يقظة الضمير

سنة ١٩٣٥

الفصل الأول

(المنظر في غرفة جلوس في منزل برعي بك والد ملكة بمصر القاهرة.)

المنظر الأول

(عبد الحكيم – برعي)
عبد الحكيم : إني وإن كنت فقيرًا … ولكنني أمتُّ إليك بحبل القرابة … وأود أن أقوي هذه العلاقة بالنسب … وليس الفقر عارًا يا عمي … وإن كان في عرف بعض الناس عارًا فهو بلا ريب عارٌ طارئ … ولا يشين الناس إلا المعايب … وقد قضيت زهرة الشباب في تحصيل العلم … وعن قريب أنال ما أبغي من المال والشهرة … وسيكون لي شأن كبير في عالم الطب والمال … ولن تندموا على مصاهرتي ومساعدتي. وإني أعاهدك على أن أذكر جميلك طول حياتي وأبذل كل جهدي في سعادة ابنتك ملكة هانم التي بلا ريب وعلى ما أظن …
برعي بك : مفهوم … مفهوم يا عبد الحكيم يا بني. أنا لا أنكر أنك شابٌّ مهذَّب ومجتهد وأنك ستصل حقًّا بعد قليل إلى ما تحب. وهذا شيء يسرنا بوصف كوننا قرباء ولو قرابة بعيدة، ولكن مسألة النسب يا ولدي مسألة فيها نظر وقد تكون مستحيلة لجملة اعتبارات؛ أولًا: المسألة الماليَّة … صحيح أنني لم أتعلم في المدارس العليا ولكنني رجل عمليٌّ. زواجك الآن من ملكة يقتضي صداقًا وجهازًا وحفلة زفاف ونفقة منزل، فمن يقوم بهذه الميزانية المهولة كلها؟ ثانيًا المركز الاجتماعي ولا تؤاخذني، أين عبد الحكيم الطالب بمدرسة الطب ابن المرحوم يوسف أفندي زهدي (بازدراء) من الآنسة ملكة هانم بنت برعي بك البقلي وحفيدة سعادتلو عبده باشا ناظر خاصة جنتمكان سعيد باشا؟
عبد الحكيم : طبعًا يا عمي … يا سعادة البك أعرف كل هذا ولكن …
برعي : ثالثًا ألا تعرف بلا مؤاخذة أن ملكة هانم بنتي أصبحت من عهد قريب محطَّ أنظار كثيرين من الأعيان الراغبين في مصاهرتي؟ … وكلهم أغنياء ومشاهير ومكانتهم كمكانتنا في العز والجاه … وبالطبع نحن أمْيَل إلى مصاهرتهم …
عبد الحكيم : ولكن يا عمي، يا سعادة البيك، كل هذه الاعتبارات تافهة.
برعي : تافهة؟ أشكرك يا بني.
عبد الحكيم : عفوًا أريد أن أقول غير جدِّيَّة.
برعي : إذن هي في نظرك اعتبارات هزلية!
عبد الحكيم : لا سمح الله لا أقصد هذا. إنما أعني أنها تزول أمام كرم أخلاقك وحسن نيتك ورغبتنا الأكيدة في هناء كريمة سعادتك … فقد يقوم الحب مقام الغني والجاه. ولا تنسَ تناسُب أعمارنا واختلاطنا منذ نعومة أظفارنا وتبادُلنا الأفكار والآمال، وتطلعي منذ أدركت قيمة الحياة إلى الاقتران بها لأبذل في سبيل سعادتها كلَّ شيء حتى حياتي ذاتها. ولا تنسَ يا عمي …
برعي : متذكِّر … متذكِّر … ومتفق معك، ولكني أخالفك في مسألة الحب. هذا كلام تفرنُج يا ولدي. والزواج الذي يُبنَى على الحب قصير الأجل … وهيهات أن يُثمِر ثمرةً صالحة. أما الزواج الذي يُبنَى على المصلحة فهو الزواج الحقيقي؛ لأن الحب ذاته عمره قصير. أما المصلحة فحبالها طويلة … وأنا يا ولدي من أصحاب المصالح الحقيقيَّة، وأحب أن أدافع عنها في كلِّ سبيل من سُبُل الحياة حتى في الزواج. وفضلًا عن ذلك فمَن يدريك أن ملكة تحبك؟ وإن كانت تحبك فمَن يدريك أنها لن تحب زوجها الذي سأختاره لها؟ وبعد أن تذوق طعم السعادة الزوجية تنساك ولا تعود ذكراك في ذهنها إلا كالحلم البعيد.
عبد الحكيم : تنساني كالحلم البعيد …
برعي : وكذلك أنت تتزوج من غيرها وتنساها … وهذه حال الدنيا … المال زينة الحياة ثم البنون يا ولدي.
عبد الحكيم : يا عمي إن حياتنا ليست سلسلة نسيان كما تظن، وليس المال كلَّ شيء في الحياة … ارحم شبابنا.
برعي : ارحم أنت بنتي وماليتي (بصوت منخفض).
عبد الحكيم : لم يبقَ على الامتحان الانتهائي سوى بضعة أشهر … فأتخرج وأنجح في الجراحة نجاحًا عظيمًا … وأصير مثل الدكتور ظيفل باشا والدكتور رامز بك.
برعي : لا يا سيدي! لا يوجد أمامك إلا وظيفة طبيب مركز … تتنقل من مركز الدر إلى كوم حمادة ومن البداري إلى الصف … والمرتب معلوم، وفوق هذا وذاك انتقالات الليل وتفتيش المصلحة وتشريح الجثث والأمراض المعدية.
عبد الحكيم : سأكون بإذن الله طبيب امتياز يا عمي، وأسافر مُرسَلًا للتخصص كما وعدني مدير المدرسة والأساتذة.
برعي : عليك نور! فضلًا عن الأسباب المتقدِّمة. رابعًا (بانتصار) هل تظن أنني أزوج بنتي ممن يُنتظَر سفره إلى أوروبا؟ فهل تتركها تترمل في غيبتك قبل انقضاء شهر العسل؟ أو تصطحبها وترسل إليَّ تستنجد المال بالتلغراف، وتقول: بنتك مريضة وبنتك تطلب مصاريف وبنتك حامل وبنتك ولدت توأمين!
عبد الحكيم : إن أسوأ افتراض بين الافتراضات التي في فكرك أفضل من القطيعة بيننا يا عمي. فأتوسل إليك!
برعي (ينهض) : أظن يا عبد الحكيم أفندي يا ابني أن المجلس قد أخذ حقَّه. والمجلس استوفى من جميع وجوهه، ومع ذلك فإن المسألة لا تحتاج إلى المناقشة (يهمُّ بالقيام).
عبد الحكيم : إذن ترفض مصاهرتي وتطردني من مجلسك! هل هذا ما أوصاك به والدي في أيامه الأخيرة؟ ألم تقل له إنك ستكون لي والدًا ومعينًا ومرشدًا وصديقًا؟ ألم يخدمك والدي طول حياته في كل ما عاد عليك بالمنفعة، ولم يسألك جزاءً ولا شكورًا؟
برعي (بضجر) : متذكِّر ومتشكِّر (يتأثَّر قليلًا ويتردد) الله يرحمه ويحسن إليه الفاتحة إلى روحه (يتمتم باسطًا يديه وعبد الحكيم يتمزق غيظًا).
عبد الحكيم : من رحمة الله أن ترحم أنت شبابنا وحبنا … ومن الإحسان أن تفي بعهدك لأبي فتكون لي والدًا وحمًا، ولعل هذا الزواج يكون فاتحة خير عميم عليك جزاء بِرِّك بوعدك لذلك الصديق المتوفَّى.
برعي : ومع ذلك أنا مدين من قمَّة رأسي إلى أخمص قدمي. جميع أطياني مرتهنة للبنك العقاري والدين من دأبه ينفِّر النوم ويُورِث الأرَق … فضلًا عن أنني لم أبِع القطن حتى الساعة. حقًّا إنه عندي ثمانمائة قنطار سكالاريدس وزاجوراه وأشموني، ولكن ما الفائدة إذا لم أبِعْها فتبقى مُختزَنة … لقد عرضوا عليَّ سعرًا جيدًا. ثمانية وثلاثين ريالًا فرفضت، وأنا الآن بين اليأس والرجاء وأخشى أن أكون قد ضيعت الفرصة. ولكن القطن صاعد وأعطيت بيانًا وأصدرت أمرًا إلى وكيلي طنطاوي أنه إذا عُرِضَ عليه سعرًا أربعين ريالًا فليبع. هذه حقًّا مجازفة. ولكن لعل في المجازفة بركة …
عبد الحكيم : ولكن مشغوليتك يا عمي بالقطن لا تنافي تفكيرك في مستقبلنا نحن الاثنين.
برعي : سبحان من أودع في كلِّ قلب ما أشغله من الديون والرهن لفرصة بَيْع القطن بأعلى سعر ممكن إلى التفكير في سعادتك. بالله عليك يا ولدي لا تُحرِج صدري (يدخل الخادم).

المنظر الثاني

الخادم : ساعي التلغراف.
برعي (بلهفة) : تلغراف.
الخادم : ها هو (يقدم رسالة البرق).
برعي (يفضُّها بلهفة ويقرأ) : بعنا القطن كأمر سعادتكم بأربعين ريالًا. وكيلكم طنطاوي … (يطوي الرسالة) باع بأربعين ريالًا فقط مع أن القطن في صعود! لعنة الله عليك يا طنطاوي. ومع ذلك أنا الذي أذنت له بذلك. لا بأس (كأنه يحادث نفسه في مناجاة) ستة آلاف جنيه … يكاد الثمن يسدِّد الأقساط فنفيق من الأزمة ولو قليلًا. ومع قليل من التدبير وعقد قرض صغير أستطيع أن أشتري الخمسين فدانًا التي يملكها منصور أغا بشرنقاش، فإني من زمن طويل أصبو إلى وضع يدي عليها.
عبد الحكيم (بخوف وتردد) : مبروك يا عمي. أهنِّئك من صميم فؤادي!
برعي (بغيظ) : شكرًا لك. المسألة لا تحتاج إلى التهنئة. فماذا يكون تسديد القسط وشراء بضعة أفدنة. هل هذا مال؟ هل هذه أطيان؟ لقد مضى وانقضى زمن الكسب والثراء.
عبد الحكيم (في نفسه) : ما أشد مطامعه!
برعي : ومع ذلك فإن هذه فرصة انتهزتها وفائدة استحققتها!
عبد الحكيم : إن شاء الله تدعوك هذه الفرصة للعطف علينا.
برعي : مؤكد مؤكد … غير أنني مشغول الآن جدًّا بهذه الصفقة … وبلا ريب سأنظر بعد قليل في مسألتك (لنفسه) لعله يكتفي بهذا الوعد وينصرف.
عبد الحكيم (مستبشِرًا) : أحقًّا ما تقول يا سعادة البك؟ زادك الله خيرًا وسرورًا.
برعي (بغيظ وتصميم) : ولكن أنا أقول لك منذ الآن أن تيأسَ تمام اليأس من إتمام هذا الزواج الذي تتمنَّى.
الخادم (وهو لم يزل واقفًا بخوف) : ساعي التلغراف يا سعادة البك منتظر على الباب.
برعي (يتغير) : منتظر! ماذا ينتظر؟ قل له لا يجوز إعطاء مكافأة بأمر الحكومة (يقرأ على الغلاف) لا يجوز دفع شيء لحامله.
الخادم : لا يا سعادة البيك. هو ينتظر الإيصال.
برعي : آه الإيصال. هذا شيء آخر! أين الإيصال؟
الخادم : مع التلغراف ذاته.
برعي (يجد الإيصال في الغلاف) : ها هو (يمهره بإمضائه) قل للساعي يا حبذا كل يوم رسالة كهذه (يخرج الخادم).
عبد الحكيم (منتهزًا فرصة السرور الطارئ) : طبعًا يا عمي الآن تستطيع أن تعطف علينا قليلًا، فالبركة في المجازفة كما قلت لنا عند تمام صفقة القطن.
برعي : ألا تزال تتكلم في الحب والزواج والحب والسعادة؟ هذا عجب عجاب … لماذا أنا في شبابي لم أعرف شيئًا اسمه حب أو عواطف أو سعادة؟ وطول حياتي في الأرض والطين والزرع والتوفير. صدق من قال: من السماد للسداد.
عبد الحكيم : الدنيا تغيَّرت والأفكار أيضًا تحوَّلت وتبدلت.
برعي : أستحلفك بالله أن لا تُحرِج صدري. ومع ذلك سأقول لك شيئًا شريطة أن لا تتأثر.
عبد الحكيم : عفوًا يا عمَّاه.
برعي : أنا لا يحق لي أن أقوله، ولكن الدِّين النصيحة. مهما يكن علمك ومهارتك فلن يكون لك شأنٌ يُذكَر.
عبد الحكيم (بدهشة وغيظ) : لماذا؟ … لماذا؟
برعي (مُبتسِمًا) : ألم أحذِّرْك من التأثير والانفعال؟!
عبد الحكيم : طبعًا لم أكن أنتظر هذه الصدمة.
برعي : طيب! طيب! لا لزوم إذن للكلام.
عبد الحكيم : لا! بعد هذه المقدمة لا بدَّ أن أعرف مقصودك من هذا الكلام الأخير.
برعي : قصدي يا ولدي أن أقول لك إن كل شيء في بلدنا هذا يحتاج للتوصية والاختلاط بالطبقة العالية، ورحم الله من قال: إذ لولا الوساطة لما كان الموسوط. أفهمت؟ ومن كان يتيمًا فقيرًا فهيهات أن يخترق الصفوف المكتظَّة بطلاب المراكز والمال والشهرة والمناصب العالية.
عبد الحكيم (يتحمَّس) : العلم والذمة يتغلَّبان على كل شيء.
برعي : يمكن العلم والذمة يتغلَّبان على كل شيء بعد عمر طويل، وبعد أن يُفنِي العالم ذا الذمة والاستقامة. ومع ذلك فإذا بلغت المال والشهرة فأنا مستعد لتزويجك من بنتي ملكة هانم وإن كانت تزوجت فأنا كفيل أيضًا أن أرغم زوجها على الطلاق.
عبد الحكيم (بصوت منخفض) : يا لطيف ما هذه الذمة؟ وما هذا الضمير؟!
برعي : ومع كل هذا، فإنه توجد ألف بنت أفضل وأجمل وأغنى من ملكة، فيمكنك أن تختار من بينهن مَن تشاء.
عبد الحكيم (بيأس وألم) : حسن جدًّا يا عمَّاه والشكر لك.
برعي : عبد الحكيم! لا مؤاخذة ولا غضب. الدار دارك وملكة أختك، وإذا هيَّأت لك الأقدار أن تختار عروسًا أخرى من أسرة نعرفها فأنا لا أتردَّد في مساعدتك. فعمَّتك تخطبها وربما دفعتُ الصداق الذي أستطيعه، وأقمتُ لك معالم الأفراح التي تليق بكرامتك.
عبد الحكيم (بذُعْر) : أفراح؟ … أية أفراح؟
برعي : لا بدَّ من ذهابي إلى البنك قبل إغلاقه، وأريد أن أرسل إلى طنطاوي رسالة برقية. فهو بلا شك ينتظر الرد. أستودعك الله الآن. وكفَّ عن الأماني التي لا فائدة فيها. والتعقُّل والثبات أولى بك. الزعل مرفوع والزواج ممنوع والرزق على الله (يضحك ويخرج تاركًا عبد الحكيم في حَيْص بَيْص. يجلس عبد الحكيم مفكِّرًا وحزينًا ويسود المسرح سكون عميق، وبعد قليل تسقط أمامه وردة من داخل المسرح فيتناولها وينظر إليها، ثم يرفع بصره بثبات فتدخل ملكة على مهل في ثياب الخروج ومعها زهور وكتب، ثم تدنو منه وتحادثه بتلهف).

المنظر الثالث

ملكة : ماذا جرى؟ هل قبل؟ لقد رأيته ذاهبًا منذ هنيهة فتقابلت سيارتي بسيارته أمام القصر العيني.
عبد الحكيم : لقد خاب كلُّ رجاء يا ملكة.
ملكة (بذهول) : كيف؟! ألم يقبل؟! ألم تستطع إقناعه؟
عبد الحكيم : لقد عَيِيتُ في محادثته، ولم أدَّخر وسعًا في استجلاب رضاه.
ملكة : أنت عبد الحكيم الفطن … الشجاع الفصيح … الحلو الحديث لم تقدر على إقناع والدي … الضعيف الغير متعلم!
عبد الحكيم : إن ضعفه وجهله — اعذريني — هما سببا عجزي عن بلوغ مأربنا … بل سبب ضياع أملنا في سعادة الحياة.
ملكة : عجبًا! على أن أبي هذا أطوع لأمي من بنانها، بل هو لا يعصي لها أمرًا … ولا يخالف رأيها أبدًا، لا سيما منذ اشتدت عليها وطأة الداء … فإنه يخشى على حياتها إن هو خالفها في أمر تريده. إن أمي تحبني وقد تعمل على بلوغ سعادتي. فلنلجأ إليها، ولكن اعلم يا عبد الحكيم أنها هي الملجأ الأخير … فإن خاب أملنا معها فلا سبيل إلى تحقيق أمانينا.
عبد الحكيم : وهل تظنين أن أمك توافق على زواجنا؟!
ملكة : لا أستطيع الجزم بذلك فإنها كوالدي من الطراز القديم، ولكن أملي منوط برقَّة قلب الأم فهو أبدًا أقرب إلى الحنان والشفقة من قلب الوالد. فإن وافقت فلعلها تنجح حيث فشلنا وتقدُر على ما عجزنا عن إتمامه.
عبد الحكيم : هل أنت واثقة من حنانها وشدة عطفها عليك؟ وهل تستطيعين …؟
ملكة : ماذا؟ … تكلم.
عبد الحكيم : أن تبوحي لها بحقيقة أمرنا إذا اقتضت الحال ذلك!
ملكة (مضطربة) : هل وصلت بنا الشدة إلى هذا الحد؟ … أيصبح زواجنا الشرعي رهنَ الفضيحة والعار؟ (تبكي) إنني أفضِّل الموت على ما نحن فيه.
عبد الحكيم : الموت! … الموت! … ونحن في أولى مراحل الحياة!
ملكة : إذن بماذا تشير علينا للخروج من هذه الورطة؟ … إن الوقت يأزف … والخطر يزداد ويتحقق … ولا أكتمك أنني أفضِّل استعجال العاصفة على الاستنامة للأماني العذبة … فما دامت الصاعقة منقضَّة حتمًا فالأفضل أن نستعجلها قبل الأوان دون رهبة أو وجل.
عبد الحكيم : عزيزتي ملكة! … ملكتي العزيزة! … أستحلفك بحبنا الطاهر أن لا تزعجيني عليك … لا تيأسي من رحمة الله.
ملكة : رحمة الله! … حبنا الطاهر! … ما أعذب وقع هذه الألفاظ على أذني في هذا الوقت الحرج! الحب الطاهر (تضحك بتهكُّم) كان هذا الوصف صحيحًا منذ ثلاثة أشهر؛ أي قبل فصل الربيع الذي أزهر فيه البنفسج.
عبد الحكيم : نعم نعم حبنا الطاهر. فإن اتصالنا كان وسيلةً للاتصال بالروح. التسليم واسطة والحب الحقيقي غاية تبرِّرها. هكذا خُلِقَ الإنسان ضعيفًا تلهو به الطبيعة وتلعب وتسخِّره فيما تشاء وهي لا تشاء إلا أمرًا واحدًا هو أعظم الأشياء وأقدسها. لأجل هذا أريد أن أقف حياتي على تحقيق أمنية الطبيعة فيما حكمت به بينك وبيني، وهذا التحقيق لا يكون إلا بالزواج.
ملكة (مضطربة) : عبد الحكيم! … عبد الحكيم …
عبد الحكيم : حبيبتي ملكة.
ملكة (تستجمع شجاعتها بجد وقوة) : اعلم أن هذه الأمنية قد تحقَّقت … (تُجهِش بالبكاء وتسقط على الأرض فتنتثر الأزهار والكتب على البساط فيبادر إليها عبد الحكيم فيسندها حتى تستفيق وتجلس).
عبد الحكيم : حبيبتي.
ملكة (كمن تتذكر أمرًا) : اسمع يا عبد الحكيم، إنني تركت والدتي عند دكان أكتير تاجر الجواهر بشارع المناخ؛ لأستطيع أن أخلو بك هنا برهة، ولكنها لا تلبث أن تعود، وأنا أريد أن أحادثك في أمر ذي شأن (يزداد اهتمامه) سأفضي إلى أمي بكل شيء ثم أحادث أبي لأقف منه على حقيقة أفكاره، فإذا علمت أن لا أمل لنا في الزواج سأترك هذا المنزل.
عبد الحكيم : تتركين هذا المنزل؟! … ماذا تقولين؟ … أنت فتاة صغيرة … تتركين دار أبيك! … كيف تُقدِمين على هذا؟
ملكة : طبعًا إنني قادمة على أمر كان خطيرًا منذ ثلاثين سنة … أما الآن فهو من بسائط الأمور … ولكنني في حالة تحتاج إلى البعد عن الأهل … لأنني لا أريد أن أقترف جناية … أفهمت؟
عبد الحكيم (بألم وحسرة) : نعم فهمت … واحسرتاه … ولكن إلى أين تذهبين؟
ملكة : أذهب إلى مكان معلوم لديَّ … لأنه لا يوجد سوى مكان واحد يمكنني أن ألجأ إليه دون أن يعلم مقرِّي أحد.
عبد الحكيم : حتى أنا؟
ملكة : سنرى.
عبد الحكيم : ولكن والدك … هل يكفُّ عن البحث عنك واستقصاء أخبارك؟
ملكة : سأكتب إليه خطابًا يقطع عليه خط البحث والاستقصاء.
عبد الحكيم : وأمك المسكينة المريضة التي يكاد يقضي عليها داء القلب المكين … ألا يصعقها قرارك؟! ألا تخشين على حياتها من شدة الحزن عليك؟
ملكة : لقد ذكرت أمي وقلبها المريض … تكاد تقتلني من شدة الوجد عليها … ولكن إذا كان في قلبها حنان فسوف تساعدنا على الزواج … فلا تكون ثمة حاجة إلى الفرار.
عبد الحكيم : ومن أين لك اﻟ…؟
ملكة : تقصد المال.
عبد الحكيم (يطأطئ الرأس باكيًا) : نعم …
ملكة : عندي هذا السوار، وهذه الخواتم … وفي الحاجة القصوى هذه الحلية المعلَّقة بتنديف وهي تساوى في مجموعها خمسمائة جنيه … وقد قدَّرت ثمنها اليوم … ولم تدرك أمي مقصدي.
عبد الحكيم : ليس لي في هذه الخطة مكان … فكأنك لم تفكري بي.
ملكة : أجل! أنت أصل هذه الخطة وعلتها وسببها (يُسمَع نفير سيارة) إلى اللقاء يا حبيبي، واترك لي الميدان خاليًا وها هي والدتي قادمة سأخلو بها (يدنو منها ليقبِّلها ثم يتراجع ويأخذ يدها ويقبلها، فتلتقط زهرة من الباقة التي انتثر عقدها وتعطيه إياها في صمت، فتنحدر الدموع من عينيها، ويخرج باضطراب فتشيعه ببصرها ثم تتبعه بضع خطوات فيلتفت إليها ولا يتمالك نفسه فيعود إليها فتسرع إليه فيقبِّلها فترتمي بين ذراعيه، فيخرج مسرعًا وتتهالك على مقعد في حزن شديد).

المنظر الرابع

(تدخل الأم في انزعاج يسير.)

