هرماكيس

رواية تمثيلية مصرية قديمة في فصل واحد
سنة ١٩٠٩

المنظر الأول

(المنظر: حديقة القصر فيها شجر الصفصاف وبعض النخيل. وبحيرة صغيرة ينمو على شاطئها زهر البردي (بشنين) وهي مُزدَانة بتماثيل أبي الهول، وفيها تمثال الملك وبعض مقاعد من الحجر ومن الخشب المحفور. وفي أحد الأركان القريبة من حافَّة الملعب شبه منزل إلى سجنٍ أرضيٍّ، وقف حوله أربعة جنود وأمامهم رئيس الحرس «حوتب». وفي آخر الملعب ترى ردهة القصر مُضاءَة بأنوار ضئيلة، والملك جالس مع حاشيته وهو يسمع أنغامًا موسيقية. وحول مجلس الملك جوارٍ وعبيد يحملون جميعًا مظلَّات كبيرة. القمر يشرق من جهة القصر مُحاطًا بهالة. وفي أحد أركان الحديقة على مقربة من المنزل تجلس امرأة من الشعب عليها ثياب رثَّة وعليها آثار الكآبة والألم.)

حوتب : إنكم ترون اهتمام الملك صاحب مصر العليا والسفلى وسيد الهياكل وابن الشمس بهذا السجين، فلا تتأثروا بدموع هذه المرأة ولا تسمحوا له بالصعود طرفة عين. وها أنا ذاهب لأتلقَّى أوامر من رئيس الحاشية فكونوا جميعًا عيونًا وآذانًا، وإياكم أن يفلت من بينكم، فقد سمعت في طفولتي أنه سيأتي رجل حقير ليس له إلَّا أمُّه، ولكنه سيقهر فرعون مصر وسيفعل المعجزات. وإني أسأل الآلهة أن لا يكون هو هذا الذي وُكِلَت إلينا حراسته (يخرج).
جندي ١ : إن القمر يصعد السماء كأنه امرأة صفراء تتسلق جبلًا عاليًا.
جندي ٢ : كلا يا أبْلَه، يظهر لي أنك لم تقرأ قصائد بنتاءوريوس شاعر الملك، فإن القمر كأنه امرأة دفينة تُبعَث من قبرها.
جندي ٣ : لا تقل هذا القول، فإنه يقبض صدري ويُخيَّل لي أنني أرى شبح امرأة تُبعَث من قبرها.
جندي ٢ : طبعًا فإنك نشأت في طيبة، مدينة العزِّ والرفاهية والجبن، ولم تسافر مثلنا إلى أقصى الجنوب في معية سيد الهياكل وملك مصر عندما كان وزيرًا للملك السابق.
جندي ٤ : صهٍ أيها الأخوة، ولا تذكروا ذلك في حديقة الملك، فإنه قد بثَّ العيون والأرصاد ليُلقِي القبض على كلِّ مَن يتكلم عن تاريخه.
جندي ١ : ولماذا؟ هل في تاريخ الملك ما يزعجه ذكره؟
جندي ٤ : نعم، إنه كان وزيرًا لدى الملك السابق وتفصيل ذلك أنه …
جندي ٣ : إنني كثير الانقباض أيها الأخوة، ولست أدري بماذا تحدِّثني نفسي بما يقع في هذه الليلة. (صوت ضحك وموسيقى من ردهة القصر.)
جندي ٢ : أنا أذكر لك ما يحدث في هذه الليلة، فإن الملك يشرب وكذلك مَن معه من الندامى، وسترقص له ساتيني ثم ينفض المجلس ثم يصيح الديك، فيأتي غيرنا من الجند وتنصرف أنت إلى بيتك فتجد فراش زوجك دافئًا ينتظرك، أما أنا فسأذهب إلى الثكنة المجاورة للقصر لأقضي ساعات الراحة القليلة ثم تشرق الشمس وهكذا.
نيتوكيس (بصوت تخنقه العبرات) : أيها الجنود الشجعان أليس فيكم ولد يحنُّ إلى رؤية أمِّه؟ أليس فيكم ولد رأي دموع والدة تتدفَّق من عينها وقت فراقه؟ أليس فيكم ولد يُشفِق على أمٍّ مُعذَّبة ويرق لحال امرأة مسكينة؟
جندي ١ (إلى إخوانه) : إن كلام هذه المرأة وصوتها يؤثِّران في نفسي كثيرًا (إلى نيتوكيس) ماذا تريدين أهرماكيس هرماكيس إنني أحبكيتها المرأة؟
نيتوكيس : أريد يا سيدي الجندي أن أرى ابني هرماكيس طرفة عين. أريد أن أسمع صوته مرة واحدة ثم أموت، أريد أن أضمَّه إلى صدري ضمَّة الوداع، وأضع على جبينه قبلة حارَّة. أريد أن أجفِّف دموعه بطرف ثوبي. أريد أن أرى ولدي.
جندي ٤ : اصمتي أيتها المرأة، وإلَّا نضطر إلى ضربك وطردك. ألا تعرفين أننا لا نسمع إلَّا أمر رئيسنا ولا نطيع إلَّا إرادة الملك.
نيتوكيس : كنت أظن فيكم شهمًا يسمع صوت امرأة ويطيع إرادة الآلهة.
