في سبيل الهوى

عام ١٩٢٥

الفصل الأول

(حوادثه تقع في ملعب للقمار بالقاهرة.)

المشهد الأول

(عبد المجيد – حافظ)
حافظ : ألم يكن لنا مناصٌ عن دخول هذا الجحيم؟ انظر كيف يتبصَّرون كأن في وجوهنا سيماء الغرباء، أو كأن في رفاقهم علامةً لا تخفى!
عبد المجيد : إنني لا أستطيع العثور بابن عمي إلَّا في هذا الجُحْر. فهو مأواه ما بين الساعة العاشرة قبل الظهر ونصف الليل، وقد أخبرتُك أن والدته قد شارفت على الهلاك دون أن تراه، فأرسلتْ في طلبي لأهديَها إلى مكانه، فلم أرَ بدًّا من الحضور إليه؛ لأن أخته العذراء، وهي التي أنوي زواجها، لا تستطيع البحث عنه في تلك المغاور.
حافظ : ليتني ما صحبتك، فإن نفسي مضطربة وقلبي واجف من هذه السحن الشيطانة، ومن تلك الأيدي السرَّاقة التي تمتد إلى مال الغير مدفوعة بنفوس أشعبية! انظر إلى تلك الهالة من دخان الطباق أكاد أختنق لصعوبة استنشاق الهواء.
عبد المجيد : على رِسْلك يا دكتور حافظ، أليس هذا الجحيم أو الغار أو الجحر كما تسميه معرضًا من معارض الحياة الحقيقية؟ كيف يكوِّن الرجل فِكْرَه وخُلقه بدون الوقوف على شرور العالم ومصائبه؟ أتكفيك مشاهدة الناس في العيادة أو على مقروعة الطريق وهم بين مجدٍّ ومتمهِّل لا يبدو على وجوههم أثرٌ لما في نفوسهم؟ ألا تحتاج للنزول معهم إلى حومة الوغى الحقيقية؟ هذا هو ميدان حياة الأشرار والبائسين. هذا مصرع السراق والطامعين. هذا ملجأ الجناة والمجرمين هذا ملعب القمار!
حافظ : كلٌّ له رأي، وأنا لا أحبُّ هذه الأماكن، ولكن أين ابن عمك مختار هذا؟
عبد المجيد (ويشير بيده إلى مختار) : هو هذا الشاب المكبُّ على اللعب إكبابَ العالم الطبيعي على منظاره واللوذعي على كتابه والمتفنِّن على تمثاله، إكبابًا لا يقطعه الوقت مهما أزف، ولا تفيقه من غشيته حاجة الجفون إلى الكرى، ولا التواء الأحشاء من ألم الجوع، ولا جفاف الحلقوم من الظمأ، ولا همُّ الأسرة المسكينة المؤلفة من امرأتين ضعيفتين لا حول لهما ولا قوة وهو أملهما الوحيد؛ لأن تلك الأكوام من الذهب الوهَّاج، وتلك الأكداس من صكوك المصارف قد شغلت كلَّ ذرة من عقله ونفسه، واستولت على إدارة جهازه العصبي تتصرف فيه كيف تشاء، فلا العين تغمض ولا البطن تسغب.
حافظ : واحرَّ قلباه على هذا الشباب النضير! هلَّا دنوت منه وأخبرته بما وراءك؟
عبد المجيد : فطالما جربت ذلك ولم أُفلِح.
حافظ : ومتى ينهض؟ بل متى يفيق من تلك الغشية؟
عبد المجيد : عند نهاية اللعب إن كان رابحًا، ولدى إفلات آخر درهم من يده إن كان خاسرًا، فهيا بنا نجلس في هذا الركن نرقب حركات القوم وسكناتهم، فلعل لنا في ذلك عبرة وعظة!
حافظ : الأمر لك! ولكن هلَّا حدثتني عن هؤلاء الأشخاص شيئًا، فإن في ظاهرهم ما يريبني.
عبد المجيد : إنك مرتاب في أمرهم لأنك تراهم لأول مرة. أما أنا فسبق لي مشاهدتهم والوقوف على كل جديد من شئونهم؛ لأنني أعرفهم فردًا فردًا.
حافظ : هلَّا أفضت عليَّ بشيء من علمك؟
عبد المجيد : أترى هذا البك الحسن البزَّة والهندام. إنه مرابٍ كبير، ولكن كغيره من المُرابِين فقد يربح في ساعتين ما لا يربحه أشباهه في عامين، هذا هو داود بك الشهير يا صاح، وطريقته أن يحل بهذا الملعب محفوفًا بفرقة من جن البشر وزبانية الدنيا بين وسيط يحبِّب اللعب إلى الأغرار وفاتنة تفتن العقل في الليل وتُفنِي المال في النهار.
حافظ : ولكن ما سبيله إلى الربح الذي ذكرته؟
عبد المجيد : إنه ينزل بالملعب وقد اكتظت جيوبه بالسندات والصكوك ومبينة أقدار القروض وقيمها بدون اسم المدين. فيتصيد بفضل وُسَطائه ووسيطاته من الأوغاد والغواني مَن كُتِبَ لهم الشقوة على يديه، ولا يزال يحاربهم برجاله من الشطار حتى يخسروا ما معهم، فإذا أصابتهم تلك الخسارة تنبَّهت فيهم غرائز الطمع والغيظ والأخذ بالثأر؛ فبعضهم يخرج هائمًا على وجهه كالمأخوذ وقد حصر همَّه في الحصول على المال، ولو من وراء جريمة، وبعضهم يقع في حبائل صاحبنا فيقرضه العشرة بخمسين والخمسين بمائتين!
حافظ : ألا يخاطر هذا المُرابي بإقراض مَن يلقاه لأول مرة؟
عبد المجيد : لله ما أطيبَ قلبك وأسلم نيتك يا دكتور! إنه لا يُقرِض إلَّا مَن يثق بثروتهم وقدرتهم على دفع أضعاف ديونه، وهو يعلم عن حدود ضِياعهم وأثمان ديارهم وقيمة محصولات أراضيهم ما لا يعلمون، وقد يوقِّع أحدهم على عقد رهن أو بيع وهو يظن أنه يوقع على صك بسيط، وهكذا فقدتْ أسرة حسام الدين باشا كلَّ ثروتها على يد هذا الشاطر الذي يحتمي وراء حِيَل القانون.
حافظ : وهذا؟
عبد المجيد : هذا شاكر بك المقاول الشهير سابقًا، وهو الذي مارس ألف حرفة وحرفة ولم يُتقِن واحدة منها، وبدأ في مائة مشروع ولم يُوفَّق إلى إتمام مشروع واحد، ولعله الليلة يحاول النجاح في مشروع سُلْفة من داود بك!
حافظ : ومن يكون هؤلاء الشبان؟
عبد المجيد : جمال بك ونصرت بك من أولاد الذوات، أولاد المال والفراغ والشباب، ولكلٍّ منهم حديث يُضحِك الثَّكْلى.
حافظ : وهذه الطائفة من الأروام؟
عبد المجيد : الخواجة مافرو مدير المحل، بالاماري وسيط ووظيفته التغرير باللاعبين، وهذه أنيتا إحدى صنائع داود بك. أما هذا الفج الذميم فهو جريجوري المصارع الشهير، ووظيفته كوظيفة رفيقه بندكتو مقاومة الشرطة وضرب اللاعبين المفلسين عند اللزوم.
حافظ : يا لطيف! ألا يُوجَد مَن يكبح جماح هؤلاء الأشرار، ويضرب على أيديهم بعصًا من حديد، أين العدل؟
عبد المجيد : ما دامت في أيدي الشبان تلك الحكَّة التي تقاومهم، وفي نفوسهم تلك القرحة التي لا تبرأ، وما دام بعض الأغنياء مثل المرحوم عمي والد مختار وآباء هؤلاء الشبان يهملون تربية أولادهم ويتركون لهم ثروة طائلة بغير رقيب ولا مُرشِد؛ فلن نجد لهذا النظام المُحكَم تبديلًا، على أن هؤلاء الأنذال يتركون اليتامى والأرامل يتعثَّرون في أذيال الفاقة ولا يعودون إلى صوابهم إلَّا بعد الخسارة والإفلاس فهم جديرون بتلك الوحوش الكاسرة التي تمصُّ دمهم، وتنهش لحمهم، وتضرب عليهم الذلَّة والمسكنة باللسان تارة وبالعصا أخرى!
حافظ : يا للهول! إن بدني يقشعرُّ من صوت الذهب الذي يلعبون به، لم أسمع له رنينًا مزعجًا كهذا الرنين. انظر إلى تلك الأنوف المصفرة، وتلك الزفرات المتصاعدة، وتلك الأيدي المُرتجِفة، وتلك اللفافات من الطباق التي لا تُطفَأ.
عبد المجيد : هذا تشخيص بيولوجي أنت به أعلم … بل انظر إلى داود بك وأنصت إلى حديثه فهذا أوقع. اجلس على هذه المائدة؛ لئلا تلفت حالُنا أنظارَ الرُّقَباء، إنهم هنا في غاية التيقظ.

المشهد الثاني

(داود بك – شاكر بك)
شاكر : ليلتك سعيدة يا داود بك.
داود : سعيدة فقيرة المسألة عندي سيَّان!
شاكر : لماذا أليست الأمور على ما يرام؟
داود : كلَّا لم أصرف إلى الآن صكًّا واحدًا.
شاكر : ومع ذلك فإن المكان حافل بالبكاوات المعلوم أمرهم لدى سيادتكم!
داود : لقد وقع اختياري على هذا الشاب، ولكن إلى الآن لم يتمكَّن منه أحد من أبطالنا حتى ولا الملعونة أنيتا.
شاكر : هذا نصرت بك، أنا أعرفه جيدًا هل تودُّ أن أقدِّمه إليك؟
داود : لا … لا اعمل معروف، اتركني وشأني لئلا تُتلِف عليَّ خطتي. بالله يا شاكر بك لا تتداخل فيما لا يعنيك.
شاكر : آه … أنا بودي أن أؤدي لك خدمة فوق العادة.
داود : لا وحقِّ رأس والدك، أدِّ لي خدمة تحت العادة بكونك تتركني وشأني.
شاكر : طيب أنت حر. ولكن ممعكش قرشين؟
داود : لا يا حبيبي اعتقني، أنت تأخذ ولا ترد!
شاكر : والله العظيم أدفع لك.
داود : بس ما تحلفش وتلفت نظر الناس إلينا، أنت حُقنة عاوز كام خليني أخلص منك.
شاكر : عشرة جنيه.
داود : هو هو! ولا عشرة ريال أنا افتكرتك عاوز ثلاثة أربعة شلن.
شاكر : طيب هات خمسة جنيه.
داود (يُخرِج من جيبه سندًا وقلمًا) : إمضاءك الشريف هنا مطرح أصبعي.
شاكر : تمضِّيني على كام؟
داود : بس امضي.
شاكر (يقرأ) : عشرة جنيه وتعطيني خمسة يا اخي لا هو انا منهم.
داود (بهدوء) : طيب بلا إمضاء وبلا دفع خد لك ريال وحِلْ عن أكتافي.
شاكر : طيب هات ثمانية وأنا أمضي لك، الحوجة وحشة.
داود : والله ما ادفع غير ستة، عاوز عاوز منتش عاوز على كيفك؟ العايز أهبل!
شاكر (بغيظ) : طيب هات سبعة وأنا أعرفك بصاحبنا.
داود : قلت لك اعتقنا.
شاكر : طيب دلوقت تشوف مين يجيء به لك (يوقِّع ويأخذ النقود ويزوغ).
داود (لنفسه ويضع الورقة في حرز) : أهو سَنَد أحسن من قلته، يمكن يخبط له خبطة يكسب فيها، مِن يعرف حظ أمثاله.

المشهد الثالث

(بالاماري – داود)
داود : شد حيلك يا بالاماري ياسو! مالك الليلة مخستك؟
بالاماري : يا حبيبي الولد معه فلوس كتير، لسه مجاس معلس أما يجي كسوره أنا بجيبه أنا مش مخستك لكن كل حاجة بالأصول.
داود : والبنت أنيتا مش نافعة الليلة.
بالاماري : أنيتا مين وغيره مين. واحد يلعب وفكره في واحد مرة، أنت لسه مش عارف يا داود بك واحد جدع يفتكر في واحد مرة لما يكون عنده ارش في جيب بتاع إحنا. مفيش ارش مفيش فكر زي دي في جيفا لبس بتاعه (يحاول الانصراف).
داود : رايح فين (يقدم له سيجارة).
بالاماري : أنا حَلِف شوية على الطاولة يجي له في وشه يمكن يغير الزهر بتاعه (ينصرف. إشارات بين عبد المجيد وحافظ تدل على تفاهمهما).

المشهد الرابع

(شاكر – نصرت)
شاكر : مش سعادتك نصرت بك ابن المرحوم سعادة نصرت باشا؟
نصرت : أيوه يا أفندم.
شاكر : الله يرحمه، والوالد كان صاحبي كثير كنت سعادتك لسه صغير.
نصرت : صحيح أوه ده لازم قبل ذهابي إلى مونبليه.
شاكر (يقدم كارت) : شاكر مقاول اختصاصي.
نصرت (يأخذها) : تشرفنا (يبحث) أنا نسيت البورت كارت ومع ذلك اسمي معروف عندك.
شاكر : طبعًا أشهر من نار على علم، أظن كذلك يا منبيه، سعادتك بتجرب الزهر.
نصرت : والله الزهر مش كويس كثير الليلة.
شاكر : الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا ومع ذلك (يدنو من داود بك) سعادتك متعرفش داود بك كان من أصحاب المرحوم الوالد الأخصاء (إلى داود) بونصوار إكسلنس.

المشهد الخامس

داود (ممتعِضًا) : بونصوار يا سيدي (ثم يغير لهجته).
شاكر : أقدم لسعادتك سعادة نصرت، بك نجل المرحوم نصرت باشا صديقك الحميم (يعمل لداود إشارة بعينه).
داود : تشرفنا يا أفندم حصلت البركة، المرحوم الباشا كان أعز أصدقائي، المحروس البك بيجرب زهره.
نصرت : تشرفنا يا أفندم، أنا مش عادتي أخسر زي الليلة (شاكر يهمس في أذنه) صحيح؟
شاكر : والله صحيح مش كده يا داود بك؟
داود : إيه يا أفندم.
شاكر : إذا كان سعادة البك، لا سمح الله ولا قدر، يحتاج لشيء على شان يسترد اللي خسره من الأونطجية دول مش سعادتك مستعد؟
داود : بكل ممنونية بكل ممنونية، هو أنا في ديك النهار لما أعمل شيء يبسط نجل أعز أصدقائي!
نصرت : والله أنا عاوز مش كثير! أما صدفة غريبة أنا أشوف حضرته كثير ولكن ما حصلش بيننا معاملة. أما صدفة غريبة.
شاكر (إلى داود) : أنا أحسن وألا الأروام بتوعك أحسن؟
داود : اتفضل (يخرج نقودًا) ميه … ميتين … ثلثمائة؟
نصرت : لا لا أو ميَّه بس.
داود (يمدُّ له المال) : تفضل.
نصرت : كده من غير إمضاء ولا حاجة؟
شاكر : مفيش تكليف ومع ذلك تكفي إمضاء صغيرة على سند بسيط، معك يا داود بك ورقة؟
داود : بس على إيه (يخرج من جيبه اللازم) مفيش تكليف الخير واحد، وسعادة الباشا فضله علينا والجيب واحد.
شاكر : هات بس انت، البك ما يقولش حاجة دي حقوق مدنية، هي العبارة إيه دي المسألة فالصوا أمال لو كانوا ألف جنيه.
نصرت (يتناول الورقة والقلم) : وادي إمضا!
داود (يلهف الورقة) : ربنا يخليك يا سعادة البك، إحنا تملي في الخدمة.
نصرت : مِرسي، أما أروح أحسن البنت دي عمَّالة تشاغلني من الصبح، يا ترى عاوزة إيه، مش جميلة يا بيه؟
داود : دي مثل القمر، ومع ذلك استنا دنا برده أعرفها، هي بتشبِّه عليَّ، على ما سعادتك تعمل برتيتة أكون كلمتها لك، والله وتبقى ليلة بيضا بعد ما بطلنا الحاجات دي.
شاكر : بعد ما شاب يا داود بك (يتغامزون).
نصرت (يصافحهما) : إيه والله يا أفندم.
الاثنان : إيه والله يا مونبيه.