الوالدة : أين كنت يا حبيبتي؟ لقد انشغلت عليك منذ افترقنا لدى تاجر الجواهر بشارع المناخ … فانتظرتك ربع ساعة عند بائع السجاد … فقد ظننت أنك تشترين كتبًا فرنسية … فلما طال الوقت ظننت أنك افتقدتِني … فلما لم تجديني عدت إلى الدار بمفردك … ولو أنني عدت ولم أجدك فلشد ما تكون حيرتي إذا سألني عنك أبوك في غيبتك … حبيبتي أرجو أن لا يحدث مثل هذا في المستقبل … فإنني أعهد فيك العقل والحكمة والمحافظة على كرامتنا … ما بك؟ لماذا لا تجيبين؟ (تتناول يدها فتجدها دافئة) ما بك؟ … كأنك كنت في مغطس ماء حار! … وعينيك أراهما محمَّرتين! … ووجهك محتقن! (باضطراب) ماذا أصابك يا ملكة؟ (تنظر حولها باضطراب) وهذه الكتب … والأزهار المنتثرة … ماذا جرى؟
ملكة : جرى أنني رأيت الشخص السمين … الذي ترغبون في زواجي منه في سيارته مع والدي.
الوالدة : ربما لا يكون هو … وحتمًا ليس هو مَن تقصدين … لأن مرعشلي بك ليس مُفرِطًا في السمن كما تقولين … حقًّا إنه رجل وسط ولكنه متناسب القوام.
ملكة : لا داعي يا أماه لإخفاء الحقيقة عني … فإن عيني لا تخطئ … وقد تأكدت من سيارته … بعددها … ولونها … وهي التي كان والدي يعود بها منذ أيام … وقد تأكدت من وجهه.
الوالدة : ربما لم يكن هو.
ملكة : فلنفرض أنني أخطأت في رؤيته … لأنه شخص أجنبيٌّ عنا … فهل يجوز أن أخطئ أيضًا في رؤية والدي؟!
الوالدة : لا … ولكن لوالدك أصدقاء كثيرين … لا يبعد أن يكون بعضهم بادنًا.
ملكة : إلا هذا … فإنه هو الشخص الذي سمعت ذكره … أليس قلب الإنسان يدله فينفر من المصائب وأهلها؟
الوالدة : مصائب، ماذا تعنين بهذا القول يا ملكة؟ لا يجوز لك أن تصفي خطيبك الذي ارتضاه أبوك بهذا الوصف البشع … ألا تعلمين أن للألفاظ فألها وشؤمها؟ إليَّ يا حبيبتي … إلى صدرك أمك الحنون … ونامي في حجري كما كنت تفعلين طفلة.
ملكة : لا … لا يا أمَّاه … أنا لا أستطيع أن أعود طفلة … بل لا أطيق الآن صبرًا على شيء.
الوالدة : لا يليق بك أن تستسلمي إلى الحزن واليأس … فلعل هذا الخطيب الذي لم ينَل رضاك — بافتراض أنه هو الذي أبصرتِ به في السيارة مع أبيك — إذا تأهل بك يُسعِدُك خيرًا من أي شاب من شباب هذه الأيام … بل ثقي أن زوجًا كمرعشلي بك يخلص لزوجته إخلاصًا عظيمًا جدًّا بشرط أن تُحسِني معاشرته وتعرفي كيف تتحكمين فيه وتتصرفي في شئونه.
ملكة : أتحكَّم فيه … وأتصرف في شئونه؟ أنا لا أريد زوجًا من هذا النوع؛ لأن الزواج في نظري يجب أن يكون مظهرًا للعيشة الراضية باتفاق الزوجين معًا … لا أن يكون تحكُّمًا، ثم إني أصارحك القول يا أمَّاه، لقد كنت أنفر من هذا الشخص وأبغضه في سريرتي، أما الآن فلا بدَّ لي أن أجاهر ببغضي إياه، ونفوري من الزواج منه، بل من مجرد ذكر اسمه، وأنا واثقة من أنه لن يحدث وفاق بيننا أبدًا.
الوالدة (بتؤدة بعد أن سمعت ابنتها وتأكدت من تعنُّتها) : هوني عليك يا حبيبتي، هذه هي عادة البنات قبل الزواج؛ يُظهِرْن النفور والتقزُّز، ولكن بعد الزفاف يهون كل أمر عسير، فتتساهلين قليلًا في أفكارك … وهو أيضًا يسعى في رضاك بكلِّ ما لديه من قوة ومال … وشيئًا فشيئًا يحل الوِفاق محل النفور وتملك السعادة قلبك … وهل أنت في حاجة إلى مثل هذا النصح من والدتك؟ ألا تجدين ألف نصيحة فيما تقرئين من الكتب الإفرنجية، لا سيما كتاب ألفريد موسيه؟
ملكة (تضحك بحزن على الرغم منها) : ألفريد موسيه يا نينة! ليس في كتبه شيء من هذا القبيل … وليس فيها ما يبرِّر للوالدين أن يرغما ابنتهما على الزواج من شخص ثقيل لا تحبُّه لمجرد كونه غنيًّا أو عاقلًا أو موزونًا … والزواج الذي يتمُّ على هذه الصورة يكون تجارة لا عشرة شرعية شريفة … والبنت التي يُضغَط عليها … فإمَّا تلجأ إلى الفرار، وإما إلى الانتحار.
الوالدة (بذعر وانزعاج) : لو صحَّ قولك هذا إذن لخربت كل البيوت ولم يتم زواج واحد … وإن كان هذا القول صحيحًا في أوروبا فهو لا ينطبق علينا في مصر … وإن كانت كلُّ بنت تتشدَّد كتشدُّدك هذا فلن يُعقَد على واحدة من البنات.
ملكة : ولكن أنت والدتي … لا بدَّ أن تكوني أحببت والدي … وقد أخبرتني أنه لم يكن إذ ذاك في مصافِّ الأغنياء … وقد عشتما عيشة سعيدة … ولم تقصِّري في واجبك نحوه … كما أنه لم يغضبك … ولم أسمع منك قطُّ ثناءً على تفيدة هانم التي تزوجت من شكري بك لأجل أطيانه … ولم تُطرِ يومًا سميرة هانم التي سدَّدت ديون زوجها للستر على حقيقة أمرها … ولم تذكري يومًا بخير بنت خورشيد بك تلك التي باعت بنتها وفية للشيخ حمودة طمعًا في تغيير وقفية السلانكلي.
الوالدة (بشيء من الحدة) : أنت دائمًا متطرفة … بل متهوِّرة … هل سبق لي أن وصفت لك هؤلاء السيدات أنهن من الملائكة أو القديسات؟ … ثم ماذا يُجدي هذا الحوار فيما تقولين في حالتنا هذه؟ لقد تمَّ الأمر أو كاد … فماذا أنت فاعلة؟ (تتردد عندما ترى انزعاج ملكة) أنا لا أقول لك هذا القول ليبلغ اليأس من قلبك مبلغه كلا، إنما أريد أن تتساهلي. إنك لا تزالين في عنفوان الشباب وما تريْنَه الآن حسنًا قد ترينه بعد قليل ليس بالحسن، وربما ينقلب مرعشلي بك الذي لم يرُقْكِ منظرُه اليوم فيحوز رضاك ويصير أفضل الأزواج.
ملكة : أفضل الأزواج! … أتهزلين يا والدتي، كيف ذلك وهو قريب إلى أبي في عمره؟! أنا الآن في الثامنة عشرة من عمري … وأبي في منتصف العقد الخامس، فإذا ما بلغت أنا الثلاثين صار زوجي في حدود الستين … فكيف يكون هذا الشيخ أفضل الأزواج؟!
الوالدة : افترضي أن عمره كما تصفين … فهذا في الحقيقة أفضل لك لأن الفرق بينكما في السن سيجعله دائمًا طَوْع إشارتك؛ فيقدرك حق قدرك، ولا يجد مجالًا للدلال عليك كما لو كان فتًى في مقتبل العمر مشغول بجماله وشبابه.
ملكة : النتيجة الحاسمة يا والدتي! … مرعشلي بك هذا لن أتزوجه! لن أتزوجه. أبدًا. أبدًا. أبدًا. مهما تكن العاقبة.
الوالدة : يا بنت! … اسمعي لعلك تكسرين بهذا الرفض قلبين؛ قلبي وقلب أبيك.
ملكة : وإذا تزوجت منه فحتمًا سأكسر قلبين أيضًا … قلبي وقلب آخر.
الوالدة (باهتمام) : قلب آخر … فلمن يكون هذا القلب الآخر؟!
ملكة : قلب عبد الحكيم! … ومن حيث إننا بلغنا هذا المدى … فأنا أخبرك أنني أحبه وهو يحبني … ولا بدَّ لنا من الزواج.
الوالدة : أنت تحبين عبد الحكيم؟!
ملكة : نعم … وأكثر من هذا أيضًا.
الوالدة : أتقولين هذا في وجهي؟ أكثر من الحب! إذن ماذا يكون أكثر من الحب؟
ملكة : فليكن ما يكون … لقد قلت وأرحت ضميري … فافهمي كيف تشائين.
الوالدة (تضرب وتضع يدها على قلبها ويصفرُّ وجهها) : آه. آه. لقد عاودتني الآلام، شكرًا لك. هذا جزاء تربيتنا ورعايتنا (تحاول النهوض فتخونها قوتها فتتأثَّر ملكة وتدنو منها وتساعدها على النهوض، وتسيران بتؤدة نحو الباب ثم تعود ملكة بمفردها فتفكِّر قليلًا ثم تنهض بقوة كمن صحَّت عزيمتها على أمر مهم؛ فتلمس زر الكهرباء لاستدعاء الخادمة).

المنظر الخامس

(تدخل نعيمة)

الخادمة : سيدتي.
ملكة : أريد أن أُفْضِيَ إليك بأمر ذي بال.
الخادمة : تفضلي يا سيدتي مُري.
ملكة : أنا مسافرة فورًا من هنا … سأترك بيتنا هذا بعد قليل إلى مكان لا يعرفه أحد سوانا أنت وأنا.
الخادمة : لماذا يا سيدتي؟ … بُعْدًا للشر الذي يدعو إلى هذا الرحيل المفاجئ.
ملكة : سأخبرك بكل شيء بعد برهة … إنما الآن عليك بإعداد ما أحتاج إليه من ثياب … خذي الحقيبة الوسطى التي يأخذها أبي في سفره إلى الوجه القبلي وضعي فيها ما تستطيعين من الثياب البيضاء التحتانية وملابس الخروج والكتب الصغيرة التي تجدينها في غرفة نومي و…
الخادمة (تتردَّد) : لو علمتْ والدتك بهذا فربما تلقى حتْفَها … فإنها مريضة ولا تستطيع فراقك طَرْفة عين.
ملكة : لا بأس … لقد فكرت في هذا.
الخادمة : وكيف يتسنَّى لي البقاء في البيت دونك؟ فلا بدَّ من اكتشاف الأمر بعد حدوثه ونسبته إليَّ؛ فتصبح جريمة فرارك معلَّقة في عنقي.
ملكة : لا تخشي شيئًا في هذا السبيل. ألا تحبينني؟ ألست كأختك الصغرى؟
الخادمة : أحبك! كيف؟! … إنني أفديك بحياتي (تبكي بإخلاص).
ملكة : كفْكِفي دموعك الآن لئلا يفتضح الأمر … أسرعي في تنفيذ ما طلبت إليك (تخرج الخادمة ثم تعود بعد قليل).
الخادمة : سيدتي، إن والدتك تشعر بضيق شديد في التنفُّس، وقد أشارت بيدها لأدعوَك.
ملكة (تتردَّد) : حسنًا … سأوافيها ريثما تعدِّين أنت ما كلفتك بإعداده (تخرج ملكة من الباب الأمامي).
الخادمة : يا حبيبتي يا سيدتي الصغيرة، تُرى ماذا جرى لها؟ (يدخل الخادم.)
الخادم : أنت هنا والحاجة ماسَّة إليك … دائمًا تكلمين نفسك.
الخادمة : ماذا أصابك؟
الخادم : أصابني الجوع متى نتغدَّى؟ ألا تخاطبين الطاهي؟ هل نسيتمونا؟
الخادمة : هل نتغدَّى قبل أن يحضر سعادة البيك ويتغدَّى هو؟
الخادم : إنني لم أفطر … ولم أتناول طعامًا من ساعة التلغراف.
الخادمة : تلغراف! أي تلغراف؟
الخادم : تلغراف القطن.
الخادمة : حسن جدًّا، عُدْ إلى مكانك وسيصل إليك الغداء فورًا (تخرج نعيمة ويتلكَّأ الخادم قليلًا ثم يخرج. تدخل ملكة وتجلس).
ملكة : الحمد لله على أن حالتها لم تكن شديدة … فلعل ذلك كان يعوقني عن تنفيذ خطتي التي اعتزمتها … (تُسمَع أصوات في الخارج) هذه خطوات أبي يسير نحو غرفة والدتي … تُرى هل تُفضي إليه بما علمت مني؟ أم تحفظه لذاتها؟ هل أعدَّتْ نعيمة كل شيء؟ إن كل ساعة تُدنِيني من الخطر … فقد فهمت من كلام والدتي أن الأمر قد تمَّ أو كاد (تدخل نعيمة).
ملكة : هل تمَّ كل شيء كما طلبت إليك؟
الخادمة (بصوت خافت) : نعم.

المنظر السادس

(يدخل الوالد فتقطع حديثها وتخرج الخادمة مسرِعة وتنهض ملكة لاستقباله.)

الوالد (بحدة وغضب) : لقد أخبرتْني والدتك بكل شيء … فلا فائدة في إعادة الحديث، ومهما تكن جريمتنا في نظرك فإنها لا تعادل جزءًا من ألف ممَّا سمعت وعلمت. إن عصيانك عن الزواج جريمة لا تُغتفَر.
ملكة : إذن يا والدي إذا كنتَ قد حكمت بأن عصياني جريمة لا تُغتفَر، فما فائدة الحديث بيننا؟
الوالد : أنا لم أحكم عليك … بل أنتِ التي قضيت على نفسك … حقًّا إنه لا يُوجَد أحد سواي يستطيع التصرُّف فيك (تشمئز ملكة اشمئزازًا ظاهرًا عند سماع كلمة التصرُّف) ولكنني لا أريد أن أنتفع بسلطتي عليك … ولو أنني أردت إهانتك وإرغامك ما كنتُ بذلت كلَّ ما بذلت في تربيتك … ولادخرتُ ما أنوي على تنفيذه لدى زواجك … فإنني سأقيم لك معالم الأفراح وأجهزك جهازًا فخمًا يداني جهاز الأمراء … وأهدي إليك صنوفًا من المصوغ والحلي … نعم إن البلد يشكو من أزمة وأنا أخشى الحسد … ولكنني مصمِّم على هذا كله في سبيل سعادتك.
ملكة : ليست الأفراح والجهاز مقصودة لذاتها، إنما هي وسيلة لسعادة الزوج.
برعي : وهل قلت لك غير ذلك، مرعشلي بك رجل غني، وكل بنات الأعيان تودُّ لو تُزَف إليه. رجل غني جدًّا، وليس مدينًا لأحد وأطيانه خالية من الرهن، وإيراده كبير وقد أتاه الله بسطة في الجسم وفي الرزق، وربما في العقل أيضًا.
ملكة : يا والدي، أنا ملك لك فتصرَّف بي كما تشاء.
برعي : هكذا الطاعة وإلَّا فلا. إنك تشرحين الصدر بهذا القول الجميل.
ملكة : إن مسألة الأفراح والجهاز والجواهر لا أكترث لها في مثل هذه الظروف، وأقل شيء يرضيني إذا كان يرضيك.
الوالد : بارك الله فيك من فتاة كأمِّك وأبيك لا تهمك سوى المصالح الحقيقية. آه لو عرفت (يتقرب إليها وتبدو عواطفه القطنية) صفقة القطن التي تمَّت لنا اليوم إذن لفرحت. صحيح أن البيك الذي رأيته معي اليوم هو مرعشلي بك بعينه وليس أحد سواه. رجل يزين مجالس الرجال ويحلُّ كبرى المعضلات وتوقيعه في البنوكة لا يُرَد، واسمه كالذهب الإبريز. غنيٌّ جدًّا.
ملكة : ولكن يا والدي ثِق أنه من المستحيل عليَّ أن أقبل هذا الزواج.
الوالد (يُبغَت ويذهل) : إيه! مستحيل! مستحيل تقبلين زواجك من مرعشلي بك!
ملكة : نعم مستحيل (بحزم) نعم مستحيل.
الوالد (يتهيَّج ويحتد) : احذري هذا الكلام. لقد صبرت كثيرًا فاتقي غيظ الحليم. إن البنت التي تخرج عن طاعة والديها تُطرَد من المنزل وتحرم الميراث.
ملكة : إذا أمرتني بالخروج من المنزل فإنني لا أعصي لك أمرًا.
الوالد : أنت إذن مجنونة يا ملكة! ماذا جرى لك؟
ملكة : هذا قول والدتي بعينه. إني حقيقة مجنونة وأقبل منكما هذا الوصف على الرأس والعين، وأترك لكما وحدكما كمال العقل وحسن التصرُّف في الأمور.
الوالد (يعود إلى شيء من الهدوء) : اسمعي يا ملكة يا بنتي يا حبيبتي، أنت بنتنا الوحيدة ونريد أن نفرح بزفافك قبل أن نموت.
ملكة : تستطيعون أن تفرحوا بزفافي لو أردتم أن أكون أيضًا أنا فرحانة.
الوالد : نريد أن نفرح بك في دار زوج يلائمك ويكون كفُؤًا لك في الجاه والمال. مرعشلي بك غني جدًّا وزوج نادر المثال، وقد قرأت معه أمس الفاتحة.
ملكة : وأية جريرة لي في ذلك؟
الوالد : فإذا عدلنا عن إتمام الزواج يكون تفسير الأمر خادشًا لشرفنا ولشرفك. نحن ربيناك وأنفقنا عليك دماء مهجتنا وتعهدناك حتى صِرْت تقرئين روايات فكتور هوجو، ولم نُدخِل على قلبك الحزنَ في يوم من الأيام.
ملكة : ولا أنا أدخلت الحزن على قلبيكما. إنما يدخل الحزن في قلبي إذا تزوجت بدون رغبتي.
الوالد : إن زوجك يبيع حياته في سبيلك. طبعًا إنه ليس جميلًا جدًّا، وليس في عنفوان الشباب، وليس من أتباع الطراز الحديث، ولكنه مثل بقية الأعيان الذين من طبقته منذ أصاب الرتبة الثانية مع لقب بيك، وضع العمامة واتخذ الطربوش وصار بيك وحلق لحيته.
ملكة : وكان حضرته أيضًا من ذوي العمائم واللحى.
الوالد : وماذا عليه في ذلك؟ يوجد الآن في مصر باشوات من ذوي العمائم واللحى، وعن قريب يصير باشا ويأخذ رتبة ميرميران.
ملكة : حتى لو صار ملك الملوك أو سلطان السلاطين، فإنني لا أريد أن أكون ملكة بجانبه.
الوالد : عجايب! مرعشلي بك يساعدنا في بيع الأقطان، ويضمنا في البنوك خير ضمان، وله قصر في المنيرة وسيارتان فيا بنتي …
ملكة (تقاطعه) : أعرف كل هذا ولكن مستحيل أن أتزوَّج منه أبدًا.
الوالد (بغيظ) : إذن ممن تريدين أن تتزوجي؟
ملكة : ليس الأمر في حاجة إلى السرعة، وربما كان التأجيل أفضل.
الوالد : التأجيل أفضل! كيف ذلك؟ ماذا تقولين؟ (بتهكُّم) إذن تقبلين أن تتزوجي من عبد الحكيم فورًا!
ملكة : لا بأس إني أقبل ذلك بكل سرور.
الوالد (ينفجر) : آه يا خاسرة يا عصية! هذا أبعد من أن تناليه، ولو لم يبقَ في الدنيا سواكما، فلن تتحقق لكما هذه الأمنية، وهذه حرب بيننا قد أعلنتها عليكما (تدخل الأم صفراء الوجه ضعيفة النفس، تلهث وتستند إلى الأثاث وتجرِّر أذيالها).
الأم : ماذا جرى يا بيك؟
الوالد : البنت عقلها طار وأظهرت العصيان، فلا بدَّ أن تفارق منزلي منذ هذه الساعة.
الأم (تخور قواها وتجلس) : وامصيبتاه … آه.
الوالد : اخرجي … اخرجي إلى حيث تشائين.
ملكة : سأخرج حالًا حسب أمرك.
الأم : ملكة حبيبتي … بنتي.
ملكة (تدنو منها) : أستودعك الله يا أمَّاه (فتقبض أمها على يدها).
الأم (للوالد) : كيف تقول يا بيك هذا القول؟
الوالد : اتركيها تذهب. النار ولا العار. موتها أفضل من عصيانها (تتخلص ملكة من يد والدتها وتقصد الباب).
الوالدة : ملكة … ملكة … (تنهض وتحاول الكلام فلا تستطيع فتسقط على الأرض مغشيًّا عليها).
(ستار)

الفصل الثاني

المنظر الأول

(المنظر في قاعة استقبال بفيلا بحدائق القبة وبها تليفون.)

الخادم : ألو! ألو! … سنترال ٢٣٠٥٦ من فضلك مستعجل جدًّا … مشغول! من ساعة … دقي يا مدموازيل من فضلك! … ألو! من؟ … أنا إدريس بمنزل سعادة مرعشلي بك … الدكتور فتحي بك موجود … من فضلك يشرَّف حالًا بمنزل مرعشلي بك بحدائق القبة … نعم؟ الدكتور مشغول … ابنه مريض جدًّا … نعم … نعم … حاضر بالعجل من فضلك بجوار الفيلا المزدوجة بالسيارة على الأكثر عشر دقائق من باب الحديد. منتظرين سعادة الدكتور (يترك التليفون، وتدخل الخادمة).
الخادمة : الطبيب سيحضر يا إدريس؟
الخادم : لا، الدكتور فتحي لا يمكنه الحضور لأن ابنه مريض جدًّا بحلقه … يظهر أنه دور مرض حلق الأطفال مثل ابن سيدنا … ربنا يسلم.
الخادمة : ما العمل إذن؟
الخادم : الدكتور فتحي بك ملازم فراش ابنه، فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يزور أحدًا خوفًا على أولاد الناس من العدوى.
الخادمة : طيب، فليدلنا على طبيب آخر.
الخادم : عمرك أطول من عمري! قلت له ذلك فقال إنه سيرسل إلينا أحد زملائه المشهورين. طبيب اختصاصي في أمراض الحلق والأطفال.
الخادمة : عظيم جدًّا. يجوز أن يكون ذلك من حظ أسيادنا، ويكون شفاء سيدي الصغير على يديه. سأخبر سيدتي بذلك.

المنظر الثاني

(يدخل الزوج مرعشلي بك وبيده جريدة يقرأ فيها.)

الزوج : الموحد بستين جنيهًا. نزول لم يسبق له مثيل! لو لا سمح الله! لا سمح الله ألف مرة وأردت أن أبيع أسهمي لخسرت في طرفة عين ألوفًا مؤلَّفة. يا لطيف من الاضطرار (يلتفت فجأة للخادم) ماذا تعمل هنا يا إدريس؟
الخادم : كنت أتكلم في التليفون مع الطبيب، كما أمرتني سيدتي الهانم.
الزوج : وماذا قال لك؟
الخادم : سيحضر توًّا بالسيارة.
الزوج (كأنه يناجي نفسه) : وهذه نفقة جديدة ومصاريف بدون فائدة. كل شوكة صغيرة تدخل في قدم الصغير يُستدعَى الطبيب وتحسب على العيادات والزيارات. لا أدري لماذا لا نترك هذه الأشياء الصغيرة على جانب الله سبحانه وتعالى. الولد يشكو من ألم في حلقه آمنا وصدقنا. لو أنه تمضمض بعصير الليمون والملح يُشفَى بإذن الله، وعلى الله الشفاء.
الخادم : لكن الدكتور فتحي بك نفسه لن يحضر. إنما سينوب عنه طبيب آخر اختصاصي.
الزوج : كلهم أحذق من بعضهم. اختصاصي وامتصاصي المسألة ترجع لزيادة العيادة والسلام. ومع ذلك استدعاء الطبيب أفضل. نعمل ما علينا عمله والله يفعل ما يشاء … أتْمِم عملك أنت يا إدريس.

المنظر الثالث

(تدخل الزوجة منزعجة.)

