مأساة في السلك السياسي

لقد صدق من قال إن الدهر أمهر روائي، فقد يحدث أحيانًا من الأمور ما لا يخطر ببال أبلغ الروائيين، وإلى القارئ الحادثة التالية التي وقعت في بروكسل وكنت أحد شهودها:

كانت تجمعني صداقة متينة العرى مع سفير تشيلي في البلجيك السنيور وادنكتون وهو رجل لطيف المعشر كريم الأخلاق راقٍ بكل معنى الكلمة. وكان له في ذلك العهد ولدان في مقتبل العمر؛ شابة في الحادية والعشرين من سنيها رائعة الجمال بهية الطلعة لطيفة المعشر، وشاب لم يبلغ الثامنة عشرة كثير الحياء. وكانت دار السفارة التشيلية بجوار غابة «لاكمبر» الواقعة في ضواحي المدينة. وفي عصاري كل يوم كان يفد إليها أصدقاء السفير يتناولون الشاي ويتجاذبون أطراف الحديث، وبعضهم كان يلعب لعبة «التنس». وكان للسفير أصدقاء عديدون نظرًا لما كانوا يلاقونه هنالك من الحفاوة والظرافة والكياسة والجمال الرائع.

واتفق في أحد الأيام أن تعين للسفارة سكرتير جديد يدعى السنيور «بلماسيدا» حفيد رئيس جمهورية تشيلي ومن أسرها الشريفة، وكان جميل الطلعة كثير الخيلاء والكبرياء، ولم تتصرم أيام وجيزة على وصوله حتى هام بابنة السفير رئيسه وشغف بها. ولما كان شديد الغيرة فقد قلل جميع زوار السفير زياراتهم وخلا له الجو «فباض واصفر».

وبعد أربعة شهور أعلنت الخطبة رسميًّا وأراد السفير أن يقيم مأدبة بمناسبة عقد الخطبة واتفق ذلك اليوم أني كنت مريضًا وجاءني عند الغروب زميلي قنصل جنرال البرازيل عائدًا، ولما قصد العودة إلى منزله ليرتدي ثيابه الرسمية للذهاب إلى المأدبة قلت له: لقد أرسلت باقة زهر إلى «يايا» (اسم الفتاة) وكتبت رسالة للسفير أعتذر بها عن الحضور لداعي مرضي، ثم رجوته أن يعتذر عني مرة أخرى.

ولما أصبح اليوم التالي وفتحت صحيفة الصباح لأقرأها حلَّ بي الروع العظيم عندما وقع نظري على العنوان التالي: مأساة في سفارة تشيلي، ابن السفير يقتل السكرتير خطيب شقيقته، لا يحقُّ للحكومة التدخل في الأمر للامتيازات السياسية.

ثم تلى ذلك أربعة أعمدة تفصيلًا للمأساة فلم أطق صبرًا أن أبقى في سريري فنهضت حالًا لزيارة صديقي السفير والقيام بمساعدته وتخفيف أشجانه في تلك المأساة الهائلة. وإلى القارئ أسبابها:

لما دنت ساعة المأدبة كانت عقيلة السفير ترتب الأزهار على المائدة وتلقي نظرة عامة على الاستعدادات، وإذ فتح الباب فجأة ودخل الخطيب «بلماسيرا» فقالت له عقيلة السفير: لماذا إلى الآن لم ترتد ثيابك الرسمية ولم يبق سوى قليل من الدقائق لابتداء المأدبة؟ فأجابها بصوت المستهزئ المستهتر: لأني لا أرغب في حضور المأدبة.

فقالت له: كفاك مزاحًا يا هذا وأسرع بارتداء ثيابك.

فأجابها: إني لا أتكلم سوى الجد.

فذهبت عقيلة السفير وسألته عن السبب، فأجابها لأنني لا أرغب في الزواج مطلقًا.

فران الغضب على محيا السيدة وقالت له: ولماذا لم تخبرنا قبل الآن، وأنت تعلم أن سيحضر المدعوون قريبًا لحضور حفلة الخطبة؟

فأجابها بكل برودة: تدبروا الأمر كيف شئتم. وخرج مغلقًا الباب وراءه ثم عاد ففتحه ودخل قائلًا بابتسام: لقد سهي عن بالي إخباركم أنه إذا جاء إلى ابنتكم ولد فإني أهديكم إياه أيضًا.

فأدركت الأم الحقيقة الهائلة وسقطت على الأرض مغشيًّا عليها من هول الصدمة. أما السكرتير فلم يبال بها بل تركها كما هي وذهب إلى النزل الذي يقطنه.