المشهد السادس

(شاكر – داود)
شاكر : أنا وألا الأروام بتوعك، ما قلت لك دي حاجة عاوزة فكر وتوفيق، مش تيجي بالجهجهون.
داود (ينقلب بلؤم) : أظن حتقول إنك انته اللي جبته، وأنا حاطط عيني عليه من الصبح!
شاكر : حاطط عينك عليه؟ يا نهار أسود حتحمرق بهذه السرعة يا داود بك، والله تبقى ليلة مأطرنة والعارف لا يُعرَّف.
داود : بتهدِّد حضرتك؟
شاكر : لا الأحسن هات الكمبيالة اللي أمضيتها لك من سكات، وهات فوقها أربعة جنيهات وخلينا حبايب.
داود : ابلعني يا اخويه اشفطني!
شاكر : ليه هو أنا ما قريتش الكمبيالة والَّا إيه، تدِّي الولد ميت جنيه نصهم زي ما انت راسي وأمضِّيه لك على ثلثمائة، ومش عاوز تديني عشرة جنيه يا نهار الشوم. احسبها الميه سدس، هو لازم تأخذ انت المايه ألف والسمسرة المايه صفر والَّا إيه.
داود : ما كان أغنى فؤادي! خد يا سيدي أدي كمبيالتك ووريني عرض اكتافك.
شاكر : لا وحياة أولادك، الأربعة جنيه قبل الكمبيالة.
داود : عليَّ الطلاق من بيوتي الأربعة ما أدفع غير اثنين جنيه، هو انت عاوز تنهب.
شاكر : طيب هات ما دام حلفت والأيام بيننا (يمشي).
داود : جتك داهية وانت حمه. الواد كان جي لوحده راح هو انحشر لي. أما ألِف يمكن تنفك العاقة دي باين عليها ليلة معقدة.
حافظ : لو كان نصرت قرأ السند ووجد تلتمية بدل الميه جنيه اللي قبضتها.
عبد المجيد : يعتذر داود بأنها غلطة بسيطة والغلط مردود خصوصًا في مثل هذه الظروف.

المشهد السابع

(نصرت – مافرو – جرسون (صامت) – جاسبير)
مافرو : سعادة البك. إن شاء الله مبسوط الليلة، إزاي الزهر بتاع إنت؟
نصرت : والله يا خواجة مافرو كومس كوما.
مافرو : ماليش كله يجي كويس في الآخر يا أخمد (يحضر جرسون صامت) هات اثنين وسكي بالصودة سبليت شوبس (يذهب ثو يعود بالطلب) واحد ويسكي ماركة ودكوفر أحسن من كل ماركة.
نصرت : أفوتر سانيته.
مافرو : الفوتر. سي سي (يعيد الخادم الطلب بإشارة من مافرو) يقولوا في البلد بتاعنا أول كاس علشان السلام والثاني علشان الكلام (يشربان. يُعاد المشروب).
نصرت : أنا غايته أشرب كاسين أو ثلاثة بالكثير. أنا ما أحبش إلا الكونياك من أيام ما كنت في فرانس.
مافرو : شامبا كونياك بتاع البلد بتاع إحنا أحسن من كلو كونيباك، علشان في البلد بتاع إحنا فيه كثير إنبْ في السكة.
نصرت : كمان فيه في فرانس عنب كثير.
مافرو : أحمد هات إزازة شامبا أبو ثلاثة نجمة وافتحه (يدنو جاسبير) البنت دي كويس أنا شايف بيبص لسعادتك (يشير إلى جاسبير بالدنو من نصرت فيدنو ويحضر المشروب ويشربان).
نصرت : لكن دي مش قد كده. أنا كنت أعرف بنات في فرنسا (يقبل أطراف بنانه رمز الإعجاب) رينيه ومارت ونيللي لاجنجويست ولاموم وابوزيه (يشربان).
مافرو : أنا كمان وأنا زي حضرتك عرفت كثير ستات (يشير إلى جاسبير بالسرقة فيسرق جيب صاحبنا) أنيتا وجورجيت وماريكا وكوستانتينا (يسمع من مائدة الملعب) بنكوريان نيقابلو أف من الزهر زهر دون أنا بخت زي بعضه، نهايته شيل فلوسك يا سلام أما حتة لعبة!
مافرو : سعادتك يقوم شوية يجرب زهره حضرتك تشرف آخر الليل في إسفنكس بار، هو بار خصوصي بتاعنا فيه أوركسترا كويس كل حاجة كمان مشروب كويس كل حاجة.
نصرت : ميرسي.
مافرو : أنا كما غيرت الكروبيه علشان يغير الزهر شويا (يقف جاسبير ويحل محل الكروبيه الموجود).

المشهد الثامن

(حافظ – عبد المجيد)
حافظ : طبعًا أنت رأيت هذه الأشياء كلَّها عدة مرات، فبالله قُلْ لي ماذا يحدث بعد الآن، إن هذا الملعب عالم مُصغَّر، أرأيت كيف يسرقون هذا المُغفَّل جهارًا؟
عبد المجيد : إن الرواية لم تتم. ألم ترَ كلَّ هذه الطيور الجارحة وتلك الوحوش الكاسرة التي تعيش من لحمه ودمه؟
حافظ : ألا يشعر؟
عبد المجيد : إنه محجوب النظر مشلول الإرادة معقود اليد واللسان، كأنه مسخَّر لآكِلِيه بفعل السحر، اسمع وانظر هذا الخواجة سمطان المقامر المتفنِّن المقول عنه إنه يربح ما يريد ولا يجرؤ لاعب على الوقوف في وجهه.

المشهد التاسع

(سمطان – شاكر)
شاكر : كنت فين وطريقتك فين قبل ما أخسر الثمانية جنيه؟
سمطان : عزيزي أنا هنا تحت أمرك في الوقت اللي تريده.
شاكر : احكي يا سيدي طريقتك.
سمطان : أنا كنت من أغنى الناس، وقد تعلمت في مونتكارلو سرَّ المكسب والخسارة وكسرت البنك مرتين! آه مونتكارلو! أنت لا تعرف عنها إلا اسمها، ولكن على الأقل أنت أفضل من غيرك؛ لأنك تقامر وتفهم في القمار. عزيزي اعلم أن المقامرة أمر غريزي في الإنسان تظهر في جميع أعماله وأقواله.
شاكر : عجيب … أنا كنت فاهم المسألة مسألة فلوس فقط.
سمطان : كلا … تكون مخطئًا … انظر حولك إلى أصغر الأشياء وأكبرها ترى المقامرة في كل زمان ومكان. ترى الحظ الحسن والحظ الرديء. ترى الزهر الناهض والزهر النائم. ترى المخاطرة والمجازفة في كل شيء. الزواج ضرب من ضروب اليانصيب، والامتحان بالمدارس والتجارة والسياسة، والمحاكم ذاتها يا عزيزي وهي ديار العدل ومهبط القضاء فيها الحظ الحسن والرديء؛ فمن الناس مَن يكسب القضية ومنهم من يخسر كله بارتيته.
شاكر : أما فلسفة صحيح، طيب وإيه العمل دلوقت؟
سمطان : لو كان معي نقود لكسرت البنك كما فعلت في مونتكارلو … آه.
شاكر : حيث إنك عالم بفنون اللعب إلى هذه الدرجة، فما الذي يمنعك عن الربح العظيم؟
سمطان : المسألة مسألة شانس. أنا جربت كثير بختي في الأسود والأحمر.
شاكر : أظن طلع بختك أسود.
سمطان : شوية كده وشوية كده.
شاكر : طيب لما كسرت البنك في مونتكارلو وديت فلوسك فين أنت اللي جعلت الدنيا كلها قمار في قمار؟
سمطان : ذهبت من حيث أتت، إنك لا تعرف مونتكارلو ولا تعرف الهاي لايف حالما تصل إلى مونتكارلو ترى من جمال المشاهد ما ينسيك فراديس بابل المعلقة؛ فيسحرك المنظر البديع وينقلك إلى عالم الوهم والخيال.
شاكر : ده إيه ده وصف بهيج يا أخي، يا ريت كنت غني جدًّا لأسافر وياك على مونتكارلو دي.
سمطان : آه من رؤية الذهب والفضة والبنك نوت تنتقل بسرعة البرق من يد إلى يد، ما أحلى منظر وجوه اللاعبين الصفراء وعيونهم الشاخصة وخدودهم الشاحبة وجباههم التي تتصبَّب عرقًا وأياديهم المرتجفة! ما ألذَّ حاسة الرعب المستولية على جمعنا ونحن لا نسمع إلا رنَّة الذهب وصراخ المنادين هلو … هلو!
سمطان : من فضلك سلفني شلن أجرب بختي.
شاكر : خذ الريال الفاضل بقى، العب شركة كل واحد نص!

المشهد العاشر

(حافظ – عبد المجيد)
حافظ : هذا أفصح منك في الوصف وأبلغ.
عبد المجيد : هذا سمطان الشهير أستاذ فنون القمار كما ذكرت لك، إنه يربح كل ليلة ما يكفيه.
حافظ : ولكننا رأيناه يقترض شلنًا من صاحبنا.
عبد المجيد : هذا شلن البخت؛ فإنه من قواعده أنه لا يلعب إلا بنقود مُقترَضة.
حافظ : هذه أسرار وعجائب.
عبد المجيد : ها هو مختار قد قام، إنه لا يرانا ولكنه سيحضر إلينا حتمًا.
حافظ : ما أشد اصفرار وجهه واضطرابه!
عبد المجيد : أظنه فقد كلَّ شيء، إذا حاول الاقتراض منك فلا تقرضه، مسألة الاقتراض عند المقامر الخسران طبيعية ممن يعرف وممن لا يعرف، ولا تُظهِر في حضرته هذا الانقباض ريثما نبلغه رسالة أهل منزله.

المشهد الحادي

(مختار – عبد المجيد – حافظ)
مختار : أوه أنت هنا.
عبد المجيد : من أول الليل نتفرج وننتظرك للسلام عليك.
مختار : معك نقود.
عبد المجيد : على الحديدة يا حظ. هل خسرت؟
مختار : كل شيء.
حافظ : إلا الشرف.
مختار : دع عنك هذا القول (إلى عبد المجيد) لم تقدمني إلى حضرته.
عبد المجيد : صديقي الدكتور حافظ اختصاصي في الأمراض اﻟ…
مختار : تشرفنا. هل معك نقود يا دكتور من غير مؤاخذة.
حافظ : كنت أود ولكنني تركت كيس النقود في البيت.
مختار : إذن إيذنا لي في الانصراف، لعلني أستطيع الاقتراض من غيركما؛ لأنه يلزمني مصاريف كثيرة على العيد فإن البنت طالبة كسوة شيك.
حافظ (إلى عبد المجيد همسًا) : ألا تخبره؟
عبد المجيد (إلى حافظ همسًا) : دعه الآن (إلى مختار) أيَّة البنات تقصد؟
مختار : يا أخي ألا تعلم أنني من زمن طويل تركتهن جميعًا إكرامًا لها.
عبد المجيد : عهدتك يا مختار تأنف أن تشمَّ الزهرة إذا رأيت صديقك قد شمَّها قبلك، وتأبى أن تشرب الماء من الكأس التي يكون غيرك قد سبقك إلى الشرب منها أمامك، وهاتان مسألتان لا دخل فيهما لغير حاستي الشم والذوق، فكيف تحتمل وأنت الفتى النبيل والشاب المترف الظريف أن تُقبِل على امرأة من هذا القبيل يشترك فيها كل حواس النفس والجسد، وأنت تعلم أنها لعبة كل فتًى ومَورِد كلِّ طالب، وعلالة كل سفيه، وأنها لم تصل إليك إلا بعد أن تجاوزت مئات من الناس مثلك، ولعبتْ بها أيدي ألوف من الرجال دونك؟!
مختار : إن وجيدة خاصة لي دون سواي، وهي لا تلقى أحدًا ممن ذكرت، وأنا أعرف أسرتها جد المعرفة، ولا أسمح لغيرك بمثل هذا الكلام المر.
عبد المجيد : هذا تحسين الشيطان، ولو كان قولك حقًّا لما زاد قدرها في نظري، فإنك لا تَرِد منها على أدب، ولا تأنس فيها إلى لطف، ولا تشعر في جنبها بشيء من مودَّات النساء ولطف المنزل، وإنها أمامك آلة صمَّاء لا تقع عينُها منك إلا على موضع الجنيه الأحمر وبئست تلك صحبة ينفر منها طيب الوجدان وساعة لا يبقى منها من الإنسان سوى الحيوان.
مختار : أنت مبالغ ودائمًا تهوِّل في المسائل البسيطة، ومع ذلك أؤكد لك أن وجيدة ليست كغيرها من النساء، وهي جديرة بأن أقدِّم لها كل ما تطلب، وأضحِّي في سبيل رضاها كل شيء (حافظ يُظهِر عدم الموافقة).
عبد المجيد : ألا ترى إلى أين تقودك حاجتك إلى المال إرضاءً لشهوات تلك المرأة، ولو لم تكن متعلِّقًا بأهداب حبِّها الفاسد لعشت بسعادة متمتِّعًا بالثروة الطيبة التي خلَّفها والدك (حافظ يُظهِر الموافقة).
مختار : عبد المجيد أنا مش عاوز درس ولا نصيحة من فضلك خلينا نتكلم في حاجة تانية.
عبد المجيد : الأمر لك، سأصمت، ولكن تلطَّف مع الدكتور فهو اختصاصي في أمراض اﻟ…
مختار : تشرفنا ولكن إن شاء الله ما نحتاجش إليه.
عبد المجيد : مَن يدري ما دمتَ منغمسًا دائمًا هنا وهناك!
حافظ : المسألة بسيطة كل ما في الأمر أن هؤلاء النسوة مملوءات بالأمراض المعدية والأدواء القتَّالة الخبيثة، وقد يلهو الشاب ساعة في سكرة طيشِه وصباه ثم يعقبها ندامةٌ وحسرات تدوم إلى الأبد، وبلوى العمر وضياع الصحة وفساد النسل وخطر الموت العاجل والانحطاط السريع، والإنسان لا يغره الجمال والصحة والنظافة الظاهرة.
مختار (بضجر) : شكرًا لكما على هاتين الخطبتين البديعتين، والحق أقول لكما أنني أعلم ما تقولان حق العلم، وأشعر بأنني أمثِّل دورًا خطرًا في رواية محزِنة، وطالما ساورتني الهموم والآلام النفسية من تلك الحياة المُضيَّعة.
حافظ (بتأثُّر) : مسكين.
عبد المجيد (له) : إنني أسمع منه هذا الكلام كل ليلة (إلى مختار) بهذه المناسبة هل مضى زمنٌ طويل دون رؤية المنزل وأهله؟
مختار : لماذا؟ هل حدث أمر مزعج؟ إنني منذ أسبوعين لم أطرق باب البيت وأنا كما ترى.
عبد المجيد : مفهوم. فقط أظنُّ أن والدتك مريضة فافرض أن البيت جامع وزره مرة في الأسبوع.
مختار : هل هي في حالة خطرة يا دكتور؟
حافظ : لست الطبيب المعالج.

المشهد الثاني عشر

نصرت : حرامي خطاف. طلَّع الورقة. غشاش.
سمطان : معلوم عنده حق ياتريشه.
شاكر : اللعب كله بايظ ترنشير!
جاسبيرو : أوعك تضرب أنا بعدين أحطو سكينة في بطنك.
نصرت (يضربه سكينة) : حطها في بطنك انت يا حرامي أنا أوريك (يضرب نصرت من خلف).
مافرو : يا أحمد اطفي النور. بنديد كتو. حريجوري أفانتي.
شاكر : يا شاويش. أنا أوريكم (يضرب) آه يا لصوص (ضوضاء وجلبة وضرب ويتقدم الفتوَّات من نصرت وشاكر، تُطفَأ الأنوار ويتجه الناس نحو الأبواب ويُسمَع صوت صفارة).
مختار : يالَّه بنا يا جماعة نزوغ من هنا، أحسن المسألة حِمْيت.
حافظ : عملتها فيَّ يا عبد المجيد، ننفد من أين؟
عبد المجيد : ما تخفش هات إيدك.
حافظ : توبة من دي النوبة.
شاكر : يا شاويش. آه يا اولاد اﻟ… الكيس فيه خمسين جنيه ورق وعشرين فضة وساعة وكتينة ذهب.
(ستار)

الفصل الثاني

(غرفة جلوس في منزل مختار.)