ملكة : ألم يحضر الطبيب إلى الآن؟ ما سبب تأخيره؟
مرعشلي : لا تأخير ولا شيء. لا لزوم للانزعاج.
الخادم : الطبيب سيحضر فورًا يا سيدتي.
مرعشلي : اخرج أنت يا إدريس وانظر ما وراءك من الأعمال (يخرج الخادم) هدِّئي روعك. الاضطراب لا يعود بفائدة. إن شاء الله تأتي العواقب بالسلامة.
ملكة : ولكن يا بيك لا يجوز الإهمال في أمراض الأطفال. أنت لا تشعر بكل ما أشعر به، أنا الأم، نحو هذا الطفل.
مرعشلي : لماذا؟ ألست أنا أيضًا والدًا؟ ولكن الله وضع الصبر في قلبي والحلم في صدري والإيمان في فؤادي. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، يا هانم.
ملكة : نعم نعم … أنا لا أنكر عليك هذا البرود. عفوًا قصدت الفتور والتجلُّد ولكنني أغبطك عليهما. بيد أنني لا أستطيع أن أرى ابني في هذه الحالة ثم أجلس مكتوفة الأيدي.
مرعشلي : قالوا في الأمثال: درهم وقاية …
ملكة : خير من قنطار علاج. هذا مثل صحيح صادق، ولكننا وقعنا في هذه الورطة فما العمل؟ (يُسمَع نفير سيارة).
الخادم : سيارة الطبيب يا سعادة البيك. الدكتور حضر (يخرج الخادم).
ملكة : الحمد لله.
مرعشلي : نعم … ولكن ليس الدكتور فتحي بك هو الذي حضر وهو طبيب العائلة.
ملكة : لماذا؟ وأين إذن الدكتور فتحي؟
مرعشلي : الدكتور فتحي بك ابنه مريض وهو مشغول به، وأرسل آخر اختصاصي بدلًا منه.
ملكة : عجبا! وأنا للأسف لا أرتاح إلا للطبيب الذي يعرف مزاج الولد منذ نشأته إلى الآن (تقصد التليفون).
مرعشلي : سيَّان يا سيدتي، ربما يكون مقدم الطبيب الجديد خيرًا مَن يعلم! وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم (يدخل الخادم).
الخادم (بسرعة) : الدكتور يا سيدي.
مرعشلي : تفضلي يا هانم إلى الحرم، ودعيني أخاطبه أنا أولًا.
ملكة : ولكن يا بيك هذه حالة استثنائية. يجب عليَّ أن أقابله لأصف له حالة الولد من أول شعوره بالمرض منذ أول أمس إلى الآن.
مرعشلي : أنا أقوم مقامك خير قيام.
ملكة : أنا أخشى أن يكون المرض …
مرعشلي : لا سمح الله. فقط ادخلي.
ملكة : اسمح لي بإذنك أن أكلمه، ولو من وراء حجاب.
مرعشلي : إذا احتجنا إليك دعوناك لمحادثته كما ترغبين (تتردَّد ثم تهز كتفيها متألِّمة ثم تخرج ببطء) زوجة متعلمة ونبيهة وذكية لا يمكن منع هذه الأفكار عن عقلها. العلم نور يا أفندم.

المنظر الرابع

(يدخل الطبيب بمعطف كبير وبيده شنطة صغيرة.)

عبد الحكيم : طاب ليلك يا بيك. هنا الطفل المريض … عفوًا … الدكتور فتحي أخبركم طبعًا بالتليفون.
مرعشلي : أهلًا وسهلًا بك يا دكتور العفو! أنت والدكتور فتحي سيَّان. الله يجعل الشفاء على يديك.
عبد الحكيم : أين المحروس نجلك؟ هل الحرارة عالية؟
مرعشلي : الحرارة؟ جنابك مُرتَدٍ هذا المعطف الضخم، ولكنْ في الخارج برد شديد طبعًا.
عبد الحكيم (يتردد وقد أخذ يخلع المعطف) : قصدت حرارة المريض.
مرعشلي : آه … السخونية!
عبد الحكيم : هل قِسْتُم الحرارة؟
مرعشلي : هل هو أخذ بردًا؟ سأخبرك في الحال (يلمس زر الكهرباء لاستدعاء الخادم. يدخل الخادم) خذ المعطف من جناب الدكتور وسِرْ قدَّامه إلى غرفة سيدك الصغير.

المنظر الخامس

(يفعل إدريس ما أمر به.)

الخادم : حاضر يا سيدي (يخرج هو والطبيب خلفه).
مرعشلي : الحرارة! أنساها في كل مرة. في السنة الماضية أخطأت مثل هذه المرة والله عجيب كلام الأطباء. اصطلاحات غريبة. وماذا تفيد معرفة الحرارة؟! أنا شخصيًّا أسخن وأبرد في اليوم عدة مرات. ومع ذلك فإن صحتي جيدة ولم أحتَجْ في حياتي إلى أي اختصاصي. صدق من قال: مَن عاش بالحكمة مات بالمرض. لكن كيف يسقط الموحد هذا السقوط المريع؟ إذن المركز المالي مزعزع والبلاد في خطر من أزمة شديدة. سنة ١٩٠٧ لا أعادها الله ولكن في تلك السنة لم يهبط الموحد مثل هذا الهبوط (تدخل الخادمة).

المنظر السادس

الخادمة (بلهفة) : سيدي.
مرعشلي (كمن ينتبه من غفوة) : خيرًا.
الخادمة : سيدتي الهانم تبكي بكاء شديدًا حارًّا في غرفتها وحالتها سيئة جدًّا.
مرعشلي : هي دائمًا كذلك تزعجها أتفه الأشياء. مزاج عصبيٌّ. أما أنا فالحمد لله مزاج ليفي. ومع ذلك هدِّئيها وانصحي لها بالصبر. الصبر مفتاح الفرج. الطبيب حضر كطلبها فلا حقَّ لها في البكاء. اذهبي وأخبريها بما سمعتِ مني (تخرج).

المنظر السابع

(يدخل الخادم)

الخادم : الدكتور يسأل عن أمور كثيرة لا أعرف الجواب عنها. وهو يطلب ممرضة ليليَّة في الحال، وأعطاني عدد تليفون مستشفى رعاية الأطفال، فتفضل سعادتك بمخاطبته.
مرعشلي (باكتراث) : يظهر أن المسألة معقدة وطويلة وستحتاج إلى دور طويل. يا إدريس ادعُ الست هانم (يخرج الخادم) أتاك اﻟ… يا تارك الصلاة. ممرضة ليلية وممرضة نهارية سنرى … لكن الموحد هبط هبوطًا شنيعًا جدًّا.

المنظر الثامن

ملكة (تدخل وخلفها إدريس وبيدها منديل مُبلَّل بالدموع وأثر البكاء ظاهر عليها) : طبعًا طبعًا وبكل سرعة (تقصد التليفون) ألو! … ألو! … ١٤١٧ ألو (تنتظر وتضرب الأرض بقدميها علامة الاستعجال والضجر) ألو … مستشفى رعاية الأطفال. نحن هنا منزل مرعشلي بك بحدائق القبة. بجوار الفيلا المزدوجة. مطلوبة لدينا ممرضة للقيام على طفل مريض (تختنق بالعبرات) نعم … سيارة … لا مانع من ذلك.
مرعشلي (بصوت منخفض) : هاكم سيارة ثانية. ونظام عيشة خاص بالممرضة، ولا بدَّ من ممرضة نهاريَّة أيضًا. لست أدري والله لماذا هبط السند الموحد هذا الهبوط الشنيع في هذه الأحوال السيئة.
ملكة (مُلتفِتة إليه بغتة) : سعادتك طبعًا لم تشرح للطبيب حالة الصغير شرحًا كافيًا. لا بدَّ له من الوقوف على جميع الأعراض بالتفصيل.

المنظر التاسع

(تدخل الخادمة)

الخادمة : الدكتور يريد التكلم بالتليفون مع مصلحة الصحة.
مرعشلي : يتفضل طبعًا (ثم يتنبَّه الزوج للمفاجأة، ولكن تكون فرصة تنبيه الهانم قد فرَّت فيدخل الطبيب مسرعًا ويفاجئ الزوجة ملكة هانم وجهًا لوجه قبل أن تتمكن من الخروج؛ فيقف برهة قصيرة جدًّا وتعروه دهشة لا يدركها الزوج، ثم يسير الدكتور قُدُمًا إلى التليفون. وتحصل للزوجة هزَّة شديدة للمباغتة فتتغير هيأتها وتخور قواها وتنظر إلى زوجها فتجده مبهوتًا، ولكنه لم يلحظ شيئًا ممَّا جرى أمامه فتتجلد ثم تقصد مقعدًا فتجلس عليه متهالكة).
عبد الحكيم (في التليفون بصوت متهدِّج) : ألو … ألو ٢٦٥٠ مصلحة الصحة. ألو … أنا دكتور عبد الحكيم أريد مخاطبة الطبيب المقيم … نعم نعم الدكتور النوبتجي بسرعة حالة مستعجلة (تهم السيدة من المقعد وتتسمع).
الزوج : يا ست هانم لا يليق بك هذا الانزعاج. إن شاء الله تأتي العواقب سليمة.
ملكة : عفوًا يا بيك. أعطيني قلبك. كيف أستطيع أن أمنع نفسي؟
عبد الحكيم : دكتور نجيب … بونسوار … سأرسل إليك أنبوبتين من حدائق القبة منزل (ويلتفت خلفه ليعلم الاسم).
مرعشلي : مرعشلي بك. بجوار الفيلا المزدوجة.
عبد الحكيم : مرعشلي بك بجوار الفيلا المزدوجة. طبعًا منتظر النتيجة. السيارة ستقوم فورًا (يُخرِج الساعة من جيبه وينظر فيها) طبعًا حوالي الساعة ١١ أنا منتظر … لا يمكنِّي ترك المريض، فضلًا عن أن المسافة طويلة والجو غير ملائم والحالة مهمة تقتضي العناية … يجوز … غير متأكد … على أن الأعراض تدعو للشك الشديد … ألو … ألو … وإن كانت النتيجة إيجابية أرسل إليَّ كمية من المصل المضاد، فربما كان الذي معي لا يكفي (يقفل التليفون ويلتفت خلفه للخروج) أرجو سعادتك أن تأمر الخادم باستدعاء سائق سيارتي.
الزوج : وهو كذلك (يدنو من زر الكهرباء ولكن إدريس يكون على مقربة فيدخل فورًا) ادع سائق سيارة سعادة الدكتور.
الخادم : حاضر يا سيدي (يخرج).
ملكة (لزوجها بصوت متأثِّر وعزم أكيد) : عن إذنك يا بيك، اسمح لي أن أخاطب الدكتور (فيصمت الزوج ولا يخبر جوابًا من شدَّة المباغتة، فيشير بيديه إشارة العجب والقبول والاستسلام ويتناول الجريدة يقرؤها) يا جناب الدكتور (تخنقها العبرات).
الدكتور (بتأثُّر شديد) : سيدتي الهانم أنت والدة الطفل المريض؟ (يدخل سائق السيارة مصلحة الصحة للدكتور نجيب، يناوله صندوقًا صغيرًا مُغلَقًا) على جناح السرعة. وقت وصولك خاطبني بالتليفون فربما أحتاج إليك. خذ نمرة التليفون.
الخادم : ١٨٠٧ زيتون (هنا تبكي الزوجة بصوت منخفض).
الدكتور : وإذا كانت النتيجة إيجابية فاستحضر معك مصل (يخرج السائق دون أن يتكلم).
ملكة : إذن الحالة دفتريا؟
الدكتور (بعد صمت قليل) : أخشى كثيرًا أن يكون كذلك، ولكن تشجعي يا هانم، ليست كل الحالات خطرة. أخبريني بالتفصيل عن الحالة (يُسمَع صوت بكاء طفل وضوضاء فتحاول السيدة الإسراع إلى الدخول فيمنعها الطبيب بإشارة من يده) لا لزوم يا سيدتي لدخولك. هل خاطبتم الممرضة وطلبتموها؟
ملكة : نعم … أنا بنفسي.
الدكتور : لقد اتخذنا الآن كل الاحتياطات اللازمة. أرجو أن لا تنزعجي. وترك المريض الآن أفضل من مضايقته.
ملكة : أمس حوالي الظهر رأيت عبد الحكيم …
الدكتور : هذا اسم المحروس؟
ملكة : نعم … نعم … رأيته ذابلًا وشديد التعلُّق بي؛ بحيث لا يريد مفارقتي ثم رأيت وجهَه محتقِنًا جدًّا، فقست حرارته فإذا هي ثمانية وثلاثون وخطان، وفي العصر بدأ يشكو ضيقًا في حلقه ويتكلَّم كثيرًا. ورأيت في عينيه العزيزتين (تبكي) بريقًا لم أتعوده (تنتحب فيهتز عبد الحكيم وتسقط من عينيه الدموع فجأة، ولكنه يسارع إلى التجلُّد فلا يبدو عليه شيء).
مرعشلي (لنفسه والجريدة في يده) : والممتاز أيضًا ٤٩ جنيهًا. سهم قيمته كالذهب الإبريز، بل هو والموحد أكسير السندات المالية يهبط إلى النصف (يتبادل الدكتور والسيدة نظرات ذات معنًى).
الدكتور : تصفين الأعراض وصْفَ طبيب. لا بدَّ أنكِ قرأت في أحد الكتب؟
مرعشلي : حقًّا تقول يا جناب الدكتور، فإنها دائمًا تقرأ في الكتب وتسير بآراء الأطباء.
الدكتور : حسنًا تفعل يا سيدي (يُسمَع نفير سيارة فيبغت الزوج لحرصه).

المنظر العاشر

(يدخل الخادم)

الخادم : الممرضة حضرت. الست الممرضة (تدخل الممرضة فورًا دون انتظار الإذن بالدخول).
الممرضة : بونسوار يا هانم. سعيدة يا بكوات.
الدكتور : الآنسة …
الممرضة : حافظة عبد المجيد.
الدكتور : من مستشفى رعاية الأطفال؟
حافظة : نعم يا أفندم بتوصية من المستشفى.
الدكتور : تفضلي.
ملكة : إدريس … كلِّف نعيمة أن تُرشِد الآنسة إلى غرفة الفراندا لتخلع ثياب الطريق وتبدلها بثياب العمل (يخرج إدريس وخلفه حافظة) هل تظن يا دكتور أن حالة عبد الحكيم …؟
الدكتور : لا تدعو الآن إلى القلق الشديد، ولكنني … جئت في الوقت المناسب (يُخرِج ورقة ويكتب بسرعة وبدقة) في الوقت المناسب جدًّا (تعود الممرضة بثيابها البيضاء والطبيب مكبٌّ على الكتابة والزوجة تنظر إليه بانفعال مزدوج) تفضلي يا مودموازيل حافظة كل التعليمات اللازمة، ولا داعي لدخول أحد وأعدِّي وعاء الليزول بباب الغرفة كالعادة، وشدِّدي ما استطعت. والحالة تهمني جدًّا وأنا موجود معك هنا، ونفِّذي كل شيء كما بيَّنت لك في الورقة (تتناول الورقة).
حافظة : لك ذلك يا دكتور (تخرج).
ملكة : حضرتك باقٍ معنا؟
الدكتور : أظن يا هانم الحالة لا تسمح بانصرافي الآن.
مرعشلي (بصوت منخفض) : كم يكون يا ترى أجْرُ هذه العيادة الطويلة في ليالي الشتاء؟ لا بدَّ أن يكون لها تعريفة خاصة تفوق كل حساب (للدكتور بصوت مسموع) مرحبًا بك يا دكتور. الخير في التأخير.
الدكتور : اسمحا لي أن أدخل قليلًا إلى غرفة المريض العزيز.
مرعشلي : تفضل مع مزيد الشكر (يخرج الدكتور) والله إنه طبيب عالم لطيف الخلق جدًّا. أظرف بكثير من الدكتور فتحي بك؛ لأنه شاب والشباب أقرب إلى السرور والملاطفة لما يزهق من الجمهور. لكل شيء أوان. ربما يصير هذا الطبيب في المستقبل متكبِّرًا لا يُطاق … تتبُّع الشهرة والغنى. آه نسيت أن أُنهِي إليك خبرًا في غاية الأهمية.
ملكة : ما هو؟ هل يوجد شيء أهم ممَّا لدينا؟!
مرعشلي : أوراق الدين الموحد والممتاز هبطت.
ملكة : أرجو يا بيك (تظهر مللًا وضجرًا وتُدِير وجهها)
مرعشلي : أرجو المعذرة. أنا مخطئ. ومع ذلك ها أنا ذاهب لآخذ لي سنةً من النوم. أسعد الله مساءك (ينهض).
ملكة : نوم سعيد إن شاء الله (بتهكُّم) وأحلام الهناء (تتناول كتابًا صغيرًا وتبدأ تقرأ فيه ثم يدركها التفكير العميق فتبقى ساهمة تنظر إلى النار في الموقد، وكأنها تستعيد ذكرى الماضي فيدخل الدكتور ببطء كمَن يبحث على شيء ويكون قد نسي قلمًا وورقًا على المنضدة)، (ملكة ناهضة) دكتور (بصوت منخفِض مكتَّم وهي تلتفت ذات اليمين وذات الشمال) عبد الحكيم …
عبد الحكيم : سيدتي (بصوت منخفض) ملكة … أين البيك؟
ملكة : دخل لينام فترة قصيرة.
الدكتور : في مثل هذه الليلة؟!
ملكة : وفي أشد من ذلك … البركة فيك أنت أيها العزيز.
الدكتور : مَن كان يظن أننا نلتقي على هذه الصورة بعد هذا الفراق الطويل؟
ملكة : خمس سنين … من ديسمبر سنة ١٩٠٧ إلى ديسمبر سنة ١٩١٢.
الدكتور : تاريخ لا يُنسَى … الأيام تمر مُسرِعة.
ملكة : لقد تغيَّرت حياتي.
الدكتور : وحياتي أنا أيضًا.
ملكة : رحمة الله على مَن كان سببًا في عذابنا.
الدكتور : طبعًا كان والدك يرغب في ضمان سعادة مستقبلك. هذا واجبه وحقه.
ملكة : وهل كانت ثروته غير كافية؟
الدكتور : ثروته لنفسه أحسن الله إليه. لم يكن اشتراكيًّا.
ملكة : بل كان قصَّابًا فذبحني (يُسمَع نفير السيارة فيُبغَت الاثنان) هذه هي النتيجة حتمًا!
عبد الحكيم : لا تحاولي أن تعلمي شيئًا. دعيني أقم بواجبي (يبدو عليه الجد وينهض. ويدخل الخادم ومعه سائق السيارة وبيده خطاب وطرد صغير فيتناولها الدكتور ويقرأ الخطاب) اسمحي لي أن أدخل إلى المريض، ابقَي أنت هنا، وإن أردتِ أن تَلجئِي إلى مضجعك فلا بأس (يخرج الخادم والسائق).
ملكة : ألا أصحبك إلى فراشه؟ إنني شجاعة وسترى شجاعتي، وقد ازددْتُ شجاعةً بوجودك … لأنني أعلم مقدار عناية الوالد بولده.
عبد الحكيم : ماذا تقولين؟ عناية الوالد؟
ملكة : نعم بولده (يسرع الدكتور إلى الداخل دون أن يلتفت إليها أو يتكلم) هل أخطأت فيما بُحْت به؟ لعل هذا الخبر يملك عليه مشاعره فيلهيه عن عمله ليتني لم أبُح … هل أذهب إليه وأنقض ما قلت لساعتي. ولكن كيف هل يصدقني؟ إني أكاد أجن. لقد كانت حياتي مع هذا الزوج البليد جحيمًا. ولم أشعر يومًا ما بسعادة الزواج التي كان يمنيني بها أبي سامحه الله. لقد ضحَّى بي على مذبح مطامعه. ولكنه لم يعش ليجني ثمرات جنايته عليَّ أنا وحيدته العزيزة. وهاك ولدي العزيز الوحيد المبرِّد لحياتي الشقية التي أعاني آلامها من يوم الزفاف إلى الآن، في خطر الموت بذاك الداء الوبيل (تركن رأسها إلى يدها وتنظر إلى النار وكأنها تتأمَّل، ولكنها تُغلَب على أمرها من شدة التعب؛ فتغمُض عيناها فترةً ثم تهب فجأة وقد عاد الطبيب).
عبد الحكيم (برفق) : ملكة. عبد الحكيم ابنك أنت.
ملكة : وابنك أنت أيضًا.
عبد الحكيم : ابني أنا!
ملكة : نعم ابنك أنت أيضًا … لماذا تتعجب؟!
عبد الحكيم : وهذا الرجل السمين الذي كان هنا. الذي دخل لينام!
ملكة : طبعًا زوجي الذي أرغمني والدي على الزواج منه بعد فراقنا بأيام. ولكن طمِّني أولًا. هل ولدنا في خطر؟
عبد الحكيم : خطر. نعم في خطر.
ملكة : واولداه … (تكاد تسقط).
عبد الحكيم : ولكن اطمئني، أنا باقٍ هنا حتى الصباح. سأبذل أقصى مجهودي والله تعالى يأخذ بيدي. سيأخذ بيدي. أنا أفديه بحياتي. وأنقذه لك … ولي.
ملكة : وكيف تركته الآن؟! … قل لي كيف تركته؟
عبد الحكيم : لقد أعطيته الحقنة الأولى وأنتظر النتيجة. سأخبرك بعد قليل. وكيف أسميتِه باسمي؟
ملكة : لِيذكِّرني بك وليكون على مثالك. ولسيعدني باسمه وصورته في هذا الوسط الكريه.
عبد الحكيم : لي عندك طلب واحد.
ملكة : ما هو؟
عبد الحكيم : أن لا تبكي وقلِّلي من انفعالك واشربي جرعة من زهر البرتقال بمغلي الزيزفون. وأريحي نفسك بالنوم ولو قليلًا.
ملكة : أنا أنام. حاشا أن أنام وولدي على هذه الحال. إن قلب الأم …
عبد الحكيم : وقلب الوالد … أنا أطمئنك.
ملكة : حبيبي عبد الحكيم.
عبد الحكيم (بصوت منخفض) : أنا.
ملكة : أنت وهو … انظر إلى عجائب المصادفات. نحن نتقابل بعد وداعنا الأخير هنا! وفي بيت رجل أجنبي وبجانب ولدنا المريض. مَن كان يظن؟
عبد الحكيم : القضاء والقدر. إنني متفائل بهذا اللقاء.
ملكة : وكيف جئت بديلًا من الدكتور فتحي بك؟
عبد الحكيم : محض مصادفة. محض اتفاق عجيب. ابنه مريض باحتقان في اللوزتين، وكان يخشى ذلك الداء فاستدعاني فزرته وطمأنته، ورأيت أن يلاحظ ابنه، وفي هذا الوقت جاءت إشارة التليفون منكم. فرجاني أن أحلَّ محله.
ملكة : لعل الله يريد هذا اللقاء. وأين عيادتك؟
عبد الحكيم : التليفون ٧٧٧٧ أربع سبعات. لا تخطئها الذاكرة.
ملكة : والبيت … (تدخل الممرضة).