ودخل في تلك الدقيقة ولدها الشاب كارلوس فوجد والدته مغمًى عليها فهرول إلى إسعافها، ولما أفاقت من غشيتها وسألها عن السبب قصت عليه القصة كما توقعت.

فخرج الشاب من لدن والدته دون أن ينبس ببنت شفة وبعد أن أخذ مسدسه ذهب إلى حيث يقطن خطيب شقيقته وكان صديقًا حميمًا له، فوجده يدخن (سيكارة) على كرسي هزاز فقال له بصوت أجش وأمائر الاضطراب والغضب بادية على وجهه: لقد أخبرتني أمي بما حدث؛ وعليه فليس لك بعد تصريحك هذا سوى طريقتين: إما الزواج، وإما الموت.

فقال له السكرتير ساخرًا: دع عنك هذه المهزلة.

فأجابه كارلوس بحنق: لا بل دع أنت عنك هذه السخافة وفكر بما تجيب.

فأجابه: لقد فكرت كثيرًا وصممت على عدم الزواج بشقيقتك.

فقال له: ولكنك خدعتها بطريقة دنيئة سافلة.

فجاوبه: تدبروا الأمر بالتي هي أحسن.

فأعاد عليه كارلوس التهديد. فسخر به. عندئذ سدد كارلوس مسدسه على العابث بشرف شقيقته وأطلق النار عليه فأصابت رصاصاته الست رأسه فسقط يتخبط بدمائه وفارق الحياة حالًا.

وعاد كارلوس إلى السفارة في الساعة التي بدأ السفراء والقناصل وسائر المدعوين يتواردون إلى السفارة. فاعتذر لهم الخَدَم وعاد كلٌّ إلى بيته.

ولما كان القاتل ابن السفير والمقتول سكرتيره والاثنان حائزين على الامتيازات ولا تجوز محاكمة القاتل أمام المحاكم الوطنية؛ ترتب على السفير أن يرسل ابنه إلى تشيلي لمحاكمته فيها.

أما هو فنظرًا لوجود ضغائن بين عائلته وعائلة المقتول، ونظرًا لنفوذ العائلة الأخيرة وخشيةً على ولده من ذلك النفوذ آثر التنازل عن حقوقه وتسليم ابنه إلى محاكم البلجيك، فألقي القبض عليه وزج في السجن ريثما تصير محاكمته.

ولا يَخفى أن محاكمة القتل في أوروبا تكون علنية يحكم فيها المحلفون.

وسألني السفير عن المحامي المناسب لاستلام الدفاع عن ابنه، فأشرت عليه بالمسيو «جنسون» الذي تسلم بعدئذ مهام وزارة العدلية فرضي به.

المحاكمة

عندما جاء يوم المحاكمة تمكنت بواسطة العلامة نيس الذي كان رئيس محكمة الحقوق من حضورها وراء القضاة.

ها قد مضى على تلك الحادثة نحو ربع جيل ولا أزال أشعر بالانفعال الشديد كلما تذكرتها نظرًا للمشهد الرهيب وللوقفة الهائلة التي وقفها ذلك الشاب الباسل إذ كان يسمع ما يقولونه عن شقيقته جهرًا وهو كاظم غضبه لا يستطيع الدفاع.

لقد ظهر من المحاكمة أن خطيب تلك المسكينة كان وغدًا لئيمًا زنيمًا، وأن حبه وجاهه اللذين كان يتظاهر بهما أمام فريسته لم يكونا سوى أحبولة لاصطيادها وقضاء وطره الدنيء منها. فلما قضى لبانته تركها وشأنها.

أما المسكينة فكانت تحبه محبةً جمة كما ظهر ذلك من رسائلها إليه.

وقد ثبت من المحاكمة أن المقتول كتب في يوم واحد ثلاث رسائل. الأولى لعمه يطلب بها منه القبول بزواجه بابنة السفير. والثانية لعمه أيضًا يقول له فيها: ستصلك منِّي في هذا البريد رسالة أطلب بها منك الرخصة بالتزوج بابنة السفير وألحُّ عليك بالقبول فلا تحفل بها أبدًا بل ارمها في سلة المهملات؛ إذ قد أرغمت على كتابتها. أما أنا فلا أريد أن أتزوج بابنة السفير مطلقًا لأسباب لا يمكنني الآن التصريح بها وسأقصها عليك شفويًّا. أما الرسالة الثالثة فقد أرسلها إلى خطيبته يقول لها فيها: لقد كتبت اليوم إلى عمي كتابًا ألح عليه بالقبول، ولا شك أن الجواب سيكون بالقبول وعندئذ يتم هناؤنا ونتحد معًا بشريعة الزواج المقدسة ولا يفصل بيننا بعدئذ سوى الموت.