المشهد الأول

(أم مختار – أخته)
الأم : عجبًا لأخيك مختار يا عزيزتي بهية، كأنه بلا بيت يأوي إليه!
الأخت : إنه يا أمَّاه بلا قلب أو إن له قلبًا خَلَتْ جوانبه من حبِّنا نحن اللتين نعيش لأجله، وإلا فما فائدة البيت إذا كان خاليًا من الحب؟
الأم : لو كنت أعلم مكانه لسعيت إليه بنفسي وعلَّمته درسًا لا ينساه.
الأخت : إن حبك يُخيِّل لك ذلك، والحقيقة أنك تنتظرين رؤيته بفارغ الصبر. على أنني حسب إرادتك أرسلت الخادم كما كلَّفتني إلى منزل ابن عمي عبد المجيد، ورجوته إن هو رأى مختارًا عَرَضًا أن يذكِّره بنا، ولم أشأ أن أكلِّفه بمقابلته خصِّيصى. ولكنني واثقة أنه سيبذل قصارى الجهد في البحث عنه وإرساله إلينا اليوم.
الأم : بارك الله فيك يا بُنيَّتي، الله يعلم أنني لم أقصِّر في تربية هذا الصبي، ولكن النار تخلف الرماد، مَن كان يظن أن أباه يرزق مثله؟ على أنني بعد خيبة أملي فيه لا أرى لي إلا أملًا واحدًا فيك وفي حياتك المستقبلة، فإنني أريد أن أراك قبل موتي زوجةً صالحة سعيدة، وحيث إنك ذكرت ابن عمك فأنتهز هذه الفرصة وأسألك رأيك فيه وأنت ترَيْنه في كل صباح ومساء، وكلما أزور دارهم تسألني أمه عنك وتطلبك عروسًا له، وقد خاطبتْنِي في هذا الأمر أمس.
الأخت (بخجل) : إنني لن أتزوج قبل أن يتزوج أخي مختار.
الأم : إذن سيطول انتظارك؛ لأنني لا أظن هذا الغرَّ يريد الزواج قريبًا، بل يجب أن يبقى مخلوع العذار طالما كان في العود ماء يجري، على أن العادة والعرف على عكس ما تقولين فهو الخليق بتأخير زواجه حتى تتأهلي أنت.
الأخت : أريد أن أبقى حتى أصير من العوانس؛ لأنني لا أريد أن أتزوج وأتركك وحدك. مَن ذا الذي يخدمك وينظر في شئونك ويرعاك في شيخوختك كما رعيتِنا في طفولتنا وصبانا؟ (تقبِّل يدها).
الأم (تغْرَوْرق عيناها بالدموع وتقبِّلها في خدها) : حبيبتي بهية، لا فُضَّ فوك وبارك الله فيك. إنني أريد أن أزوجك من رجل شريف فاضل، وأفرح بك قبل موتي، وأراك ولو يومًا واحدًا ست بيتك سعيدة بزوجك وأولادك، وكنت أود أن أرى أخاك كذلك (تبكي) متمتِّعًا بالحياة الزوجية الطاهرة، كما كانت آماله في فتوته ولكن الأقدار شاءت غير ذلك.

المشهد الثاني

(مختار – أمه – أخته)
مختار : صباح الخير يا جماعة (يقبل يد أمِّه ويقبل يد أخته فيقبِّلانه).
الأم (تحاول كتم عواطفها) : ما الذي حدث حتى تذكَّرت والدتك وأختك، حقًّا إن النهار لا يصلح للجري وراء المسرَّات!
مختار : بالله يا نينة كفِّي عن توبيخي، فإنني كنت في غاية المشغوليَّة أؤكد لك بارول دونير!
الأخت : وهل هذه المشغوليَّة تقتضي وصل الليل بالنهار؟ أي ديوان وأية مصلحة بل أي ملهًى يبقى ساهرًا إلى الصباح ثم يستمر من الصباح حتى المساء؟
مختار : بهية! ما أفصحك اليوم! يا بختك قلبك خالي.
الأخت : أنت أنت ذو القلب الخالي، أما قلبي أنا فمشغول بحب أمي وأخي الذي لا يحبنا، وتذكار ألمي وآمال المستقبل، ولكن قلبك هو الخالي من حبِّ أعز الناس إليك، ومشغول بحب السهر وعشرة أولاد الحرام وبنات الهوى.
مختار : هل هذه خطبة منك أيضًا؟! يا لها من مصيبة! خطبة من عبد المجيد بل محاضرة طويلة بأدلة وبراهين و…
بهية : إن عبد المجيد ابن عمنا من خيرة الشبان، ولا يعرف إلَّا بيته وشغله، وقائم بواجباته خير قيام، وليتك مثله، إذن لكنَّا كلنا سعداء.
مختار : الله الله هذا دفاع عن عبد المجيد! هل جد شيء يقتضي هذا التحمُّس وهذه المقارنة؟
الأم : جرى كلُّ خير، أختك تقول الحق فلِمَ يغضبك؟ أتنكر أن عبد المجيد رجلٌ تام الرجولة، وجدير بأن ينسج على مِنْواله كلُّ الشبان.
مختار : وأنتِ أيضًا يا أماه! لا بدَّ أن يكون في المسألة سرٌّ عميق. أنا أعلم أن عبد المجيد لم يكن يشغل المكان الأول في قلبكما.
الأم : ليس في الأمر سرٌّ، ولم يحلَّ عبد المجيد ولا غيره محلَّك من قلبنا، ولكن عبد المجيد أظهر شهامة واستقامة في كلِّ الظروف التي احتجنا إليه فيها، وربما ارتبطنا قريبًا برباط غير رباط القرابة؛ فإن أختك صارت عروسًا تستحق الزفاف (يظْهَر خجلٌ شديد على بهية).
مختار : صحيح بهية صارت بهجة البيت وست البنات، ولكن قبل البت في أمر زواجها لا بدَّ من أخذ رأيي؛ لأنني شبه ولي أمرها، فأنا مثلًا أعارض في هذا الزواج!
الأم : لأي سبب؟ ألحسن أخلاقه وسَيْره المستقيم؟
مختار : لو عرفتما أين كان أمس ما أظهرتما هذا الميل الشديد إليه، وما دافعتما عنه بهذا الاهتمام.
بهية (بقوة وضحك) : نعرف يا سيدي أنه كان يبحث عنك، ووالدتك هي التي كلَّفته بذلك، أكنت تريد أن يبحث عن بيك مثلك في جامع سيدنا الحسين أو في تكية النقشبندي؟!
مختار : صحيح يا بهية أرسلت لعبد المجيد يبحث عني؟
الأم : قلت له إن كنت تعثر بمختار فذكِّره بنا يمرَّ ببيته ويزرْنا، ولو في كل أسبوع مرة، كأنه بيت أبيك جامع أو كنيسة.
مختار : عبد المجيد لا يدرك النكتة، ولذلك قالها لي ببساطة فاستغربت هذه العبارة.
الأم : لا لَوْم عليه، فأنا التي كلَّفته بذلك، لعلك يا ولدي تعود إلى رشدك، على أنك لا بدَّ تعبان وفي حاجة إلى الطعام.
مختار : جدًّا جدًّا، لم أذق طول الليل إلا واحد سندوتش.
الأم : ليس عندنا من هذا الصنف الإفرنجي ولكن عندنا أكل بيتي. يا بهية كلفي الخادم بتحضير الطعام لأخيك.
بهية : حاضر يا نينة، البنت عارفة دائمًا أن سيدها مختار يعود إلى المنزل على آخر رَمَق.
مختار : أَوصِيها وأنا أعدك.
بهية : بماذا؟
مختار : بعدم المعارضة في الزواج.
بهية : بلا مسخرة يا أخي (تخرج مسرورة).

المنظر الثالث

(خادم – الأم)
خادم : الست زينب فواز.
الأم : خلِّيها تتفضل من زمن طويل ما رأيتها. وبهية تفرح بها كثيرًا (تخرج الخادمة وتدخل الست زينب، الأم تنهض وتقبلها، ويدنو مختار ويقبل يدها).

المنظر الرابع

(زينب – مختار – الأم)
زينب : ما شاء الله يا مختار بك، مضى عليَّ زمن طويل لم أقابلك فيه. إن شاء الله تكون بخير وعافية.
مختار : الحمد لله.
زينب : إنني أقرأ الجرائد ولا أجد لك مقالة ولا خطبة كما يكتب كثير من الشبان الذين في سنك المهتمين بشئون وطنهم.
مختار : لا أميل إلى الكتابة والتحرير؛ لأنه طبعًا يوجد كثيرون أقدر مني على الإنشاء.
زينب : ليست المسألة مسألة إنشاء ولا تحرير، ولكن كل إنسان، لا سيما الشبان، لا بدَّ أن يهتم بالشئون العامة.
الأم : يا ليته يهتم فقط بشئونه الخصوصية، أنت يا ست زينب لسْتِ بالغريبة عنا، وأقرب إليه من خالته، ويصح أن يقول لك يا والدتي؛ لأنك حضرت ولادته، أنا متأسفة إذا أخبرتك إن أمور ابنك مختار ليست على ما يرام.
زينب : سبق أن شكوتِ لي مرارًا من اعوجاجه، ولكن الظروف لم تسمح لي بمقابلته ومحادثته بصفة جدِّيَّة.
الأم : لعل هدايته تكون على يديك.
مختار : والله أنا مجتهد أكون مستقيم، ولكن الظروف لا تسمح وإن شاء الله …
زينب : وبعد يا مختار، ألا تريد أن تعدل عن طريق النساء التي أنت سالكها. أما آن لك أن ترعوي؟ إلى متى هذا الضلال؟ أنا أعلم أنك مسوق في طريق الشر وملقًى في تيار الهوى بدون إرادتك وعلى الرغم من نفسك، وقد أمسيتَ أسير شهواتك ولا تملك لخُلقك قيادًا، وأعلم أن العلم لا يصلحك ولا الوعظ يهديك، حتى ولا أبوك يقوِّم اعوجاجك إذا قدَّر الله له البعثَ من مَرْقَده.
مختار (بابتسام) : إذن ماذا يا تيزتي، إذا كنت تعلمين ذلك فما فائدة التعنيف والنصح؟
زينب : لأنني أعرف الداء والدواء، وأعلم أنه لا يُصلِحُك إلا فتاة فاضلة تتزوج منها؛ فتطلقك من قيود الشر وتُرزَق منك بطفل تُرشِدُك يداه الصغيرتان إلى طريق السعادة.
الأم : هذه كانت حال أبيك قبل زواجنا، فإنه كان مثلك مُلقِيًا حَبْله على غارِبِه لا يعرف للحياة معنًى، ولا يذوق للعيشة البيتيَّة طعمًا، فلما صار له بيت وزوج وأطفال تغيَّرت أفكاره وتبدَّلت أحواله، وهذا ما أرجوه لك.
زينب : الزواج للشبان أهم شيء.
مختار : دعينا من الزواج يا خالتي.
زينب : ماذا تقول يا ولدي؟ رحم الله مَن قال: خلقهما الله ذكرًا وأنثى وأوصى باقترانهما ما أوصى، وجعل الحبَّ عروة الزواج الوُثْقى، وجعل القلب له مأوى يسعد به ويشقى، ويموت به ويحيا، وهو الحب الذي ينبِّه النفس من الكَرَى فتأنس من الجمال نارًا تذكَّى فوجدت على النار هدًى.
مختار : الله الله إذا كانت النصائح كلُّها على هذه الوتيرة فلا بأس.
زينب : إن البنت تنشأ في بيت أبيها زهرة جمال موجودة لقطفها، وثمرة غبطة وهناء ترجو قدوم جانِيها، حتى إذا اكتمل جمالُها، واستتمَّ هلالها، ودنت قطوفها؛ تُعرِضون أنتم الشبَّان عنها، وتفوتونها وقد خُلِقْتم لها وخُلِقَتْ لكم، وانصرفتم تجرون وراء سواها من بنات الليل وفتيات الحانات، وتدوسون ذلك الجمال البريء وتلك المحاسن الطاهرة بتغاضيكم وإهمالكم، كما يدوس الصائد أزهار الرُّبَّى الزاهية وراء طيرٍ يطارده وقد لا يصيده، وإذا صاده فقلَّ أن يكون فيه نفعٌ أو فائدة.
مختار : يا خالتي، وأين الفتاة التي تليق بي، وأنا كما تعلمين من طلاب الكمال في كلِّ شيء؟ أتظنين أنني لا أشعر بصحة قولك وسلامة رأيك، أو أنني اندفعت في تيار الهوى لمجرد السرور واللهو؟ أين الفتاة المتحلِّية بالصفات التي ذكرت.
زينب : ملء بُيوت آبائهن، حظُّهن في النهار النظر، وفي الليل الفكر، وهن يشعرن بحبٍّ تضيق به صدورُهن ولا تنطلق ألسنتهن، ويظهر الغرام من عيونهن ولا يقدرن أن يُبدِينَه بأفواههن، وينادين الشباب أمثالك بجمالهن ولا يجرؤنَ أن ينادينهم بقولهن، فلما لا يُسمَع نداؤهن ولا يجاب سؤلهن يبقين كالوردة الناضرة يُظهِرُها الجمال ويخفيها الخَجَل، وتقر في مكانها كالحمامة الهائمة تدفعها غلة الظمأ فتردُّها رهبة الوَجَل.
مختار : يا خالتي، إنني لا أزال في مُقتبَل العمر، ولا أريد أن أتزوج الآن؛ لأن الشباب فسيح أمامي وآمالي أعظم فسحةً.
زينب : إنك مخطئ يا ولدي، إذا كنتَ تنتظر الشيخوخة وهذا هو الوقت الذي ينبغي لك فيه أن تذكر العهد الذي أخذتْه عليك الطبيعة عند ميلادك، أي عذر لك في أن تترك السعادة الدائمة ولذَّة ذلك الحب النقي المستمر لتجري وراء أمنية زائلة تعود عليك بالأمراض والشقاء، وتتعلق بكلِّ فتَّانة خادعة تقودك معها إلى مهاوي العار وحضيض الذلة والهوان ثم لا تلبث أن تعقبك من فاسد قُرْبها هجرًا طويلًا ويتبعك كاسد جمالها وزائف حبها؛ فتشتري بعفتك وآداب نفسك وصحتك ومالك ثمنًا قليلًا تنتظر الشيخوخة! فمتى يعبث في رأسك طلائع الشيب وعبثت بك يد العجز والكبر وتخرَّمت جسمك البالي أمراضُ النساء وعاهات الغواية والفحشاء؛ تلتمسْ من مصونات المنازل وفتيات الطهارة والآداب ضحية بريئة طاهرة، تقدِّمها على مذبح أمراضك، وتشركها في ما لم تجنِ به شيئًا من غوائل العلل والأدواء، وتجعل نصيبها من عواقب مرضك وعاهاتك وهي المصونة في خدرها، والخالية النفس عن أميالها وأهوائها؛ نصيب التي صرفت أيام صباها في التهتُّك والفحشاء، وأرضت لنفسها عناق الشهوات في ميادين الخلاء والبذاء، ثم تجني بعد ذلك على أولادك تلك الجناية القتَّالة التي يشاركون بها أباهم في شقائه، وهم لم يشاركوه من قبلها في شيء من ملاذِّه، وهذه حالٌ لو تأمَّلها القلب القاسي لأصبح رقيق الشعور والإحساس فكيف لا يتأملها الظرفاء أمثالك.
مختار : إنني أريد أن أتزوج ولكن على شرط أن تكون فتاةً متعلِّمة متحرِّرة متيقظة إلى حوادث الدهر، آخذة من كل شيء بطرف، حتى لا أعاشر جمادًا أو آلة صمَّاء أو حيوانًا أبكم لا يفهم عواطفي ولا يقدِّر آمالي وأفكاري. هذه صفات لا نجدها في غير مَن ذكرت من النساء رغمًا عن الذم والتعيير والاستهجان وأن الحياء يعوقني عن الإسهاب في حضرتك.
زينب : رحم الله والدي الذي كان ينشد قول الشاعر!
علموهن الغزل والنسج والرتـ
ـق وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخـ
ـلاص تجزي عن يونس وبراءة
تهتك الستر بالجلوس أمام السـ
ـتر إن غنَّت القيان وراءه
مختار : هذا كلام مضى عهده وانقضى زمنه، وهيهات أن نكتفي نحن شبان هذا الزمان بمثل تلك الترَّهات.
زينب : إذا كنت تدعو هذا القول تُرَّهات فلا سبيل إلى إقناعك بما فيه نفعُك وفائدتك. ومع ذلك كيف تلوم المصرية على جهلها، إن كانت جاهلة، وعلى قلة إلمامها بطرق العشرة وآداب اللياقة ووسائل المعيشة الحديثة؟ فقد حكم الدهر لكم أيها الشبان بقوة مطلقة وعيشة مستقلة وسيادة كاملة سدتُم بها على الدنيا وحكمتم أنفسكم بأنفسكم وحكَمتِ الأقدار على الفتاة بعكس ذلك من التقيُّد بأهلها والتعلق بأحكام والديها وذويها، والاحتباس في خِدْر من العفَّة والخجل هو أشد الخدور صيانة وأوثق السجون تقييدًا، فهل ينبغي لكم أيها الرجال أن تستعملوا تلك السلطة المطلقة في ظلم هذه الخلقة الضعيفة المقيَّدة؟ وهل يليق في عرف الإنسانية التي وضعت شرائعها لحماية الضعيف من القوي ووقاية المظلوم من قبضة الظالم أن تسمح بهذا الظلم الذي حكمت به الطبيعة كما حكمت لسواه فمنع الرجل كل ظلم طبيعي سواه ولم يرد أن يتلافاه؟
مختار : الآن دخلنا في تحرير المرأة وبحث الحجاب والسفور.
زينب : سمِّ كلامي ما شئت، وأطلق عليه الوصف الذي تريد، ولكن اعلمْ علم اليقين أنكم تطلبون زوجاتٍ مهذبات، وأنتم تتركون الفتيات الطاهرات يُفنينَ شبابهن في الخدور يعضلهنَّ والدٌ قاسٍ أو أخ جاهل فتذْوَى محاسنُهن كما تذبل زهرة الربيع.
الأم : إذن لقد أحسنتُ بتصميمي على زواج بهية.
مختار : كلٌّ يغني على ليلاه.
زينب : تطلبون بيوتًا آمنة مطمئنة وعيشة منزلية هادئة سعيدة، وواحدكم إذا تزوج يعامل زوجته كأقلِّ خادم، وإذا نظر إليها بثَغْر باسم فإن قلبه مبتعدٌ عنها وهو في قبضة سواها، تطلبون فتياتٍ متأدباتٍ يصلحْنَ لتهذيب الخلف الصالح وأنتم تعرفون الحب الصحيح إلى غيرها ممن لا تستحق من بنات الهوى وفتيات الأزقَّة والحانات، وتُلقُون الكلام الذي يخرج من صميم أفئدتكم كالجواهر وكان يكون فيه أعظم سعادة وتهذيب لفتياتكم على أقدام نساءٍ بغايا يدسن عليه بعد انصرافكم كما يدسن على جواهر أفئدتكم في حضوركم، إنك وأمثالك تفرون من الفتيات الطاهرات فتحمِّلونهن من نقضكم وإخلاف وعودكم ظلمًا جديدًا فوق ما ظلمتْهن به الأيام، وتعزون الفتيات الساقطات بابتذال أموالكم وغرامكم فتزيدنهن طغيانًا وضلالًا في سبيل التهتُّك والابتذال يعود عليكم جميعًا بالمذلة والخسران يا ولدي. إنني توجهت إليك بهذا الكلام لعلمي بأن والدتك تريد أن تبوح به وزيادة، ولكن يخونها حبُّها إياك وخوفها إغضابك، وأرجو أن لا تحقد عليَّ إنما أردت صلاحك لأني أعزُّك كأحد أبنائي.