المنظر الحادي عشر

الممرضة : انتهت الربع ساعة يا دكتور.
عبد الحكيم : حسن جدًّا. سأذهب إليه. يمكنك أن تستريحي قليلًا هنا بجوار السيدة (بصوت منخفض للممرضة) طمْئِنيها ما استطعت (يخرج).
ملكة : كيف حاله الآن؟
حافظة : إنه نائم نوم العافية.
ملكة : نائم. لا تطمئنيني بالكلام العذب. اصدقيني بشرفك.
حافظة : الحق أن الحالة شديدة، ولكن الدكتور الذي لم أره قبل الليلة ماهر جدًّا، ولم يسبق أني رأيت علاجًا كعلاجه أو عناية كعنايته، يظهر أنه يعالج المرضى بطريقة حديثة.
ملكة : والحرارة، هل هبطت؟
حافظة : أظنها هبطت خطَّين ومع ذلك فإنها الآن لا تهمُّ (تتقدم الزوجة نحو زر الكهرباء وتلمسه، فتدخل نعيمة).
ملكة : هل أعددْتِ عشاء للآنسة؟
الخادمة : أجل يا سيدتي، إنه مُعَدٌّ.
ملكة : هاتي هنا فتأكل الآنسة وأنا أتحدَّث إليها.
الخادمة : لك ذلك يا سيدتي (تخرج).
ملكة (إلى حافظة) : وأنت متخرِّجة من القصر العيني؟
حافظة : نعم من عهد الدكتور شكري باشا رحمه الله.
ملكة : كان ماهرًا؟
حافظة : جدًّا. لم يكن يدانيه مدانٍ في أمراض النساء (يدخل إدريس بالطعام ويضعه على منضدة ثم يخرج).
ملكة : تفضلي.
حافظة (بتعفُّف) : لم أكن أريد هذا التكليف في الساعة الثانية بعد نصف الليل.
ملكة : لا تؤاخذينا فقد تأخرنا عليك. اسمحي لي أن أدخل قليلًا عند الولد.
حافظة (وقد بدأت تأكل) : لقد شدَّد الدكتور عليَّ أن لا يدخل عليه أحد.
ملكة : سأراقبه عن بعد دون أن يشعر بوجودي …
حافظة : لا لزوم لذلك وقد طمأنتك.
ملكة : أنا أصدقك، ولكن ليطمئن قلبي دقيقة واحدة ثم أعود.
حافظة (بتردد وتسامح) : الأمر لك تفضلي (تنهض الهانم ببطء وفي وجهها نظرة غريبة، وتقول للممرضة وهي خارجة).
ملكة : إلى اللقاء. كلي بهناء وسرور.
حافظة : قلب الأم. الحمد لله على عدم الزواج. العذوبة عذبة.

المنظر الثاني عشر

(يدخل الزوج وهو لابس معطف الراحة — روب دي شامبر — مهرولًا وهو يفرك عينيه؛ فترتبك حافظة قليلًا وتمتنع عن الطعام.)

حافظة : عفوًا يا سعادة البيك.
مرعشلي (ينظر إلى المائدة بغيظ ثم ينظر إلى وجه الممرِّضة فيبتسم) : العفو … العفو … تفضلي! أتأكلين في هذه الساعة المتأخرة؟
حافظة : السيدة شدَّدت عليَّ وألحَّت فلم أستطع مخالفتها، وقالت إن عملي يستلزم كفاية الغذاء، ثم إني سأسهر بقية الليل مع أنني تعشَّيت في الساعة الثامنة.
مرعشلي : أوَتجوعين بعد العشاء؟! هل استطعت أن تهضمي؟
حافظة (بخجل) : لقد ضغطتِ السيدة عليَّ وأجبرتني …
مرعشلي : هذا عمل في محله (يجلس على مقربة من الممرضة) أما أنا فإذا تعشيت عشاء دسمًا كهذه الليلة فيدركني الأرَق؛ فإنني لم أوشك أن أضع رأسي على الوسائد حتى رأيت رؤًى مفزِعة.
الممرضة : كابوس!
مرعشلي : هو هو بعينه … كابوس، ثم شعرت هنا (يشير إلى معدته) بالتهاب كأنه صاروخ من النار!
الممرضة : خذ مزيجًا من أملاح سيدلتزاو بيكربونات الصودا.
مرعشلي : كربونات! لا لزوم لذلك. إن الأكل سينحدر حالًا. لقد أخذت مرة هذه الكربونات وحصل لي شيء فظيع منها.
حافظة : ماذا حصل لسعادتك؟
مرعشلي : جعت جوعًا شديدًا جدًّا فأكلت (يضحك).
حافظة (تنظر إليه باستغراب وتضحك) : بالهناء والشفاء … سعادتك والد المحروس الصغير على ما أظن؟
مرعشلي : إي نعم ولي الشرف. أليس ولدًا لطيفًا جديرًا بوالده؟
حافظة : السيدة الهانم مشغولة جدًّا عليه.
مرعشلي : وأنا أيضًا، ولكن أنا مسلم أمري إلى الله (يلمح الجريدة فيلتقطها ويقرأ فيها قائلًا) إلا الموحد. الموحد الذي اشتريته باثنين وثمانين ونصف ينزل إلى ستين، وإلى تسعة وخمسين. يا له من خراب! دين الحكومة ينزل إلى هذا الدَّرْك الأسفل!
حافظة (بدهشة) : ما هو الموحد يا سعادة البيك؟
مرعشلي : سهم من الأسهم.
حافظة : سهم! أي سهم؟
مرعشلي : سهم من الأوراق المالية اسمه في الجريدة بورصة الأسهم والسندات والأوراق المالية فهو في البورصة.
حافظة : آه … الآن فهمت.
مرعشلي : فهمت … والله شيء لطيف.
حافظة : ما هو الشيء اللطيف يا بيك؟
مرعشلي : منظرك يا حضرة الست الحكيمة يفرح النفس ويبهج القلب الحزين.
حافظة : أنا لست طبيبة، إنما أنا ممرضة فقط.
مرعشلي : كل الممرضات والقوابل يغضبن إذا لم يُقَل لهن طبيبات، وبعضهن تُضِيف إلى اسمها لقب أفندي. إلا أنت. وهذا يدل على حسن أصلك. شرَّف الله قدْرَك.
حافظة : اسمح لي يا سعادة البيك. فإن الدكتور في حاجة إليَّ (تنهض) طاب ليلك يا سيدي البيك (تخرج بسرعة).
مرعشلي : ممرضة ظريفة تحبِّب إليَّ المرض والعياذ بالله.

المنظر الثالث عشر

(يدخل الدكتور فيُبغَت إذ يرى مرعشلي بك.)

مرعشلي : أهلًا وسهلًا جناب الدكتور.
الدكتور : صحِّ النوم … الحالة الآن جيدة والحمد لله.
مرعشلي : البركة في همتك. أنا مطمئن مذ رأيتك. نرجو المعذرة يا جناب الدكتور نحن أقلقناك في ليل الشتاء.
الدكتور : عفوًا … إن واجبي يقضي عليَّ بذلك في كل وقت.
مرعشلي : لو كنت طبيبًا ما أقلقت نفسي في مثل هذا الوقت (لنفسه) لقد أخطأتُ فإن هذا يكبر من شأن العيادة. أنا دائمًا أقترف مثل هذه الأغلاط وأدفع ثمنها غاليًا.
الدكتور : ولكن حياة الناس الذين وضعوا فيك ثقتهم، ماذا أنت فاعل بها؟
مرعشلي : يجوز أن يلفحني البرد فيصيبني مرض يقضي على حياتي. وقد لا أنجح في معالجة المريض فنموت نحن الاثنين معًا.
الدكتور : إذن تذهب في سبيل الواجب الإنساني.
مرعشلي : الواجب الإنساني لا. اعمل بي جميلًا ودعني بعيدًا عن الواجب الإنساني نحو ثلاثين عامًا مقبلة.
الدكتور (مبتسمًا) : ومع ذلك فإنك يا سعادة البيك ذهبت مع أسوأ افتراض. ولم تُحسِن ظنك لا بالعلم ولا بالقَدَر.
مرعشلي : يجوز أن أنجح في شفاء المريض وأمرض أنا …
الدكتور : يجوز أن تشفي مريضك ولا تُصاب بسوء وتفيد أصدقاء، كما أرجو أن يحدث في حالتي هذه الليلة.
مرعشلي : في غاية اللطف! جنابك تعمل في مصر من مدة طويلة على ما أرى.
الدكتور : منذ سنة فقط.
مرعشلي : حضرتك نشأت في الأرياف، في الغربية مثلًا.
الدكتور : كلا يا بيك أنا نشأت وتربَّيت في القاهرة؛ لأنه لا يوجد مدرسة طب في الأرياف ولا في الإسكندرية ذاتها.
مرعشلي : صحيح. مسألة التعليم العالي غابت عن فكري. ولعلك أيضًا تعلَّمت في باريس أو في فرنسا.
الدكتور : لا! تعلَّمت في مصر وسافرت إلى أوروبا للتخصُّص في أمراض الأذن والأنف والحنجرة في لندن عاصمة إنجلترا.
مرعشلي (باكتراث) : كان يجب عليك فتح عيادة في القاهرة فورًا لتتبوَّأ مكانتك التي تستحقها.
الدكتور : إن بعض أمور خاصة بغَّضت إليَّ الإقامة في القاهرة. فأقمت في الإسكندرية فترة من الزمن عقب عودتي من أوروبا ثم جئت إلى القاهرة.
مرعشلي : لا بدَّ لنا من تقدير عملك حق قدره، ولا تغيب عنا أهمية عملك الجليل في علاج ولدنا بهذه الهمَّة.
الدكتور : عفوًا. أنا مكلَّف كما أخبرتك من زميل، وفي مثل هذه الحالة لا أسمح لنفسي بتكليف المريض بشيء.
مرعشلي (بفرح شديد) : والله نعم الأخلاق الطاهرة. طبعًا أفندم صنعة شريفة جدًّا حتى ولو أن جنابك قضيت الليل بطوله لا تقبض أجرًا.
الدكتور : طبعًا هذا واجبي. بيد أن المرة الأولى لا تُحتسَب.
مرعشلي : هكذا العلم وحسن الذوق وإلا فلا. الله يطمئنك كما طمأنتني.
الدكتور (بدهشة) : على أي شيء اطمأننْتَ يا بيك؟
مرعشلي : على ولدنا العزيز عبد الحكيم. إنما كنت أريد أن أطمئن أيضًا على الموحد من اثنين وثمانين ونصف إلى ستين. أكاد أُجَن. هذا هبوط يقصم الظهر.
الدكتور : غدًا يصعد! إن غدًا لِناظره قريب (تدق الساعة ويبدو الشفق من نافذة).
مرعشلي : الساعة الخامسة صباحًا. هذا هو النهار. لا بدَّ لي من صلاة الفجر حاضرة (ينهض) المنزل منزلك (ينظر إلى الجريدة) بين غمضة عين وانتباهتها. أسعد الله صباحك يا دكتور. يا حبَّذا لو ينفع الطب في الأسهم.
الدكتور : أسعد الله يومك (يخرج الزوج) حقًّا إنها معذورة. كيف استطاعت أن تعاشره كل هذه السنين؟ أية ثمرة تُرجَى من هذا الزواج المشئوم؟ إن معاشرة مثل هذا الشخص تحتاج إلى قدْرٍ وافر من البطولة.

المنظر الرابع عشر

(تدخل ملكة وقد تولَّاها الضعف والذبول، ولكنَّ في عينيها بريقًا غريبًا وتبدو كأنها تقاوم الضعف بهمة لا تعرف الكلال.)

ملكة : أنت هنا بمفردك (تدنو منه بعطف لتحادثه فيبتعد عنها).
الدكتور : نعم. سعادة البيك صعد ليصلي الفجر حاضرًا. اسمحي لي هنيهة (يخرج مسرعًا كأنه يريد التخلُّص من الحديث).
ملكة (لنفسها) : لقد أخبر الممرضة أن النتيجة الحاسمة تظهر في الساعة الخامسة. وها هي الساعة الخامسة ولكنني لا أجرؤ على سؤاله (تدنو من زر الكهرباء فتدخل نعيمة) أعدي لهم طعام الأفطار (تخرج نعيمة).
الدكتور (يدخل مُسرِعًا وعليه علامة الفرح) : بشرى.
ملكة : هل نجا؟
الدكتور : لقد فات الخطر.
ملكة : شكرًا لك … شكرًا لك (تضحك قليلًا ثم تبكي وتجلس على مقعد فيدنو ليسندها ثم يعود).
الدكتور : ولكنه يحتاج إلى العناية. غدًا يبدأ في التحسُّن الظاهر، ولكن النقاهة طويلة ودقيقة.
ملكة (تفتح عينيها) : شكرًا لك يا عبد … (تدخل حافظة ولكنها لا تلحظ ولا تسمع شيئًا).
الدكتور : ما ورائك يا آنسة؟
حافظة : المحروس فتح عينيه وطلب ماما.
الدكتور : لا بأس يمكنها أن تذهب إليه الآن قليلًا.
ملكة (إلى الممرِّضة) : هل طلب ماما فقط؟
حافظة : نعم … وهل يحق أن يطلب سواها؟ (تبتسم بمعنًى.)
ملكة : ألم يطلب بابا أيضًا؟ (وتنظر إلى الطبيب.)
حافظة : لم أسمع (تبتسم) سوى كلمة ماما.
ملكة : هو غلطان … لا بدَّ أن يرى ماما وبابا. أليس كذلك يا دكتور؟
الدكتور : طبعًا هذا يكون أفضل وأتم (ينظر إلى ملكة محذِّرًا).
ملكة : إذن هيا بنا نحن الاثنين ما دام البيك نائمًا فنكون معًا بجانبه ماما و…
الدكتور : الطبيب المعالج …
(ستار)

الفصل الثالث

(في صالون في منزل مرعشلي بك بحدائق القبة غير الصالون الذي جرت به حوادث الفصل الثاني.)

المنظر الأول

مرعشلي (بحدَّة) : يا نعيمة … يا بنت … يا إدريس … يا جمعة … أين الغداء؟ الساعة الآن الثانية بعد الظهر ولم تُعِدُّوا الغداء؟! إلى متى … إلى متى؟ (يدخل إدريس).
إدريس : الغداء حاضر يا سيدي في غرفة المائدة (تدخل نعيمة).
مرعشلي : غرفة المائدة! لم تزْدَدْ بتعدُّد الغرف إلا وبالًا وتعبًا وإسرافًا في النفقات. أنا لا أطيق كل هذه المصاريف (الخادمان يتغامزان، وتدخل ملكة) أين الغداء؟ أنا لا أريد أن أنتقل من هنا فلْتكُن المائدة ها هنا.
ملكة : ماذا جرى يا بيك؟ أفي كل يوم شقاق وشقاء وشجار بغير سبب؟ الغداء مُعَد من الساعة الواحدة.
مرعشلي : طبعًا … طبعًا إن هذا الشجار سببه الارتباك في حياة الأسرة، والبيت في فوضى بسبب كثرة الخدم … وكثرة الخدم تُوجِب زيادة في النفقات. وصيفة لحضرتك ومربِّية للولد، وطاهٍ وصبي وخادم السفرة وبواب وبستاني وزوجته. كل هؤلاء الأشخاص لهم مرتبات وأكل ونوم وكسوة في الأعياد، ونحن اثنان لا ثالث لنا.
ملكة : لا ثالث لنا! والولد هل نسيته؟
مرعشلي : ولد صغير كالبعوضة … الخدم أكثر من السادة. ومع هذا فلا خدمة ولا راحة بال ولا اقتصاد.
ملكة : هل هذا هو الذي يغضبك ويخرجك عن طورك وحلمك؟ هذه حياتي التي نشأت عليها. وأنت تعلم ذلك جيدًا.
مرعشلي : حياتك التي نشأت عليها؟ ولكن اللبيب مَن دار مع الزمن، والدنيا أزمة والقطن في هبوط. وكذلك الموحد لم يصعد كما كنت أظن!
إدريس : الغداء مُعَد يا سعادة البيك.
مرعشلي : طبعًا طبعًا … أعددتم الغداء بعد هذا الإلحاح والطلب. إنه غداء في غاية الغلاء. الغداء … ألست أنا دافع الأثمان الباهظة؟ لو أكلت في أعظم مطعم فلا أكلف عُشر ما أدفعه هنا في منزلي.
ملكة : يا بيك لا يليق بنا هذا القول أمام الخدم. إن الغداء ليس لك بمفردك، بل هو لجميع من بالمنزل.
مرعشلي : هذه هي الطامَّة الكبرى والجرح الدامي دائمًا. فماذا يصيبني من هذا الغداء إلا النصيب الذي أستطيع أن آكله (يخرج غاضبًا قاصدًا غرفة الطعام).
ملكة (باشمئزاز وازدراء لنعيمة) : هذه حياة لا تُطاق. تنغيص مستمر بسبب الغداء والعشاء (وتجلس مفكِّرة).
نعيمة : سيدتي لا تحزني. رحمة الله على سعادة البيك الكبير. ما كان أكرمه في منزله! قضيت في خدمتكم أكثر من عشر سنين، لم أسمع في أثنائها كلمة من هذا القبيل.
ملكة : رحمه الله! رحمه الله … تلك الرحمة الواسعة التي تدرك الجميع وتسع كلَّ شيء. ألم يكن هو السبب في كل ما أعاني الآن من صنوف الشقاء … أنا وأنتم؟ ألم يكن سبب ما نقاسي من عذاب وضيق وألم؟
نعيمة : لم يكن يظن أن البيك على هذا الجانب من الحرص الشديد و…
ملكة : القسوة التي لا حدَّ لها … انطقي.
نعيمة : يا سيدتي أنا لا أستطيع الكلام.
ملكة : تكلَّمي فأنت لست بالغريبة عن الدار وأهلها، بل لست غريبة عليَّ ولا أجنبية عني.
نعيمة : الحق يا سيدتي أن البيك ظالم نفسه وظالم مَن معه.
ملكة : تأملي يا نعيمة، إنه لا يريد أن يدفع ثمن الدواء ولا الثياب!
نعيمة : ولم نرَه يومًا يحمل لعبة أو حلوى كما يفعل سائر الآباء! حتى أفقرهم.
ملكة : سائر الآباء … نعم لقد ألحَّ عليَّ أبي كثيرًا، ولكنني قاومته إلى النهاية وصحَّت عزيمتي على ترك الدار، ولكن أمي — سامحها الله — هي التي أرغمتني بمرضها الذي كان يهدِّد حياتها على الوقوع في هذا الشرك. ولولا ما قاله الأطباء من أن حياتها في خطر، ولا ينقذها إلَّا زوال الهم الذي كان يشغل بالها، ما كنت الآن في هذا البلاء.
نعيمة : ولكن يا سيدتي، ما سبب شكوى سعادة البيك؟ إنه دائمًا يشكو من المصاريف والنفقات والتبذير والإسراف. على أن البيت لا يكلفه ما لا يطيق … ولكن …
ملكة : ولكن ماذا؟!
نعيمة : ألم يترك سعادة البيك المرحوم الشيء الكثير من الأطيان والأموال في البنوك، كذلك المرحومة والدتك. ألم تترك مصوغًا وجواهر وأموالًا متوافرة؟
ملكة : نعم … ولكن ربما لا تعلمين أنه هو الواضع اليد على الأطيان والأموال. أما معظم جواهري وحليها فقد اشترى بها سندات الموحد، وجعلها باسمه بدون علمي (يُسمَع من الداخل صوت مرعشلي بك الزوج وهو يزمجر ويصخب فتضطرب ملكة والخادمة تخرج).
مرعشلي (داخلًا وفي عنقه فوطة السفرة) : الغداء. أكل كثير وأصناف متعدِّدة، وطبعًا هكذا يكون العشاء. فأين يذهب كل هذا الطعام يا تُرى؟ إنني أرتاب كثيرًا في سلوك هذا الطاهي وصبيانه (يدخل إدريس).

المنظر الثاني

إدريس (متردِّدًا) : سيدي.
مرعشلي : ماذا تريد من سيدك؟ ألم تتغدَّ أنت ومن معك؟
إدريس (بغيظ) : الحمد لله! ولكن جماعة من الريف حضروا للمقابلة. السيد متولي والشيخ عبد الفضيل أبو الذهب.
مرعشلي : آه (يُظهِر فرحًا ثم يكتمه بغتة) لا بدَّ أنهما حاضران للاعتذار عن السداد أو لطلب إنقاص الإيجار بسبب عجز المحصول. فليحضُرا لينظرا بأعينهما ماذا تكلِّفنا البيوت التي نفتحها وننفق عليها في القاهرة (يخرج إدريس وتخرج السيدة وبعد قليل يعود إدريس وخلفه الفلاحان).

المنظر الثالث

مرعشلي (بتكلُّف) : أهلًا وسهلًا بمشايخ العربان وأسياد البلد.
متولي : الحمد لله على السلامة يا سعادة البيك (يجلسون جميعًا ويخرج إدريس).
مرعشلي : خيرًا إن شاء الله. لا بدَّ أن تكونا قد أحضرتما جميع الأقساط المستحقة والمتأخرة بعد سداد الأموال.
عبد الفضيل : البركة في سعادتك. طبعًا أحضرنا الأقساط بعد سداد الأموال، ولكن البعض والبعض …
مرعشلي (بحدَّة) : ماذا تعني يا شيخ عبد الفضيل؟ أنا واثق في ذمتك!
متولي : يعني البعض حضر والبعض تأخر … وموعدنا بسداده الأسبوع القادم على الأكثر.
مرعشلي : الأسبوع القادم. يا سلام! هذا لا يُطاق. ألا تعلمان أنني مديون وأن الدائنين لا يرحمون والخواجات هنا في مصر لا يعرفون التأخير، بل يحتِّمون الدفع في المواعيد. وكل شيء هنا يحتاج إلى مصاريف. هل تظنان أن الملَّاك يكنزون؟ كل شيء منصرف أولًا بأول، وهيهات أن يبقى لدينا شيء سوى النَّذْر القليل.
أبو الذهب : البركة في سعادتك.
مرعشلي : ونفقات البيوت، ومرتبات الخدم … والسيارة … وكسوة الشتاء … كل هذه آلات تشتغل ليلًا ونهارًا مثل وابور الطحين، تطحن في مالي.
متولي : نحن أحضرنا اليوم ألفًا وخمسمائة جنيه من أقساط أرض المرحوم برعي بك.
مرعشلي (بانزعاج) : صه … صه … اخفض من صوتك يا رجل خشية الفضيحة ووقوعي في الملام … (ينظر في الجهات الأربع) لأن هذا المبلغ ضئيل جدًّا (يفرك أنامله كمن يهنِّئ نفسه ثم يمد يده ليقبض المال، وفي هذه اللحظة المباركة يدخل إدريس بالقهوة فيرى عملية القبض فيرتبك مرعشلي، ولكن الفلاحين لا يلحظون ارتباكه ويستمرون في العدِّ بصوت مرتفع مع إظهار النقود، فينظر إليها وإلى إدريس شزرًا، ثم يكلفه بترك القهوة بغضب ويُعِيد العدَّ خشية الخطأ، ثم يضع النقود بفرح شديد في محفظته الضخمة ويضعها بتحفُّظ وحرص في جيبه الداخلي) آه هذا قليل من كثير. إنما إن شاء الله في الأسبوع القادم ستأتي البقية.
أبو الذهب : إن شاء الله البقية تأتي الأسبوع القادم.
متولي : سنبذل غاية جهدنا.
مرعشلي : غاية الجهد … إذن لا أعطيكما صكًّا بالسداد حتى تُحضِرا البقية.
أبو الذهب : بارك الله فيك يا سعادة البيك. لا يعلم أحدنا في أي وقت يموت ونحن آباء أطفال صغار وأرباب نساء وبيوت.
مرعشلي : حسن … حسن … سأكتب لكما صكَّ السدادِ معلَّقًا على شرط الوفاء في آخر هذا الأسبوع.
متولي (بغضب) : اكتب ما تشاء، فقد دفعنا لك والله يفعل ما يريد (يشربان القهوة بغيظ وهو يكتب الصكَّ ثم يتلوه).
مرعشلي : استلمت أنا الموقع في أدناه مرعشلي بك حمد الله مبلغ (بصوت منخفض) ألفًا وخمسمائة جنيه مصري من أصل إيجار أطيان الست ملكة هانم، كريمة المرحوم برعي بك أبو النصر، بصفتي وكيلًا للست المذكورة وحرمنا، وذلك من يد المشايخ عبد الفضيل أبو الذهب والسيد متولي متولي من ناحية سرياقوس، ولا يصير طرفهما خاليًا إلَّا بعد سداد القسط الثاني والأخير وقدره ألف وخمسمائة جنيه، وذلك في مدة أسبوعٍ يمضي من تاريخ هذا الإيصال (يمتعض الفلاحان ويتململان) الإمضاء مرعشلي بك حمد الله وكيل الست ملكة هانم حرمه (يدخل إدريس لينقل صينية القهوة) يا إدريس (يمد يده بالورقة فيأخذها متولي ويضعها في جيبه دون أن يقرأها) يا إدريس … اصحب المشايخ حتى الباب … مع السلامة يا مشايخ العرب.
الاثنان : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (ينهضان ويقلبان نظرهما في أثاث الغرفة).
مرعشلي : وعليكما السلام (يخرج إدريس والفلاحون).