جندي ٤ : لا تتكلمي فإن هذا الإغراء سيِّئ العاقبة.
جندي ١ : ما خبر هذا السجين؟
جندي ٣ : أنا ما رأيته وما سمعت صوته.
جندي ٤ : ما هي قصة ولدك؟ (تدنو الأم قليلًا لتحدِّث الجند لتسترق النظر إلى المنزل)، مكانك وتكلَّمي لئلا يدخل رئيس الحرس فجأة فيراك فيحرمنا من طعام اليوم وغد، ويأمر بجَلْدنا.
نيتوكيس : إن ابني ولد يتيم؛ لأن زوجي مات منذ أمد طويل. فعُنِيت بتربيته على قَدْر ما كنت أستطيع. غير أنه كان منذ صباه ضعيفًا كثير السكوت قليل الطعام. ولما شبَّ أخذ يتردَّد على جارٍ له مشهور بكثرة القراءة وملازمته لغرفته. وكان الولد يدخل عليَّ في كلِّ يوم حاملًا ملفات من البردي فيغرق في القراءة إلى أن يذهب نور الشمس، فإن كان نور القمر صعد إلى أعلى المنزل وأخذ يقرأ، وإن كان الليل مظلمًا قضى معظم الليل في نور المصباح، ثم أخذ يقول لي أشياء؛ كأن يقول ليس هناك إلا إله واحد وليس الملك هو ابن الشمس.
جندي ٢ : اخْفتي صوتك أيتها الأم الحزينة.
نيتوكيس : وأخيرًا أخذ ولدي يخرج في الطريق، ويجمع حوله الفتيان والشبان ويقول لهم ما ذكرت لساعتي. وقد سمعه يومًا أحدُ الجنود فوشَى به إلى الملك، وبعد ذلك بقليل أخذوه منِّي، وعلمت أن رئيس الكهنة ناقِمٌ عليه أيضًا، وهو يطلب من الملك قَتْله والملك لا يريد ذلك. وقد أودعوه أمدًا بسجن المدينة، ولكن رئيس الكهنة أمر بنقله خوفًا من أن يُؤثِّر جنونُه في غيره من المسجونين.
جندي ٤ : حقيقة إنه مجنون، ولكن …
جندي ٣ : ولكن ماذا؟
جندي ٤ : إذا كان مجنونًا فلماذا يخشَون أمره؟!
جندي ٢ : وهل هذا من شأننا؟ (يسمع وقع أقدام).
جندي ٤ : نعم إذا كان القمر يشرق من الشمال أو من الجنوب ليس هذا من شأننا على الإطلاق. ابتعدي أيتها المرأة لأننا غير مسئولين عن سَيْر الكواكب.
رئيس الحرس (يدخل رئيس الحرس.) : لم يصدر لنا أمرٌ جديد أيها الجند (ينظر نحو أم هرماكيس) وأنت أيتها المرأة ألا تزالين هنا؟!
نيتوكيس (ببكاء) : نعم يا سيدي، وهل يسوءك بقاءُ أمٍّ بجانب سجن ابنِها؟!
رئيس الحرس : وماذا تطلبين من سجن ابنك؟
نيتوكيس : أريد أن أراه.
رئيس الحرس (ضاحكًا) : أتريدين أن ترَيْ قبْرَ ولدك؟ إنك إذا رأيته فلن تعرفيه فقد غيَّره السجن.
نيتوكيس : قل لي يا سيدي، كيف هو وكيف سجنه؟
رئيس الحرس : إن سِجْنه عبارة عن سرداب تحتاني لا تصل إليه الشمس مطلقًا، وهو يرقد على فراش من القشِّ وتحت رأسه قطعة من الحجر، ولا يأكل إلَّا الخبز الجاف بلا أدام. وقد ابْيضَّ شعر رأسه من طول السجن، وهو أصفر كلون الشمس عند غيابها.
نيتوكيس : كفى كفى يا سيدي، ولماذا تعذِّبونه هكذا؟
رئيس الحرس : إن مَن يعيب في حقِّ الآلهة وينكر علاقتهم بالملك لا يستحق أقل من ذلك. أتظنينني جاهلًا بحقيقة حال ولدك؟
نيتوكيس : إنه مجنون يا سيدي، فردُّوه إليَّ أعالجه وأشفيه. ردُّوه إلى صدر أمِّه الحنون. (وقع أقدام وأصوات موسيقى دينية.)
رئيس الحرس : صهٍ وابتعدي من هذا المكان، فهذا رئيس الكهنة جاء يلْقَى الملك في أمرٍ ذي شأن (يدخل موكب رئيس الكهنة يتقدَّمه خدَّام الهيكل، وأمامه ووراءه بعض الكهنة، ويمرون من اليمين ويخرجون من الشمال. وفي أثناء مرور الموكب ينظر رئيس الكهنة نحو الجند فيحيونه ثم نحو السجن).
نيتوكيس (رافعة يديها) : يا رئيس كهنة فتاح، وخادم الأرباب كلِّها، ارحم أمًّا حزينة، ورُدَّ إليها ولدها (ينظر إليها رئيس الكهنة باحتقار ويسير إلى طريقه).
رئيس الحرس : إنك أيتها المجنونة ستُسبِّبين شقاءنا، إذا نطقت بعد هذه المرة بكلمة واحدة سأطردك من هنا، أسامعة أنت.
نيتوكيس (جالسة باكية) : نعم سمعت يا سيدي.