المنظر الخامس

(تدخل بهية فتقبِّل يد الست زينب فتقبِّلها ويتحادثان خفية.)

بهية (لوالدتها) : الأكل جاهز.
الأم : قم يا مختار تبلَّع بلقمة تعُدْ إليك قواك التي فقدتها في السهر.
مختار : طبعًا سآكل وأنام مباشرة، أرجو أن لا يوقظني أحد لأن دماغي صارت كالطبل.
بهية : مكتوب على ورق الخيار.
مختار : نعم يا ست بهية؟ تفضلي بالجلوس هنا فتسمعي درسًا طويلًا مفيدًا كالذي سمعته من خالتي زينب هانم.
بهية : استحِ يا مختار.
مختار : يا خالتي تفضلي على بهية بشيء من الكلام اللطيف الذي سمعتُه الآن.
الأم : لعلك وعيتَ شيئًا مما سمعت.
مختار : الأزهار ذبلت على أقدام النساء … الضعيف والقوي والظالم والمظلوم وهكذا بقيت في رأسي بضع كلمات سأكررها تلذُّذًا بها إلى أن أصل إلى غرفة الطعام (يضحك ويحاول الخروج ويقبِّل يد خالته زينب).
الأم : يا خسارة التعليم فيك!

المنظر السادس

(مختار – خادم)

(يدخل الخادم)

الخادم : سيدي عبد المجيد بك في الجنينة.
مختار : عبد المجيد بك (ناظرًا إلى والدته وأخته) الظاهر أن حماته تحبه (إلى أخته): لا مؤاخذة هذا مثل سائر أنا لا أقصدها خليه يتفضل (يخرج الخادم).

المنظر السابع

(بهية – مختار)
بهية : وإن كنت تقصدها، أي شيء في ذلك؟ ولكن المهم إنك تعرف تقابله.
مختار : طبعًا لا يليق في أودة السفرة، وإن كان ابن عمي ونسيبي في المستقبل ولا يوجد تكليف بيننا ولكن التقاليد العمومية لا تسمح.
الأم (تنهض) : نخرج من الصالون لأنني أريد أن أخلوَ قليلًا بالست زينب هانم. وقابِل ابنَ عمك هنا (تخرجان).

المنظر الثامن

(مختار – بهية)
مختار : والأكل؟ هل راحت عليه الفرصة؟ خسرنا كل شيء حتى الغدا.
بهية : سأرسل إليك الخادم يُعِد لك مائدة صغيرة (تخرج).
مختار : لا بأس (لنفسه): أما كلام السيدة زينب مؤثِّر وجميل، ولكن مَن يقرأ ومين يسمع، والله لو كانت صغيرة لكنت اتجوزتها، آه لو عرف الشباب وآه لو قدر المشيب، يا ليت زرعوها ما خضرتش.

المنظر التاسع

(عبد المجيد – مختار – خادم صامت)
عبد المجيد : أرجو أن لا تكون زيارتي مزعجة.
مختار : كلا إنك يا ابن عمي تسلِّيني وتفرج همِّي، فأهلًا بك وسهلًا، إنني وجدت والدتي بحال من السخط والأسف لم أشهد لها مثيلًا، كذلك وجدت السيدة زينب فواز فألقت إليَّ كلامًا طويلًا.
عبد المجيد : لا شك أنْ تعذرها وتفهم سبب سخطها، إنني يا أخي مختار لا أدَّعي إدراك الأشياء أفضل منك، ولكن أظن أنه يحسن أن تنظر قليلًا فيما حولك (يدخل الخادم بالأكل ويضعه في مكان).
مختار : ولكن ليس لي من حياتي الحاضرة مَخرَجٌ، فهل أعيش وحيدًا بلا معشوقة ولا زوجة في عزلة تامَّة عن الناس، لا أختلط بهم إلا إذا اضطرتني الأحوال، ولا أعاشرهم إلا فيما تقتضيه ضرورات الحياة (يبدأ بالأكل بشراهة).
عبد المجيد : هذا أفضل من أن تعيش في حضن معشوقة متقلِّبة الأطوار متعددة الرغائب، تبغضك وتخدعك بحبها الكاذب لا ترى منك إلَّا موضع الدرهم والدينار، ولا تلتمس فيك إلا أسباب المنفعة.
مختار : كيف أعيش في ظلال قِران شرعيٍّ أرتبط فيه بامرأة تقدِّمها لي الأقدار في غلاف لا يُفضُّ إلا ليلة الزفاف، كأنها سرٌّ من أسرار الدهر مرهون بأوانٍ لا يُعرَف حتى يذاع في وقت معلوم؟
عبد المجيد : هل ضمنت حياة العائلة في حضن والدتك وأختك؟ هب أن والدتك، لا قدَّر الله تُوفِّيت، وافرض أن أختك تزوجت فإنك لا تنوي أن تعضلها.
مختار : طبعًا لا (بمعنى أنه فاهم).
عبد المجيد : فهل تنوي أن تعيش عيشة الوحدة والانفراد؟ أما رأيي فلا؛ فإنني عانيتها في الصعيد بعد وفاة والدي ردحًا من الزمن؛ إذ كنت مشغولًا بأعمال تصفية التركة، وكنت أثناءها أعلِّل النفس بقُرْب نهايتها، وأمنِّي القلب باستبدالها بما هو خير منها. كنت يا أخي أدخل غرفًا خالية خاوية وألتمس في أركان البيت وجهًا بشريًّا فلا أجد، وأتسمَّع طول ليلي صوتًا إنسانيًّا فلا يستأذن على سمعي.
مختار : والخدم الذين كانوا عندك.
عبد المجيد : الخدم! إن كان عندي خدم فما أنا لهم إلَّا سيد يُهاب ويُخشَى ولا يُحَب. يطمعون بماله ولا يُطمَع في إخلاصهم، أبقى مُعزَّزًا ما دمتُ مالكَ ناصيةِ المال، ومكرَّمًا ما دمت راضيًا أن أُسرَق جهارًا، وأن تنتهك حرمة بيتي في غيبتي، وأن يغتابني مَن أقدِّم له الخير بيدي.
مختار : إنها إذن عيشة مرة (يأكل).
عبد المجيد : يا لها من عيشة! مائدة لا يزينها وجهٌ باشٌّ، وأركان لا تردِّد ضحكة. طفل سعيد أو امرأة محبة. ساعات طويلة تمر عليَّ خارج الدار، ولا مَن يسأل عني ولا يحمل لي همًّا غبت أو حضرت، تقدمت أو تأخرت سَلِمْت أو مرضت … كُلْ كُلْ أنا عارف أنك هالك من الجوع.
مختار : وكيف وجدت صبرًا على هذه الحال (يأكل).
عبد المجيد : إذا لم يطاوعني صبري يومًا وخرجت بحق عن جادَّة الحلم والأناة، رأيت وجهًا عبوسًا ويدًا تمتد طالبة ذاك الحساب. أجر وعمل؛ إذ لا صداقة ولا حب ولا مجال للكلام أو العتاب بئست تلك الوحدة، ولو كانت تضيئها مصابيح العلم والحكمة. بئس ذلك الانفراد ولو كان حولي مائة أو مئات من الناس؛ إذ إنني أكون دائمًا غريبًا بينهم، وما أفظع الوحدة في الائتناس المأجور!
مختار : لماذا لم تتخذ معشوقة؟
عبد المجيد : معشوقة، امرأة تظهر لي حبها ريثما تملك عنان نفسي ثم تتخلى عن كل شيء إلَّا مالي، فإنها تعرفه وتحبه دائمًا، وتطلبه في كلِّ وقت ولا تنسَ حقوقها عليه، ولا تحب أن تُحرَم من لقائه، وقد تخدعني الساعة والساعتين ريثما تحصل على المال. المال الذي تكنزه لليوم الذي تنوي فيه هجري لأنها منذ اليوم الأول من لقائنا تحسب حساب هذا اليوم. فرصة سانحة تنتفع بها على قدر الاستطاعة! معشوقة متقلِّبة الأطوار متعدِّدة الشهوات مرَّت قبل أن وصلت إليَّ بألف رجل وعرفت أخلاق عددٍ لا يُحصَى، ووضعتني في الفريق الذي أنا منه حسبما أوحى إليها تقسيمها أنواع الرجال.
مختار : اجعلها في بيتك بغير زواج؛ فلا تستطيع أن تخدعك.
عبد المجيد : بيت كاذب وسعادة كاذبة وزواج كاذب وحب كاذب، وعناية لدى المرض كاذبة وفرح لدى السلامة كاذب، وبسمة لدى اللقاء كاذبة، ووعد بالبقاء على الحب كاذب، ونظرة دلال لدى الوصْل كاذبة، آه آه أكاذيب مكدَّسة، كل شيء كاذب حتى ذلك الطلاء الذي تُجمِّل به وجهها لدى المساء، وذلك الثوب الذي تتحلَّى به عند القُرْب مني، كلا، وهذا أيضًا مؤلم جدًّا. قد أحبها عفوًا فتتركني بغير سبب سوى زهدها فيَّ أو رغبتها في تعذيبي لتسلبني مالي، أو الحصول على رجل آخر تصنع به ما صنعت بي، أأرضى أن أكون ككرة القدم يلعب بها الصبي ويقذف بها إن شاء، سواء أأصابت غرضًا أم لم تُصِب؟ كلا إن هذا لا يُستطاع أيضًا، بل إنه لا يُستطاع مطلقًا.
مختار : لم يبقَ إلا الزواج فلنبحثه قليلًا، إنني أتكلَّم بكل حرية وبقطع النظر عن الأشخاص. القِران الشرعي بامرأة لا تعرفك ولا تعرفها، تحبُّك ولا تحبُّها، لم ترَكَ ولم ترَها، أصبحتْ بأمر الشرع أهلًا لك وأصبحتَ لها بعلًا. صارت بحق العقد جزءًا منك لا يفصله إلَّا الموت أو الطلاق، ولكن كيف هي وكيف يكون خُلقها أصبورة هي على الشدائد أم طائشة تغلبها حوادث الدهر على إرادتها؟ أقادرة هي على تدبير ذلك المنزل؟ أتكون مصباح بيتك الذي يضيئه بعد ظلامه أم تكون ظلمة بيتك التي تسوِّده بعد نوره؟ أتكون عونًا على الدهر معك أم عونًا مع الدهر عليك؟ أتكون حربًا لك على حوادث الزمان أم تكون للزمان حربًا عليك؟ أتكون خصبة ذات نسل أم عاقرًا لا تلد؟ وإن كنت أنت عاقرًا فهل تنغِّص عيشتك لأنها لم تُرزَق منك غلامًا أم تصبر صبْرَ الكرام حتى يتمَّ الله نعمته عليكما بنسل صالح؟ أوَدِيعَةُ هي أم جافة الطبع؟ أتُعنَى بك في مرضك أم تعود إلى أهلها؟ أهلها أهلها كيف تكون أخلاقهم؟ ألها أخ فاسد شرِّير ينغِّص عيشكما ويطالبك صباح مساء بحقوق أخته، وإن لم يكن لها حقوق؟ أم لها أمٌّ تتآمر معها عليك؟ أم والد طامع يتاجر بابنته؟ وأهلك تكون حالهم مع الزوجة أغيرة وحسد ونميمة واغتياب؟ أشقاق دائم وشجار لا ينتهي؟ أشاكِيةٌ للقريب والبعيد بغير حقٍّ؟ يا ربَّاه ما أشد حيرتنا في الحياة!
عبد المجيد : إنني قد خرجت من هذه الحيرة ووصلت إلى حلٍّ يسعدني.
مختار : قد أفهم تلميحك، ولكن بعد كلامنا بحريَّة مطلقة لا أستطيع أن أدخل معك في التفصيلات.
عبد المجيد : ولكن أموافق أنت على هذا المشروع؟
مختار : إن والدتي أدرى مني بهذا، وأقدر على الجواب.
عبد المجيد : وإذا أجابت والدتك بالقبول؟
مختار : فلا أخالف لها رأيًا.
عبد المجيد : أشكرك يا ابن عمي (يقبله) وأعدك أنني أبذل كلَّ شيء في سبيل سعادتكم.
مختار : إنك يا ابن عمي الحبيب رأيتني في حالة واحدة منتقدة وهي المقامرة، ولكن لي لذَّات أخرى تعوِّض عليَّ أحزاني.
عبد المجيد : إنك ترى فيها محاسن وهي شرور ومصائب تقضي على المرء في أيام محنته أنْ قد يرى حسنًا ما ليس بالحسن.
(ستار)

الفصل الثالث

المنظر الأول

(مختار – عبد المجيد – عبده)
عبده : اتفضلوا يا سعادة البهوات.
مختار : فين ستك يا عبده؟
عبده : هي هنا بس في الحمام.
مختار : طيب اديها خبر واعمل لنا قهوة زي بتاعة امبارح.
عبد المجيد : اعمل فنجان واحد بس، أنا ما اشربش قهوة (يخرج عبده).