المنظر الرابع

(تدخل ملكة حزينة وتنظر إلى زوجها نظرةً طويلة كأنها تستشف ما في نفسه، فيلتفت إليها مرعشلي ويجتهد في أن يلاينها ويغيِّر مسلكه الذي سلكه في بداية هذا الفصل.)

مرعشلي : طبعًا مزاجك الآن صار أكثر اعتدالًا من الصباح.
ملكة : مزاجي أنا! … إنه دائمًا معتدل (تدخل نعيمة وتهمس في أذن سيدتها).
مرعشلي : آه يا خسارة، دائمًا أسرار وأخبار وهمس ووسوسة … ما وراءك يا نعيمة؟ تكلَّمي بصوت عالٍ يسمعه الجميع. هل أنا أجنبي عن المنزل وأهله؟ (ترتبك نعيمة).
ملكة : يا بيك ليس هناك أسرار ولا وسوسة … إنما نعيمة كثيرة الخجل.
مرعشلي : ماذا تقولين يا نعيمة؟ ماذا تقول يا ست؟
ملكة : لا شيء. فقط تخبرني بأن المعطف الذي خاطته مدام تيبو قد أنجزته وأرسلته مع فتاة من فتياتها. يا نعيمة، دعيها تدخل ومعها المعطف.
مرعشلي : المعطف! … أي معطف؟!
ملكة : المعطف الذي طلبته منك بإلحاح منذ شهر أكتوبر، ونحن الآن في الشتاء.

المنظر الخامس

مرعشلي : آه المعطف … (تدخل الفتاة ومعها علبًا كبيرة مربَّعة فتحيي الجميع بابتسام وتلاطفها ملكة، ثم تفتح العلبة وتُظهِر المعطف فتنهض لقياسه فتبدو ذات جمال وتنظر إلى نفسها في المرآة ويظهر المعطف مناسبًا لها وليس به عيب، فتعيده إلى العلبة وعند ذلك تُخرِج الفتاة ورقةَ الحساب من العلبة، وتقدمها إلى السيدة فتنظر إليها مليًّا وتقدِّمها إلى البيك) ما هذه الورقة؟ إنها مكتوبة باللغة الإفرنجيَّة!
ملكة : هي بيان الحساب.
مرعشلي : آه الفاتورة … طبعًا معطف مثل هذا لا بدَّ له من فاتورة كبيرة.
ملكة (تدير بصرها إلى الفتاة وإلى الزوج بخجل كمَن تريد أن لا تُطلع الفتاة على هذه المناقشة) : طبعًا الفاتورة، أي شيء غريب في الفاتورة. ومع ذلك فإن الثمن ليس باهظًا. وأنت تعرفه من قبل.
مرعشلي : ربما عرفته، ولكن معرفة الثمن قبل دفعه بمدة شيء ومعرفة الثمن عند دفع الشيء شيء آخر. فكم قيمة هذه الفاتورة؟
ملكة : أحد عشر جنيهًا فقط.
مرعشلي : أحد عشر جنيهًا! هذا نهْب وسَلَب … معطف بسيط كهذا (يقف وينشر المعطف بغيظ وازدراء فتنزعج الفتاة المُرسَلة من قبل الخياطة) بأحد عشر جنيهًا، قطعة جوخ وقطعة حرير وبضعة زراير من الصدف وذراع من الفرو بأحد عشر جنيهًا! ما هذا؟ في أي زمن نعيش؟!
ملكة : يا بيك لا لزوم لهذا القول الآن. ادفع أولًا ثم نتكلم فيما بيننا. ثانيًا لأنه لا يجوز تعطيل هذه الفتاة وتضيع وقتها في سماع مناقشتنا.
مرعشلي : أدفع أولًا طبعًا! لأنني أنا الذي سأدفع ولا يُوجَد غيري يدفع هذه الفاتورة، وغيرها من الفواتير. على الأقل هذه فاتورة مكتوبة. ولكن تُقدَّم إليَّ في كل يوم فواتير شفوية لا يعلم قيمتها إلَّا الله. هذا هو سبب شكواي وغضبي وغمي.
ملكة : يا بيك … (تغضب).
مرعشلي : ما علينا! ألا يمكن خصم شيء من هذه الفاتورة؟ (الفتاة تتضجر) يا صبية يا مدموازيل، ألا يمكن خصم شيء عند الدفع فورًا؟
الفتاة : يا سعادة البيك لا علم لي ولا إذن لديَّ بذلك. إنما أنا أحمل البضاعة وأسلمها وأعود بالثمن المبيَّن في الكشف كاملًا.
مرعشلي : جميع التجار وأرباب المخازن الكبرى تفرح عند الدفع فورًا (يبتسم للآنسة) لأجل خاطري تنزيل بسيط. خصم قليل. ولو ثلاثة جنيهات مثلًا.
ملكة : خصم ثلاثة جنيهات! كفى … كفى يا بيك. هل تريد أن تدفع أو لا تريد؟ (يبدو عليها الغضب الشديد).
مرعشلي (يقصد ركنًا من الغرفة بحيث يكون أمام المرآة فيراه الجميع وهو لا ينتبه لذلك لشدة ارتباكه، ويُخرِج المحفظة الضخمة ويعد النقود ويقبض عليها بيده ويعود إلى وسط الغرفة) : ها هي النقود (يبدأ بعدِّها بصوت مسموع) الله واحد، ليس له ثانٍ! ثلاثة … أربعة … خمسة (إلى أحد عشر. فتأخذها الفتاة بغيظ).
الفتاة (إلى السيدة) : شكرًا لك يا سيدتي (تحيي وتنصرف).
مرعشلي (للفتاة وهو على وشك الانصراف) : عدي النقود مرة ثانية. حسب أوامر الشرع الشريف ربما أكون مخطئًا في جنيه زِدْتُه أو نقصته (تخرج الفتاة دون اكتراث لكلامه الأخير).

المنظر السادس

مرعشلي (ملتفتًا إلى ملكة فإذا هي في غضب شديد) : أنتِ دائمًا غضْبَى. لماذا هذا الغضب والعبوس؟ أنت بحمد الله عائشة في منزل جميل وعندك ملابس جديدة (يشير إلى المعطف) وبيانو وفونغراف … وزوج …
ملكة : زوج … ماذا تقصد؟ أي زوج؟
مرعشلي : أنا … طبعًا أنا ولا فخر. زوج عاقل جدًّا يعرف قدرك. حقًّا إنني لم أتعلم بالمدارس ولكني أفهم كل شيء؛ في الزراعة والأسهم والفونوغراف، والجرائد … فلماذا أنت دائمًا مُطرِقة؟ تفكِّرين كأنك تحملين هموم الدنيا بأسرها؟
ملكة : من فضلك يا بيك! ربما كنت مشغولة.
مرعشلي : مشغولة! بماذا؟ ابنك والحمد لله بخير وقد تعبنا كثيرًا وأنفقنا كثيرًا في المرض والنقاهة حتى شفاه الله. أنا أمامك زوج الدنيا والآخرة إن شاء الله بعد عمر طويل.
ملكة (تضحك بتكلُّف وغيظ) : الدنيا والآخرة. يا لطيف يا بيك ألا تكفيك الدنيا؟ من فضلك يا بيك هل يمكنك أن تعطيني خمسين جنيهًا لمسألة ضرورية؟
مرعشلي (ينقلب غاضبًا) : خمسين جنيهًا! لماذا مسألة ضرورية؟ ليس عندي الآن.
ملكة : عفوًا لا تغضب. أريد نقودًا من إيرادي الخاص.
مرعشلي : من إيرادك الخاص! هل لك إيراد خاص؟
ملكة : طبعًا وأنت تعلم جيدًا أن لي إيرادًا خاصًّا وهو رَيْع الأطيان التي ورثتها عن أبي. وأنت تتسلمها منذ وفاته إلى الآن.
مرعشلي : طبعًا ليس بيننا خاصٌّ وعام. إيرادك إيرادي لأن المصالح مشتركة. مَن دفع ثمن هذا المعطف؟ ومَن يدفع كل يوم مصاريف المنزل والخدم والحشم والنفقات الهالكة والمطلوبات النثرية التي لا يمكن حصرها؟
ملكة : طبعًا أنت لأنك مُلزَم بذلك. الزوج ينفق على الزوجة. افترض أنني لم أرث عن والدي شيئًا مما ورثت من مال وعقار.
مرعشلي : طبعًا كنت تتزوجين من رجل من طبقة أقل من طبقتي. وهم كثيرون وتعيشين عيشة محدودة.
ملكة : أنا الآن مثل مَن ليس لهم إيراد.
مرعشلي : لماذا؟
ملكة : لأنك أنت تستولي على جميع دخلي. وقد استوليت اليوم فعلًا على ألف وخمسمائة جنيه من إيجار أطياني.
مرعشلي : من ذا الذي أخبرك بذلك؟
ملكة : لم يخبرني أحد، ولكني سمعتك بأذني تقرأ صكَّ السداد بعد أن عدَدْتَ النقود وتسلمتها ووضعتها في تلك المحفظة (تشير إلى جيبه الضخم).
مرعشلي (يلين كالأفاعي) : يا ست، كل شيء له لزوم. هل هذه النقود التي تسلمتها سأختزنها لنفسي؟ كلا إنما أدخرها لك وأستثمرها وأنميها.
ملكة : إذن حاسبني من فضلك عن جميع دخلي، وأخبرني كم ادخرت لي وكيف استثمرت رأس مالي؟
مرعشلي : أحاسبك! أهازلة أنت أم جادة فيما تقولين؟ هذا خروج. هذا نشوز هذا عصيان. أحاسبك! كلمة لم أسمعها من أحد طول حياتي!
ملكة : ألست وكيلي في إدارة شئون ما أمتلك؟ إذا كانت هذه الكلمة لا ترضيك فلنا شأن آخر.
مرعشلي : أي شأن آخر؟
ملكة : أنت تعرف طبعًا نتيجة الشقاق المستمر بين الزوجين. إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. فإذا كنت لا تستطيع معاشرتي بالجميل فالأَوْلى لنا أن نفترق.
مرعشلي : نفترق!
ملكة : طبعًا هذا هو أمر الشرع الشريف الذي تذكره دائمًا. لماذا أوجد الطلاق؟ هل سنَّه الشارع عبثا؟!
مرعشلي : الطلاق للرعاع والأوباش. أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
ملكة : هو أحب الحلال إلى الله في مثل هذه الحال.
مرعشلي : الطلاق مستحيل. ثقي وتأكدي أنني لا أطلق أبدًا، وأنك زوجتي في الدنيا وفي الآخرة.

المنظر السابع

(يدخل الولد الصغير فجأة فيسكت الزوجان خوفًا من سماعه موضوع المناقشة، فيلجأ إلى أمِّه فتضمه إلى صدرها وتقبله وتبكي، فينتهز مرعشلي هذه الفرصة وينسحب من الغرفة دون أن يشعر به أحد.)

ملكة (للولد) : حبيبي … ولدي … نور عيني.
الولد : لماذا تبكين؟ هل طلبتِ شكولاتة ولعبًا من بابا ولم يحضرها لك مثلي؟ ماما لماذا لم يحضر لي الشكولاتة واللعب؟ هو دائمًا يقول سأحضر لك اللعب باكرًا ولا يحضرها!
ملكة : هو ينسى كثيرًا يا حبيبي لأنه مشغول.
الولد : وهل عمي الدكتور مشغول أيضًا مثل بابا؟
ملكة : نعم هو مشغول وربما كان أكثر من بابا
الولد : لماذا إذن عمي الدكتور يحضر إليَّ اللعب والشكولاتة ولا ينسى؟ أين هو الآن؟ متى يحضر؟ أريد أن أراه. ماما أريد أن أراه. فلعله يحضر لي معه لعبًا جديدة.
ملكة : يا حبيبي عندك لعب كثيرة (تنادي) يا نعيمة (تدخل نعيمة) هات الحصان الأبيض والسكة الحديد.
الولد : لا … أريد الآن الدب الكبير والسيف (تخرج نعيمة وتعود باللعبتين المذكورتين فيلعب بهما الصغير ويلهو والأم تداعبه) ما اسم هذا الدب يا ماما؟
ملكة : اسمه الدب الأكبر.
الولد : وما اسم هذا السيف؟
ملكة : سيف … سيف نابليون.
الولد : وهذه السكة الحديد؟
ملكة : سكة حديد حلوان (يُسمَع بوق سيارة، فتتسمَّع وتنفعل) مَن يكون هذا القادم؟ (تنظر في ساعة اليد) الساعة الرابعة. هذا يوم الجمعة. لا بدَّ أن يكون الدكتور (تنهض).
الولد : لماذا تنهضين؟ ألا تلعبين معي؟
ملكة : عمك الدكتور حضر يا حبيبي (تدخل نعيمة وعليها سيماء الفرح).

المنظر الثامن

نعيمة : سيدتي حضرة الدكتور (يدخل الدكتور عبد الحكيم ويقصد الطفل مباشرة).
الولد : عمي! … عمي!
عبد الحكيم : حبيبي عبده (يحمله ويقبله والولد يرد القبل بمثلها).
الولد : ماذا أحضرت لي؟
الدكتور : أحضرت لك كل شيء (الولد يضع يده في جيب الدكتور ويخرج منها شكولاتة وصفارة وصورًا؛ فيفرح الطفل ويقبل الدكتور ويجلس في حجره ثم يأخذ اللعب الجديدة ويضمها للعب القديمة، ويلهو بها فيخلو الجو للسيدة والطبيب).
ملكة : هل هذا يرضيك؟ أتقبل دوام هذه الحال؟ أنا وابني الذي هو ابنك نعيش بعيدًا عنك في منزل رجل أجنبي عنا، دون أن أستطيع أن أخبر الصغير بحقيقة نسبه مع شدة نفوره من الآخر.
الدكتور : وأي ملام أستحق أن توجِّهيه إليَّ بعد أن قاسيت في سبيلك ما قاسيت، ولا أزال حتى الآن أشعر بألم الصدمة التي أصابتني من أبيك. إنه كان وحده مسئولًا. فقد أعماه الطمع الأشعبي عن حقيقة سعادتك، ولكن لا يجوز لي إلا أن أذكر محاسنه.
ملكة : طمعه الأشعبي! … لقد انقلبت الآية وصرت أنا فريسة لطمع هذا الرجل الثقيل. هل تظن أنه اغتال ثروتي ووضع يده على تركة أبي وأمي؟ وهو الآن مستولٍ على جميع إيرادي بغير شريك أو حسيب؟
الدكتور : هل هذا الرجل الغني الذي فضَّله أبوك عليَّ لضخامة ثروته اغتال ثروتك؟
ملكة : نعم، واليوم فقط استولَى على أقساط إيجار أطيان والدي.
الدكتور : ولماذا لا تطالبين بها؟
ملكة : لا فائدة من المطالبة لشدة جشعه وحرصه، وقد ظهر لي الآن أن والدي كان ألعوبة في يد هذا الرجل فخدعه، ولم يكن ذلك التعس يحبني أو يهواني إنما كان يرمي إلى الاستيلاء على ثروتي؛ لعلمه بأني وحيدة والديَّ وأنهما لن يعيشا إلى الأبد. وقد تمَّ له ما أراد وتحقَّق له هذا الحلم الذهبي كما تحققت شقاوتي.
الدكتور : إذن لا خروج لك من هذا المأزق إلَّا بالطلاق.
ملكة : الطلاق … لقد طلبتُه منه مرَّات عدة فكان طلبي يهتاجه فيظهر لي كالذئب الجائع أو النمر النَّهِم، ويؤكد لي أن الطلاق مستحيل بكل قوته، حتى علمت أنه لستُ أنا الذي يحرص عليَّ ولا يريد طلاقي، إنما هو لا يريد طلاق ثروتي. حتى لو علم علم اليقين أنني لا أحبه وأن الولد ليس ابنه، فقد لا يكترث لذلك.
الدكتور : هل هذه سعادتك التي كان يسعى إليها والدك وهو يصدني ويطردني؟ ما أشدَّ تهكُّم القدر! تأكدي يا ملكة أنني كنت مستعدًّا أن أضحي في سبيل حبنا بكل شيء؛ ما أملكه وما لا أملكه، بشبابي … بحياتي … بعلمي. وكنت واثقًا أنني لو تزوجت منك لكنت الآن أعظم ممَّا أنا عليه ألف مرة. فلا تندبي حظَّك وحدك بل اندبي حظَّيْنا معًا.
ملكة : ولكن الآن … الآن يا عبد الحكيم يا أخي … ما العمل؟ فلندع الماضي جانبًا ما تدبيري؟ … ما حيلتي؟ إنني في أشد ضيق … بلغ بي اليأس مبلغًا لا تكاد تصدقه. خمس سنين قضيتها في بغض وشقاء وشقاق لا تنتهي.
الدكتور (يتأمَّل) : على أن ذاك الرجل لا يظهر لمن يراه بهذا المظهر المُزري به.
ملكة : إنك لا تعرفه كما أعرفه أنا؛ إنه كالحرباء يتلوَّن بألوان شتَّى، ويظهر أمام كل إنسان بما يلائم غايته. وهو في عشرته كالأخطبوط حتى يكاد الواقع بين خراطيمه يظن أن لا خلاص له. حتى الولد الصغير قد نشأ نافرًا منه لأنه لم يرَ يومًا شفقةً تغريه أو حنانًا يجذبه. فهو يفتأ ينظر إلى الصغير شزرًا ويحاسب في كل ما يتكلَّفه ويمانع في شراء أبسط الأشياء له.
الدكتور : ولكن يا ملكة كيف قبلت منه في حياة والدك؟
ملكة : نعم قبلت كما تقبل الحمامة ذبحها، ورضيت معاشرته كما يقبل القُمْرِي سجنه في القفص. وقد رفضت إلى أن كاد أبي ينفجر من الغيظ والكدر، ولكن أمي — سامحها الله — هي التي تنبَّأ الأطباء بشدة دائها ودنو أجلها فأُرغِمت على هذا الزواج بأمل شفائها أو على الأقل لتحسين حالتها وتخفيف وطأة الداء عنها ونجاتها من الخطر. فهل أُلام إذن على أنني بذلت حياتي رخيصةً وضحيت بشبابي وولدي وحريتي في سبيل إنقاذ تلك التي ولدتني وربتني صغيرة؟!
الدكتور : كل ذلك جرى لك!
ملكة : وأكثر منه …
الدكتور : وأنا لا أعلم به …
ملكة : طبعًا لأنك استبحت لنفسك أن تنجوَ بها من تلك المشكلة؛ فبقيت خمس سنين ولا أخطر ببالك مرة، فلم أقف على أخبارك من أحد، ولم توافِني منك طوال هذه المدة رسالة.
الدكتور : لقد خشيت من شدة الألم … وأنت لماذا لم تتحرِّي ولم تسألي؟
ملكة : لقد سألت عنك بعد أن أفقت من نكبة الزفاف، فلم يهدني إلى مقرِّك أحدٌ؛ فكنت كالمجنونة أريد أن أراك. فتضاربت أقوالهم، فعلمت حينًا أنك في الأرياف وحينًا آخر أنك في الإسكندرية. وعلمت أيضًا أنك سافرت إلى أوروبا.
الدكتور : كل هذا صحيح، ولكن صورتك في كل هذه الأوقات العصيبة … كانت أمامي … وكانت ذكراك نبراس حياتي … ونبرات صوتك وألفاظك العذبة لم تبرح عقلي وقلبي لحظةً حتى تلك الفوتوغرافية الصغيرة التي أخذتها بيدي منك في القناطر الخيرية لم تفارقني طرفة عين.
ملكة : وصورتك أنت أيضًا لا تزال عندي، وكنت أُطِيل النظر إليها حتى إن الطفل لو تأمَّلت ملامحه تجده أقرب إليك مني. فالناظر إلى وجه عبد الحكيم (بصوت مسموع يلفت الطفل) يكاد يراك مصغَّرًا.
الولد (ملتفتًا فجأة عند سماع اسمه) : ماما … أية صورة تقصدين؟
ملكة (مرتبكة) : الصورة التي أحضرها عمك الدكتور اليوم. الكارت بوستا.
الولد (يتناولها وكانت مهملة) : ما هذه الصورة؟
ملكة : هذه صورة بنت صغيرة تلعب مع عصفورها في الحديقة.
الولد : ماما … ماما أريد عصفورًا كهذا.
الدكتور : حبيبي … عزيزي عبد الحكيم … ولدي (يندفع نحوه ويحمله ويقبله فتغرورق عيناه بالدموع).
الولد (بتأثُّر وجزع) : عمي … ماما لماذا يبكي عمي الدكتور؟
ملكة (وقد اغرورقت عيناها بالدموع أيضًا) : لأن له ولدًا صغيرًا لطيفًا يشبهك تمام الشبه واسمه …
الولد : من هو؟ أريد أن أراه … أين هو؟
ملكة : هو في الإسكندرية يا حبيبي عند البحر.
الولد : ما اسمه؟
ملكة : اسمه كاسمك.
الولد : عبد الحكيم مثل اسمي (يصفق بيديه علامة الفرح) أريد أن أراه.
ملكة (تحمل الولد وتتقدم به إلى المرآة فتبدو فيها صورته منعكسه) : انظر يا عبد الحكيم في هذه المرآة. يا نور عيني يا مهجتي.
الولد (ناظرًا إليها) : يا ماما …
ملكة : ماذا ترى؟
الولد : فيها أنا …
الدكتور (مطرقًا … ثم يتقدم إلى المرآة) : هذه بالضبط صورة الولد الصغير الذي تريد أن تراه، وهو عندما يراني يقول لي يا بابا.
الولد : أريد أن أراه … (يجلس الدكتور ويسند رأسه بيده ويبكي).
الدكتور (ناهضًا) : لا بدَّ من الخروج من هذه الورطة البشعة … دوام هذا الحالِ مُحال.

