما عرض المتوظِّفون في إدارة تلفون باريس أن المكالمة بالتركية، ولم يفهموها؛ إذ كان تلفون سفارتنا تحت المراقبة قطعوا المواصلة حالًا.

وفي اليوم الثالث ركب دولته القطار قاصدًا الأستانة، وأصبحنا ننتظر بفارغ الصبر خبر وصوله، وتفاصيل ماجريات تلك الأزمة.

وفي اليوم الثاني من وصوله أبرق له «مفيد بك» بما اتفق عليه، ومضى أسبوع دون أن أتسلم جوابًا عليها. وفي صباح يوم دخل عليَّ مفيد بك وقال: وصلتني الساعة البرقية التي تنتظرها، ولكن ليست كما ترغب وتريد. فقلت: وكيف ذلك؟ فأجاب: إليكها. ودفعها إليَّ فوجدت أن البرقية ممضية من وزير خارجيتنا توفيق باشا، ومن منير باشا سفيرنا، يقولان فيها إنِّي مفوضٌ بالاطلاع على المخابرة. يعني أن الوزيرين يُلقيان عليَّ وحدي مسئولية نشرها؛ حيث يقولان صريحًا إني مفوضٌ بالاطلاع على المخابرة فقط. فبعد أن فرغت من تلاوة تلك البرقية. قال لي مفيد بك: أرجوك أن تفكر مليًّا بما ستفعل، وبما أنت عازمٌ عليه؛ لأنه إذا ساءت النتيجة؛ فتكون عاقبتها عليك وحدك. فضحكت وقلت: هل رأيت مثل هذه الجبانة والخوف؟ سفير ووزير يمضيان برقية دون أن يتجاسرا بالترخيص لي بنشرها أو عدمه! يعني أكون وحدي المسئول، ثم أضفت: لا بأس؛ فإنِّي عازمٌ على المخاطرة. فهل من وراء ذلك العمل غير العزل؟! فعلى الدنيا والوظيفة السلام.

ولما كانت المخابرات محفوظةً في سفارتنا في باريس، ركبت صباح اليوم الثاني قطار باريس لتسلمها. وعند وصولي توجهت حالًا إلى السفارة لمقابلة نابي بك، فعرتني الدهشة لمَّا أخبرني أنه حال وصول برقية السفير إليه مرخصًا لي بالاطلاع على المخابرات؛ أسرع بإرسالها إليَّ ببريد المساء نفسه. فقلت: سامحك الله يا بيكي العزيز، هل سها عن بالك أن جميع مواصلاتنا وحركاتنا ومخابراتنا هي تحت المراقبة من لدن الحكومة الإفرنسية؟ فلا شك أن الغرفة السرية قبل إرسال رسالتك إليَّ ستفتحها، وتطَّلع على ما فيها. فأجاب: صدقت ولكن لا يوجد في الغلاف إلا صور المخابرات فقط.

وهكذا رجعت بعد ساعتين إلى بروكسل بنوع أني قضيت النهار بطوله في القطار ذهابًا وإيابًا بلا جدوى. وكما ظننت أن ذلك الغلاف لم يصل إلا في اليوم الثالث.

لا إخالني محتاجًا أن أصف إلى القارئ اللهفة التي فتحت بها ذلك الغلاف، والدقة التي تصفحت بها تلك المخابرات التي دارت بين سفير فرنسا ووزير خارجتنا. وقد تحقق لي أن سفيرنا تكلَّم صدقًا وأن سرعة قطع العلائق يقصد فيها أيضًا أمورًا أخرى. ثم أخذت أسائل نفسي وأعمل الفكر في أيٍّ أوفق لمصلحتنا الصمت أم النشر؟ وبعد إنعام الفكرة ألفيت ألا مانع يحول في سبيل نشرها، بل بالعكس يجب إثارة الرأي العام، ولا سيما الإفرنسي بحقيقة الواقع. وكنت على ثقة من أن الأحزاب المعارضة للحكومة وخصوصًا الاشتراكيين سيغتنمون الفرصة لمقاومة الوزارة والوقوف بوجهها إذا حدثتْ مناقشة في المجلس.

بقيَتْ عليَّ معضلة نشرها وتقرير أية جريدة هي أوفق سياسةً لمصلحتنا؛ لأن الخطأ بذلك يكون وبيلًا علينا، وتضيع النتيجة المرغوب فيها. فافتكرت إن أعطيتها لجريدة التايمس الإنكليزية لا يؤثر نشرها على الرأي العام الإفرنسي، ولئن كانت تعد أهم جريدة في العالم، وذلك لعداء الدولتين.