المنظر الثاني

(مختار – عبد المجيد – عبده (صامت))
مختار : والله عِشْرة الدكتور حافظ مش حتعود عليك بخير، برده ميكروبات وجراثيم وانتقال العدوى.
عبد المجيد : لأ سبنا من العدوى ولكن الوساخة.
مختار : يا سيدي خليها بلدي.
عبد المجيد : إنت اللي تسوي الهوايل في بيتك إذا رأيت شيء عليه غبار تغضب وتخانق، تجي هنا وتقبل كل ما يُقدَّم إليك، الشخص الناظك لازم يكون ناظك في كل شيء.
مختار : وإذا جلسنا في قهوة مش برده بتشرب في فنجان ما تعرفش أصله ولا فصله، ولا حالة اللي شرب منه قبلنا بخمس دقائق ولا فين اتغسل، كذلك لوكاندات الأكل والحلاق وحكيم العيون وحكيم الأسنان وفوط الحمَّام البلدي، كل دي حاجات عمومية ومعرَّضة للكلام اللي بيقوله الدكتور حافظ.
عبد المجيد : وكلها بالطبع أشياء مضرة ولازم الإنسان يفتح عينه جدًّا.
مختار : والله برده وإن كنت أنا مليش حاجة في العلوم زيك، ولكن الإنسان إذا افتكر في الدنيا دي يقول يمكن يجي يوم يبقى فيه كل شيء عمومي. ما ديك شايف العبادة في أماكن عمومية والتعليم عمومي والمعالجة عمومي والأكل عمومي والتياترات عمومي والصور المتحركة عمومي، ركوب الترامواي عمومي، السفر في البر والبحر عمومي.
عبد المجيد : دي فكرة خطرة يا مختار، ويمكن يغلط الإنسان في تطبيقها أو يبالغ في تفسيرها.
مختار : أديك برده فهمت من غير ما أقول أنا (يضحك) تعرف إني مبسوط جدًّا من وجودك معي، علشان بس تعذر أخوك. دلوقت تشوف الجمال والخفة والذوق، دلوقت تتجنن يا سي عبده، لأ وإيه ده وده كله من الظاهر، فما بالك بالحب الحقيقي والعشرة الغرامية وأوقات الخلوة؟!
عبد المجيد : أنت مسكين يا مختار، أنا حضرت معك لأحاول هدايتك؛ لأنني عاهدت نفسي على إقناعك بتحويل سكنك، على أنني أعذرك لأن الحب الذي أنت مصاب به هو مرض يُعمِي ويصم، قد تكون تلك المرأة أقبح النساء خلقة وأقلهن أدبًا وأبعدهن عن رقَّة الشمائل، ولكنك ترى رذائلها فضائل ومعايبها محاسن، عينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة.
مختار : بس بأه بلا كلام فاضي بلا شعر (يدخل عبده بالقهوة فيشرب مختار) الله أدي قهوة العصاري المكيفة والَّا بلاش (يخرج عبده) اسمع يا عبد المجيد، لما خلوت بوجيدة بدأت أشرب خمرًا هي تشرب كذلك. وكنت بين كلِّ كاس وأخرى أشعر نحوها بميل شديد وأحاول نسيان أهلي وأسرتي وشرفي وصحتي، وتحدثني نفسي أنه ليس في الحياة إلَّا هذه المرأة، ووجودي بدونها عدم، ولما بدأت تسكر أغمضتْ جفنيها واستسلمت للرقاد فاسترخت مفاصلها، وكنت كلما يخطر ببالي أمرُ أهلي وأمر المستقبل أجتهد في طرد تلك الأفكار السوداء عن نفسي حتى لا تكدِّر صفوي، ثم قامت وخلعت ثيابها ولبست للنوم ثوبًا من الحرير الأحمر، ونامت فنمت إلى جنبها، وقبلتها قبلة حارة، فأحسست أن نفسي تطير شعاعًا، ثم شعرت بسعادة غريبة. غرفة النوم المقفَلة والليل الهادئ وضوء المصباح وقنينة الخمر ووجيدة في السرير؛ كل تلك الدواعي هاجت عواطفي هياجًا شديدًا.
عبد المجيد : لقد غابت نفسك عن جسمك في تلك الساعة المشئومة؛ فانتصر الحيوان الكامن فيك وخرج طالبًا شهوته الدنيئة. إن أمثال تلك الساعة هي التي تنسيك كلَّ شيء وتجعلك لا تخشى عواقبَ فعلِك، فلا تذكر دينًا ولا أدبًا ولا صحة، ولولا ضعف إرادتك ما تركت تلك الدواعي تتغلب على فكرك وتصغِّر في عينيك الفقر والمرض وضياع الشرف وهلاك الأسرة.
مختار : آهٍ يا ابن عمي، أنت تحكم على ما لم تُحِط به خبرًا. لو أنك ذقت لذة ساعة من تلك الساعات! إنني كنت أملأ الكأس وأدنو منها فأشرب وأقبلها، ثم أسقيها فتشرب وهي بين النوم واليقظة، ثم أقول لنفسي: يا لله! هل بين النساء اللاتي خُلِقْنَ من عهد حواء إلى الآن امرأةٌ أجمل منها؟ كلا! كل شيء فيها جميل! في نومها وفي يقظتها في سكرها وصحوها … وما زلنا كذلك حتى الصباح، ولم أنم حتى أشرقت الشمس فغلبني التعب والغرام والخمر والعبق المحيط بنا.
عبد المجيد : ألم تنظر إلى وجهها في الصباح؟ وهل وجدتَ فيه من المعاني ما وجدت وأنت تتخبط تحت تأثير الليل والخمر؟ ألم تنظر إلى وجهك الأصفر الحيواني في المرآة؟ ألم ترَ فيه آثار الضعف والخطيئة؟ ألم تذكر إذ ذاك أيام حياتك الأولى إذ كنت فتًى تتيقظ بنشاط وصحة؟ ألم تبكِ ألمًا وخجلًا من حاضرك؟ هل أصبحت أسير شهواتك فلا تستطيع الفرار منها؟ يا مختار ألا تذكر أمَّك وأختك؟
مختار : رغمًا عن فلسفتك وهمومي وأحزاني، أقول لك إن قلبي في يد تلك المرأة. إنني أسيرها جسمًا وروحًا، لقد سئمت الحياة إلَّا بجوارها، وكرهت الناس ما عداها. يقولون إن الحب الطاهر هو وحده القوي الشديد الذي يملك العواطف ويأسر النفوس، أما الحب النجس فتشتعل به النفس أمدًا ثم تنطفئ شعلته. فلماذا أحبها أكثر من كلِّ إنسان وأكثر من كل شيء؟ لقد سبَّب لي حبُّها الاندفاع في المقامرة والخمر وجفاء أهلي، هل حبها ذنب جرَّني إلى هذه الذنوب كلها؟ نعم نعم أنا أحبها فلا بدَّ لي من رضاها ولو نُسِفَت الجبال وجفَّت البحار، ولو أمسيت فقيرًا مُعدَمًا، ولو سألت الناس كسرة خبز. إنني مدفوع بعواملَ أقوى من الفقر وذلِّ السؤال والعقل والصبر والفضيلة، وأقوى من كل شيء فيا أسفي ويا حسرتي! (يبدو عليه التأثُّر.)

المنظر الثالث

(عبده – شفيقة)
عبده (من الخارج) : الست مش هنا يا ست شفيقة، بقول لك يا سلام ما تبقيش كده.
شفيقة : وانت مالك يا جدع، خلِّيني أخش أشرب لي فنجان قهوة واستنا الست (يدخل عبده).

المنظر الرابع

(عبده – مختار)
عبده (لمختار وصاحبه) : اتفضلوا خشوا جوه الأودة على ما تنزاح البلوا دي.
مختار : مين دي؟
عبده : دي شفيقة المصرية الشهيرة بتاعة زمان.
مختار : عاوزة إيه؟
عبده : بتنجم وتفتح الورق وتسترزق من كده.
مختار : ما تخليها تيجي يا واد يا عبده.
عبده : بعدين تطلب فلوس.
مختار : وماله أنا بدي أشوفها؛ لأني سمعت عليها وسمعت إنها كانت أدب أهل زمانها وأظرف الستات.
عبده : اتفضلي يا ست شفيقة.

المنظر الخامس

(تدخل امرأة شقيَّة الحظ حقيقة ومنظرها يدل على الفقر الشديد بعد نعمة.)

مختار : أهلًا وسهلًا (بتأثُّر).
شفيقة : أهلًا بك يا بيه. لو كنت عارفة حضرتكم هنا ما كنتش دخلت، قطعت عليكم المجلس.
مختار : إن وجودك يسرُّنا.
شفيقة : وجودي دلوقت يا بيه ما يسرش ولكنه يحزن. وفي هيأتي وحكايتي عبرة للستات؛ علشان كده أحب أزورهم، واللي أعزُّه منهم أحكي له تاريخي؛ أنا كنت أجمل واحدة في الأزبكية، وكانت مصوغاتي سيرتها في فم كلِّ الناس، وكان المشاهير يجو علشان يسمعوا صوتي ويجالسوني وينبسطوا من كلامي. وأديني ضيَّعت كلَّ شيء، ولا ليش من الدهر لا بنت ولا ولد ولا حلتيش حاجة، وأصبحت عبرة، وأصبحت مذهولة، ربنا ما يورنيش فيكم ردي (تبكي ويبدو التأثُّر على الاثنين).
عبده : يالَّه بقا يا ست شفيقة مش وقته، البهوات جايين ينبسطوا والا جايين يتعكننوا، ربنا يخلي أهل النظر، إنت برده ست العارفين.
عبد المجيد : اخرج بره يا ولد مالكش شغل، شايف يا سي مختار بس خلي بالك.
مختار : أنا مليش جَلَد أسمع كلامها. آدي آخرة الجمال والفساد.
شفيقة : يا ريتني لقيت راجل يوكلني لقمة عيش بدقة ويصونني في منزله.
مختار : كل الناس كانوا يتمنُّوا رضاك.
شفيقة : ولكن ما حدش كان عاوز يجَّوزني، كلهم عاوزين يتمتعوا شوية ويروحوا لحالهم.
عبد المجيد : يا ريتك لحقت نفسك يا ست شفيقة.
شفيقة : الشباب شعرة من الجنون، الدنيا فتانة والدهر غدَّار، طول الواحدة منا ما هي شابة وحلوة ومصيغة تظن أن الحال يدوم كده إلى ما شاء الله؛ الناس تفهم حالتنا قبل إحنا ما نفهمها، يروح شبابنا وجمالنا في نظرهم، واحنا لسه حلوين وصغيرين في نظر أنفسنا، والمراية اللي نطل فيها كل يوم ما توريش الفرق (يُخرِج مختار نقودًا ويمد يده بها إلى شفيقة).
شفيقة (تبكي) : اللي مكتوب على الجبين تراه العيون.
مختار : خدي يا ست شفيقة.
شفيقة : إحسان … يادي الفضيحة!
عبد المجيد : لأ، هدية (يخرج نقودًا هو أيضًا).
عبده : ربنا يخلي البهوات، ادعي لهم بقه يا ست شفيقة (عند ذلك تُسمَع غوغاء وضحك وكلام بصوت عالٍ).
عبده : ست شفيقة، الست خارجة من الحمَّام، وانتِ عارفة طبعها لما بتشوفك بيحصل لها كدر (تهم المرأة بالانصراف).
عبد المجيد : امشي يا ولد بره. لازم تقابلها دي عاوزاها في شغل ضروري (لنفسه) هذا هو المنظر الذي أنتظره مقارنةً بين الحاضر والمستقبل؛ وجيدة الجميلة الصبية الغنية المرغوب فيها، وشفيقة الذميمة العجوز الفقيرة المهجورة المطرودة.

المنظر السادس

(تدخل وجيدة في ثوب جابونير كيمنيو وشعرها مفكوك، فتضحك عاليًا عندما ترى الشابين وتجلس ثم تستبين شفيقة التي لا تدنو منها، فتسلم عليها ويبدو انقباض عليها.)