المنظر الثاني

جندي ٢ : انظر يا سيدي الرئيس، إن الأميرة ساتيني عشيقة الملك تدنو من هنا فهل نحيِّيها؟
رئيس الحرس : نعم، وكيف تسأل هذا السؤال؟ ألا تعلم أنها سبَّبت إعدام أربعة من الجند لأنهم لم يحيِّيوها تحية الأمراء (تدنو ساتيني من البحيرة وعلى رأسها إكليل من الذهب بشكل الشمس وحول عنقها حليٌّ من الذهب، وثيابها عبارة عن قميص كبير من الحرير الأبيض، وفي صدرها زهور زرقاء، وبمِعْصمها أساوِر من الذهب بأعلاهما وأسفلهما، وفي يدها مروحة من ريش النعام محلَّاة بجواهر ثمينة وليس في مَعيَّتها أحد) إنها إذا دنت ارفعوا الرماح ثم اخفضوها، ولا ينبِس أحدكم ببِنْت شَفَة (تدنو ساتيني ويحييها الجند).
ساتيني (ناظرة حولها وإلى الجند باحتقار ثم إلى رئيس الحرس) : عِم مساء يا حوتب، إن الملك راضٍ عنك لأنك مخلص وأمين، ألا ترى الجو جميلًا في هذه الليلة. إني وقفت قليلًا بجانب البحيرة أرقب انعكاس ضوء القمر في مرآتها. أتدري لماذا منع الملك وجود السمك الأحمر في البحيرة؟ أنا أعلم ذلك، إن رئيس الكهنة الذي يخترع في كلِّ يوم شيئًا جديدًا، أوحى إليه أن إيزيس تحب السمك الأحمر ولا تريد تعذيبه بعَرْضه على أنظار البشر. ما لك ساكت لا تتكلم؟ (يؤثِّر هذا القول في المخاطب كأنه سحر.)
حوتب : إنني يا مولاتي الأميرة صامت أمامك لأن جمالك الفتَّان وحلاوة كلامك ورِقَّة صوتك، تجعلني عاجزًا عن الكلام، إنَّ مَن لا يبهت أمام حسنك إذن فهو جماد.
ساتيني (عليها علامات الرضى) : كنت أحسن الظن بك من قبلُ يا حوتب، ولكنني تحقَّقت اليوم أنك كغيرك ممن يملَقونني. إنني تركت مجلس الملك لأنه يفتأ يمدح عيني تارةً وجبيني طورًا كذلك، فينوس نديمه الثقيل يضايقني بأشعاره التي ينظمها لأن ريح الخمر تفوح منها.
حوتب : حاشا يا مولاتي أن أملَقَك أو أذكر لك ما لستِ عليه من الحسن الباهر. إن الملوك لا يحسدون أمنحتب على تاج مصر وعرشها أكثر مما يحسدونه على جمالك الساحر.
نيتوكيس (تنهض بحزن وتدنو من ساتيني ثم تجثو أمامها) : إذا كنتِ يا مولاتي الأميرة ابنه الملك وتحبِّين أمَّك كما تحبك فرُدِّي عليَّ ولدي الوحيد. إنه يكاد يموت في البَرْد والوحدة، هناك في ذلك السرداب المخيف. إنه تحت أقدامك، فارحمي أمًّا جاثية ترحمْك الآلهة وتُضِئْ إيزيس طريقك.
ساتيني (مُندهِشة بغير اكتراث تنظر إلى أمِّ هرماكيس باحتقار) : مَن أنت وماذا تريدين؟ إنني لست ابنة الملك، مَن هو ابنك، وماذا جرى له؟
رئيس الحرس (حانِقًا) : أيها الجند، أخرجوا هذه المرأة لساعتها، فإنها تريد أن تعكِّر صفْوَ الأميرة بدموعها (يدنو جنديَّان ويحاولان أن ينتزعاها بقسوة، فتستلقي على أقدام ساتيني مُستغِيثة بها).
ساتيني (مُشِيرة بمروحتها إلى الجند) : اتركوها فإنها لا تكدِّر صفوي ودعوها تتكلم.
رئيس الحرس : إنك يا مولاتي تُضيفِين إلى جمالك فضيلة الآلهة. ابتعدا أيها الجنديان، ودعا تلك المرأة تُحادِث الأميرة (يتقهقر الجنديَّان).
ساتيني : تكلَّمي، ما هو خبر ابنك وأين هو؟ (تجلس على مقعد قريب).
نيتوكيس (مُنتحِبة) : إن ولدي هرماكيس ليس لديَّ سواه، وليس له في الدنيا أحد. أصابه مسٌّ من الجن، فأخذ يهذي ويطعن في الملك والآلهة، فأخذوه مني ووضعوه هنا في هذا السجن السحيق. أنقذيه يا مولاتي، وردِّيه إليَّ أطعمه وأدفئه وأضمه إلى صدري في بيتنا على ضفة النهر.
ساتيني : أرني إيَّاه لأنظر هل هو مجنون كما تقول أمه.
حوتب : إن الأميرة إذا طلبت حياتي وهبتها إيَّاها لأنها ملكي. أما السجين فلا أستطيع إخراجه لأنه رهينُ أمرِ الملك.
ساتيني : لن يعود عليك ضررٌ ما دمت أنا التي أمرتك. إنني أريد أن أراه طرفة عين.
حوتب : لا أستطيع يا مولاتي الأميرة؛ لأنني لا أريد أن أخون جلالة الملك الذي وَكَلَ إليَّ حراسة هذا السجين، وهدَّدني بالقتل لو أخرجته بدون إذنه.
ساتيني (تنهض واقفة وتدنو من المنزل ثم تعود إلى حيث كانت) : إنني آمُرك باسم الملك أن تُخرِج هذا السجين.
نيتوكيس : حبَّذا يا مولاتي لو رأيته مرَّة واحدة قبل موتي.
رئيس الحرس : صهٍ أيتها المرأة، فقد سبَّبتِ مخالفتي لأمر الأميرة، وليس هذا عليَّ بهيِّن.
نيتوكيس : يا مولاتي، إنني لا أريد أن تثكَلك أمُّك؛ ولذا أتوسَّل إليك أن تجيبي صوتَ أمٍّ حزينة باكية.
ساتيني (تدنو من رئيس الحرس وتحدق به النظر، ثم تضربه بمروحتها على خده) : إنك لا تريد أن تعصي أمر الملك. ولكن إذا وعدتك بابتسامة من فمي فهل تطيع أمري؟
حوتب (مُتردِّدًا) : مولاتي إنني … أكون طوع أمرك … لكن إذا جاء الملك!
ساتيني (تدنو منه أكثر) : أقول له إنني طلبت منك إخراج السجين باسمه، وإذا أراد عقابك شفعت لديه فيعفو عنك (تسقط المروحة عمدًا فيسرع رئيس الحرس إلى التقاطها، فتشير إليه بأن يقبِّلها فيقبل المروحة ويعطيها إياها).
حوتب : اذهبا أنتما أيها الجنديان، وليقف كلٌّ منكما في وسط الطريق، فإذا سمعتما وقْع أقدام أو رأيتما أحدًا قادمًا فارفعا رمحيكما في الريح، وأنت أيها الجندي الثالث، افتح باب المنزل وادعُ السجين، فإن كان نائمًا فأيْقِظْه ومُرْه أن يصعد إلى هنا (ينصرف الجنديان إلى وسط الطريق كما أمرهما رئيسهما وينزل الجندي الثالث. تدنو ساتيني ونيتوكيس من المنزل).
جندي ٣ (يعود مسرعًا ذَعِرًا) : مولاي.
رئيس الحرس : ما بالك ماذا جرى؟
جندي ٣ : إنني رأيته وحول رأسه هالةٌ من نور، فقال لي مَن أنت أيها القادم؟ أأنت نذير الموت أم رسول الملك؟ فإن كنت نذير الموت فمرحبًا، وإن كنت رسول الملك فخُذنِي إليه أقُلْ له الحق في وجهه.
رئيس الحرس : وكيف يخيفك هذا القول أيها الجبان؟
جندي ٣ : إن صوته كصوت الوحي المُقدَّس، وعيناه مشتعلتان بنار الآلهة.
رئيس الحرس : إنك تهذي. كيف تحمي الآلهة مَن يذمُّها؟! ابتعد عن المنزل واعلم أنك منذ الساعة سجين إلى أن يُفصَل في أمرك (إلى ساتيني) ألا تزالين مُصمِّمة على رؤية السجين يا مولاتي؟
ساتيني (متظاهرة بالغضب مع الخلاعة) : وأنت ألا تزال مصرًّا على حبي؟
رئيس الحرس : انزل أيها الجندي الرابع، فإنك أشجع من هؤلاء الأحداث وأقلُّ هلعًا.