وهكذا القول إذا نشرتها في الجرائد الألمانية، أو في الصحف الروسية. وبعد أن أعملت الفكرة طويلًا وجدت أن جريدة الإندبندس بلج، التي هي أكبر جرائد بلجيكا وأهمها وذات مقام عظيم في الدوائر السياسية، هي أنسب الجرائد؛ سيما لأن بلجيكا دولة متحايدة. وإنما العقدة كانت في أن تلك الجريدة وإن كانت متحايدة؛ فهي إفرنسية الميل.

واتفق لحسن الطالع أن رئيس تحريرها كان صديقًا لي وهو شابٌّ في مقتبل العمر كثير الاجتهاد والذكاء، وعندما رُقِّي إلى رئاسة تحرير الجريدة خَشِي الكثيرون ألا يكون جديرًا بالمركز الذي رُقِّيَ إليه نظرًا لأهميته. أما هو فكان كلما حدثَ حدثٌ سياسيٌّ خطير عسر عليه فهمه يلتجئ إليَّ، فكنت أساعده على قدر الطاقة وأعطيه التعليمات اللازمة؛ حتى إنني مرارًا عديدة كنت أستوضح زملائي السفراء الأجانب إذا تعذَّر عليَّ أيضًا فهم حدث سياسي خطير في بلادهم وأفيده عنه. ولهذا لم يمضِ شهران على تسلمه مركزه حتى تحقق الجميع أهليته وجدارته.

بقي عليَّ كيفية إقناعه بوجوب نشر تلك المخابرات في جريدته ومنافعها له ولها. ففي اليوم الثاني كلمته بالتلفون في بيته الخاص، قائلًا له: عندي أمور مهمة لإطلاعه عليها. فقال: ما هي؟ قلت: لا يمكن الإفصاح عنها بالتليفون، فإذا شئت تفضل إلى القنصلية. فلم تمضِ ربع ساعة حتى رأيته ينزل من عربته ويهرول إليَّ سائلًا بتلهف: ما هي تلك الأمور المهمة؟ فدعوته كي يصعد إلى مكتبي الخاص في الطابق الثاني، وبعد أن أمرت له بالقهوة التركية، وضعت أمام عينيه غلاف السفارة الكبير الحاوي المخابرات، وقلت له: هل تدري ما يتضمن هذا الغلاف؟ فهزَّ رأسه سلبًا. فقلت: هذه هي جميع المخابرات السياسية التي دارت بين سفير فرنسا ووزير خارجيتنا بخصوص الخلاف القائم بيننا، والذي أدى إلى قطع العلائق. فحدق بنظره إلى الغلاف مادًّا يده للاطلاع على ما يحتوي. فقلت: لا، يا صديقي العزيز، لا يمكنني السماح لك بالاطلاع عليها قبل أن تتعهد بنشرها في جريدتك. فأجاب: كيف تريد أن أتعهد بشيء قبل أن أعرفه؟ فأجبت: إنِّي أعيد لك القول: هي نسخ المخابرات السياسية، وأنت تعلم أنه لا يمكن وجود شيء منها، لا يجوز نشره.

فقال: ولكن ماذا يمنع من مطالعتها؟ فأجبت: يمنع أنك ستفهم أمورًا كثيرة لا يمكنك معرفتها إلا بعد مطالعتها، فيسهل عليك الإشارة إليها بمقالة افتتاحية، ويتعذر عليَّ بعد ذلك نشرها في التايمس مثلًا؛ إذ تعلم أني كنت من مراسليها. وعليه إذا سبقت ونشرت شيئًا منها؛ فلا تقبل الجرائد الأخرى نشر خبر سبقها غيرها إلى نشره. فصمت مقتنعًا بصحة قولي ثم قال: أريد أن أستشير مدير الجريدة قبلًا. فدفعت إليه التلفون، وقلت: إليكَه. فأخذه وبدأ يشرح للمدير ما دار بيننا من الحديث، وسمعت المدير يقول له: لا بأس، تعهَّدْ له بنشرها. فتناولها وشرع يقرؤها بتلهُّف. وبعد أن فرغ منها كرَّر تشكراته لي؛ لأن سبقه في نشر تلك الوثائق السياسية سيزيد أهميتَه وأهمية الجريدة. وبالحال أبرقت إلى السفير مصرحًا أن جريدة الإندباندس بلج ستنشر غدًا الرسائل.