المنظر التاسع

الزوج (من الخارج بصوت جَهْوريٍّ) : عظيم عظيم والله. فيه الخير سعادة الدكتور (يملك الاثنان حواسهما فلا يبدو عليهما شيء، أما الطفل فلا يزال متمسِّكًا بها وعندما يدخل الزوج يضع الطفل خده على كتفها كمن يريد أن ينام خوفًا) هكذا … هكذا عناية الأطباء وإلا فلا! السلام عليكم ورحمة الله (يحاول الدكتور النهوض لتحيَّته) لا تقُم من مكانك … أقسمت عليك.
ملكة : حضرة الدكتور سأل عنك عند حضوره، فلم أدرِ كيف أعتذر له؛ لأنك كنت خرجت فجأة مع أنك كنت تعلم بموعد زيارته. وكان ينبغي لك أن تكون في انتظاره.
مرعشلي : المنزل منزله وأنا أخوه الأكبر والولد ابنه.
الدكتور (مبتسمًا) : عفوًا يا بيك … هذا صحيح وواجب عليَّ.
ملكة (تصرف النظر عن زوجها وتستمر في حديثها كمَن كانت تتكلم في مسألة طبية) : إذن ترى أن شربة الزيت شديدة في الشتاء يا جناب الدكتور، وتفضل المانيزيا بالينسون.
الدكتور : طبعًا، ولا بدَّ من إعطائه زيت السمك مستحلبًا، وفي فصل الربيع يُعطَى له البلاتول مع وجوب الرياضة اليومية.
ملكة : ها هو سعادة البيك حضر، فاسمح لي حضرتك في الانصراف (تأخذ الولد وتخرج).
الولد : لا … لا … لا أخرج … لا أترك عمي الدكتور.
الدكتور : لا بأس يا حبيبي اخرج مع ماما إلى الفسحة.
الولد : أريد أن أرى الولد الذي رأيت صورته في المرآة.
ملكة (بسرعة) : نعيمة … نعيمة …
نعيمة (تدخل) : سيدتي …
ملكة : خذي اللعب (تجمع نعيمة شتات اللعب وتنقلها، وتأخذ الأم ولدها بشبه عنف، والدكتور يداعبه ويلاطفه صامتًا حتى باب الخروج).
مرعشلي : الولد والحمد لله قد أثمر فيه الجميل، وهو متأثر بمعروفك معه، ومنذ أن عالجته ومنَّ الله عليه بالشفاء على يديك، وهو متعلق بك أشد من تعلُّقه بي أنا …
الدكتور : العفو يا بيك … الأطفال يحبون الملاطفة … وأنا لا أقصِّر في ذلك نحوهم.
مرعشلي : تمام … ولكني لا أعرف أن ألاطفه كما تلاطفه جنابك.
الدكتور : إن معالجة الأطفال تحببهم إلينا … وكل إنسان يشعر بألم إنسان آخر لا بدَّ أن يعطف عليه، والعطف يولِّد الحنان … والحنان يولد الحب.
مرعشلي : هذه فلسفة، زادَك الله … أنا أحب أن أفهم مثل هذه المسألة وأقرأ الجرائد والروايات … ولكن لا أزال أحتاج إلى سماع مثل هذا الكلام العذب. إنه حلو كالعسل … ولا أتذكر أنني قرأته في أية جريدة أو كتاب.
الدكتور : العفو … هذا من حسن أدبك وتواضُعك.
مرعشلي : العفو … أريد أن أنتهز هذه الفرصة وأسألك عن صحتي.
الدكتور (باهتمام مصطنع) : أفندم … كلي أذان صاغية.
مرعشلي : منذ أيام أشعر بدوار وقد فقدت بعض شهية الطعام. وفي رأسي طنين كطنين الذباب.
الدكتور : أظن هذا نتيجة عسر هضم بسيط.
مرعشلي : لا … لا … عسر هضم. هذا يحصل لي من يوم نزول القطن وأيضًا منذ هبوط الموحد. صحيح أن الموحد أخذ يستعيد قوته ولكن أين؟ من اثنين وثمانين ونصف ثمن المشترى إلى خمسة وستين.
الدكتور (بتملمُل) : هذا تعكير مزاج يزول مع الزمن وصعود القطن والسندات (ينهض) أرجو أن تأذن لي بالانصراف لأن لديَّ بضع زيارات ذات شأن.
مرعشلي : العفو ضروري … لأجل هذا (يضحك) لم أستطع أن أدعو سعادتك لشرب الشاي معي. مع أن الساعة الخامسة.
الدكتور : في الأفراح إن شاء الله (يتصافحان فيصحبه إلى الباب).
مرعشلي (لنفسه) : دكتور فصيح كأنه محامٍ. كلام مرتَّب منظم كسلاسل الذهب يقوله برزانة وتؤدة، كأنه أمير ابن أمير (بأسف) لماذا يا ربي المرحوم والدي لم يعلمني في المدارس؟ ولكن مَن يدري! هل كنت أفلح في المدارس وأتعلم بفصاحة مثلهم؟ شاعر بألم. يولد المحبة والمحبة تولد العواطف والعواطف تلد لا أدري ماذا؟ كأنها سلسلة نسب. هكذا الكلام وإلا فلا (ينظر في أرض الغرفة فيجد قطعة من الحلوى التي تركها الطفل) هذه حلوى. خد الجميل محشوًّا باللوز (يزدردها) ولكن مَن أتى بها إلى هنا؟ أنا لم أشترِ شيئًا من هذا … يا نعيمة … يا إدريس (تدخل نعيمة).

المنظر العاشر

نعيمة : أفندم
مرعشلي : نادِ السيدة بسرعة (تخرج نعيمة وبعد قليل تدخل ملكة).
ملكة (بغضب) : حضرتك تدعوني؟
مرعشلي : حلاوة خد الجميل مَن أتى بها إلى هنا؟
ملكة : أين هي؟
مرعشلي : أكلتها (ثم يلتقط من الأرض غلاف الورق الذي كانت به الحلوى فتراه).
ملكة : هذه ليست خد الجميل إنما اسمها نوجاه.
مرعشلي : نوجاه!
ملكة : نعم نوجاه … أحضرها الدكتور عبد الحكيم.
مرعشلي : ولماذا نقبل من جناب الدكتور هذا التكليف؟
ملكة : هو أخبرك أنه محب للأطفال؛ لأنه يعالجهم ويلاطفهم.
مرعشلي : أنا وعدت الولد بإحضار الحلوى والشكولاتة. ألم يكن يستطيع الانتظار؟
ملكة (بغيظ مكظوم) : طبعًا ليس لديك الوقت الكافي؟
مرعشلي : من الأنف صاعدًا (يضع يده على أنفه).
ملكة : من الأنف صاعدًا! ماذا تقصد؟ أي شيء يصعد من أنفك؟
مرعشلي : الكلام صاعد من أنفي من شدة غيظي.
ملكة (تضحك جدًّا بعد أن تفطن لخطئه في فهم اللفظ الذي يريد أن يقوله) : آه تقصد أن تقول من الآن فصاعدًا … تعني من هذا الوقت إلى ما بعد الآن.
مرعشلي : بالله عليك … أقسم بشرفي أنني كنت دائمًا أظنها من الأنف صاعدًا … ومع ذلك من الآن فصاعدًا سأحضر له كل يوم ما أَعِدُ به من الحلوى، مهما يكبدني ذلك من المصاريف.
ملكة : وأنا الأخرى من الآن فصاعدًا ومن الأنف صاعدًا لا بدَّ أن أجد طريقة أدخل بها السرور على قلب عبد الحكيم، فيفرح فرحًا شديدًا بحيث لا يفارقه.
مرعشلي : ماذا تنوين أن تفعلي له؟
ملكة : ماذا تظن أنه يفرحه فرحًا شديدًا لا يفارقه!
مرعشلي : تحضرين له شكولاتة ونوجاه.
ملكة (بعدم اكتراث) : كلا!
مرعشلي : إذن حلوى من مولد النبي.
ملكة : ولا هذه أيضًا.
مرعشلي : حقًّا عجزت عن التخمين.
ملكة (بقوة وعزم) : سوف أجعله يعرف أباه حق المعرفة، ويحبه من كلِّ قلبه ولا يفارقه أبدًا ليلًا ونهارًا.
مرعشلي : آه … هذا ما كنت أتمنَّى … لقد أدخلتِ عليَّ السرور، وقد نويت أن أسدِّد جميع أثمان مشتريات الشتاء … أما أنت فخذي هذه (يخرج بتحفُّظ ورقة مالية) الورقة ذات الخمسة جنيهات مصرية.
ملكة (ضاحكة بتهكُّم) : احتفِظْ بها إلى أن يعرف الولد أباه …
(ستار)

الفصل الرابع

(هذا الفصل تقع حوادثه في عيادة الطبيب عبد الحكيم. المنظر يستمر في غرفة العيادة نفسها وبها الأدوات التي تكون عادة في قاعة الفحص؛ وهي مكتب ومضجع لرقاد المرضى لدى فحصهم ودولاب أسلحة العمليات، ومكتبة بها كتب وسجلات، وتليفون وميزان صغير للأطفال، وكرسيان كبيران وموقد ومروحة كهرباء، والدكتور عبد الحكيم جالس بثوب العمل الطبي وأمامه مريض يخاطبه.)

المنظر الأول

الطبيب : أمامي هنا … تفضل بالجلوس (يجلس المريض بارتباك).
المريض : أشكرك يا جناب الدكتور، إنني منذ رأيتك في غاية الانشراح.
الطبيب : مم تشكو؟ وهل أنت مريض من زمن طويل؟
المريض : عند النوم عادة يذهب النوم عني، ولكن عند الصحو أنام.
الطبيب : تقصد أنك مصاب بالأرق ليلًا وبالخمول نهارًا. إذن لا تنام!
المريض : أبدًا … ولا أذوق للنوم طعمًا.
الطبيب (بشيء من العجب) : وبعد!
المريض : الأحلام يا دكتور … الأحلام الفظيعة! دائمًا أغرق في بحر عميق أو أهلك في حريق أو يدهمني قطار سريع فأذهب مذعورًا جزعًا.
الطبيب : أحلام! … في أي وقت تراها وأنت كما قلت لا تذوق للنوم طعمًا؟
المريض : طبعًا أرى هذه الرؤى في النوم.
الطبيب : إذن تنام أحيانًا.
المريض : طبعًا … سبحان مَن لا ينام … أحيانًا أنام نومًا عميقًا جدًّا …
الطبيب : ولكن متى نهارًا أو ليلًا؟
المريض : كلا … لا ليلًا ولا نهارًا، ولكن عندما يأتي النوم …
الطبيب (ضاحكًا) : ما عمرك الآن؟
المريض : هذه مسألة لم أعرفها بالدقة، على الرغم من أنني حاولت كثيرًا أن أهتدي إلى حقيقة سني من المرحومين والدي فلم أنَلْ مرامي! وليس لديَّ شهادة ميلاد!
الطبيب : من أربعين إلى خمسين؛ أي منتصف العقد الخامس.
المريض : يجوز وربما كنت أصغر من ذلك بقليل أو كثير!
الطبيب : ثم ماذا تشكو بعد ما ذكرت؟
المريض : عصفورة قلبي يا دكتور ترفرف.
الطبيب (مستسلمًا) : هل شهية الطعام لديك حسنة؟
المريض : آكل كل شيء وفي أي وقت لأن البَطَر حرام. وربما أفطرت أو تغديت مرتين، ولكن عشائي نادر جدًّا.
الطبيب : هل سبق لك أن مرضت في صغرك بإحدى الحميات الحادة؟
المريض : كثيرًا جدًّا يا دكتور، كل أنواع الحميات وخصوصًا الزكام الشديد في أوائل الشتاء.
الطبيب : الزكام ليس حمَّى! أقصد الحمي القرمزية أو الحصبة أو التيفوس أو التفوئيد (يدق التليفون) نعم … ألو … أنا … متى يمكنك أن تحضري … فورًا بالعيادة.
المريض : لا بدَّ … لا يخلو الأمر في الصغر … لكن الزكام …
الطبيب : هل وراثتك نظيفة أو ملوثة؟
المريض : الحمد لله على كل شيء. مات المرحوم والدي ولم يترك لي شيئًا؛ لأنهم قالوا أن لا تركة إلا بعد وفاة الدين وفعلًا سدَّدناه.
الطبيب : لا أقصد هذا … ولكن أسأل إن كنت ورثْتَ مرضًا معديًا مثل الزهري أو السل؟
المريض : لا … لا يا دكتور الحمد لله … أظن والدي كان أُصِيب بشيء من هذا القبيل، ولكنني لم أرث منه شيئًا.
الطبيب : هل أنت متزوج وعندك أولاد؟
المريض : عندي أولاد ولكنني لم أتزوج.
الطبيب : عندك أولاد ولم تتزوج! … فمن أين رُزِقَت بهم؟
المريض : من الزوجة الأولى ولم أتزوج بعد أن طلقتها.
الطبيب : هل تعيش الآن حياة عائلة أو بمفردك؟
المريض : طبعًا كل إنسان له بيت.
الطبيب (بيأس مع إظهار الحلم) : ما صناعتك؟ ما عملك اليومي؟
المريض : أنا إيرادجي.
الطبيب : ماذا؟
المريض : إيرادجي؛ أي أعيش من إيرادي الخاص الذي تركه لي المرحوم والدي.
الطبيب (يضحك) : حسن … اخلع ثيابك العليا (يفعل ذلك فيفحصه الطبيب فحصًا عاديًّا، وفي هذا الوقت يكون المريض قد أخرج لسانه وأغمض عينيه ومد ذراعه الأيمن بغير طلب من الطبيب) أدخل لسانك وافتح عينيك واقصر ذراعك فلا لزوم لهذا الآن (يجلس ويكتب له تذكرة الدواء) تأخذ ملعقة من هذا السفوف ثلاث مرات في اليوم، وتشرب جرعة من الشراب قبل النوم.
المريض (بعد سكوت) : وما العمل الآن؟ إنني لم أشعر بالشفاء!
الطبيب : طبعًا ستشعر به بعد أخذ الدواء.
المريض (بتردُّد) : هل انتهت العيادة؟
الطبيب : طبعًا (ينظر في ساعته قلقًا) لقد مضى أكثر من ربع ساعة على نبأ حضورها ولم تحضر!
المريض (يمد يده بنقود قليلة) : تفضل يا دكتور.
الطبيب : ما هذا؟
المريض : أنا لا أقصد أن هذا قيمة الفيزيتة، ولكن أجر مركبة لانتقال سعادتك.
الطبيب : مركبة لي أو لك! أنا لم أنتقل بل أنت في حاجة للانتقال فأبقِها معك.
المريض : أبقاك الله يا دكتور (يحيي ويخرج فيشيعه الطبيب بأدب وابتسام، ويعود فيدوِّن في سجله، وعند اشتغاله بذلك يدق التليفون فيتناول السماعة).
الطبيب : ألو … ألو ٧٧٧٧ نعم أنا الدكتور نفسه … نعم متذكِّر … متى الحرارة هبطت؟ … عظيم يستمر على الدواء نفسه والغذاء شوربة خضروات مع مغلي الشعير اللؤلؤي … أربعة أيام أخرى … نهارك سعيد (لنفسه) ظننتها هي التي تتكلم لتخبرني بعدولها … إن حديثها الأول يدل على شدة انفعالها! (يفتح باب الغرفة وتدخل ملكة بحالة انفعال شديدة فينهض للقائها) ما بك؟ … لقد شغلتِني عليك. ماذا جرى؟ أين عبد الحكيم؟ هل يشكو شيئًا؟ منذ تكلَّمت بالتليفون لعشرين دقيقة خلت، وأنا انتظرك على الجمر، وقلبي شديد الخفوق كأنني أتوقع أمرًا خطيرًا.