(جندي ٤ يدنو من المنزل ثم يصعد ووراءه هرماكيس شاب طويل القامة يلبس قميصًا بسيطًا له شعر مُنسدِل وله لحية كثَّة، قميصه قصير الأكمام وهو حافي القدمين.)

المنظر الثالث

(يتقدَّم هرماكيس برأسه مرفوعًا، وقدم ثابتة إلى وسط الحديقة، ثم ينظر إلى مَن حوله. تظهر على رئيس الحرس علامات الوَجَل مع التجلُّد. تدنو الأمُّ من ابنها. تنظر ساتيني إليه بإعجاب شديد وتُطِيل التحديق به.)

هرماكيس (مبصِرًا أمَّه يدنو منها بسكوت، ويقبِّل رأسها ويكفكف دمعها، ثم ينظر إلى رئيس الحرس) : أين الملك أيها الحارس لأقول له الحق؟ وأين رئيس الكهنة لأهديه وأعظه؟ أين الشعب كله يسمع صوتي ليلبِّي نداءَ إلهٍ واحد وليرمي عن كاهله استبداد مَلِكٍ متألِّه؟
رئيس الحرس : إنك يا هرماكيس هنا في حضرة الأميرة ساتيني، وحذار أن تتفوَّه بما يُنقُل عنك إلى جلالة الملك، فيزيد في عقابك (إلى ساتيني) هل اكتفيت أيتها الأميرة فنعيده إلى سجنه؟
ساتيني : كلا كلا، لا تُعِدْه الآن ودعني أكلمه (تدنو منه).
نيتوكيس : أرأيت يا مولاتي، إن ولدي مجنون وهو لا يعي ما يقول، فلا تنقُلي قوله استحلفك بحبِّ أمك إلى جلالة الملك، بل توسَّلي إليه كما أتوسل إليك أن يردَّه لي. هرماكيس ولدي لا تقُل هذا القول وعُدْ إلى رشدك.
هرماكيس (إلى ساتيني باحتقار ثم إلى أمِّه) : لا تجزعي يا أمَّاه، فإنني لست بمجنون، إني أنطق بصوت ستردِّده الأرض والسماء، وسيرنُّ صداه في سائر الأجيال، إن الهواء يحمل قولي إلى الشمال وإلى الجنوب، والشمس تنشر الحق مع ضيائها في الشرق والغرب.
ساتيني : هدِّئ روعك أيها الشاب، إنني قادرة على إطلاق سراحك إذا وعدتني بأنك تكون طوْع إشارتي، إنني أشفق على أمِّك الحزينة، وأريد أن أردَّك إليها، فهل تسمع ما أقول؟
هرماكيس : إنني لا أريد أن يُطلَق سراحي من سجن الملك لأقع في أسْر امرأة، فمَن أنت حتى أطيع أمرك؟
ساتيني : أنا ساتيني معشوقة الملك أمنمحتب، ومالكة قياد نفسه، أنا حَبَّة قلبِه وسلطانة فؤاده.
هرماكيس (مبتعِدًا عنها) : إذن ابتعدي عني ولا تحاولي إغوائي. فليهدِك الربُّ وليتُبْ عليك.
ساتيني : أتبتعد عني والملك يتمنَّى قُربي، ويقبِّل في كلِّ ليلة قدمي مائة مرة؟!
هرماكيس : خفِّضي أيتها المرأة من كبريائك، فإن الملك لا يعادل بسلطانه وقدرته مقدار حبَّة من قدرة الإله الواحد المحرِّك لهذا الوجود، فكيف تفتخرين بحبِّه؟! وإن ملكًا يقبِّل قدمَ معشوقته لا يُعَد إلَّا لعبة في يد الشيطان.
ساتيني : إنني لا أفتخر بحبه يا هرماكيس إلَّا لأُريَك مقداري؛ لأنني أحببتُك انظُر إليَّ وأنا أقبِّل قدميك ألف مرة.
هرماكيس : إنني شخص زائل، لا قدْرَ لي، فحبِّي الله والحق فستضيء حياتك، وأوعزي إلى مليكك أن يستقدمني لأقول له الحق في وجهه.
ساتيني : انظر إليَّ يا هرماكيس ولا تُطِلْ تعذيبي، انظر إلى شعري الأسود المُضفَّر باللؤلؤ، إنني إذا حللته سترى جسدي بأسره، انظر إلى جبيني المضيء وعينيَّ الفاتنتين. انظر إلى شفتيَّ اللتين ختمتها فينوس بخاتمها السحري. انظر إلى نَحْري وحوله تلك الجواهر المضيئة. إن خمسةً من ندماء الملك قتلوا أنفسهم؛ لأنهم طلبوا مني قبلة فلم أسمح، ولو أردت أن يقتل الملك نفسه لفعلت؛ إنني انتزعت من قلبه حبَّ أمي التي كان يحبُّها من قبلُ، فإنني إذا رقصت فتنت عشَّاقي، انظر إلى مِعْصمي فقد وهب الملك لي خَراجَ ولايةٍ مقابل تقبيلهما. إنني بجمالي وثروتي وحشمي أكون مِلْكًا لك. إنني أجعلك نديم الملك أو وزيرًا. انظر إليَّ يا هرماكيس.
هرماكيس : عجبًا لك أيتها المرأة! كم في المقابر من شعر أجمل من شعرك، وشفاهٍ أشد احمرارًا من شفتيك، وخصور أرق من خصرك. إنني لا أريد أن أكون نديم الملك ولا وزيره، ولكنني أريد أن أكون معلِّمه ومرشده. أين الملك سَلِيه أن يسمع قولي وأنا أدعو الله أن يهديك ويصلح حالك. وإلَّا فاذهبي عني بجمالك وحاولي أن تفتني سواي. إنني لا أُفتَن بحب امرأة، لا يشغل قلبي إلَّا حب الله والحق.
ساتيني : هرماكيس لا تردَّني عنك تندم، إنك تقول هذا القول لأنك لا تعرف حبَّ النساء، إنك لم تشرب كأس الغرام، لو علمت أنني سأعطيك روحي وجسمي، لو علمت أنني سألقي بنفسي على صدرك، وأبثُّك لواعج حبي، لو علمت أنني سأذرف دموع العشق لأطفئ لهيب شوقي. لو علمت أننا نصير روحًا في جسمين، لو علمت مقدار حبي ما رددتني (تدنو منه وتضع ذراعيها حول عنقه، وتقبض بيديها على رأسه وتهمُّ بتقبيله على غِرَّة منه).
هرماكيس (يدفعها) : ابتعدي عني أيتها الحيَّة المطيبة. إنك كالدودة في قلب الفاكهة الناضجة، كذلك حبك في قلب الملك لو سلاك لأسمعته قولي.
ساتيني (باكية إلى أمه نيتوكيس) : قولي لابنك يعشقني، إنني أردُّه لك على شرط أن أقاسمك إيَّاه، إنني أضيف حبي إلى حبك.
نيتوكيس : لست أستطيع أن أغريه بحبك. إنه يقول قولًا حقًّا ألا تسمعين.
حوتب (إلى ساتيني) : يا مولاتي، هل تعلَّقت بحب هذا السجين ونسيت وعدك لي؟
ساتيني : إليك عني أيها الجندي الثقيل، فإنني لا أحبك.
حوتب : ساتيني، ساتيني … إنني أحببتك منذ ثلاث سنين، وكنت لا أحلم بقربك فهل وعدت عبدك ولا تفين بوعدك؟
ساتيني (غير مُكترِثة بحوتب إلى هرماكيس) : انظر إليَّ، إن الشمس ستشرق عليك من طلعتي، وستتجلَّى أمامك فينوس بجمالها الفتان (ترمي مروحتها وترفع حليها عن رأسها وتترك شعرها ينسدل) إليَّ يا هرماكيس، واختبئ في هذا الليل الحالك، إليَّ إليَّ أحميك في ثنايا ضفائري من مخالب أعدائك، إليَّ إليَّ ومتِّع نفسك بعطري.