وصدرت في اليوم الثاني الجريدة المذكورة بمقالة طويلة ممضية من صديقي رئيس التحرير، ولم يذكر طبعًا أنِّي أنا الذي أعطيته تلك المخابرات، وإنما عثر عليها صدفةً. ثم حررت بالحال إلى شركة أرغوس في باريس؛ كي ترسل لي جميع ما يُنشر في جرائد أوروبا بخصوص نشر تلك المخابرات.

وفي اليوم الثالث بدأت الشركة المذكورة ترسل لي تباعًا قصاصات الجرائد بجميع اللغات، وقد بلغ عددها مائة وخمسين ونيفًا، فأرسلتها إلى الأستانة باسم السفير.

وعلى الرغم من أن الجريدة لم تشر إليَّ مطلقًا؛ فقد تمكنت الحكومة الإفرنسية من معرفة أني أنا الدافع تلك الرسائل إلى الجريدة البلجيكية، كما تمكن دون عناء كبير مأمور الشيفرة الإفرنسية (أي البرقيات التي تكتب بالأرقام) من حل برقياتي التي كانت تمر بباريس.

ولما صعب عليَّ الوقوف على حقيقة الحال، ومعرفة وقع الرسائل في النوادي الباريسية؛ فقد وطدت النفس أن أذهب إليها ثقةً مني بأني سأطلع على أمور مهمة؛ نظرًا لما كان لي فيها من الأصدقاء والمعارف، وخصوصًا من زملائي أرباب الصحافة. فقصدتها مساء يوم وفي صباح اليوم التالي دعوت لتناول الطعام معي المسيو ألفونس هامبر، من أعضاء مجلس النواب النافذي الكلمة، ومن أهم صحافيي فرنسا، وهو الذي استقبل باسم باريس قيصر روسيا نقولا الثاني لما زارها؛ إذ كان يومئذ رئيس بلديتها. ولما كان هو أحد ممثلي الصحافة الإفرنسية في المؤتمر الدولي، وكنت أنا ممثل الصحافة العربية؛ فقد تمكنت أواصر الصداقة بيننا، وكان أحدنا لا يفارق الآخر؛ إذ فضلًا عن أنه كان حاد الذكاء فصيح الكلام، كان لطيف المعاشرة كثير المداعبة.

لقد كان مدار حديثنا طبعًا خلافنا مع فرنسا وقطع علائقنا السياسية، فأفهمني بداهةً عن وقع نشر الرسائل، وأن مركز الوزارة أضحى بسببها حرجًا؛ إذ لا بد من مناقشة حادةٍ في مجلس النواب؛ حيث قد اقتنعوا بعد مطالعتها بأن المسيو كونستان قد أجبر الحكومة على مجاراته في سياسته الهوجاء، ورأت الحكومة أنه لا يمكن تسفيه رأيه بعد هذا، أو الرجوع إلى الوراء مهما كلفت المسألة. فسألته: وهل تعتقد بسقوط الوزارة؟ أجاب: لا، ولو كنا مغايرين سياستها غير الرشيدة؛ فلا نستطيع الآن إلا معاضدتها، فضلًا عن أن قيصر روسيا قادمٌ إلينا بزيارة ثانية، فلا يليق استقباله بأزمة وزارية، وإنما يمكنني أن أؤكد لك أن الوزارة قد خسرت كثيرًا من مؤيديها، وظفرها سيكون بأكثرية قليلة.

ومما يحسن ذكره أن صديقي المذكور كان قد عرَّفني بمدام ستانهيل عشيقة المسيو فليكس فور رئيس الجمهورية سابقًا، وقد فاجأته المنية وهو بين ذراعيها.