وجيدة : أهلًا وسهلًا ست شفيقة، إنت هنا من الصبح لو كنت عارفة كنت خرجت من بدري، شربت القهوة والا لسه؟
شفيقة : شربت يا ست، ربنا يخليكِ ويخلي البهوات.
عبد المجيد : الست شفيقة كانت بتحكي لنا تاريخ حياتها.
مختار (له) : ما تكدرهاش يا عبد المجيد (لوجيدة) حضرته ابن عمي.
عبد المجيد (له) : لا، وهي المسألة فيها كدر؟
وجيدة (لعبد المجيد) : تشرَّفنا يا أفندم. لا يعني سمعت تاريخ حياتها وعارفاه وادي حال الدنيا. واد يا عبده.
عبده : نعم يا ست.
وجيدة : هات الجزلان من تحت المخدة (يدخل الغرفة).
شفيقة : البهوات ربنا يخليهم سبقوك قدموا لي … هدية.
وجيدة : طيب وأنا مالي وماللبهوات دي عادة (يعود عبده وتأخذ منه وتخرج نقودًا).
شفيقة : ربنا ما يقطعلكيش عادة (تعزم على النهوض).
وجيدة : ابقي تعالي.
شفيقة (تنهض بحالة مُحزِنة) : إن شاء الله (تسلم على الجميع وتخرج).
عبد المجيد : مسكينة الولية دي منظرها يقطَّع قلب الجماد. فين النهارده من امبارح دي شفيقة المصرية المشهورة اللي صورها على علب الكبريت، وتقاتل الشبان علشانها، واغتنى من ورائها الخواجات أصحاب قهاوي الرقص، وبنوا من وراها أساطيل، دي موعظة كبرى لأمثالها.
وجيدة : آدي حال الدنيا، ومع ذلك انت تفتكر حضرتك إن احنا مرتاحين لحالتنا والا راضيين بها؟ ولكن ده وعد لازم نستوفاه، وأنا ساعات لما أشوف ست شفيقة اللي كانت هنا أقول في نفسي بكره أبقى كده، وأروح من بيت لبيت وأشحت ولا حدش يسأل عليَّ (تبكي).
مختار (يطيِّب خاطرها ويقول لعبد المجيد) : كده يا أخي، ما قلت لك من الصبح إنها ما تتحملش الانفعالات دي.
وجيدة (تضحك ضحكة عصبية) : لا … لا أنا كده تملِّي بعد الحمام، وعلشان كده أحب أشرب كاس كونياك زي ما قال لي الدكتور … عبده هات قزازة المارتيل اللي فوق البوريه، وكأس نضيف يمكن كأس الكونياك يفوقني (يعود عبده بالمطلوب تُفرِغ) في صحتكم (تشرب).
مختار : أنا حاخد كاس واحد أنا كمان، علشان تأثرت قوي.
عبد المجيد : أيوه انت تلاقي ألف عذر للشرب قبل المغرب.
وجيدة : بلاش يا مختار، أحسن ابن عمك مش عاوزك تشرب، أنا مشفتوش إلا النهارده، ولكن باين عليه جد.
مختار : يعني إيه وأنا مش جد؟
وجيدة : أيوه أيوه طبعًا. قصدي إنه ما يحبش يشرب ومش عاوزك كمان تشرب.
مختار (يشرب) : ده ابن عمي مش عاوزني أعمل حاجات كتير.
وجيدة : أظن مش عاوزك تعتِّب البيت ده، عنده حق، أنا قربت أحبك، ومين عارف يجرى إيه بعدين يا هل ترى تجَّوزني.
مختار : ليه لأ؟
عبد المجيد (لنفسه) : الله الله المسألة وصلت لحد كده!
وجيدة : ما تبصش لحالتي هنا، أنا أصلي طيب، أنا أبويا الحاج حسن الجزايرلي على سنِّ ورمح، اللي كان تاجر مشهور في إسكندرية وفلس، ولما فلس همومه كترت، فاتعلم الشرب علشان يسكن حزنه، وكانت والدتي تقول له ربنا بكره يصلح أحوالنا، وحافظ أنت بس على صحتك، والحكيم كان ينصحه ولكن ما نفعش فيه كلام حد منهم، وفِضل يشرب لحد بعيد عنك ما انشل ورقد في الفرش، وبالحق والدتي ما قصرتش في الصرف والعلاج والحُكَما والأدوية، ولكن كله راح في الهوا. وفضل أبويا راقد في الفرش ثلاث سنين، أنا فاكرة الأودة والسرير اللي كان نايم فيه، وشايفاه أصفر ونحيل دلوقت كأنه قدامي، وفي إيده كتاب ولما يحس إن حد دخل الأودة يرفع نظره بشويش ثم يحقق في وش الداخل وبعدين يرجع تاني زي ما كان مذهول وساكت، وكان وجهه جميل وله دقن بيضة، ويظهر إن عقله ضعف من الشرب والمرض (تشرب كاس كونياك).
مختار : القصة دي مؤثرة بلاش دلوقت.
عبد المجيد : بالعكس دي حكاية مهمة خليها تفتكر أمواتها.
وجيدة : إنت عاوز تسمع، أنا أحكي لك انت، وخلي مختار يغير.
مختار : لا أنا عاوز أسمع أنا كمان، بس انت بتتأثري يا حبيبتي.
وجيدة : طيب اسمعوا انتو الاثنين … لما طال المرض على والدي وقطعنا الرجا من شفاه، والدتي الأخرى خسِّت واصفرت، وكان لي أخت أكبر مني، بقت تخرج تتفسح واستضعفت والدنا لما شافته مريض ما يقومش وتقريبًا ما يفهمش، ووجدت نفسها حرة تفعل ما تريد. وكانت اتجوزت قبل ما يرقد وجوزها مات وورثت فيه قرشين واشترت عربية وعاشت واحدة ست صبية وغنية وعازبة ومش مخلفة، وفي يوم من الأيام جابت لنا في البيت جدع اسمه إبراهيم، حليوة وعياقة، وقالت إنه خطيبها وأخيرًا اتجوزها فعلًا، ولكن يظهر إن الزواج طفى نار الحب فمصمصها من القرشين اللي ورثتهم من زوجها، وتركتنا احنا ووالدها في غاية الاحتياج، وكانت والدتي نفسها عزيزة، وكان عمري سبعتاشر سنة وكان جوز أختي الجديد تملِّي يعاكسني ويقدم لي هدايا في السر، وفضل يغويني ويضحك على عقلي إلى أن وصل لغايته … وفي يوم فاجأتنا أختي وعملت فيه اللي ما يُعمَل وطلبت أن يطلقها فهدَّدها فعلًا بالطلاق، فخافت وانتهت المسألة بالصلح على شرط انهم يسيبونا ويعزلوا، كل ده حصل ووالدنا المسكين راقد في الغرفة ولا يدري اللي جرى في منزله، أخيرًا ما طولش عليكم مات والدي وضاقت الدنيا بنا، فجيت أنا ووالدتي على مصر فالخواجة أنطون صاحب الألدرادو فرح بي وعلمني الغنا، وتوتة توتة فرغت الحدوتة (وتضحك ضحكة عصبية كأنها بكاء).
عبد المجيد : طيب عاوزة تجَّوزي مختار إزاي بعد ده كله؟
وجيدة : أنا بضحك، يعني هو يرضى، كان أَوْلى الجدع اللي عرفني وأنا بكر، ومع ذلك مين يعرف يمكن واحدة مثلي تصون نفسها وتعرف نعمة الزواج أكتر من ألف واحدة ثانية.
مختار : أنا أتمنَّى أجوزك بس لو يرضى العذول.
وجيدة : دخلنا بقي في الهزار. أنا ما عمريش حكيت تاريخي لحد غيركم، يعني ما فيش واحدة مننا راضية بحالتها، ولا حد منا عايش في الهم ده بكيفه.

المنظر السابع

(يدخل عبده)

عبده : يا ست، الخواجة أنطون مشيع الشيخ بحر.
وجيدة : قوله مش نازله الشغل الليلة، علشان تعبانة قوي وأهو الحكيم قاعد عندي (لعبد المجيد) اعمل انت حكيم لما اخبي الكونياك (تخبيه).
عبد المجيد : يعمل مختار أحسن (يخرج عبده ثم يعود ومعه الشيخ بحر، وهو شخص سُتري أو مطيب وهيأته مضحكة نوعًا).
الشيخ بحر : أسعد الله التماسي على أسيادي البهوات، طول الليل وأنا بقاسي من فراق الأحبة.
وجيدة : جتك إيه يا شيخ بحر (تضحك).
بحر : جتني بوسة من اليد الطرية (تعطيه يدها) ثم بعد ذلك الخواجة الهالك يسأل مكارم الست أن تتفضل على التخت؛ لأن الناس في الانتظار، ولو قعدوا لحد ما يشقشق النهار!
وجيدة : أنا عيَّانة، سلِّم على الخواجة، وقول له واديك شايف اثنين حُكَما جنبي.
بحر : أنا العليل وانت الطبيب، واللي جرح عنده الدوا، طيب يا ست سأبلغ الرسالة لأنطون ابن الغسالة اللي حقه يقفل القهوة ويستعوض الله في ثمن الزجاج، ما دامت وجيدة الأقمار متعكرة المزاج.
وجيدة (تضحك) : كتر خيرك (تعطيه نقودًا).
بحر : خيرك علينا عندي للبهوات لادن زي الفل (يخرجه ويفرق) ثم من بعد ذلك أسعد الله التماسي يا ست الكل.
وجيدة : يسعد مساك (يخرج) أما أقوم بقى ألبس هدومي أحسن الليل دخل، مش حتتعشوا عندي؟ أنا أحب أكل الحاتي.
عبد المجيد : أنا أستأذن.
وجيدة : جرى إيه؟
مختار : خليه يروح أحسن مالوش عادة يسهر (يخرج عبد المجيد ووجيدة تقع بين ذراعي مختار).
(ستار)

الفصل الرابع

(عيادة طبيب الأمراض الزهرية.)

المنظر الأول

(طبيب – مريض أول)
طبيب : إنني أفحص البول كلَّ يوم، وأجعل العلاج حسب حالة الميكروب قوة وضعفًا.
مريض أول : إنني لا أزال أتألم كثيرًا خصوصًا إذا تيقظت ليلًا وشعرت بحاجة ﻟﻠ…
طبيب : مفهوم … مفهوم هذا أمر طبيعي. إننا لا نزال في الدور الثاني للعلاج ومع ذلك …
مريض : لو كنت أعلم متى يتم شفائي بالضبط إذن لا أكون رجلًا إذا لم أجزل مكافأتك.
طبيب : ليست المسألة مسألة مكافأة، ولكن للشفاء أدوارًا مثل أدوار المرض، ومع ذلك …
مريض : مع ذلك ماذا؟
طبيب : كان يمكنني أن أشفيك في وقت قصير جدًّا إذا كنت …
مريض : أنا مستعد لدفع أي مبلغ …
طبيب : دع عنك المبالغ، إنما إذا كنت تحتمل حقنة نترات الفضة فإن العلاج مضمون وسريع. ولكن يوجد كثيرون من المرضى لا يحتملون ألمها.
مريض : أنا أحتمل أي ألم في الدنيا! هل الألم شديد جدًّا؟
طبيب : طبعًا لأن المادة كاوية للغاية، ويعقب العلاج بها ضيقٌ في القناة وانتفاخ في بعض الجهات، والتهابات شديدة مؤلمة، ولكن نتيجتها ليست خطرة.
مريض : أنا مستعد لأن أحتمل أي ألم في الدنيا، ولكن هل هذه الالتهابات مؤلمة جدًّا؟ جدًّا بحيث …
طبيب : طبعًا مؤلمة قد يتعسَّر عليك التحرُّك من الفراش بضعة أيام، وقد تتألم إذا انحبس البول كما هو المنتظر في تلك الحالة.
مريض : إذا لم يكن هناك خطر فأنا مستعد؛ لأنك يا دكتور لا تتصور مقدار الآلام البدنية والمعنوية التي أشكو منها؛ إن الآلام البدنية المتقطعة أتحملها بشيء من الجلد، لأنني تعودتها وأصبحت أعتبرها جزءًا من حياتي اليومية التعسة، على ما في هذا الاعتبار من الشقاء والحسرة، ولكن الشيء الذي أصبحت لا أحتمله هو الآلام المعنوية.
طبيب : مفهوم … مفهوم (يظهر علامات ضجر).
مريض : تصوَّر يا حضرة الدكتور، إنني إذا مشيت في الطريق أشعر كأن كلَّ الناس تعرف حقيقة مرضي، وإذا حدَّق بي أحد المارة أُطأطِئ رأسي حالًا، وأقول في نفسي هذا طبيب قد اكتشفني وهو يحتقرني لأني مريض، وإذا صدرت من أحد الناس إهانة لي اضطررت لمعانقته خشية أن يعيرني بمرضي، مع أنه قد يكون أجنبيًّا عني ولم يقع عليه نظري قبل ذلك الوقت.
طبيب : مفهوم … مفهوم (بضجر).
مريض : وخصوصًا إذا رأيت امرأة كائنة من كانت، فإن الغضب حينئذ يملك نفسي ويُخيَّل إليَّ أنها جديرة بانتقامي؛ لأنها تمثِّل جميع بنات جنسها، بما فيهن تلك التي سبَّبت لي تلك الآلام. ومع ذلك فإنني كنت أحبها ولا أزال أحبها إلى الآن ولكنني أخاف أن أدنو منها لئلا …
طبيب : مفهوم … مفهوم، أرجو أن تخبرني إذا كنت صممت على استعمال العلاج الشديد الذي تكلَّمنا عنه، وهو يضمن لك الشفاء السريع مع بعض الألم بدون خطر، أم تفضل أن تستمر على العلاج العادي.
مريض : أنا مستعد لاحتمال أشد الآلام ما دام ليس هناك خطر، ولكن الانتفاخات والالتهابات وانحباس البول، ألَا يمكن أن ينتهي هذا العلاج بالموت … لأن الست والدتي …
طبيب : كلا إنه ينتهي دائمًا بالشفاء، إلَّا إذا استجدت مضاعفات.
مريض : مضاعفات! غير الانتفاخ والالتهاب؟
طبيب : كل علاج عرضة للمضاعفات، ولا يستطيع أي طبيب أن يتَّقيَها، ولكنه يحسب حسابها ويعالجها.
مريض : كل هذه المصائب والأخطار مقابل لذة دامت أقل من بضع ثوانٍ. تصوَّر يا حضرة الدكتور كيف كانت حالتي، والعياذ بالله، لو أصابتني قرحة من المرض الذي لا أريد أن … يا لطيف! إذن كانت الست والدتي … ومع ذلك أنا لم يحصل لي مثل هذا الشيء في فرنسا، فقد كنت أتعلم الفنون الجميلة في مونبليه وتولوز، وكنت طبعًا كما لا يخفى على فطنتك …
طبيب : مفهوم … مفهوم (يتحرك نحو الباب) أظن أن الأفضل أن تستمر على العلاج العادي؛ فإن حالة أعصابك على ما يظهر لا تسمح بالطريقة الأخرى. إلى غد في مثل هذه الساعة.
مريض : أنا مستعد لاحتمال أشد الآلام … لأن الست و…
طبيب (يفتح الباب) : مع السلامة (يخرج).

المنظر الثاني

(تمرجي صامت – طبيب – شاب)
طبيب (يدق جرسًا فيظهر التمرجي بالباب) : غيره بالدور (يختفي التمرجي)، (لنفسه) هذا المريض حمَّى ولكنه معذور (يدخل شاب لطيف الهيأة) تفضل يا أفندم، اجلس هنا.
الشاب : عفوًا يا دكتور أنا أسمع باسمك؛ لأن شهرتك واسعة جدًّا.
طبيب : إن شاء الله أستطيع أن أؤدي لحضرتك الخدمة اللازمة.
الشاب : المسألة بسيطة ولكن يهمني جدًّا …
طبيب : مفهوم … مفهوم.
الشاب : مسألة دقيقة للغاية. ولكن لا داعي للخجل …
طبيب : طبعًا … تفضل دعني أفحصك أولًا!
الشاب : دعني أتكلم أولًا … منذ بضعة أيام شعرت بحكة في … وخصوصًا في جانبي الصِّماخ، ثم شعرت كأن هناك شيئًا يؤلمني من الداخل، فوجَّه هذا نظري إلى ذلك المحل مرارًا عديدة في وقت قصير، ثم وجدت أن البول صار متكرِّرًا، وبعد ذلك بيومين أو ثلاثة حصل التهاب وانتفاخ، ثم صرت أرى سائلًا كريهًا، ثم شعرت باحتراق في البول وكنت إذا حدث ليلًا …
طبيب : مفهوم … مفهوم الحالة معلومة لدينا، اسمح لي …
الشاب : من فضلك كلمتين؛ فإنه حصل عندي تعقيد في المحل وألم في المثانة.
طبيب : ألم تشعر بشيء من البرد والحمَّى …؟
الشاب : نعم شعرت أمس بالحمَّى وبضعف عامٍّ وانحطاط في سائر أعضاء البدن، وبالي في غاية الاضطراب والقلق، وهذا سبب حضوري.
طبيب : المسألة بسيطة لا تستدعي الاضطراب … ويوجد في البلد عشرات الآلاف مصابون بهذه الحالة شبَّانًا وكهولًا … ونساء.
الشاب : عشرات الآلاف! إنني أظن نفسي أنا الوحيد. عندما أسير في الطريق أشعر …
طبيب : مفهوم … مفهوم بأن الناس تحتقر جنابك وأنهم يعلمون حقيقة علَّتك.
الشاب : تمام يا دكتور، كأنك مريض مثلي.
طبيب (يتبسم) : هذه أعراض معلومة لدينا.
الشاب : أريد أن أخلص من هذا الداء مهما كلفني ذلك … لأنني موظف بالحكومة ولا أستطيع أن أعانيه أكثر مما عانيت.
طبيب : ألم تعالج نفسك بشيء؟
الشاب (يخرج من جيبه زجاجة وحقنة) : أرشدني أحد أصدقائي إلى صيدلي ماهر فأعطاني هذا العلاج، فاستعملته ولكنه زادني ألمًا واضطرابًا، ناهيك بما يصيبني من الخوف لإخفاء هذه (العدة) في البيت وفي الديوان.
طبيب : لقد أخطأت في استعماله ومع ذلك فأحسن ما يعمل الآن هو فحص السائل بالميكروسكوب للتأكد من وجود الجونوكوكس نبسر.
الشاب : أين يوجد هذا؟
طبيب : جونوكوكس اسم الميكروب ونبسر هو العالم الذي اكتشفه.
الشاب : فهمت.
طبيب : فأفضل ما يمكن عمله الآن هو فحص السائل وترك العلاج بالحقن، والالتجاء لبعض الجرع التي تقلِّل الالتهاب وتخفِّف حموضة البول، وبعد ذلك ببضعة أيام إذا تأكدنا من وجود الميكروب نقاومه بالحقن اللازمة. وفي الوقت نفسه ينبغي لك أن ترتاح راحة تامَّة وتقلِّل من المشي والحركة العنيفة، وأن تحتمي على قدر الطاقة. تفضل خلف هذه الستار واترك في آنية عندك أثرًا من ذلك السائل (يتوارى الشاب ويأخذ الطبيب يكتب في دفتر أمامه ثم يدخل إلى حيث الشاب ليفحصه).

المنظر الثالث

(مريض أول – تمرجي)

(يدخل مريض أول وخلفه التمرجي.)