وظهر أنه طرح المكاتيب الثلاثة بإدارة البريد في وقت واحد؛ إذ حين حدوث القتل ضبطت الحكومة تلك الرسائل فظهرت منها الحقيقة بكل جلاء.

ويوجد برهان آخر على خداعه وهو: لقد سأل خطيبته أن تحرق جميع رسائله التي أرسلها إليها وأنه هو سيفعل ذلك. فلبَّت الشابة سؤله بينا هو ظل محافظًا على جميع رسائلها.

ولا ندري السبب الذي لأجله أجاز المحامي عن القتيل لنفسه قراءة رسائل الشابة الغرامية علنًا وكلها تنمُّ عن حبٍّ مفرط وهيام لا حد له، وقد تكدرت كدرًا شديدًا لدن سماعي بعضها، فخرجت من المحكمة وذهبت إلى منزلي ولم أكد أبلغه حتى أخبرني أحد أصدقائي أن حاضري المحاكمة، وعددهم وافرٌ، هجموا على محامي القتيل ثائرين يريدون تمزيقه إربًا إربًا لقراءته تحارير الخطيبة علنًا، ولو لم تتدخل الشرطة بالأمر لقضي على المحامي. فشكرت الله على خروجي وإلا لَسَرَت إليَّ عدوى الهجوم ولهجمت مع الهاجمين. وطال أمد المحاكمة عشرة أيام. وكنت قد سمعت مشاهير الخطباء السياسيين والمحامين في أوروبا، إلا أنني لم أسمع قط أحدًا منهم تكلم ببلاغة وإقناع نظير البلاغة التي كان يتكلم بها المسيو «جنسون» المدافع عن القاتل.

ولا يسعني في هذا المقام سرد جميع الوقائع خوفًا من التطويل الممل وأكتفي بذكر خلاصة ختام المحاكمة فأقول:

عندما دخل المحلفون إلى غرفة المفاوضة للتصويت إذا كان القاتل مذنبًا أم لا، ولما كانت تلك الساعة رهيبة جدًّا إذ يتوقف عليها حياة ذلك الشاب، ذهبت حالًا إلى حيث كان صديقي السفير جالسًا فوجدته بحالة يرثى لها من الحزن والوجل، وقد تلعثم لسانه من فرط التأثر والمحامي يهدئ روعه دون جدوى. وبينا نحن على تلك الحال قُرع الجرس المشير إلى انتهاء المحلفين من المشاورة ودخولهم قاعة المحاكمة فأسرعت مع المحامي. وفي تلك الدقيقة فُتح الباب الذي يقابلنا وخرج منه المحلفون وشاهدت الرئيس يشير إلى المحامي بحاجبيه إشارةَ التبرئة. فقال لي المحامي: أسرع وبشِّر السفير بذلك. فهرولت وبشرته، فلم يكد يصدق من عظم الفرح، ثم عدت إلى قاعة المحاكمة فسمعت رئيس المحلفين يقول:

جوابًا على السؤال إذا كان كارلوس وادنكتون متعمدًا القتل، أقول كان الجواب بالسلب بسبعة أصوات ضد خمسة. فصفق الحاضرون كثيرًا ابتهاجًا وسرورًا لأن الشاب المسكين أُنقِذ بأكثرية صوت واحد.

وقد هجمت ابنة رئيس المحلفين على والدها تقبله ودموع الفرح تنهمر من مآقيها قائلة له: «مرسيه بابا … مرسيه بابا.» أي شكرًا لك يا والدي. لأن قسمًا عظيمًا من العائلات كان متأثرًا أي تأثر كيف أن القانون لا يعاقب الشاب المحتال على خطيبته نيلًا لإربه متذرعًا بالخطبة.

إنني إلى الآن لم أدرك سبب تسفل ذلك اللئيم وما القصد من عمله الدنيء؛ إذ بعد أن خدع تلك الشابة متظاهرًا بحبها والعزم على تزوجها، يريد فضيحتها والتشهير بها علنًا. ترى هل ذلك لقاء حبها الجم إياه وثقتها العمياء به؟

إن القتل إذا كان يجوز في أمر ما، فقد نال القتيل عدلًا ما استحق لقاء دناءته وخداعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