لقد صدق مثلنا العربي القائل: «رب صدفة خير من ميعاد»، وقول شاعرنا «ويأتيك بالأخبار من لم تزود»؛ إذ جرت لي العادة أنه كلما قصدت باريس ولو يومًا واحدًا أن أزور حي اللاتين فيها، وهو الذي يقطنه الآلاف من طلبة الكليات والمدارس الكثيرة، وقد سكنت طيلة إقامتي في ذلك الحي بشارع سان جرمان نمرة ٤٦، وكنت قد اكتريت طابقًا مع اثنين من مواطني ورفيقي في مدرسة الحكمة، المرحومين الدكتور منصور جعجع وشكري إده. وهكذا تمكنت من درس آداب اللغة الإفرنسية طيلة ثلاث سنوات على الأستاذ المشهور «إميل دشانل» (والد رئيس الجمهورية الذي مات مختلًّا)، وعلم التاريخ على المؤرخ الطائر الصيت ساني بوص، وعلم السياسة على أشهر عالم في هذا الفن إميل سورل. فذهبت في ذلك المساء لمناولة العشاء في المطعم الذي طالما أكلت به طيلة إقامتي الطويلة في باريس، وساعدني الحظ بأن التقيت بصحافي عرفته أيضًا في مؤتمر الصحافة الدولي، وكان ذا صلة شديدة بوزارة الخارجية. فقلت في نفسي: هذه ضالتي المنشودة ولا بد أن هذا يعلمني بأمور كثيرة. فبعد التحية دعوته إلى تناول طعام الظهر في اليوم الثاني. وإذ كنت أعلم أنه يحب المأكولات الأنيقة الإفرنسية والنبيذ المعتق؛ سألته أن يدلني على مطعم شهير بهذين الشيئين. فأشار عليَّ بمطعم على شاطئ «السين» الشمالي.

وهكذا التقينا في ظهر اليوم الثاني في ذلك المطعم الذي لا يقصده إلا الخبيرون الأكفاء. فبعد أن أوصينا على ما اشتهاه من الأكل والنبيذ، شرعنا نتجاذب أطراف الأحاديث، والحديث ذو شجون. ولما دب دبيب الخمرة في رأس الزميل، فاتحته بأمر قضيتنا وخلافنا فانطلق لسانه من عقاله، وأخذ يسرد عليَّ ما يعرفه من المسألة. وهكذا فهمت أن الحكومة الإفرنسية عازمة أن ترسل أسطولًا إلى أحد موانئ السلطنة.

وبعد الفراغ من الطعام قصدت سفارتنا لمقابلة مستشارنا نابي بك، فوجدته غير عالم بشيء مما وقفت عليه. وسبب ذلك أن عشراءه لم يكونوا إلا زملاءه السياسيين، وهؤلاء قلَّما يمكن الاعتماد على إخلاصهم، وقفلت في اليوم الثالث مزودًا بالأخبار، وبالحال حررت إلى منير باشا التحرير الآتي تعريبه:

عزيزي صاحب الدولة

أرسلت منذ أسبوعين لدولتكم قصاصات الجرائد الإفرنسية والإيطالية والإنكليزية والألمانية التي نقلت في أعمدتها الرسائل، وإنما لم أتمكن من إرسال قصاصات الجرائد الروسية، فهي واصلة طيه، هذا فضلًا عن أن سفراءنا دون ريب قد أرسلوا تلك النسخ عينها إلى وزارتنا مع معلوماتهم عن وقعها في الدوائر السياسية حيث يقيمون.

ورغبةً مني في معرفة ما كان وقعها في باريس خلاف ما يمكن لنابي بك أن يعرفه من الدوائر السياسية، قصدتها منذ أربعة أيام، وتمكنت من مقابلة بعض الأصدقاء الواقفين على ماجريات الحوادث. منهم نائب صديق حميم وذو نفوذ كبير وصحافي أيضًا، ففهمت منه أمورًا كثيرة، وأستميح من دولتكم الإذن بألا أصرِّح بأسمائهم هنا؛ حيث يخشى على تحاريرنا من الضياع أو السرقة.

والذي فهمته من النائب المذكور أن نشر تلك المخابرات على صفحات جرائد العالم قد أساء الحكومة الفرنسية جدًّا؛ إذ قد كشف النقاب عن حقيقة الحال. وقد اقتنع النواب أن الوزارة في هذه القضية هي مسيرة غير مخيرة، وأن القضية مقصودة من المسيو كونستان. حتى إن بعضهم يتهمه أن سيكون له نصيبٌ وافر من الملايين التي سنضطر إلى دفعها آجلًا أو عاجلًا. وعليه إن الوزارة رغمًا من نفوذ رئيسها فقد خسرت كثيرين من مؤيديها، وأن لا بد من حدوث مناقشة في مجلس النواب ستكون عنيفة جدًّا، خصوصًا من الاشتراكيين. أعرف شخصيًّا المسيو جوريس (الاشتراكي المشهور وزعيم الحزب في فرنسا)؛ بيد أني لم أشأ مقابلة؛ لئلا يظن أني سعيت بالفساد بين النواب أخصام الوزارة والحكومة، ولئن كان شرعًا لا يحق العتب عليَّ بذلك. من المستبعد سقوط الوزارة الآن؛ حيث لا يمكن تسفيه عملها في سياسة خارجية، فضلًا عن أن قيصر روسيا عازم على زيارة فرنسا رسميًّا، ولا يريد مستلمو زمام الحكم أن تصير مقابلته في إبَّان أزمة وزارية.