مريض أول : فقط أريد مخاطبة الدكتور في كلمة لأنني نسيت أسأله عن نظام الأكل؛ لأن الست والدتي …
تمرجي : يا أفندي من فضلك ممنوع الدخول في غير دورك هنا محل أسرار.
مريض أول : طبعًا طبعًا كلنا نعرف ذلك، ولكن الست والدتي كانت قالت لي …
تمرجي : يا سيدي تخرب بيتي إذا كان حضرة الدكتور يراك في محل العيادة وهو مشغول مع مريض آخر.
مريض أول : طيب ها أنا خارج، ولكن خذ لي إذن بالمقابلة قبل المريض الآتي … ومع ذلك نظام الأكل أجعله مثل أيام مونبليه … أحسن فكرة لأن الست والدتي …
(تمرجي يسحبه بلطف فيخرج ثم يخرج المريض من وراء الستار وخلفه الطبيب ويكتب الطبيب ورقة.)

المنظر الرابع

(شاب – طبيب)
شاب : كم تريد يا دكتور؟
طبيب : نتفق على أتعاب المعالجة فيما بعد، اسم حضرتك؟
شاب : عنايت حسني، وموظف بقلم الضرائب، عمري ثلاثون سنة وغير متزوج، وقاطن بحارة مغن بشارع الشيخ داود قسم السيدة (الطبيب يدوِّن في دفتر).
طبيب : تشرفنا، تفضل بالمرور بعد ثلاثة أيام، واستعمل هذا الدواء من اليوم (يعطيه تذكرة) وامتنع عن أكل اللحوم الحمراء والمواد المهيجة والحريفة وعن شرب المنبِّهات، وابتعد عن السهر على قدر الطاقة.
شاب : متشكر يا دكتور.
طبيب : اغسل يديك، وإياك أن تلمس عينيك أو فمك أو أنفك، أو عيني أحد في المنزل أو فمه أو أنفه عقب فحصك؛ فإن الميكروب إذا كان موجودًا ينتقل ويسبب عدوى مؤلمة لمن يصيبه في تلك الأماكن.
شاب : كثيرًا ما فعلت ذلك، فما العمل؟
طبيب : احترس من الآن واغسل يديك دائمًا بليزول أو ما يقوم مقامه من المطهرات، واغسل عينيك وفمك دائمًا بمحلول البوريك، ولا تخالِطْ أحدًا خصوصًا السيدات والأطفال.
شاب : متشكر يا دكتور.

المنظر الخامس

(طبيب – عبد المجيد – مختار)
طبيب : أهلًا وسهلًا (يصافحهما) إنني لم أركما من زمن طويل. من ليلة تعرُّفي بحضرته (مشيرًا إلى مختار) في محل اللعب.
مختار : صحيح.
طبيب : الأيام تجري بسرعة أكثر من ستة شهور الآن.
عبد المجيد : تقريبًا.
طبيب : إن حضرته مشغول بالحياة العالية والتمتُّع والسهر فأنا أعذره إذا لم يجدد مودتنا، ولكن أي عذر لك أنت؟ أنت طليق لا يشغلك شيء من ملاذِّ هذه الحياة.
عبد المجيد : إن ملاذ الحياة لا تشغل، ولكن همومها هي التي تشغل، ومع ذلك فإننا لا نريد أن نضيِّع وقتك الثمين؛ لأن عندك في غرفة الانتظار عدد عظيم من الزائرين، كان الله في عونك.
طبيب : هل رأيتهم؟ إن منظر المرضى غير مُبهِج، خصوصًا هذا النوع من المرضى، لعل ابن عمك لم يتكدر. لو علمت بمقدمكما لاستقبلتكما في مكتبي هل تودَّان الانتظار قليلًا ريثما أفرغ من العيادة ثم ننصرف معًا؟ نصف ساعة على الأكثر.
عبد المجيد : هذا غير ممكن.
طبيب : لماذا؟
عبد المجيد : لأننا زائرانِ في استشارة طبية.
طبيب (بدهشة) : ما هي؟
عبد المجيد : إن ابن عمي مختار بك …
طبيب : آه … من أي شيء يشكو؟
عبد المجيد : هو يظن أنه لم يسمع نصيحتك في تلك الليلة الأولى، فعاقبته نجمة الصباح بأكثر مما يستحق، ولكن هل أتكلم مكانه إنه شديد الخجل، وكان يريد زيارة طبيب آخر خجلًا منك.
طبيب : اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش. ومع ذلك ليس في الأمراض ما يدعو للخجل، الأفضل أن يتكلَّم مختار بك (متلطِّفًا بابتسام) إننا كلنا شبَّان وأصدقاء، وما يحصل له اليوم حصل لنا بالأمس أو سيحصل لنا غدًا.
مختار : إن لطفك يا دكتور ذهب بكثير من الوحشة التي كانت تقتل نفسي، ولكن شعوري بما جنيت يكاد يقضي عليَّ القضاء الأخير.
طبيب : ما هذه المبالغات؟
عبد المجيد : إن ابن عمي يظن أن صديقته أساءت مكافأته.
طبيب : إن الأمراض التي أعالجها ربما كانت مُخِيفة في الأجيال الوسطى، ولكنها صارت الآن أمراضًا عادية، فلا يخشاها الناس لا لأنها تغيرت أو تحولت، بل لأننا صرنا على يقين من أمرها، وصارت محاربتها من أهون الأمور علينا.
مختار : إن صدق ظني فقد يكون مرضي شرَّ الأمراض.
طبيب : قد لا يصدق ظنك وقد تكون متوهمًا، لأن تشخيص هذه الأمراض من أصعب الأمور على الطبيب الاختصاصي نفسه، فما بالك بالشخص الذي يظن نفسه مريضًا.
عبد المجيد : لقد قلت له قد يكون مخطئًا، فلم أتمكن من تهدئة خاطره، ويقول إنه يشعر شعورًا باطنيًّا.
طبيب : إن هذه الأمراض وخصوصًا أخطرها لا يوجد بغتة ولا يظهر بدون إنذار، وكثيرًا ما يزورني شبَّان متوهمون بأنهم مصابون ويقصون عليَّ من أخبارهم أشكالًا وألوانًا، وكل قصصهم أوهام تولَّدت فيهم من خوفهم أو من كلام طبيب لا ضمير له.
عبد المجيد : أظن الدكتور يعرف حالًا بمجرد …
مختار : ولكن قل لي يا دكتور على فرض صحة ظني، فهل هناك أمل في الشفاء؟
طبيب : كيف لا … طبعًا إن أفضل واسطة هي صيانة النفس عن الإصابة، ولكن إذا كان الأمر قد وقع فالعلاج موجود، حقيقة تُوجَد بعض الحالات الخبيثة التي تحدث إذا كان المصاب بكرًا.
عبد المجيد : أظن أحسن شيء هو الفحص.
طبيب : إذا تفضَّل مختار بك.
مختار (لنفسه مضطربًا) : إنني أريد أن أُرجِئ هذه اللحظة على قدر ما أستطيع، ليتني زرت طبيبًا آخر يكاد الخوف يقتلني والخجل يقضي عليَّ.
عبد المجيد : لا تتردد يا مختار، الأمر أهون مما تظن، إن الدكتور صديقنا.
طبيب : تفضل واذكر لي شيئًا عن حالتك باختصار، ثم اسمح لي بفحصك.
مختار : إنني منذ بضعة أسابيع أشعر بضعف وانحطاط في قواي البدنية، وكل من يعرفني يقول لي إنني أصفر اللون، وأنا أحسب الاصفرار من كثرة السهر، ولكنني أشعر أيضًا بكآبة دائمة، ولا لذة لي في نوم ولا طعام وتعاودني حمَّى خفيفة ويسرع نبضي في بعض الأحيان.
طبيب : هل تشعر بأوجاع في بعض أعضاء بدنك؟
مختار : في عامة جسمي وخاصة في الليل، فإنه يتملكني صداع قتَّال، وأشعر بأوجاع عصبية بين الأضلاع وفي الظهر والساقين، كأنني أشعر بقدُّوم نجار يدقُّ عظمي ومِنْشار ينشر أعصابي.
طبيب : هل تنام؟
مختار : نادرًا … انظر إن كل مَن يراني يلفت نظري لهالتين … الهالتين الزرقاوين تحت العينين أظنهما من الأرق، وفوق ذلك أشعر بألم شديد في العين وخصوصًا ليلًا، وأخاف الضوء وتفرز عيني دموعًا غزيرة جدًّا.
طبيب : شيء غريب! هل تذكر أنك شاهدت أثرًا؟
مختار : منذ أسابيع قبل حدوث الحالة التي وصفتُها لك، أظن أنني رأيت أثرًا صغيرًا مستديرًا، ولكنني لم أعلِّق عليه أهمية؛ لأنه لم يكن يؤلمني ولم يزعجني، ثم زال تمامًا.
طبيب : هل تذكر أن هذا الأثر كان قاسيًا كالغضروف أو ليِّنًا رخوًا.
مختار : لم ألاحظ قسوة الأثر، ولكنني أذكر جيدًا أنه كان مستديرًا كفلقة الحمص، ولم يكن سطحه غائرًا، بل ناعمًا لمَّاعًا؛ وهذا الذي صرف ذهني عنه وجعلني أظنه التهابًا بسيطًا، وقد سألت الإنسان الذي ذكره ابن عمي عبد المجيد فأكَّد لي مُقسِمًا بأنه سليم من سائر العاهات البدنية، ولم أتعوَّد منه الكذب.
طبيب : إن وصفك دقيق جدًّا يا مختار بك، وأرجو أن لا ينطبق التشخيص على هذا الوصف، أما الإنسان الذي ذكرتَه فيندر أن يصدق هو وأمثاله في مثل هذه الأحوال، وقد يكون كلُّ هذا وهمًا أو أثرًا من كتابٍ قرأته أو تشخيص طبيٍّ سمعته، وهو باقٍ في ذهنك بغير انتباهك. هل شعرت بتورُّم في الغدد اللمفاوية في جزء من أجزاء بدنك؟
مختار : لا أعرف ما هي الغدد اللمفاوية.
طبيب : الحق بيدك. هل تذكر أنك لمست عنقك وتحت أبطك وطي كوعك، فوجدت أشياء متجمدة مثل البندق تحت أصابعك؟
مختار : لا أتذكر (يلمس نفسه) قد يكون.
طبيب : تفضل خلف هذه الستار (ينهض وينظر إلى عبد المجيد ويتبادلان التأثُّر).
عبد المجيد : تشجع الأمر أهون ممَّا تظن. إن العلم الحديث لم يترك للأمراض سلطانًا على الإنسان (يخرج مختار).

المنظر السادس

عبد المجيد : ما رأيك يا دكتور حافظ؟
طبيب : إن بعض المرضى يشخِّصون أدواءهم أفضل من تشخيص الطبيب، وهذا المسكين منهم.
عبد المجيد : أمريض هو؟
طبيب : لا أستطيع أن أجزم، ولكنه أرجحَ ذلك جدًّا، ألا يزال في صحبة تلك المرأة التي كان لا يبرح دارها، ثم حصل بينهما شقاق لخيانتها ففارقها، ثم ظهر المرض فقابلها ثم افترقا فراقًا حقيقيًّا منذ شهرين؛ إذن هي سبب هلاكه إذا كان مريضًا، إن الأجسام التي كجسم ابن عمك تذبل وتذوب بسرعة من تأثير هذا المرض؛ ألا تراه نحيلًا ذاويًا. إذا كان في جسمه أثَرٌ من النفاط الأحمر فقُلْ عليه السلام.
عبد المجيد : اعمل جهدك.
طبيب (ناهضًا) : هل أنا محتاج لتوصيتك؟!
عبد المجيد : هذا أشأم ما حدث لهذا الفتى المسكين، يا ويل أخته وأمه المسكينتين! إن مَن يقع في أحبولة هذا الداء لا ينجو. دكتور! …
طبيب (مُلتفِتًا) : خيرًا؟
عبد المجيد : أرجو أن لا تَقِفَه على الحقيقة إذا كان مريضًا.
طبيب : لا أستطيع … لا بدَّ أن يعلم كلَّ شيء، لا أقدر أن أخفي عنه من أمره شيئًا إذا كان السفلس يخفى عن المصاب به فأي الأمراض إذن يعلم أمره؟! اطلب مني كلَّ شيء إلا هذا؛ لأنه منذ وطئت قدماه عيادتي فقد أسلم نفسه لي، وأصبحتُ عنه مسئولا أمام ضميري وأمام العلم.
عبد المجيد : إنني أخشى عليه إذا علم الحقيقة.
طبيب : ليس اللوم علينا ولا عليه، ولكن اللوم على التربية الناقصة، إن العلم الحديث يدعو أولياء الأمور أن يعلِّموا كلَّ راشدٍ من أولادهم كلَّ ما يتعلق بوظائف الأعضاء. إن نصف مصائب البشر راجعٌ إلى الجهل والخجل والحياء الكاذب. هذِّبوا العقول … علِّموا الحقائق … اتركوا التهويل والإيهام … قولوا بالشيء لمجرد اعتقادكم بصحته.
عبد المجيد : الحق بيدك، ولكنني أؤكد لك أنه إذا كان مريضًا ووقف على الحقيقة فقد يقتل نفسه، خصوصًا وأنه لا يستقر على حال منذ قطعته تلك المرأة، وقد تغيَّرت أخلاقه تمامًا، وصار مُدمِنًا وهو لا ينقطع عن الشراب ليلةً.
طبيب : سأحاول جهدي تلطيف حالته.
عبد المجيد : دعنا نتفق على عبارة تقولها لي إذا كان مريضًا، ثم دعني أخاطبه.
طبيب : فلْيكُن، ولكن اعلمْ أنه لن يبرح عيادتي دون أن يعلم حقيقة مرضه.
عبد المجيد : أنا أتولى ذلك في حضرتك. اذكر لي عبارة نتفق عليها.
طبيب : إذا قلت لك إن الورد أزهر في هذا الأوان.
عبد المجيد : في أي شهر نحن؟ مايو … لا بأس.
طبيب : فاعلم أنه مريض، وإن لم أقل شيئًا فلا خوف عليه.
عبد المجيد : حسن … اتفقنا (يخرج الطبيب) لقد أصاب الدكتور … لا يُعقَل أن يخرج المريض وهو متوهِّم أنه سليم. بئست التربية التي لا تُنِير عقل الشبيبة، لو أن الحكومة عمَّمت العلوم الصحية والأدبية ونشرتها بين الفقراء والأغنياء، ما وقع أمثال مختار في هذا الداء الوبيل، أين الكتب والنشرات التي تُعلِّم الناس ماهيَّة الأمراض وخبثها وسوء عواقبها وطرق مجانبتها والوقاية منها؟ أين صراحة الوالدين في التربية وحسن عناية المجتمع التي تكفل شجاعة المريض وتحثُّه على عرض نفسه على الطبيب للعلاج؟ ما زلنا وراء المعتقدات الكاذبة حتى ضلَّ مُعْظمُنا، لا خير في رجل يستقيم خوفًا من عذاب النار، الخير كل الخير في رجل يستقيم لاعتقاده بأن الفساد ضررٌ على الهيأة البشرية، ولا فضل لامرئ يترفع عن الدنايا لذاتها؛ لأن في ترفُّعه واجبًا نحو بني الإنسان عامة ونحو نفسه خاصة، ترى ماذا تكون نتيجة ذلك الفحص؟ إن قلبي مضطرب ونفسي واهمة، إن نفسي تحدِّثني أن مختارًا مريض … ها هو الطبيب قادم نحوي. لقد انتهى الفحص (يدخل الطبيب وعليه علامة انقباض بسيط).
عبد المجيد : ماذا وجدت؟
طبيب : الورد أزهر.
عبد المجيد : أي ورد؟
طبيب : ألم نتفق؟
عبد المجيد : أمريض هو …
طبيب : ومرضه خبيث. أمر عجيب يندر وجود هذه الحالة، ولكن كلما كان البدن قويًّا وسليمًا قبل العدوى كلما كان فتْك الداء به ذريعًا. إن الميكروب بذار وبدن العليل تربته، وتربة ابن عمك صالحة جدًّا لنمو ذلك البذار المشئوم.
عبد المجيد : كيف تركته؟
طبيب : يلبس ثيابه بين الرجاء والخوف.
عبد المجيد : هل أخبرته بكل شيء؟
طبيب : كلا إنما قلت له فقط إنها عدوى بسيطة وتحتاج لعناية شديدة.
عبد المجيد : والحقيقة؟
طبيب : مُرَّة … لأنه مريض في الدرجة الثانية، ولكن لم يظهر على بدنه النفاط الوردي، وقد خفَّفت هياجه لأنني وجدته في غاية الانفعال، بعكس حالته الأولى التي كان عليها هنا!
عبد المجيد : وهل يطول العلاج؟
طبيب : إن حالته تدل على أن سير المرض متقلقل متغير، وأعراضه لا ضابط لها، فأعراض الدرجة الثانية بعضها ظاهر ومُعَظمها كامن، وهذا وجه الخطر؛ لأن سم الداء قد انتشر في عموم البدن بواسطة الأوعية اللمفاوية الدموية والشعرية، ولمَّا تجد لها إلى الآن مَخرَجًا أو مظهرًا سوى الحالة النفسية المنزعجة التي رأيتها.
عبد المجيد : وما العمل؟
طبيب : نَقِفُه على الحقيقة ملطَّفة، ثم نبدأ بالعلاج العادي.
عبد المجيد : وهل حياته في خطر؟
طبيب : إنه يشكو من التهاب في قزحية العين، وهذا الالتهاب خطر جدًّا على وظيفة البصر، والذي يخيفني أكثر من كلِّ شيء ضعفُ صاحبنا؛ فقد يتمكن منه الداء فيصيب جلده وعظام عضلاته وجهازه الهضمي ودورته الدموية وكذلك حالته العصبية، فقد يُصاب مجموعه العصبي بعد ذلك بوقت لا ضابط له وتصل الإصابة إلى المخ؛ فتتلف الأنسجة والخلايا وتظهر عليه أعراضُ أفظع الأمراض العقلية وهو الشلل العام.
عبد المجيد : يا لهول ما تروي؟ أتحل هذه المصائب كلها بشابٍّ كمختار؟
طبيب : لقد رأيت من هم أنضر شبابًا وأبهى جمالًا وأصح بدنًا، وقد فعل بهم هذا الداء الوبيل الذي عدَّه القدماء بحقٍّ وباء الإنسانية؛ ما تقشعر من هَوْلِه الأبدان. إن الطبيعة تسير على قوانين مُعيَّنة.
عبد المجيد : إن الطبيعة قاسية ظالمة؛ إذ جعلت لتلك اللذة الطفيفة ذلك العقاب الأليم. إن العقوبة أكبر وأشر من الجريمة أتوسَّل إليك أن لا تَقِفَه على كل تلك الفظائع.
طبيب : لا تخَفْ سأخفِّف عنه وَيْل المصاب.
مختار (داخلًا في غاية الاضطراب) : لقد وقفتُ على كل شيء وعرفت هول مصيبتي.
طبيب : هل كنت تتسمَّع؟ أخطأتَ، إن الحديث كان يتناول أحوالًا غير حالتك.
عبد المجيد : هدِّئ روعك. إن لكلِّ داء دواء.
مختار : إلا ذلك الداء الذي يُفنِي الجسم ويخطف البصر، ويذهب بالعقل في بضع سنين أو بضعة أشهر.
طبيب : لقد عالجتُ مرضى في حالة أشد خطرًا من حالتك وشفيتهم.
مختار : والتهاب القزحية؟
طبيب : قد يقف الداء عنده بالعلاج السريع الشديد.
مختار : وإصابة المخ والنخاع؟
طبيب : قد لا تحدث بتاتًا.
مختار : إن علمك أيها الصديق عظيم، وكرم أخلاقك أعظم.
عبد المجيد : لنبدأ بالعلاج حالًا!
طبيب : دون شكٍّ، المبادرة خير من الإبطاء.
مختار : أمهلوني ليلة ويومًا ريثما أفيق مما أصابني، خذ أيها الطبيب أتعاب عيادتك (يُخرِج مالًا).
طبيب : إنني أتقاضى أتعابي بعد الشفاء (يخرج مختار مُسرِعًا وخلفه عبد المجيد في غاية الاضطراب بدون تحية الطبيب).