هرماكيس (إلى أمِّه) : ويلي يا أماه إذا لم يسمع الملك قولي (إلى ساتيني) إنه لا يختبئ في شعرك إلَّا عشاق جسمك. أما أنا فلا أرى أمامي إلَّا روحك. إن روحك مسكينة ضعيفة وقلبك مريض، إن جسمك قد يُقدَّر في نَظَرِ الملك بقناطير الذهب والجوهر، ولكن روحك لا تُقدَّر في نظري بأكثر من روح امرأة أسيرةِ شهواتها. لِيتُبْ عليك الله، ويشفِ تلك الروح العليلة. وليقلل من آلام نفسك المُعذَّبة.
ساتيني : ألا تكفيك رؤية شعري؟ ها أنا أسفر لك عن سائر بدني (تحاول ذلك وتقف واضعة رأسها بين يديها).
هرماكيس (يدير وجهه نحو حوتب) : هل لك أيها الحارس أن تعيدني إلى سجني، ما دامت هذه المرأة لا تريد أن تعود إلى رُشْدها؟
حوتب : أيها الجند، أعيدوا هرماكيس إلى سجنه.
ساتيني : إياكم أن تمسوا شعرة من قدمه. حوتب أيها الحارس العاشق، كيف لك أن تخالف أمري؟! إنك إذا أعدته إلى سجنه قتلت نفسي ووقع دمي على رأسك؛ فيقتلك الملك شرَّ قتلة (يسمع صوت نداء الحرس).
حوتب : مولاتي لا يمكن أن تدوم تلك الحال، فإن الليل كاد ينتصف وها نحن نسمع صوت حرس القصر ينادون لنداء الحرس بألفاظ خاصة.
ساتيني (باكية وتدنو من هرماكيس حيث ذهب) : ارحم شبابي، رِق لجمالي، اعطف على قلب امرأة كما عطفت على قلب أمِّك (تجثو أمامه) إنني جاثية أمامك عارية البدن، محلولة الشعر، خالعة حليِّ كما أجثو أمام الآلهة.
هرماكيس : لا تسجدي أمامي، فإنني لست معبودك، إنما أنا مثلك عبدُ إلهٍ واحد.
ساتيني : بلى أنت معبودي، أنت إلهي (يزداد بكاؤها) إنني أغسل قدميك بدموعي (تقبض بيديها على قدميه) وأمرِّغ عليها خدي كما يُمرِّغ الملك وجهَه على أقدامي (تمرِّغ خدَّها على قدميه).
هرماكيس (يحاول منعها) : ما ظننت أنني أخرج من سجن إلى سجنٍ أشدَّ ضيقًا وأكثر ظلمة. أستودعك الله يا أماه. إنني أريد أن أعود إلى سجني، اذهبي إلى بيتك وانشري قولي بين صواحبك يبلغْنَه أولادهن ويرضعْنَهم إيَّاه مع اللبن. قولي لهن إن هناك إلهًا واحدًا، وإن الملك ليس ابن الآلهة، إنما هو مخلوق مثلهم، ولكن نفسه أقل من نفوسهم في نظر هذا الإله؛ لأنه فاسد القلب (إلى أمِّه) ادني منِّي أقبِّل جبينك وأضم رأسك؛ لأن نفسي تحدِّثني بأنني لن أراك بعد هذه الساعة.
نيتوكيس (تدنو إلى ولدها وتضمه إلى صدرها) : ولداه هلَّا تعود إلى أمِّك، إن فراشك الصغير ينتظرك، وأوراق البردي لا تزال في ركن الغرفة. إنني أزيل عنها التراب في كلِّ يوم، وأقول لها سيأتي هرماكيس يقلِّبك كعادته. كنت أشعل المصباح في غرفتك لأخدع نفسي بأنك لا تزال فيها، فلما أنفقت ما كان معي أصبحت لا أملك إلَّا ما يشعل مصباحًا واحدًا، فأهملت مصباح غرفتي وأشعل كلَّ ليلة مصباحك وأرقد في غرفتك.
ساتيني : خذي يا أمَّ هرماكيس كلَّ هذا الذهب وتلك الحُلي إنني أملأ بيتك مالًا. إنني أشيد لك قصرًا. إنني أهبك ضياعًا. وأسيِّر السفائن في النيل تحمل خَراجَها باسمك.
نيتوكيس : احفظي يا سيدتي عليك ذهبك وتمتَّعي بخيرك، إنني وولدي في أفقر بقاع الأرض وعلى أفقر حال في غنًى عن ملك أمنمحتب وثروة قارون.
ساتيني : إنني لن آخذ منك ولدك، ولكنني سأقاسمك حبَّه.
هرماكيس : الوداع يا أماه.
حوتب : سِرْ أمامي يا هرماكيس.
نيتوكيس (باكية) : الوداع يا ولدي (ترتمي على ولدها فيقبِّلها وتقبله).
ساتيني (قابضة على أقدام هرماكيس وباكية بصوت عالٍ) : إلى أين تأخذونه … هرماكيس … ابقَ لي … ردَّ إليَّ قلبي وصبري.
هرماكيس (إلى حوتب) : مُرْ الجند يخلِّصوني من أنياب هذه الأفعى.
حوتب (يدنو منها) : يا مولاتي خفِّفي عنك، إن هذا ليس جديرًا بك (يخلِّص يديها من حول أقدام هرماكيس).
ساتيني (بغضب وبكاء) : هرماكيس، هرماكيس … إنك لي وستكون لي … إنك ملكي ولن ينتزعك منِّي أحد.
هرماكيس : الوداع يا أمَّاه (ينزل إلى السجن وساتيني تتعلق بقميصه ثم يخلُص منها).
ساتيني (تدنو من المنزل وتطل عليه) : ها هو قد نزل، إنني أسمع وقع أقدامه وأشعر بها، كأنه يسير على قلبي … كيف يعيش في تلك الظُّلمة؟!
حوتب : خفِّفي عنك يا مولاتي، وكفى هذا البكاء، إن مجنونًا كهذا لا يستحق تلك الدموع الغالية (يدنو منها ويتناول يدها).
ساتيني : إليك عنِّي وإلَّا ذكرت للملك أنك تدعوني إلى خيانته.
حوتب : ساتيني هل نسيت عهدك؟ ساتيني ألا تُجِيبين صوت حبِّي.
ساتيني (في حلق المنزل) : هرماكيس، ألا تسمع صوتي، ألا تسمع دقات قلبي، ألا تصلك نارُ تنهُّدي وزفير صدري. هرماكيس يا ربي ومحبوبي، أجب ندائي ألا تَعِي قولي.
حوتب : ساتيني ألا تُجِيبين، توسَّلي بنظرة … ها أنا أقتل نفسي.
ساتيني : هرماكيس يا حياتي ويا وجودي إنني أقبِّل آثار أقدامك (تقبِّل آثار أقدامه) إنني أقبل رأس أمِّك إنني ألمس ملمس فمك (تقبِّل رأس أمِّ هرماكيس بعنف).
حوتب (يقتُل نفسه) : ساتيني انظري إليَّ نظرةً قبل موتي.
ساتيني : هرماكيس هل تسمع صوتي؟
جندي ٤ : مولاتي إن رئيس الحرس يقتل نفسه.
ساتيني (تنظر إلى حوتب باحتقار) : ويحه! كيف يقتل نفسه؟! هرماكيس إنني أقبلك عن بعد وأعطيك نفسي. إن أعضاء بدني ترتجف إذا سمعت أنفاسك تتردَّد، وحياتي تعود إليَّ لو نظرتَ إليَّ هرماكيس …
جندي ٤ : مولاتي أسرعي وانهضي، إني أرى شبحًا قادمًا في الظلام وقد رفع الجنديان رمحَيْهما.
ساتيني : فليأتِ مَن يأتي … هرماكيس هل تسمع صوتي.
يوما (تنظر إلى ابنتها باندهاش ثم تنظر إلى مَن حولها) : ساتيني، ويحك ماذا جرى؟! انهضي يا بُنيَّتي إن الملك يسأل عنك.
ساتيني : ها أنت يا أمي، إن هرماكيس لا يسمع صوتي …
يوما : أي هرماكيس؟ هل أنت مجنونة أقول لك إن الملك يطلبك (تُنهِضها وتعيد إليها حليَّها، وترى ثوبها المُمزَّق فتعطيها ثوبًا من ثيابها، وساتيني تجلس على مقعد قريب من السجن وتظهر عليها علامات الغضب والذهول). انظري في شأنك إن الملك يطلبك (صوت موسيقى ووقع أقدام من بعيد وقدوم جندي).
جندي : الملك قادم (يقف الجند موقف التحية).