وقد فهمت من صحافي واقف على خفايا الأمور أن الذي نشر تلك المقالة البذيئة بحق دولتكم في جريدة الفيغارو هو هنري فوكيه، وهو المكلف بتدبير الحملة الصحافية علينا. ويؤكدون أن ما دُفع لجرائد باريس والمقاطعات يناهز المليون فرنكا؛ لأجل تحبيذ عمل الحكومة، بنوع أن هذه القضية كانت كالمن لبني إسرائيل. إن جميع سكان باريس يعلمون أن هنري فوكيه هذا يؤجِّر قلمه لهذا وذاك، على شرط أن يدفع له جعلًا. وإنما المصيبة أن جريدة الفيغارو هي جريدة الفئة الأرستقراطية في فرنسا. كان بإمكاني العثور على المقالات التي أغدقتها هذه الجريدة مدحًا وثناءً على دولتكم قبل قطع العلائق؛ ليفهم الرأي العام الإفرنسي إخلاص تلك الجريدة فيما تنشره. وإنما لم أتجاسر على ذلك قبل الترخيص من دولتكم؛ إذ لا أريد أن أكون ملكًا أكثر من الملك (مثل إفرنسي). والغريب أن آخر اجتماعي بهذا الصحافي الشريف الأخلاق كان في سفارتنا في باريس يوم أحييتم دولتكم تلك الحفلة الشائقة، وقد ترأستها مدام كارنو (أرملة كارنو رئيس جمهورية فرنسا سابقًا، وقد اغتاله فوضوي في مدينة ليون) مما يدل أن المذكور كان من الذين يتظاهرون بالإخلاص لدولتكم.

وعليه إذا شئتم دولتكم أن أنشر ما أشرت إليه؛ فتفضلوا بإفادتي. لا شك أنكم ستعيدون في سريرتكم ما قلتموه لي ذات يوم عندما كنت متشرفًا لأخذ الطعام في منزلكم الخاص، أني كومباتيف يعني محب المقاتلة. كلا، لا يوجد من هو أصدق مني لمن أخلص لي، ولكنني لست ممن ينامون على الضيم، وأحب أن أكيل الكيل كيلين لمن يتحامل عليَّ.

لقد تحققت أن مفتاح الشيفرة الخاص الذي تفضلتم بتسليمه إياي عند سفر دولتكم قد اكتشف في باريس. إن قضية دريفوس تدل على أنه لا يستحيل على مأموري الشيفرة في فرنسا حل جميع البرقيات السرية المارة بتلك العاصمة. وعليه أرجو دولتكم أن ترسلوا مفتاحًا جديدًا مع الإفادة إذا كان يجب أن يُوضع قبل رقمي الكلمة أو بعدها. ثم أعرض لدولتكم أني قد عزمت على إرسال برقياتي إلى دولتكم عن طريق برلين بواسطة سفارتنا فيها. ثم أرجوكم أن تكتبوا لي منذ الآن عن طريق هذه السفارة؛ كي أكون أمينًا أن جميع ما يصلني منكم هو صحيح غير مشوه؛ لأن جميع ما أتسلمه منكم عن طريق باريس يكون مغلوط الأرقام قصدًا، فلا يتسنى لي، والحالة هذه، حلُّه. وأرجو أن تذكروا أن الأخبار التي أرسلها لدولتكم عن طريق باريس هي مختلقة لا صحَّة لها، والمأرب منها تشويش الرأي العام الإفرنسي؛ إذ لا يخفاكم أن الشعب الفرنسي هو سريع التأثر شديد الانفعال (ثم ذكرت بعدئذ أخبارًا خصوصية لا محل لنشرها).

وبعد مضي بضعة أيام وردني الجواب الآتي المختصر مأخوذًا على الزنك مع ترجمته:

يا مير صاحب التدبير والحشم

أصوب مساعيكم ومسرور بالنتيجة. لكن كن حذرًا يقظًا، اسلك بدقة وسرعة في الوقت الأنسب. العفارم.

إن مفتاح الشيفرة خاصتكم يبتدئ بعد ٦٨، ثمان وستين.