المنظر الثاني

ملكة (تجلس) : كلا … اطمئن على عبد الحكيم فإنه بخير. أما أنا فقد تمزَّق قلبي إربًا من شدة الانفعال والألم. إنني أشعر بدنوِّ أجلي … لا بدَّ أن أموت قريبًا جدًّا لأنني لم أعد أستطيع تحمُّل هذه الحال.
الدكتور : أية حال؟
ملكة : حياتي المنزلية في كَنَف هذا الوحش المستتِر بشكل إنسان.
الدكتور : هل جدَّ شيء منذ زيارتي في يوم الجمعة الماضي؟
ملكة : نعم جدَّت أشياء وأشياء (تدنو منه وتحادثه بصوت منخفض).
الدكتور (مشمئزًّا) : مهما يكن ما حدث فظيعًا فخفِّفي عنك، فإن بِنْيَتَك ومزاجك لا يتحملان هذا الانفعال الشديد المستمر.
ملكة : ولكن ماذا أفعل؟ أغثني … فكِّر معي … دبِّر لي حيلة … ابحث لي عن مخرج من حياتي مع هذا المخلوق الفظيع الجشع الأناني.
الدكتور : ماذا تريدين أن أفعل؟ اطلبي منه الطلاق بإلحاح … اجعلي بينك وبينه وسطاء.
ملكة : هذا حلم لا يتحقَّق؛ لأنه لا يريد كما قلت لك في يوم الجمعة … إنه ليس متعلِّقًا بي بل بدخلي ومالي. فهو لا يريد أن يطلِّق الأطيان ولا أرى فائدة في المقاضاة؛ لأنها طويلة الأجل مملَّة مبدِّدة للمال والأمل. وربما متُّ قبل الوصول إلى الأحكام النهائية التي تُعِيد إليَّ حريتي ومالي.
الدكتور : إذن اتركي المنزل واذهبي إلى مكان آخر. فلعله يطلقك إذا غبتِ عن نظره وفقد الأمل في استرجاعك.
ملكة : أغضب كما يفعل نساءٌ من الطبقات النازلة من الشعب! أنا لا أعرف الغضب على هذه الصورة. وافترض أنني فعلت ذلك، فأين أذهب؟ إن أبي مات وبيته مغلق وليس لي صديق أو حبيب من أهلٍ أقربين أو غير أقربين.
الدكتور : هنا في بيتي، فإنه مفتوح على مصراعيه للترحيب بك وبولدنا.
ملكة : هنا في العيادة! كيف ألجأ إلى العيادة؟ إنه مكان عامٌّ ومحل مطروق يغشاه القاصي والداني! فالحياة فيه لي ولطفلي غير ميسرة.
الدكتور : إذن (ينهض ويسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا بانفعال).
ملكة : إذن ماذا؟
الدكتور : انتظري قليلًا (يدق الجرس فيدخل صالح خادم العيادة، وهو نوبيٌّ في ثوب أبيض ومُتمنطِق بحزام من قماش أحمر) اعتذِرْ إلى حضرات الزائرين، وأخبرهم أنني مشغول ومتعب، ولن أستطيع للأسف أن أقابل أحدًا. ومَن شاء منهم فليتفضل بالحضور غدًا قبل الظهر.
صالح (ينحني) : سأفعل يا سعادة البيك (يخرج).
ملكة : ألأجلي فعلت هذا وضحيت بعيادتك الليلة؟
الدكتور : كلا … لأجلهم … لأجل هؤلاء المرضى، فإنني لا أستطيع أن أفحصهم وأنا مشغول البال، ولا يمكنني إرجاء المناقشة معك فيما حضرت بسببه. إنني أمدك بما تطلبين من المال. أعطيك ما تشائين من دخلي. خذي كل شيء وأنا يكفيني القليل.
ملكة (تقف) : عبد الحكيم … عبد الحكيم … ماذا تقول؟ تفعل بي حسنة وهي التضحية بوقتك وعملك … وتتبعها بسيئة فتعرض عليَّ العطاء. هل جئتك مستنجدة للمال؟! … كلا … هذا قول شديد يجرح حاسة العفَّة والإباء. ولم أعهدك قاسيًا تهرق دماء الكرامة لمن يحبك مخلصًا.
الدكتور (مرتبكًا ويدنو منها مطيِّبًا خاطرها) : عفوًا … عفوًا يا عزيزتي … لم أقصد أن أجرح عاطفتك، ولكنني في مجال الاقتراح واستعراض الحلول الملائمة لما نحن فيه. تكلَّمي أنت … قدِّمي رأيك … ماذا تريدين أن أفعل؟ (تجلس راضية).
ملكة : انظر أنت في نفسك، كيف تستطيع أن تساعدني للخروج من هذا المأزق الحَرَج؟
الدكتور : إذن افترضي أننا لم نلتقِ وأنا أنسحب من حياتك، فلعل تجديد معرفتنا هو الذي أقلق راحتك واهتاج عواطفك الكامنة؟ لعلك كنت قبل لقائنا راضية بقسمتك كما كنتُ أنا راضيًا؟
ملكة (بحدَّة) : ما شاء الله! طبعًا أنت تفكر الآن في قطيعتي! فربما سئمت لقائي ومشاركتي في الرأي. فأنا بلا ريب أضيِّع وقتك الثمين وأشغل فكرك بعد أن كان خاليًا. فقد أعدتُ إليك ذكرى الماضي وهو أليم، وشغلتك بالمستقبل وهو خفي مظلم. وربما ظننتَ أيضًا أنني أريد أن أضع على كاهلك ولدًا كنتَ بوجوده جاهلًا، وعن أمه منصرفًا.
الدكتور : ملكة … ملكة ماذا تقولين؟ ما هذا؟ أنت محمومة يا حبيبتي (بتأثُّر جدًّا) أنا أريد التخلُّص منك ومن ولدك! ولدي … كبدي … قلبي … أملي في الحياة. صورتي في طفولتي … ثمرة حبي الأول والأخير … إنه جنون … مري … تكلمي … ماذا تطلبين؟ لقد عرضت عليك كل شيء … إني متأهِّب لأنفِّذ لك كل ما ترغبين.
ملكة : كل ما أرغب … لا أرغب شيئًا سوى الخلاص … الخلاص من هذه الحياة. أيهون عليك ولدنا عبد الحكيم، تتركه مع ذاك الرجل يتربَّى في منزله، وهو ليس له والدًا ولا قريبًا حتى ولا في حكم الصديق؟
الدكتور : أترك عبد الحكيم كيف؟ وأين أنت إذن؟ هل عبد الحكيم في بيت ذاك الرجل بمفرده؟
ملكة : أنا! … أنا … لا تذكرني بعد اليوم فليس لي وجود … بل إن حياتي أفضل منها العدم. وإما أخلص من عِشرة هذا الرجل ونعيش معًا وابننا العزيز الوحيد، فيعرفك ويتأكد أنك أنت والده، ويتمتع بحنان الأبوة الصادقة التي عاش منها حتى الآن محرومًا في كنف ذاك العُتُل البغيض ذي القلب الخالي من الرأفة والحنان. وبهذا نكون قد التمسنا وسيلة لإصلاح الخطأ الذي قضت علينا الأقدار به فاقترفناه. ونحن في غرور الصبى وطيش الشباب. إما هذا الحل وإلَّا فإني باخعة نفسي. حقًّا إن قتل النفس مجبنة، ولكن في حالتي هذه الموت أفضل ما يريحني.
الدكتور : الانتحار … تقضين على نفسك بيدك! إنك لا تدركين معنى ما تقولين! أتقضين على ثلاثة نفوس؟ أنت وولدك وأنا!
ملكة : أنت تعيِّرني بفكرة الانتحار مع أنك أوجدْتَها في نفسي مذ كنا في حوار حول موضوع سعادتنا. فهدَّدتني به إذا لم تنجح في إقناع والدي بالموافقة على زواجنا.
الدكتور : حقًّا لقد كانت الحياة هيِّنة في نظري إذا حُرِمْت السعادة بقربك.
ملكة : والآن صارت هذه الحياة بذاتها غالية؛ لأنك صرت ذات مكانة سامية.
الدكتور : أبدًا … أبدًا ولكني ربما كبر شأن الحياة في نظري؛ لأن صناعة الطب تعلِّمنا احترام الحياة الإنسانية، ولأنني الآن أخدم الكثيرين وأخفِّف من آلامهم ما استطعت. وليس هذا بالأمر الهيِّن. وأيضًا كبر شأن الحياة في نظري من أجلك وأجل ولدنا، فقد لقيتكما بعد الفراق الطويل وبعد اليأس من الهناء بقربك.
ملكة (بعد تفكير ونظرٍ حولها في عدد الجراحة ودولاب الأدوية) : إذن لا توجد سوى طريقة واحدة.
الدكتور (بفرح) : ما هي؟
ملكة : طريقة العلم الحديث.
الدكتور (بدهشة) : أية طريقة للعلم الحديث؟!
ملكة : ألم يخترع العلم الحديث طريقة؟
الدكتور : العلم الحديث! أية علاقة بينه وبين الزواج والطلاق؟
ملكة : ليس في استطاعتي أن أعبِّر عما في ضميري بأوضح من هذا.
الدكتور : ولكنني لم أفهم حتى الآن مقصدك!
ملكة (بتململ) : سأفصح لك … ألمانيا التي اخترع علماؤها دواء لكل داء … ألم يخترعوا وسيلة لخلاص امرأة ضعيفة مثلي من براثن وحش كاسر كذاك الرجل؟
الدكتور (بوجل وذعر) : ماذا تقصدين؟
ملكة : هل حياة مثل ذاك الرجل تستحق الاحترام؟ ماذا علينا لو …
الدكتور : لو! … لو ماذا؟
ملكة : لا أدري ماذا أقول لك بعد ذلك؟
الدكتور (محدِّقًا فيها ومأخوذًا من هول الاقتراح وفظاعته) : يا لطيف! يا ملكة … هل بلغت بك الحال النزول إلى هذا الدرك الأسفل من الخلق؟ أتطلبين مني أنا هذا الطلب؟! ارجعي إلى رشدك، ولا تجعلي للبغض سلطانًا على نفسك.
ملكة : هذا ليس بغضًا يُعمي ويصم، ولكنه الحب الأعظم لك ولولدنا. أنا مسكينة أنا معذبة أنا محرومة من الحنان حولي ومن العطف عليَّ وعلى ولدي. انظر إلى جسمي ووجهي! لقد أمسيت من فرط الهم والنحول في دور الفناء … وأنا لا أزال في مقتبل العمر.
الدكتور : ولكن أنتِ التي تحبيني وتحبين ولدك، كيف يخطر ببالك ويدخل في روعك أمر كهذا الذي ذكرت؟!
ملكة : ولكن هل فهمت مقصودي؟
الدكتور : فهمت ما فهمت ولا حاجة بنا إلى التفسير.
ملكة : لقد تكلم معي منذ أيام عن صحته وهو في حاجة إلى العلاج بحقن للتقوية … وطبعًا هذه الحقن تُوجَد في أنابيب … وهي إن زادت عن مقدارها المُعيَّن لكل حالة فقد تُورِد المحقونَ بها موارد حتْفِه. وأنا التي أقوم له بتفريغ هذه الحقن بين جلده ولحمه. فإذا ما سلَّم إليَّ ذراعه الضخم آمنًا أفرغت فيه سمًّا زُعافًا مهلكًا لا يظهر له أثر كغيره من السموم.
الدكتور : أنت مجنونة! … لقد فقدتِ عقلك … إن فقر الدم وتحمل الهم فَعَلَا بك فعلهما؛ فأورثاك هذه الحال التي هي أشبه بالاستهواء الذاتي أو بُحْران الحمى منها بأي شيء آخر. فقومي إلى الهواء الطلق وانزعي من فكرك هذه الهواجس المزعجة (يسرع إلى النافذة فيفتحها فيدخل الهواء باردًا؛ فتهتز ملكة كمن أصابه قشعريرة البرد، فيلمس عبد الحكيم زر الكهرباء فيدخل صالح) أحضر فورًا قدحًا من شراب الليمون المثلوج (يخرج صالح).
ملكة (ناهضة) : أستودعك الله الآن يا دكتور … فقد عرفت ما كنت أريد الوقوف على حقيقته.
الدكتور : إلى أين تذهبين؟
ملكة : لأرى عبد الحكيم فقد طال عليه الانتظار.
الدكتور : أين هو؟
ملكة (تتردد) : في السيارة مع نعيمة أمام الباب.
الدكتور : في السيارة كل هذا الزمن؟ لا بدَّ أن أراه (يدخل صالح حاملًا شراب الليمون المثلوج) يا صالح ادْعُ المربية التي في السيارة إلى هنا ومعها السيد الصغير الذي تحرسه (يخرج صالح بعد أن يضع الشراب على المائدة).
ملكة : لماذا تحضره؟ هل بلغ بك حبه درجةً يهمك معها أمره؟!
الدكتور : يا ملكة … اجلسي … اسمعي وتعقلي … أنا رجل شريف ورأس مالي شرفي في صنعتي.
ملكة : وهل مسسْتُ بسوءٍ ذلك الشرف؟
الدكتور : فلنضرب صفحًا عما إذا كنتِ مسسْتِ أو لم تمسسي … إنني منذ تقابلنا بعد فراقنا الطويل محافظ على شرفك بوصف كونك زوجة لرجل آخر، ولم أحاول يومًا أن أحط من كرامتك.
ملكة : لا فائدة تُرجَى من الكلام عن الكرامة وعن الرجل الآخر؛ لأن الفرق بيننا في هذه المسألة شاسع، ومسافة الخُلْف لا حدَّ لها. إن كرامة المرأة هي الحب والسعادة، وليس في قلبي متسع لغيرهما. وها أنا قد خاب رجائي للمرة الأخيرة في الحب والسعادة.
الدكتور : ولكنني نسيت نفسي في سبيلك، ومحوت اسم السعادة من صفحة حياتي لأجلك، ولم أرد قط أن أعرف امرأة سواك فلم أتزوج.
ملكة : وماذا يعوقك عن الزواج؟ أما وقد فكرت فيه فأنت تطلبه!
الدكتور : إن قلبي لا يتسع للحبِّ مرتين. فلما اختبرت حظي في المرة الأولى، عولت على أن لا أعيد الاختيار مرة ثانية.
ملكة : ولكن هذا القلب الذي أحبك ولا يزال مشغوفًا بك (تبكي بكاءً مرًّا) فارحمني ودع هذا الحب القوي يعيد سيرته الأولى.
الدكتور (يدنو منها متأثِّرًا) : ولكنني يا ملكة لا أستطيع أن أستعيد عهد الحب الطاهر النقي الشريف بجريمة ممقوتة شنعاء، تلوِّث أيدينا وتقتل ضمائرنا وتنغص عيشتنا … فابحثي عن حل آخر … انظري في وسيلة أخرى، فإني قابل بها مهما تكلِّفني من الوقت والتضحية بالمال. ولكن بعدًا وسحقًا لذلك الخاطر الذي طرأ على قلبك (تجلس كمن تقبل عذرًا مؤقتًا، ويدخل صالح ومعه نعيمة تحمل الطفل، فيقصد إلى والدته ثم يرى الدكتور فجأة؛ فيلقي بنفسه بين يديه، فينسحب صالح، وتشير ملكة على نعيمة بالانسحاب).
الولد : هذا منزلك يا عمي؟
الدكتور : نعم يا حبيبي.
الولد : أريد أن ألعب هنا في منزلك وآخذ هذا وهذه وذا وهذه (يمد يده إلى المكتب ويأخذ تمثالًا صغيرًا وقلمًا ومقصًّا وصورة ويجمعها في يديه، ويصعد على كرسي ويُحدِث انقلابًا في الأشياء الموجودة على المكتب، وفي أثناء ذلك تنزل دموع صامتة من عيون الأم والدكتور يطرق برهة وينظر برهة إلى الطفل وهو يلعب لاهيًا).
ملكة : ولكن أنت أخطأت قصدي … وأريد أن تفهم غايتي جيدًا.
الدكتور : تكلمي … أفصحي … أريد أن أفهم أكثر مما فهمت.
ملكة : نحن لا نريد أن نرثه في أطيانه وماله … فإن تركته لأهله وقومه الذين يحبهم ويحبونه … أما نحن فلا نريد إلا الخلاص منه.
الدكتور : كيف تكون لأهله وقومه؟! ألست زوجته وهذا الطفل البريء منسوب إليه؟
ملكة : سأبوح لك فيما بعد بسرٍّ تُدهَش له، ويكفي الآن أن تعلم أننا لن نرثه، وأنني لا أريد إلا الخلاص.
الدكتور : هذا هو ما فهمت ولم يخطر ببالي أنك تريدين أن ترثيه؛ لأنك قنوعة وقد عرفت ذلك فيك منذ الصغر.
ملكة : إنني لست متمتعة بنفسي ولا بولدي. وأعيش كل يوم عيشة الرهبة والإرهاق. خمس سنين قضيتها على هذه الحال.
الدكتور : لقد خطر ببالي فورًا حلٌّ لهذه المعضلة.
ملكة (بانفعال) : ما هو؟
الدكتور : ندبِّر طريقة لخطف الولد.
الولد (متنبِّهًا فجأة) : ولد من يا عمي؟ لماذا تخطفه؟ وممَّن تخطفه؟
الدكتور : الولد الذي رأيت صورته في المرآة يا عبد الحكيم (نحو ملكة) ونضعه في منزل خاصٍّ مع خدم مخلصين لنا. وأتولى أنا جميع شئونه ولك أن تزوريه في أي وقت شئت.
ملكة : إذن أنت تريد تخليص الولد لا تخليصنا معًا. ففكرت في طريقة إنقاذه وضربت صفحًا عني أنا، كأنني عقبة كئود في سبيل تربيته. مع أنني لم أشكُ لك عجزي عن القيام بشئونه، ولكن أريد الحياة سعيدة معه في قربك.
الدكتور : هذا آخر ما فكرت فيه، وليس لدي طريقة غيرها.
ملكة : فلنفرض أننا نفَّذنا هذه الفكرة بحذافيرها، فمَن يدرينا أن ذاك الرجل لا يحاول أن يظهر بمظهر الشهم البطل فيأخذ في البحث حتى يهتدي إلى مقره فيلحقك بسببنا أذًى وتكون عند ذلك فضيحة مزعجة.
الدكتور : هذا صحيح، ولكن الفضيحة مهما كانت مزعجة فإنها أخف من الجريمة. فإن خطف الطفل أهون من قتل رجل. على أن الطفل سوف يكون مكرَّمًا معزَّزًا ثم نترقب الحوادث وننتهز الفرص، فلعل الله يهدي صاحبنا فيطلقك من تلقاء نفسه.
ملكة : لقد فكرت في هذا، بل في أكثر من هذا، وقلت صبرًا لعله يُصاب بداء وبيل.
الدكتور : وهل تمنَّيت له الأمراض كلها، أو تمنَّيت له مرضًا معينًا.
ملكة : ومع ذلك فلو مرض فإنك بلا ريب ستكفل علاجه.
الدكتور : كلا … سوف أنسحب؛ لأنني إذا تقدَّمت لعلاجه فلا بدَّ أن أنصحه وأُخلِص له في العمل، وعسى أن يُشفَى من دائه.
ملكة : هذا حلٌّ جميل هادئ. ولكنه يحتاج إلى الصبر العميق والعمر الطويل. وصبري قد نَفِد وعمري قصُر.
الدكتور : أنت متوهمة.
ملكة : هل هذا آخر رأي عندك … خطف الولد والقيام بخدمته؟!
الدكتور : نعم … هذا أقصى ما أستطيع. وقد عوَّلت قبل إبدائه على أن أقف حياتي على راحته وخدمته والصبر مِفتاح الفرج.
ملكة : اسمع … أنا حضرت إلى هذا المكان لغاية واحدة؛ هي أن أعرِّف هذا الولد بأبيه وأجعله يحبه، وقد كشفت عن قصدي لذاك الرجل. فقد قلت له لا بدَّ أن أعرِّف هذا الطفل بأبيه ليتمتَّع بحبه.
الدكتور : أقلتِ له هذا القول؟
ملكة : نعم.
الدكتور : فماذا قال لك؟
ملكة : ماذا تظن أنه قال؟ لقد حسب أنني سأعلِّم الطفل محبَّته هو، ولم يمر بفكره خاطرٌ غيره.
الدكتور : ما أشد تهوُّرك! العقل بركة يا ملكة.
ملكة : إن كان العقل بركة واحدة فالحب بركتان. والآن أدركت حقيقة مركزي، فإنني وإن كنت امرأة، فقد وجدت في نفسي شجاعةً كافية، فاحتفظت بشرف أمومتي. صحيح أنني أخطأت إذ قبلت الزواج في تلك الحالة التي أنت عالم بها، ولكنني كنت في مأزق حرج، محصورة بين أمرين كلاهما شديد الخطر؛ الأول: قتل الجنين وتعريض حياتي للضياع وفقد الشرف، والثانية: دخول منزل الزوج بحالتي. وهذا أمر شنيع لا أزال أقشعر منه كلما ذكرته. ولكن ما حيلتي لقد اعترفتُ لوالدتي وأشرت لأبي من طرف خفي بل هددتهما بالانتحار. وفعلًا حصلت على سمٍّ ونويت أن أشربه لأخرج من الحياة بأسرها، ولكنني لم أستفد شيئًا من هذا كله، وذهبت متاعبي أدراج الرياح. فلما غلبتني الحوادث وناءت عليَّ بثقلها، استسلمت لحكم القضاء والقدر، وعملت برأي والدتي الصالحة اليائسة.
الدكتور : وهل كان رأيها؟
ملكة : نعم لقد كان رأيها، وعملت به فعشت هذه السنين الخمس في حلم مزعج (تبكي).
الولد (يسرع إليها ويطوقها بذراعيه) : ماما … ماما … ماذا يبكيك؟
الدكتور (يتأثُّر وينهض ويسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا) : أنا المسبب لهذه المصائب كلها. جنيت عليك في سبيل حبي، وهوَّنت عليك علاقةً أنتجت كلَّ هذه الآلام! ولكن يا حبيبتي إذا افترضنا أن العلاقة الأولى جريمة في سبيل الحب، فكيف نمحو أثرها بجريمة أخرى؟
ملكة : حاشا لله أن تظن أنني أريد أن أحمِلَك على إتيان أمر يخالف ضميرك وشرف صناعتك. إنما أقصد أن أتقي جرائم عدة ومصائب متتابعة. فلا بدَّ أن أقتل نفسي بعد الخروج من هنا؛ إذ ما قيمة الحياة بعد الذي جرى (يتكئ على النافذة ثم يفيق لدى سماع كلامها الأخير).
الدكتور : حذار من هذا التفكير فيما تقولين! فقد ظننتك مازحة!
ملكة : مازحة … أنا! تقول هذا وأنت الذي عرفتني منذ الصغر. نعم إنني كنت أحب المرح وأميل للهو، الحياة البريئة، فأروِّح عن نفسي بالدعابة والممازحة، ولكن الآن من أية الطرق يأتي قلبي الفرحُ وأنا أقضي معظم أيامي في همٍّ وغمٍّ لا يفارقني الأسى إلَّا إذا نظرت إلى ولدي واهتممت بشئونه. فأنا إذن غير هازلة ولا مازحة فيما اعتزمت تنفيذه (ملتفتة إلى ولدها فجأة) عبد الحكيم، حبيبي هل أنت مدرك كل ما تعانيه أمك في سبيل راحتك؟
الولد : ماما …
ملكة : هيا بنا إلى منزلنا فقد دخل الليل علينا.
الولد : اتركيني هنا يا ماما أنام عند عمي.
الدكتور (بانفعال واضطراب) : طيب يا حبيبي ابقَ هنا، ونم عندي ودع ماما تذهب وحدها.
الولد : ماما تذهب وحدها عند نعيمة والدب!
ملكة (بدهشة) : أي دبٍّ تعني يا حبيبي؟
الولد : الدب الذي ألعب به … الذي لا يتكلم ولا يضحك.
ملكة : كان هذا قصدي وقد سعيت له … أن نبقى هنا أنت وأنا.
الدكتور : ملكة … إن كان هذا قصدك حقًّا فلا بدَّ أن أنفِّذه مهما يكن في الأمر من خطر. أعطيتني حياتك وأغلى ما عندك. وأنا إذ ذاك شاب صغير بائس وأنت سعيدة وغنية. لقد استهنت بكلِّ شيء في سبيلي، فهذا دَيْن لك عليَّ فلا بدَّ أن أسدِّده.
ملكة (تُدرِك معنى قوله وتلمَح التصميم على مطاوعتها في عينيه فتدنو منه وتأخذ بيده فيتخلَّص منها بلطف) : لا … أنا لا أريد أن يكون عزمي وليد فكرتك، بل أقصد تكوين عقيدتي بعيدًا عن المؤثِّرات الخارجة عن إرادتي.
أحقًّا عزمت على خلاصنا من الحال التي نئنُّ من حملها؟
الدكتور : أنا عزمت ولكن الخلاص ليس بيدي.
ملكة (تفتح حقيبتها الصغيرة باضطراب، وتخرج منها طردًا صغيرًا، وتمدُّ به يدها إلى عبد الحكيم) : أنت وحدك صاحب الحق في هذا الطرد الصغير بما يحتوي!
الدكتور (يتناول الطرد ويفضُّه بانفعال فيجد به قنِّينتين صغيرتين وخطابين مغلقَيْن فيفحص القنِّينتين) : سلماني مُركَّز وسيانور البوتاس! مَن أعطاك هذا السم الزعاف؟ خطابان أحدهما باسمي والآخر باسم زوجك (يفض الخطاب الأول) هذه شهادة ميلاد عبد الحكيم. ماذا أقرأ؟ اسم الوالد عبد الحكيم … صناعته طبيب. اسمي أنا … لقد نسبت الولد إليَّ بدون عقد زواج بيننا! … كيف تسنَّى ذلك لك؟
ملكة : هذا سري الذي لن أبوح لك أو لسواك به … فقد أقسمت على كتمانه للأبد.
الدكتور (يستمر في قراءة الخطابين) : هكذا كل شيء أوضحته بالتدوين في الورق! إن الخطاب المرسَل إليَّ معلوم غايتك منه. ولكن زوجك لماذا تُطلِعينه على تاريخ المسألة فيعرف فجأة أنني أبو الولد؟
ملكة : لأجل أن لا يحتفظ به ويسلمه إليك بغير منازعة، فيرتاح ضميري وأرقد هادئة تحت الثرى، وليعلم أيضًا أنني كنت زوجته بالاسم فقط، وأنه كان مكروهًا طول مدة قِرانه.
الدكتور (يقلِّب نظره في الخطابين ويضع القنِّينتين في دولاب الأدوية ويغلقه بالمفتاح) : هذه أعمال لا تصدر حقًّا إلَّا عن نفس يائسة (يغلق النافذة ويطرق مليًّا، ثم يرفع رأسه كمَن أدرك حقيقة يريد التصريح بها).
ملكة : ما لك مُعرِض عني؟! هل ندمتَ على إخلاصك لي؟ هل عدلت عن معونتي؟
الدكتور (كأنه يخاطب شخصًا أمامه) : كل شيء يأتيه المرء في مَيْعَة الصبا لا بدَّ أن يدفع ثمنه في الكِبَر باهظًا؛ لذا سأدفع عن خطئي في الصغر أعظم ما يستطيع المرء دفعه من ثمن. حياتي كلها ومستقبلي. فاعلمي أنني اليوم أحبك مثلما أحببتك فيما مضى، وقد وهبتك نفسي، وروحي وقلبي جعلتهما لك فِدًى … (يأخذ الولد بين ذراعيه ويقبله ويبكي).
(ستار)

الفصل الخامس

(الوقت الساعة الأولى من صباح يومٍ من أيام الربيع في العوامة [محاسن] ملك مرعشلي باشا مربوطة على ضفة النيل الشرقية بين كوبري البحر الأعمى وكبري الزمالك، وهي مكونة من طبقتين؛ السفلى وفيها المدخل ونوافذها مضاءة وتبدو فيها حركة خدم يذهبون ويجيئون يحملون مستلزمات الحفلات، والطبقة العليا مضاءة بأنوار ذات جملة ألوان ومفروشة بأثاث الجلوس ومُزدَانة بشجيرات خضراء في براميل من الخشب وقد نُشِرَت أمامها الأعلام. وبالعوامة حفلة استقبال وغناء شرقي؛ سرورًا بالإنعام على مرعشلي بك برتبة الميرميران الرفيعة الشأن. وعند رفع الستار تُسمَع نغمات الموسيقى الشرقية يوقِّعها جماعة من الآلاتية. وقد جلس على المقاعد المصففة حول بعض الموائد بشكل بوفيه أو مقصف، جماعةٌ من المدعوين البكوات والأعيان بملابس السهرة وبعض مشايخ وهم يتكلمون ويضحكون ويتناول بعضهم صنوفًا من الحلوى والفاكهة. ويدخن البعض الآخر سجاير لفافات من الطباق من نوع هافانا، والبعض جالس والبعض واقف، وبالجملة تدل الحركة في الطبقتين على أن العوامة ومَن فيها في أواخر حفلة كبرى لا تزال آثارها.)

المنظر الأول

مرعشلي (وقد لبس بذلة سموكن من صنف جيِّد وياقة متوسطة، وهو يشعر بأنها ثياب غير لائقة به؛ فيلمس ظهره تارة، وطورًا ينظم ربطة الرقبة، ويظهر قلقه على الزهرة البيضاء التي ازدانت بها عروة سترته العليا، فيتقدم إلى الدكتور عبد الحكيم ويوجِّه الحديث إليه) : لقد أنِسْنا بلقائك كثيرًا يا حضرة الدكتور (يقدم له سيجار هافانا).
الدكتور (يهمُّ بالوقوف) : شكرًا لك يا سعادة الباشا. أنت تعلم أنني لا أدخِّن (يخرج ساعته من جيبه وينظر فيها) وأرجو أن تسمح لي بالانصراف، فإننا في الساعة الواحدة بعد نصف الليل.
مرعشلي : الانصراف من هنا! في مثل هذه الليلة المباركة! لقد بذلتُ وُسْعي في الاستعداد لراحتك؛ فأعددنا لك أفضل الغرف لتقضي فيها هذا الهزيع الأخير من الليل.
الدكتور (بتردُّد) : لا بأس.
مرعشلي : أكرمك الله كما أكرمتنا.
الدكتور : أرجو أن تأمروا إدريس أن يحضر لي الحقيبة الصغيرة من سيارتي، وأن يُودِعها الغرفة التي تفضلتم عليَّ بها.
مرعشلي : لك ذلك (يشير إلى أحد الخدم ويهمس في أذنه).
الدكتور : المنظر هنا جميل جدًّا … الطبيعة في غاية العظمة.
مرعشلي : بالطبيعة يا أفندم هذا من بعض فضلك، لا سيما المصابيح فإنها من ألوان متعدِّدة؛ الأحمر، والأخضر … و…
الدكتور (مبتسمًا) : لا … أقصد النيل وهو زينة مصر كلها، والأشجار الباسقة في ضوء النجوم، وسكون الليل وتلك الضفة الهادئة.
مرعشلي : والكواكب والنجوم الزاهرة …

المنظر الثاني

أحد المدعوين (يدنو منهما) : إن شاء الله يا سعادة الباشا.
مرعشلي : العفو … العفو … والله إنني أخجل عند سماع التفخيم بها. الباشا جاء والباشا ذهب. رتبة البيك لا يوجد أفضل منها وصاحبها مستور. أما الباشوية فمنظور إليها بعين التعظيم؛ وذلك لنذرة الباشاوات في البلد.
أحد المدعوين : ولكن يا سعادة الباشا أنت لم تسعَ لها، بل جاءتك الرتبة تجرِّر أذيالها.
مرعشلي : سعادتك تستحق الباشوية أيضًا من زمن.
المدعو : إن شاء الله ربنا يحقق هذا الأمل. أنا مثل سعادتك لا أحب السعي في هذا السبيل.
عبد الحكيم : عند بلوغ الدعوة إليَّ حسبت أنكم تحتفلون بعيد ميلاد عبد الحكيم، وبعد ذلك فهمت الغرض.
مرعشلي : لا فرق بين فرحي وفرحه. لو علم أنك ستشرِّفنا هذه الليلة ما غمضت له عين؛ لأنه لا يفتأ يذكرك ليلًا ونهارًا قائلًا: عمي الدكتور … أريد أن أراه … أريد أن أزوره وألعب معه وأنام عنده.
الدكتور : يا الله؟ صحيح! … لِيحفظْه الله لوالديه، وليُقرَّ أعينَهما به.
مرعشلي : ومع ذلك سوف يراك غدًا في الصباح. لم يبقَ بيننا وبين النهار إلا وقت قصير. إن غدًا لِناظِرِه قريب (هنا تدق الآلات أنغامًا ختاميَّة ثم يأخذون في الانصراف، ويبدأ الخدم في نقل بعض الأدوات التي لا لزوم لها).

المنظر الثالث

مدعو ثان (لمرعشلي) : نستودعكم الله يا سعادة الباشا، وإن شاء الله تكون الرتبة الرفيعة مباركة تجلب إليكم طول العمر والسعادة والخير العميم (ينصرف، ثم يتقدم بقية المدعوين وتحصل تحيات صامتة، وينصرف جميع المدعوين وينظر مرعشلي باشا للأنوار النظرة الأخيرة، ثم يتقدم إلى الدكتور ويضع يده في يده ويتجهان نحو السلم وينزلان، ويبقى سطح العوامة مضاء خاليًا، فيصعد بعد قليل بعض الخدم ويطوفون بالمكان ويطفئون الأنوار ما عدا نورًا ضئيلًا يبقى مضيئًا).

المنظر الرابع

مرعشلي (صاعدًا من سلم في الوسط بثياب النوم وعليها روب دي شامبر وعلى رأسه غطاء ويبدو عليه الأرق والألم والاضطراب) : آه … عندي أرق … أرق شديد من النوع الذي كنت أعانيه في السنة الماضية. وقد رأيت عندما اضجعت أبشع الأحلام وأفظع الرؤى. لا بدَّ أن يكون هذا نتيجة لعسر الهضم. هل أفرطتُ في الطعام يا ترى؟ يجوز فقد اضطررت للعشاء بضع مرات من قبيل المجاملة … ما العمل؟ الأكل كثير جدًّا والطهاة قد تفنَّنوا وأحسنوا صنع المآكل كلها … هل هذه تخمة أم أنا شاعر بالشبع الشديد من كثرة الفرح؟! إذن فلأنَمْ ولأتغلبنَّ على هذا الألم. وفي الصباح أسأل الدكتور عبد الحكيم فربما يشير عليَّ بجرعة نافعة (يسير قليلًا ثم يجلس ثم ينهض وينزل في بطْء وتؤدة).