المنظر الرابع

(يدخل الملك وحوله الحاشية والندامى ووراءه عبيد يحملون المراوح وعبيد آخرون مُدرَّعون.)

نديم : انظر يا جلالة الملك إلى هذه الحديقة، فكأنها ملتقى العاشقين وتلك البحيرة دمعة من عين إلهة الغرام.
نديم ثاني : هذه هي الأميرة ساتيني كأنها غارقة في بحر عميق من الأفكار، إن مَن يراها هكذا يظن أن الملك يهجرها.
الملك : ساتيني ماذا أتى بك إلى هنا؟ ولماذا قضيت معظم ليلك بجوار الجند في مكان قصيٍّ ونحن نطلبك؟ (يرى السجن فيرتعد) هيا بنا إلى مجلسنا، فإن كئوس النبيذ تنتظرنا وهبكيس النديم نائم على مقعده من شدَّة سكره، كأنه وحش البقر قبل ذبْحه.
فينوس : لا يقدر على الشراب قدرته على الحرب وقهر الأعداء، سوى ملك عظيم اصطَفَتْه الآلهة.
تاو : إن مديحك لجلالة الملك يقلِّل من سخافة شعرك.
الملك (ضاحكًا) : لقد سكرتما وكان ينبغي أن تُترَكا مع هبكيس في فراش واحد (يسمع صياح ديك ونداء جندي من شرفات القصر) ها هي الديَكة تصيح مُنذِرة بقدوم الشمس بنورها الوضَّاء. ولسنا نودُّ أن نعود إلى ردهة القصر فلْنجلس هنا قليلًا … يا غلمان علينا بالكئوس (تدور الكئوس مرة). اقربي يا ساتيني واشربي أمامي كأسك (تدنو ساتيني بانكسار وضجر وتشرب).
ساتيني : لله ما أحلى الخمر في هذه الليلة! إنني أستوعب فيها طعمًا ما ذُقْته من قبلُ.
نديم : هذا يا مولاتي لأن جلالة الملك أدناك ونظر إليك وأنت تشربين، فذابت نظرة من نظراته الملكية في كأسك.
فينوس : لا بأس بهذا يا تاو، هذه أول مرة أسمعك تقول شيئًا حسنًا.
تاو : إذا صمت الأغبياء نطق ذَوو الفطنة، ولو كنت تكلمت قبلي ما أوحت إليَّ الآلهة تلك الدراري.
الملك : ساتيني دعينا من هذين المِهذارين، واشربي معي كأسك الثانية.
ساتيني (تشرب) : إنها يا مولاتي ألذُّ من الكأس الأولى. لقد عرفت الليلة سر الخمر (ثم تشرب كأسًا ثالثة وتظهر عليها علامات السرور).
الملك : ارقصي يا ساتيني، وانشديني الأغنية التي أنشدتِنيها ليلة قربك الأولى ونحن في السفينة.
ساتيني : إنني سعيدة ومجنونة، ولكنني لا أريد أن أرقص ولا أغني.
يوما : كيف لك أيتها البنية أن تخالفي إرادة الملك.
تاو : دعوها تتدلَّل، تدلَّلي ما شئت فأنت واثقة بحب الملك، والدلال مباح لمن يثق بالحب.
ساتيني : لست أتدلَّل
الملك : ارقصي يا ساتيني وانشدي.
ساتيني : لست أستطيع يا مولاي.
الملك : عجبًا! هل ينقصك شيء حتى ترفضي طلبي؟
فينوس : لا أظن في مطالب الأميرة ساتيني نقصًا، ولطالما حسدتها على نعمة التمتع بقُرب جلالة الملك، طالما وددت أنا أن أكون فتاة جميلة.
الملك (ضاحكًا) : صهٍ أيها المِهذار، إنك لو كنت فتاة لوهبتك لأحد العبيد أو قدمتك ضحية لأبيس.
تاو : إنه إن لم يصلُح الآن لأحد العبيد، فإنه لا يزال يصلح ضحيةً لأبيس.
الملك : ساتيني أمرْتُك أن ترقصي.
ساتيني : يا مولاي إن الرقص والغناء كسرور النفس ليس لأمر المَلِك عليها نفوذ. مُرْ بقتلي ولا تأمرني بالرقص في هذه الليلة (تشرب كأسًا).
الملك : اطلبي مني ما تشائين أهبْكِ إيَّاه.
ساتيني (كمن يفيق من غَشْيته) : أتعدني يا جلالة الملك بذلك؟
الملك : نعم أعدك.
ساتيني (إلى جارية) : اذهبي واحضري ثياب الرقص وقوارير العطر.
تاو : لعلها تطلب ذبح فينوس فقد شكت لي مرارًا من ثقله.
الملك (ضاحكًا) : لعلها تطلب ذبحكما جميعًا (تعود الجارية بثياب الرقص وقوارير العطر. تلبس ساتيني ثياب الرقص، ويُعَد لها مكان فسيح أمام الملك. تبتدئ تغنِّي وترقص رقصًا مصريًّا قديمًا (الأغنية: غابت الشمس من السماء وخيَّم الليل على النهر أسمع في قلبي أنغامًا محزنة ولكن هبوب النسيم يخفِّف همي يغار النسيم من شعري فهو يخترقه ليقبِّل نحري. يا حبيبي لماذا تنظر إليَّ وتهمس في أذني كلمات حُلْوة أتظن أننا في مأمن من العذَّال كأنك نسيت عيون الكواكب. إننا نسير في النهر كما تسير الشموس والأقمار