السلام والدعاء.

ص. م
(أي صالح منير)

وحدثت في مجلس النواب الإفرنسي مناقشةٌ عنيفة حمل بها الاشتراكيون حملةً شديدة، حتى إن المسيو سامبا ختم خطابه: «إن فرنسا التي تفاخر بأنها محررة الأمم أصبحت الآن تحصيلدار لمدائنين بالربا.» وحدث ما توقعته أي إن الوزارة لم تسقط، وإنما هبطت أكثريتها من ٢٧٠ إلى ٤٥ صوتًا. وكان الفضل بإنقاذها زيارة قيصر روسيا لفرنسا يومئذٍ. وبعد رجوعه إلى بلاده خرج الأسطول الإفرنسي كما أخبرني قبلًا الصحافي الإفرنسي في باريس، واحتل ثغر جزيرة متلين واستولى على جمركها. وحيث لم تعترض إحدى الدول على هذا الاحتلال حتى ولا ألمانيا صديقة تركيا والسلطان، اضطرت الدولة أن تدفع القيمة المطلوبة صاغرةً، فخرج الأسطول عائدًا إلى طولون وعادت العلائق السياسية. وحيث إن الحكومة الإفرنسية لم ترضَ تبديل سفيرها المسيو كونستان الذي كان سبب هذه الأزمة؛ فقد أصر السلطان أيضًا على إعادة سفيره منير باشا إلى باريس.

وبعد وصوله بأيام قلائل أبرق لي ما تعريبه:

بناءً على … تعطفت الحضرة الشاهانية، فأنعمت عليكم بالرتبة الأولى أي لقب «سعادتلو أفندم».

وقد أراد دولته أن يظهر بذلك امتنانه بما قمتُ به في أثناء هذه الأزمة السياسية، وظن أن إنعامه عليَّ بالرتبة الأولى دفعة واحدة (حيث كانت العادة أن تُعطى الرتب بالتدريج من الرتبة الثالثة؛ أي: رفعتلو إلى الثانية أي عزتلو إلى الأولى أي سعادتلو) سيقع لديَّ موقعًا حسنًا؛ لأنه يدل على التفات خاص، وإنما الحقيقة كانت خلاف ذلك؛ لأني كنت أريد عدم الحصول على أية رتبة كانت. أولًا: لأني أعتقد من صميم الفؤاد أن الرُّتب والوسامات مهما عظمت لا تزيد مقام المرء، ولا اعتبار أحد له. ثانيًا: لأنه في عهد عبد الحميد كانت تُعطى الرتب مرارًا للمستحقين وغير المستحقين. ومع ذلك فلما كنت مضطرًّا إلى التشكر؛ فقد أبرقت إلى السفير جوابًا، هاتين الكلمتين: «أشكر دولتكم.» وعبثًا حاول رفقائي في السفارة إقناعي بأن أبرق إلى تحسين باشا سكرتر السلطان، أُعرب عن تشكراتي للحضرة الشاهانية من هذا الالتفات الخاص، فرفضت رفضًا باتًّا ولم أبرق شيئًا.

هذا وبعد أن مضت الأسابيع والشهور على تلك الأزمة، وأمست في خبر كان، طلعت علينا جرائد باريس وفيها خبر فضيحة جديدة أمام المحاكم، وهي مطالبة السماسرة الذين رشوا الجرائد وباعوا الضمائر بالقيمة التي تعهد لهم بها. وأكتفى هنا بترجمة ما علقته جريدة الماتين المشهورة على نشرها خبر المرافعة أمام المحكمة قالت:

تستحق هذه الدعوى تعليقًا. نعتقد أنه لا يجب على الجرائد قبول درهم واحد ما عدا ما تتقاضاه على إعلاناتها، وإن هذه الإعلانات يجب أن تعلن في حقولها. ويسوءُنا أن بعض الجرائد تتقاضى جعلًا على كل ما تنشر، سواء كان ذلك في حقل المحاكمات أم الافتتاحيات، فضلًا عن الأخبار. وليس هذا فقط، بل تتقاضى أجرة مقابل التشويق لكل الأمور، سواء كانت أدبية أو سياسية أو صناعية أو مسرحية.

فلم تتجاسر جريدةٌ واحدة في باريس أن تكذِّب هذا التعليق الجارح، والنامَّ عن عدم نزاهة الصحافة الباريسية. وهكذا كانت خاتمة تلك المأساة السياسية المضحكة المبكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