المنظر الخامس

(يصعد على ظهر العوامة الدكتور عبد الحكيم ويسير بمفرده ذهابًا وإيابًا في ضوء ضئيل، ويبدو عليه القلق ويحاذر أن يدنو من الأماكن التي قد يراه فيها أحد، ثم يقف فجأة عندما يرى شخصًا صاعدًا فيتبيَّنه فإذا هو ملكة ملتفة بمعطف وعلى رأسها نقاب من الحرير الأسود، فيدنوان من بعضهما بعضًا في حذر واضطراب.)

عبد الحكيم : ملكة … ملكة
ملكة : هل أتاك خطابي؟
عبد الحكيم : طبعًا … ولأجل هذا حضرت. ولما ألحَّ عليَّ بالمبيت هنا منذ ساعة قبلت غير متردِّد ومع كوني متعبًا ولم يسبق لي المبيت على سطح الماء في عوامة كهذه، سيما وأن الإسراف في العمل والإفراط في التفكير والسهر قد أنهكا قوتي. ولكنني لم أستطع أن أخالف أمرك، وخفت أن تظني أني عدلت عن تنفيذ الخطة التي اتفقنا عليها في عيادتي.
ملكة : شكرًا لك … وطبعًا تسلَّمت الإشارة التي أودعتها غطاء الشفرة أمامك.
عبد الحكيم : لقد أخذتها في حذر، وعلمت أننا سنلتقي هنا في الساعة الثالثة بعد انصراف المدعوِّين.
ملكة : حبيبي … ما أشد وفائك!
عبد الحكيم (في جد وثبات) : كنت أنوي منعك عن المقابلة هذه الليلة … ولكني لم أتمكن من فرصة لقائك في الوقت المناسب لإرجائها. حتى إنني لم أستطع أن أطلب إلى البيك … أستغفر الله الباشا (تبتسم) أن يسمح لي برؤية عبد الحكيم نائمًا.
ملكة : كيف كنت تريد منع لقائنا؟ وما نحن موفَّقان إلى مكان وزمان أكثر ملاءمة لنا من هذا المجال في هذه الساعة.
عبد الحكيم : كنت أفكِّر في تأجيلها إلى يوم آخر غير هذا اليوم، وهو يوم حركة غير عادية.
ملكة : نؤجِّلها إلى متى؟ لقد نفد الصبر (تسعل سعالًا جافًّا فيوجس عبد الحكيم بإشارة منه خِيفة).
عبد الحكيم : بيْدَ أنَّني وإن كنت مثلك أميل إلى المبادرة في تنفيذ ما اعتزمنا، إلا أنني أخشى عليك خطر التعرُّض للبرد أولًا وثانيًا من أعين الرقباء.
ملكة : لا خوف عليَّ من البرد، وقد أحسنت التدثُّر قبل الصعود، ولم أكن نائمة فأخشى صدمة الهواء؛ لأن النوم لا يأخذ الآن بمعاقد أجفاني منذ صمَّمنا على تنفيذ فكرتنا. أما الرُّقَباء وهم من الخدم فقد ناموا ولا تزال نعيمة يقظة في خدمة الصغير. أما هو فإنه يغطُّ غطيطًا فظيعًا كعادته منذ أصابه دوار التخمة بعد انهماكه على موائد العشاء وتردُّده على المقصف مراتٍ لا عديد لها.
عبد الحكيم : ونعيمة … ما رأيك فيها؟ ألا تزال موضع أمانتك حتى النهاية؟ ألا تعلمين ما يتهدد السادة في أسرارهم من طائفة الخدم؟
ملكة : ليست نعيمة كغيرها من أهل هذه الفئة، وكفاني دليلًا على وفائها طول معاشرتها وصبرها على المكاره معي طول حياتي الشقية في عصمة ذاك الرجل، وقد كانت يدي اليمنى فيما مضى، وهي لا تزال كذلك مهما يحصل لي ولها، وإن تعلُّقها بعبد الحكيم كفيلٌ بإخلاصها.
عبد الحكيم : الرأي لك … ولكن الحذر أفضل من التهاوُن في مثل ما نحن فيه.
ملكة : أنا مسئولة عن أمانتها وصدقها.
عبد الحكيم (ينظر إلى الماء والسماء حيث يُوجَد ضوء الكواكب) : آه يا ملكة … كان أملي في الحياة أن تكوني لي وأن أكون لك، وأن تكون لنا عوَّامة كهذه نغشاها كلما شئنا في حرية واطمئنان، دون خوف واضطراب كالذي نحن فيه، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
ملكة : سوف يتم كل شيء على ما نروم، وإن شئنا في المستقبل القريب تكون لنا عوَّامة أفضل من هذه وأفخم رياشًا وأثاثًا وأجمل موقعًا.
عبد الحكيم : أحقًّا ما تقولين؟! هل تتحقق أحلامنا ويتحرك في سبيل سعادتنا ميزان القدر؟!
ملكة : نعم يا حبيبي سيكون لنا ما نتمنَّى … ولكن علينا أن نبادر إلى العمل فإلى التنفيذ بأسرع ما نستطيع وفي أقرب فرصة، فإن فرت الليلة من يدنا فقد ضاع الأمل.
عبد الحكيم (ينظر إلى السماء) : كلما أقلب نظري في السماء وأرى بريق الكواكب في القبة الزرقاء، يدركني حزن عميق وتتملك نفسي عوامل الألم.
ملكة : لماذا يعروك الحزن ويتولاك الجزع؟
عبد الحكيم : لأنني لم أبلغ في الحياة شيئًا إلَّا ذقت في سبيله صنوف العذاب. وأعظم أمل كان يضيء ظلمات حياتي وهو تمتُّعي بقربُك ومشاركتي إياك مسرات الحياة والسعي جهدي في إسعادك. حتى هذا الأمل قد خانتني فيه الأقدار.
ملكة : حبيبي هوِّن عليك. لقد أوشكت همومنا أن تنجلي. وها نحن قد دنونا من السعادة المنشودة.
عبد الحكيم : كلما أتخيَّل ذلك الأمر المرهب الذي نحن قادمون على تنفيذه، يقشعرُّ بدني ويضطرب قلبي وتهتزُّ نفسي، وأكاد أسمع من صدري صدى صوتِ الضمير الصارخ في أعماقها.
ملكة : هذه أوهام وهواجس يا حبيبي يصورها لك الخوف من القدوم على عمل تحسبه خطيرًا وتحسب نفسك عنه مسئولا. على أنني أنا وحدي المسئولة عن تنفيذه. كما أنه هو مسئول عن أسبابه. لقد جنى عليَّ وهو الآن يجني على نفسه.
عبد الحكيم : أنا أعلم ذلك؟ وقد حدثتِني بكل شيء؛ ولهذا صحَّ عزمي ولن أتردَّد.
ملكة : اسمع … كل شيء مُعَدٌّ للعمل.
عبد الحكيم (كمن يحاول تغيير وجهة نظرها) : ألا تخشين أن يفاجئنا أحد هنا؟
ملكة : لا تخشى مفاجأة … إن نعيمة بالمرصاد، وقد أمرتها أن تنبهني بإشارة متفق عليها بيننا لدى حدوث ما يُخشَى منه افتضاح أمرنا.
عبد الحكيم : أية إشارة؟
ملكة : انظر إلى هذه الفتحة (تشير إلى منور أو مسقط للنور في وسط السطح) إنها الآن مظلمة، ولكنَّ بها مصباحًا كهربائيًّا. فإذا شعرت نعيمة بحركة تشكِّكها فهي تبادر إلى إنارة المصباح؛ فأرى النور فجأة فأسرع إلى هذا الدَّرَج (تشير إلى السلم الخلفي) وهو أقرب سبيل إلى غرفتي.
عبد الحكيم : ولكن أنا ماذا أفعل؟
ملكة : أنت لا اعتراض على بقائك هنا بمفردك. فأنت رجل وأعزُّ الضيوف مكانة، ولك في أي وقت أن تنام أو تبقى ساهرًا. فلعلك تتأمل جمال السماء أو تتنشَّق هواء السحر.
عبد الحكيم : لقد فكرت …
ملكة : فيمَ فكَّرت؟
عبد الحكيم : في الأمر الذي تكلَّمنا فيه واتفقنا على تنفيذه.
ملكة : لقد انتهى دور التفكير ولم يبقَ إلا العمل. وأنا الليلة في انتظارك للانتهاء.
عبد الحكيم : وأنا أيضًا أنجزت إعداد الأنابيب وأحضرتها؛ لتعلمي أنني لا أتردد في الوفاء لك وقد صدقتك الوعد.
ملكة (بلهفة) : أعطني! هات … أين هذه الأنابيب التي أنتظرها بفارغ الصبر؟
عبد الحكيم : اصبري … اصبري … ها هي معي.
ملكة : أصبر؟! لقد صبرت حتى لم يبقَ في قوس الصبر منزع.
عبد الحكيم : لقد فكَّرت في الأمر. وها نحن معًا وسوف ينتهي في هذه الليلة كل شيء وتقفين معي على حقيقة هذه المسألة.
ملكة : الأنابيب أولًا … ثم تكلَّم بعد ذلك ما شئت في شئوننا (يُخرِج من جيبه ملفًّا به أنابيب، فتأخذه بلهفة وتقبض عليه بيد من حديد وتدنيه من نظرها) هذه هي الأنابيب المنقِذة (تدنو من عبد الحكيم وتضعه إلى صدرها) الآن وثقْتُ من حبِّك إياي ومن بَذْلِك نفسك لأجلي، كما ضحيت بنفسي في سبيلك منذ الصغر.
عبد الحكيم : ونحن الاثنين نضحي بهذا المسكين في سبيل سعادتنا.
ملكة : أبدًا … أنت واهم … هذه ليست تضحية به، ولكنه عقاب قد استحقَّه.
عبد الحكيم : وهل لنا نحن أن نعاقبه؟ متى كان للإنسان أن يأخذ في يده بعنفٍ حقَّ العقاب يُوقِعه على مَن شاء من البشر؟
ملكة : انتظر! … انتظر قليلًا واسمح لي أن أنزل لأضع هذه الأنابيب في مكان أمين بعيدٍ عن الخطر … الآن قد اطمأن قلبي وخفَّت عني وطأة القلق (تهم بالنزول فيمسك بيدها ليعوقها عنه).
عبد الحكيم : انتظري … إنكِ لا تعرفين طريقة الاستعمال (تتأفَّف وتظهر حالةً عصبية) أنت الآن على حال غير عادية. حال شذوذ عقلي لها خطرها. تقولين وتفعلين تحت تأثير الهياج وسوء الظن بالدهر والناس، ولكن لعلك إذا أنفذت ما أنت مُقبِلة عليه ومات ذاك الرجل أدركك الندم.
ملكة : الندم … أي ندم تعني؟ كيف يدركني الندم وأنا أريد أن أقضي على حياتي لأنجو ممَّا أنا فيه … وأتركك أنت وولدي الوحيد دون أن أتمتَّع بشيء مما كنت أمنِّي نفسي به. فكيف إذا شارفت الخلاص من مسبِّب هذه الويلات يدركني الندم؟
عبد الحكيم : لما كنتُ في أوروبا شهدت تمثيل قطعة فاجعة حوادثها تشبه ما نعاني الآن هنا، فلما أن أخرجت الزوجة عزمها من حيِّز الفكر إلى حيز العمل أصابتها نوبة فظيعة من الندم، كانت على عقلها القاضية فجُنَّت جنونًا مطبقًا.
ملكة : لا بدَّ أنها كانت مجنونة قبل أن يحدث لها ما حدث. ومع هذا، فأي خير لنا في أن تروي لي مثل هذا الخبر؟
عبد الحكيم : كلا! … لم تكن مجنونة … وعلم الطب لا يدلنا على ذلك. ومثل هذا الطارئ الذي أصاب الزوجة بعد الندم قد يصيب أعقل الناس وأكثرهم ثباتًا. إن لمثل هذه الحوادث تأثيرًا سيئًا على العقول والأجهزة العصبية، لا يظهر إلا بعد أن يسبق السيف العَذَل.
ملكة (بشيء من الخوف) : أراك تميل الليلة إلى التشاؤم.
عبد الحكيم : كلا … لا تشاؤم ولا تفاؤل … هذا كلام عاديٌّ لم أفكر فيه مطلقًا … بل كنت أفكر في أمر آخر أشد خطورة.
ملكة : ما هو؟
عبد الحكيم : هو السؤال الآتي … من أين للإنسان الضعيف مثلنا حق الإقدام على إعدام شيء لا يستطيع إيجاده من العدم؟ فما بالك إذا كان هذا الشيء هو أعظم الأشياء، بل هو النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بالحق منذ الأزل.
ملكة (بجد وتفكير) : إن قولك هذا حقٌّ، وله في نفسي وقع، وفي ضميري أقوى صدًى. وأنا متفقة معك على أمهات هذه المسألة، ولكنني أستسهل الصعب في سبيل السعادة المنشودة وتمتُّعنا بالحياة معًا وتربية الطفل في كنفنا.
عبد الحكيم : هذا حسن … ولكن اسمعي، إن السعادة التي تقوم على جريمة هي جحيم مستعِر، وكل بيت يُبنَى على الشر مآله الخراب ومآل أهله العدم؛ حياة منغَّصة وآمال يكتنفها اليأس ويحفُّ بها الألم.
ملكة (تُطرِق مفكِّرة) : ليست سعادتنا لذاتها هي مأربي، بل مأربي سعادة ولدي؛ فإن اهتديت إلى وسيلة أخرى اتبعتها.
عبد الحكيم : إذا كان حبُّك لولدك وحبي هو الدافع لك على سلوك هذا المسلك الوعر، فكيف يمكن أن يجتمع في قلبك الرحيم حبُّ ولدِك وحبي إلى بغض هذا الرجل بغضًا يدفعك إلى أن تُورِديه موارد العدم.
ملكة : وأية غرابة في ذلك؟
عبد الحكيم : لقد كنت أحسب أن القلب المملوء حبًّا لا يدخل فيه البغض مطلقًا.
ملكة : هذا قياس مع الفارق … إنني لا أبغض ذاك الرجل لأنني لم أحبِبْه مطلقًا، والمرء لا يبغض إنسانًا إلا إذا كان أحبه.
عبد الحكيم : لقد أصبح لك الآن في الحياة رجلان؛ ولدك وأنا ومَن يدري ماذا تفعل الأقدار بنا … فربما يقع أحدنا أو كلانا في أيدي جبابرة من الرجال أو النساء … ولعل مَن يأتي فعلًا مُنكَرًا يقابل بمثله في أعزِّ الناس على قلبه. هذا إذا نجا هو من العقاب في شخصه!
ملكة (باضطراب) : في أعزِّ الناس على قلبه! ومَن أعزُّ لديَّ منكما؟ إنني أفضل أن أكون لكما الفدى.
عبد الحكيم : مَن يدري؟ إننا تحت تأثير الحب والضمير. حكمنا هنا بالإعدام على رجل أبله لا ذنب له بجانب حبِّه الأعمى للمال، سوى أنه تخيَّرك في غفلة من والديك وتأهَّل بك. وهو لا يدري أنك مشغولة بغيره. فماذا يكون حكم الله علينا إذا نفَّذنا حكمنا؟
ملكة : بماذا يحكم الله علينا إذا نفَّذنا حكمنا؟
عبد الحكيم : طبعًا أنا لا أقصد تنبيهك من جهة الضمير والشرف؛ لأنني استنزفت قوتي في هذا السبيل ولم أنل مأربًا، ولكن لي أن أسألك: ما قولك في حكم الله الذي يسمع ويرى؟
ملكة (تنظر إلى السماء كأنها اكتشفتها لساعتها بتأثير قول عبد الحكيم الذي يكاد يكون استهواء) : الله … يسمع … ويرى!
عبد الحكيم : نعم … يسمع دقاتِ قلوبنا … ويرى أدقَّ وأخفى ما يجول في لفائف عقولنا.
ملكة : إذن لماذا لم يسمع الله شكوانا ولمَ ينظر بعين رحمته إلى حالنا ونحن في نضارة العمر وسلامة الضمير نلتمس العيش الحلال في ظل الهناء؟
عبد الحكيم (يدنو منها) : مَن يدري يا ملكتي المحبوبة! أين موضع الرحمة؟ … لعلها كانت سارية في حوادث حياتنا ومختفية كتيار الكهرباء في كل ما جرى. وأيضًا هناك أمر لا أستطيع أن أفاتحك به.
ملكة : كلا … لا تخف … قل فإنني لكلامك جد مرتاحة ما دمت قد أطعتني وأنفذت رغبتي.
عبد الحكيم (يدنو منها ويقول بهمس) : ألم نخطئ في شبابنا؟ … ألم نقترف ذنبًا تمقته الشرائع وتأباه القوانين كلها؟ … تكلَّمي!
ملكة (بصوت خافت) : نعم أخطأنا، ولكن لم يكن لنا مناصٌ عن فعلنا.
عبد الحكيم : لعل في تعذيبنا الآن تكفيرًا لسيئاتنا. وعسى أن يكون الله خفَّف عنا ولطف بنا. فجدير بمن كان مثلنا بدلًا من أن يدبِّر مقتل هذا الرجل أن يطلب العفو ممن يملك غفران الذنوب! انظري … تأملي … إن كان هذا الرجل سوف يموت حتمًا بفعلنا فإرادة الله هي السابقة.
ملكة : أتؤمن إذن بإرادة الله المطلقة؟ وتُوقِن أن الأعمار محدودة؟
عبد الحكيم : طبعًا … لا يؤمن بهذا الأمر حق الإيمان إلا نحن معشر الأطباء. سلي أي طبيب يخبرك … فكم حالة تَعرِض لنا يكون المريض فيها ميئوسًا من حياته، فنُوقن بموته ونؤكِّده لأهله بأنه لا محالة ذاهب … ولكن هذا المريض نفسه ينجو بمعجزة لا نعلم سرَّها! وقد نرى المنيَّة تُنشِب أظفارها بشابٍّ في مقتبل العمر بدون مرض ظاهر أو علة طارئة!
ملكة (باضطراب) : ولكن … ماذا تقصد من هذا القول؟
عبد الحكيم : قصدي أن نؤجِّل تنفيذ هذه المسألة … نؤجلها خوفًا من الله وانتظارًا لرحمته.
ملكة : الرحمة …
عبد الحكيم : نعم رحمة الله لأجل ولدك … لأجل ولدنا … لا نريد أن نلوِّث أيدينا بتلك الجريمة المنكَرة.
ملكة : ولدي عبد الحكيم (تبكي).
عبد الحكيم : نعم ولدك وولدي يجب أن نسهر عليه ونُولِيه عنايتنا. وأنا صديقك وخادمك. فقد اعتزمت أن أبقى تحت أقدامكما مدى الحياة. لا بوصف كونك معشوقة … ولكن لأنك أم حنون صابرة.
ملكة (تبكي) : عبد الحكيم … ماذا فعلت بي؟ … لقد أضعفت عزمي وقضيت على إرادتي.
عبد الحكيم : كلا … إن الحقيقة على عكس ما تظنين … إن ما تشعرين به الآن ليس ضعفًا في الإرادة ولا زعزعة في العزيمة. إنما هو عين القوة وعين الأمل. قوة الإيمان بالله والأمل في رحمته … قوة الصبر على تحمُّل المكاره … وقوة الاستمرار في البذل والتضحية انتظارًا للفرج.
ملكة : الفرج …
عبد الحكيم : عسى أن يكون الفرج قريبا … أقرب مما ننتظر (تبكي) كل إنسان في الورى رهين إشارة القضاء والقدر … وإن له نصيبًا من البلاء بالصبر والمجاهدة، وإن تحمُّله نصيبه من البلاء بالصبر والمجاهدة هو الواجب.
ملكة (تمد يدها بالأنابيب) : إذن … خذ هذه الأنابيب وأبقها معك.
عبد الحكيم (بفرح) : هل عدلت عن تنفيذ خطتك ولو مؤقتًا؟
ملكة : مؤقتًا؟ … لا … أنا عدلت إلى الأبد … ليعيشَ ولدنا سعيدًا … فربما متنا وتركناه وحيدًا، ولعل الله يغفر لنا.
عبد الحكيم (بقوة) : لقد غفر الله لك …
ملكة : كيف؟ … متى؟ …
عبد الحكيم : غفر لك منذ عدلتِ عما كنتِ نويت فعله … لأن المرأة التي تلبِّي نداء ضميرها ولو في اللحظة الأخيرة قبل فرار فرصة التوبة ولها رجعة إلى نفسها … لا شك مفقودة الذنب ناجية.
ملكة (في حيرة) : إذا كان هذا لب أفكارك، فكيف قبلت اقتراحي واتفقت على تنفيذه معي؟
عبد الحكيم : كلا … يا ملكة لم أقبله ولم أتفق على تنفيذه إلا ظاهرًا؛ خوفًا عليك من اليأس وجريرة الانتحار التي حدَّثتْك نفسك باقترافها.
ملكة : وهذه الأنابيب؟
عبد الحكيم : ها هي … سأشرب ما فيها أمامك!
ملكة (بذعر) : حذار (تحاول منعه).
عبد الحكيم (يضحك) : لا تخافي، إنها ماء قراح يطفئ الظمأ ولا يزهق الأرواح (يشرب، وفي فترة الشراب يُسمَع من المسجد القريب من قرية العجوزة أذان الفجر) الله أكبر … الله أكبر … أشهد أن لا إله إلا الله … إلخ. الآن فقط وجدت ملكة حبيبتي الشريفة الطاهرة (يضيء المصباح الموجود في المنور فجأة فتضطرب ملكة).
ملكة : ما هذا؟ … لقد ضاء المصباح ضياءً منبئًا بأمر جلل!
عبد الحكيم (متنبِّهًا) : هيا أسرعي إلى الدَّرَج.
ملكة (بتؤدة كمَن استعادت هدوءها) : لا لزوم للهرب. كنت رسمت خطة التحذير بالنور لأنني كنت خائفة وجلة … وكان الرعب يمتلك نفسي لإقدامي على عمل سيِّئ. أما الآن فقد عادت الطمأنينة إلى قلبي.
عبد الحكيم : ولكن لا بدَّ لك من معرفة السبب (حينئذ تصعد نعيمة من الدَّرَج الخلفي وتدنو منها).

المشهد السادس

نعيمة : سيدتي … سيدتي …
ملكة : ما وساوسك؟ … ماذا جرى؟
نعيمة : الباشا لا يتكلم! … عيناه محملقتان ووجهه مُحتقِن.
ملكة : وكيف رأيت ذلك؟
نعيمة : سمعته ينادي بصوت مختنق؛ فأسرعت إليه فإذا به متمدِّد على أرض غرفته ووجهه وعيناه كما وصفت لك (ينصت عبد الحكيم لهذا الحديث باهتمام، فلا تكاد نعيمة تفرغ منه حتى يسارع إلى النزول وتتبعانه. فيسود السكون قليلًا ثم يُسمَع صوت بكاء من الطبقة السفلى من العوامة، ثم يظهر الدكتور في الطبقة العليا).
عبد الحكيم : لا حول ولا قوة إلا بالله … إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون … ذهب المسكين في يوم فرحه برتبته ضحية الشراهة والنهم.
ملكة (صاعدة وهي تبكي) : هل قطعتَ الرجاء يا عبد الحكيم؟ ألا من وسيلة تنبِّه قلبه فربما كان مغمًى عليه من شدة التعب؟
عبد الحكيم (في أسف) : كلَّا … هذه سكتة مخية صاعقة … يموت المصاب بها فورًا ولساعته.
ملكة : ألا يمكن إسعافه بأفضل وأقوى من هاتين الحقنتين؟
عبد الحكيم : كلا … إن الحقن بالكافور والكافيين أقصى ما وصل إليه العلم للإسعاف في مثل هذه الحالة … وقد استعملتهما له يائسًا؛ لأنني لدى رؤيته فحصتُ قلبه ونبضه فتحقَّقت وفاته … لكلِّ أجل كتاب.
ملكة : إني أسامحه وأسأل له من الله رحمةً واسعة.
(ينزل الستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