في قبة الفلك، حبنا لا يعرف زمانًا ولا مكانًا وقلبي لا يعرف إلَّا قلبك، إننا نسبح في نهر الحياة بين شاطئ الفناء. السماء بعيدة ولا يسمع سكَّانها صوتي. النهر عميق وهو يكتم سري. قبِّلني يا حبيبي قبلة القرب. دع سفينتنا تسير على غير هدًى وادنُ مني أقبلك في هذا الظلام الذي لا ينمُّ على العاشقين. لقد ملأ حبك قلبي ولكنني حزينة لأن المحبَّ كثيرُ الشكوكِ. إليَّ يا حياتي وسعادة نفسي واملأ فؤادي الحزين بخمر حبك) … تظهر آثار الطرب على الحاضرين. تجلس ساتيني مُتعَبة تحت أقدام الملك، فيأخذ وجهها بين يديه ويقبلها) أحسنت يا ساتيني، قولي إذن ماذا تطلبين؟
ساتيني : لقد وعدْتَني أيها الملك وإنك لا تخلف وعدك.
الملك : اطلبي يكُنْ لك ما شئت.
ساتيني (بوَجَل وتردُّد) : إني أطلب …
تاو : قرب الملك.
ساتيني : إن قُرْب الملك هو أعظم ما أتمنَّى، ولكنني أطلب …
الملك : ماذا؟
ساتيني (بهمَّة وقوة) : رأس هرماكيس (تظهر البغتة على الجميع).
نيتوكيس : ويلاه (يُغشَى عليها).
الملك (ببغتة) : لا تمزحي يا ساتيني، قولي ماذا تطلبين.
ساتيني : أنتَ وعدْتَني، ولا أظنك تعود في وعدك، إني لا أطلب إلَّا رأس هرماكيس.
الملك : ويحك يا ساتيني، اطلبي ضِياعًا أهبْكِ، اطلبي مالًا أمنحك، اطلبي بلدًا بأسرها أُجِبْ رغبتك، اطلبي خراجَ هيكلٍ يكُنْ لك، ولكن لا تطلبي رأس هذا الرجل.
ساتيني : لا أريد إلَّا ما طلبت أريد رأس هرماكيس.
الملك : يوما انصحي لابنتك أن تعدل عن طلبها؛ لأنه لا بدَّ لأحد منَّا أن يرجع في قوله؛ أمَّا أنا فلا، أما بنتك فتقدر على العدول.
يوما : لست أدري بماذا تنفعها رأس هذا الشقي. تخلِّي يا ابنتي عنها واطلبي حليًّا ومالًا، اطلبي قصرًا على ضفة النيل أو اطلبي ضيعة تستثمرينها.
ساتيني (إلى الملك) : أنت طلبت مني الرقص والغناء ففعلت رغم إرادتي ووعدتني أن تجيبني … إني أريد رأس هرماكيس.
الملك (باضطراب) : إذن فلْيكُن لك ما طلبت. ادعوا الجلاد يقطع رأس السجين (يسُودُ السكون وفي وسط السكون يُسمَع عويل أمِّ هرماكيس) من تكون هذه المرأة؟
أحدهم : أم السجين (يدخل جلاد ومعه تابع وفي يده سيف مُجرَّد. تنشد الموسيقى لحنًا مُحزِنًا. ينزل الجلاد إلى السجن وتظهر علامات التأثُّر على الجميع).
هرماكيس (من أسفل السجن) : هل أنت نذير الموت أم رسول الملك؟ إن كنت نذير الموت فمرحبًا، وإن كنت رسول الملك فخذني إليه أقُلْ له الحق في وجهه.
الجلَّاد : أنا نذير الموت (جلبة وصرخة «الله والحق» تظهر البغتة على الجميع ويزداد نحيب الأم. الجلاد صاعد وهو أصفر يرتجف وقابض بيده على سيف يقطر دمًا) لقد تمَّت إرادة الملك.
الأم (تدنو رغم مجهود الحرس) : أيها الملك العظيم، لقد أَبَيْت قتْل ولدي عقابًا على طعنه في الآلهة، وأمرت بقتله إطاعة لرغبة امرأة فاسقة. مُرْ الجند يسلموني جثته أحفظها وأدفنها في جنب أبيه.
الملك : لك ذلك أيتها المرأة. سلِّموا إليها جثة ولدها (تُستخرَج الجثة فعندما تراها ساتيني ترتمي عليها).
ساتيني : هرماكيس، هرماكيس … ها أنت بين يدي فتكلَّم يا حبيبي أطفئ شعلة حبِّي بقبلة من فمك الصامت، وهدِّئ قلبي المروع بنظرة من عينيك الناعستين. هرماكيس لقد تمنَّعت عني حيًّا فها أنا أضمُّك إلى صدري ميتًا (وتضم الجثة إلى صدرها). هرماكيس يا أملي كيف قطع السيف عنقك الذي كنتُ أريد أن أقطعه تقبيلًا؟! هذا شعرك المجعد وتلك لحيتك الجميلة. هرماكيس، أجِبْ صوتَ عاشقتك، أجب ندائي فإنني لا أزال أحبك ستبقى جثتك معي إلى أن أموت (وتقبِّل وجهه بشغف) إني أشرب دمك لِيطفِئ ظمأ قلبي. هرماكيس تنفَّس أنفاسك الأخيرة بين نهديَّ ولطِّخ صدري بدمك. إني أسمع صوتك وأشعر بأنفاسك متردِّدة. هرماكيس أريد الموت لأُدفَن معك فيلمس جسدُك جسدي، لا أريد أن يحنِّطوني لئلا تحول اللفائف بين صدري وصدرك. هرماكيس هرماكيس إنني أحبك (تقبله وتبكي).

(نيتوكيس تدنو من ساتيني فترى رأس ولدها، فتمزق ثوبها وترفع يديها إلى السماء وتصرخ ووالداه. تسقط ميتة.)

الملك (مُضطرِبًا) : ماذا أصاب تلك الوالدة الحزينة.
أحد الجنود : أدامت الآلهة حياة الملك.
الملك : لا بدَّ من العناية بدفن جثتها، عليَّ برئيس الحرس.
الجندي : إنه ليس هنا.
الملك : أين هو؟
الجندي : قتل نفسه.
الملك : متى؟ ولماذا؟
الجندي : منذ ساعة لأن الأميرة ساتيني لم تنظر إليه نظرة الرضى.
ساتيني : هرماكيس أجبني، إنني لا أسمع إلَّا صوتك ولا أرى إلَّا وجهك.
الملك (ناهضًا مُستفظِعًا. إلى الجند) : لقد أهرقتْ تلك المرأة دماءً كثيرة، فلْيمتزِج دمُها بتلك الدماء الطاهرة. أيها الجند اقتلوها (تطعنها الجند بالحراب والخناجر).
ساتيني (تسقط صارخة) : هرماكيس أنت تدعوني إليك فها أنا.
(تمت الرواية بحمد الله وحسن توفيقه.)
(ليون ١٤ شارع رامبارديني صباح الثلاثاء ٢ / ١١ / ١٩٠٩
محمد لطفي جمعة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