المنظر السابع

طبيب (لنفسه) : ما أشقى حظَّ الإنسان! لقد خُلِق ليفنى في خدمة شهوتين شديدتي البأس؛ الجوع والحب، فما زال معظمنا يتفانى في سبيل المال خشيةَ الفقر حتى يَغْنَى، وما زال أكثرنا يجثون أمام الزهرة ويضحون لها بزهرة شبابهم ويحرقون أمام هيكلها الفاتن نضرة الصبى بخورًا، أو يُسهِرُون على عبادتها لياليهم المشتعلة ويسوِّدون بذكراها العذبة المعذبة أيامهم المضطربة (يُطرِق) أراني في احتياج إلى جرعة من شراب منبِّه … (يشرب ثم ينظر في الساعة) الساعة السابعة (يدق الجرس فيدخل مريض أول).
المريض : أفندم أرجو عدم المؤاخذة، أنا مستعد لاحتمال أشد الآلام على شرط أن لا يكون هناك خطر؛ لأنك لا تتصور يا دكتور مقدار آلامي المعنوية.
طبيب (متنبِّه كمَن كان في غيبوبة) : مفهوم … مفهوم (يحاول يخرجه من الباب).
المريض : مستعد لاحتمال أشد الآلام على شرط …
(ستار)

الفصل الخامس

(في حانة إسفنكس بار.)

المنظر الأول

(مختار – قدري)
قدري : وعلى هذا يا أنسي يكون قد تمَّ الاتفاق. جمال الزهر في أكمام الهوى لأن بدائع الريحان تشتم من نسمات ظرفك، ما لي أراك سابحًا في عالم آخر غير العالم المادي.
مختار : إن نفسي حزينة ولا يدخلها السرور.
قدري : هذا كلام لا يُقال يا تمام؛ لأنه بمجرد ظهور بدرك في هذا الأفق فلا بدَّ من أن يشرق، إن المواقف المادية في أكمل المواقف.
مختار : ولكنك تفضِّل الخيال على سائر المواقف المادية.
قدري : لا يا أنسي، إن الخيال فقط وسيلة للوصول للمواقف المادية.
مختار : لا أفهم بل سمعتك كثيرًا تقول إن المواقف المادية توصلنا إلى الخيال.
قدري : هذا مستحيل يا أنسي فإن هذا الخيال (يُخرِج قرطاسًا به حبوب ويتناول منها) والخيالات التي أمامنا من قنب وخشخاش وخندريس كلها خيالات توصلنا إلى حقيقة واحدة، وهي الموقف المادي الأكبر وهو المعلوم لديك يا أنسي.
مختار : ولكن إذا تأمَّلت لوجدت أن الموقف الماديَّ ذاته هو من الخيالات.
قدري : المواقف تختلف يا تمام! وإرضاء النفس عبارة لو وُصِفَت في الكتب كانت أخت المستحيل في المعنى، ومرادف النجم في البعد، وشبه الكبريت الأحمر في الندورة والقلة، وإن شئت فقل إرضاء النفس كلمة تُقال ولا تُخال حتى يصاغ من الخاتم خلخال!
مختار : بالعكس يا صاحبي إن إرضاء النفس سهل، ولكن الصعب إرضاء الجسد.
قدري : الجسد والروح شيء واحد يا أنسي، فقط اختلاف في الأسماء والحقيقة لا تتغير، والذي يصرف أيامه في الصبابة والغزل على سبيل التجربة غير الذي يضحي بتجاربه على مذبح الصبابة والغزل.
مختار : وما قولك فيمن لم يتمتَّع بالصبابة ولم يصل إلى التجارب؟
قدري : ضاعت عليه الدنيا والآخرة يا أنسي والأفضل له أن يتوفَّى.
مختار : وهذه حالتي ورغبتي.
قدري : تريد أن تموت! حاشا للشباب النضر والكرم الصميم والفضل الفيَّاض. إنك إذا أردت أن تموت فإن ملك الموت يتردَّد دون أن يقضي لُبَانتَك، ومع ذلك مَن يدري الموت أقرب لنا من حبل الوريد.
مختار : إسبيرو هات دور (الجرسون يسمع ويذهب لإجابة الطلب).
قدري : إنما أنا الذي أريد أن أموت، ولكنني لا أريد أن أموت قبل أن أحب.
مختار : إن الحب سهل يا قدري وتستطيع أن تلمسه في كل مكان وزمان، ولكن لا تقع كوقعتي (يحضر الجرسون إسبيرو الخمر).
قدري : إنني لا أريد الحب الذي تعنيه، إنما أريد الحب الذي ذاقه أنطنيوس من كليوباترة، لا أريد أن أموت قبل أن أذوق من لذَّته ما تذوَّقَه ذلك الجبار الذي استهان بالمجد في سبيل قبلة من فم معشوقته.
مختار : أما أنا فليس لي أن أتطلب شيئًا مما تتمنَّى؛ لأن قلبي قد أغلق بابه وأصبحت لا أشتهي شيئًا (يشرب كأسًا من الخمر) لقد كنتُ يوم شرَّف الحب قلبي بأول زياراته منذ سنتين ابنَ ثماني عشرة سنة؛ أي في زهرة العمر، وقد أخذت تنفتح أوراقها لنسيم الصبابة وندى الغرام وفي فجر الشبيبة وقد أخذت تبدو من أفقه شمس الحياة فتنير له ما تقدَّم وما تأخر من الأيام (يشرب) وقد أسعدني الدهر بحب تلك المعشوقة الحسناء، فكانت بين ذراعيها أول كلمة همسها فمي من كلمات الهوى، وعلى عنقها الأبيض أول قبلة وضعتها شفتاي من قبلات العاشق الولهان، وفي قلبها أول نقطة سكنها قلبي من نقط غرامه أو نقط دمائه، وفي حبها لي أول مرآة رأيت بها وجه حبي، وتمثَّل لي خيال قلبي كما أحب أن أتمثَّله وأراه، ولقد خلت من شدة حبي إياها وفرط هيامي بمحاسنها أنني لا أتأخر عن القِران بها راضيًا (يشرب خمر ويحقن مورفينًا) وقد بذلت في سبيل هواها كلَّ شيء؛ فقد ماتت والدتي في غيبتي، وتهدَّم بيت أبي وتخرب (بصوت منخفض) وأصابني داء من أشد الأدواء، بل هو شرُّها جميعًا على أن حبيبة قلبي ومنتهى آمالي وملاك صبوتي وغرامي كانت تخدعني وتسخر مني؛ فأنكر لذلك قلبي وشعرت كأن جارحة نزلت بصدري وأن وترًا رنَّانًا قد انقطع من عود حياتي (يشرب خمرًا).
قدري : ألم أقل لك يا همام، إنني لا أريد أن أموت قبل أن أتذوَّق حب الجبابرة للملكات. إن الحب الذي من قبيل حبك خدعة وخيانة، وكل عاشق لمثل محبوبتك إنما هو لعبة وفكاهة، وأنا الذي أتمثل دائمًا:
تمتَّعْ بها ما ساعفتك ولا تكن
عليك شجًا في الحلق حين تَبِين
وإن هي أعطتك اللُّبَان فإنها
لغيرك من خلَّانها ستَلِين
وإن أقسمت لا تنقض العهد والهوى
فليس لمخضوب البنان يمين
مختار : ما أشد ندمي على ما فات! وما أقل اكتراثي بما هو آتٍ!
قدري : أكبر دليل على جهل الإنسان وضعف عقله، ندمُه على ما يفوته من متاع الدنيا وحرصه على ما لديه منه وطمعه فيما لم يقع له. لو أنه فرغ من الندم والحرص والطمع وحصر فكره في تأمُّل حاله برهة فلربما تغيَّر (يشرب).
مختار : كيف يتغير الإنسان وأنت تقول إن الإنسان لا يتغير؟
قدري : فلربما تغيَّر وجه الأرض وتحولت أحوالها. انظر أيها المخلوق (يقف ويخاطب شخصًا خياليًّا) إلى ما قبلك ترَ ماضيًا طويل المدى لا تدركه العقول (يجلس) ثم أعد البصر إلى ما بعدك ترَ مستقبلًا طويل اللبس لا يحيط به إلَّا ذراك، وما حياتك بين هذا الماضي السحيق وذلك المستقبل العميق إلا ثانية لا تكاد لقصرها تدقها ساعة، بل هي بالنسبة للوقت كالنقطة فرض خياليٌّ يقرِّب الحقيقة للإفهام، ووهم لا وجود له في الحقيقة (في هذه الأثناء يكون الشاعر مصغيًا جيدًا لما يدور في هذا المجلس ويتكلم الندمان فيما بينهم همسًا).
مختار : أنت مبالغ يا قدري في هذه التقديرات، أتظن الماضي بعيدًا جدًّا والمستقبل سحيقًا للغاية؟
قدري : الماضي هو الأزل يا أنسي، والمستقبل هو اللانهاية.
مختار : ومن يدريك أن المستقبل ليس قريبًا جدًّا، ولكن قبل كل شيء يحسن التفاهم عن حقيقة المستقبل، ألا يمكن أن يكون مستقبلنا قد انتهى؟
قدري : أي إننا نعيش الآن فيما وراء المستقبل؛ أي في العدم في الفناء.
مختار : نعم في العدم والفناء.
قدري : إذن فلنشربن كأسًا في صحة العدم (تضرب الأوركسترا أنغامًا مارش فنبر MARCH FUNEBRE) … العدم يتكلم يغني ألا تسمع أنغام الغناء؟! (يبدو عليه هياج فيجلس ويُخرِج دفترًا عتيقًا، ويأخذ يدوِّن فيه أشياء ويبدو على وجهه اضطراب).

المنظر الثاني

(يدخل عبد المجيد والطبيب فيلتقيان بمختار وجهًا لوجه، فلما يراهما لا يظهر عليه أقلُّ اهتمام بهما، فيجلسان بجواره ثم يظهر كأنه تنبَّه فجأة.)

مختار : أهلًا بابن عمي، أنت الذي حضرت ساعات أمي الأخيرة، هل كان موتها مؤثِّرًا؟ ماذا تريدون مني؟ هكذا حصل أمر الله، أنا أعظم الناس مصابًا بها كما كانت هي أعظمنا مصابًا بأبي، ولكن أنا الذي شربت غصة الاثنين معًا، ولا أزال في ريعان الشباب. ولم أذق للحياة طعمًا بل سأذوق طعم الموت قبل طعم الحياة.
حافظ : إنك تخطئ كثيرًا لو خطر ببالك الأمر الذي نشير إليه من طرف خفي، ما دامت الحياة أمامك فسيحة.
قدري (متنبِّهًا بعد الكتابة ويضع دفتره في جيبه) : أهلًا بكم يا سادة، لقد أشرقت أقماركم في هذا الأفق، فحق للحَمَل أن ينصرف، أنا الحَمَل ولكن مولدي في زحل ومعبودتي الزهرة.
مختار : صديقي قدري شاعر فيلسوف فاضل.
قدري : مَن كان فاضلًا كان مثلي فاضلًا عند قسمة الأرزاق (وينهض يأخذ كأسه بكل احتراس ويجلس منفردًا).

المنظر الثالث

عبد المجيد : الآن يا مختار وقد حدث ما حدث بعد وفاة المرحومة والدتك (كثيرون من الجالسين يُصغُون إلى الحديث ويبدو عليهم ذلك).
طبيب : الأفضل أن ننصرف من هذا المكان أو نرجئ الحديث إلى وقت آخر؛ لأن الحاضرين يسمعون كلامنا.
مختار : لماذا ننصرف من هذا المكان؟ هذا إسفنكس بار يا جناب الدكتور أشهر محل في مصر يدخله العظماء والكبراء فهذا البرنس وحيد الدين (يشير بيده إلى شخص صامت) وذلك مدير بنك فيلبار، وهذا حسني بك شاعر الملك وحوله ندماؤه الشيخ مصطفى الجمل صاحب جريدة المخلاة … على أنني أقول لكم بحرية إن هذا المكان أفضل من غيره، وهذا الوقت هو أفضل الأوقات، فلربما لا يتيسَّر لنا لقاءٌ آخر.
عبد المجيد : ألست مقيمًا في القاهرة؟
مختار : ربما سافرت.
عبد المجيد : إلى أين؟
مختار : سياحة بعيدة يا ابن عمي وسَفْرة طويلة جدًّا؛ لأنني أمسيت لا أهتم بأحد ولا أهتم بشيء.
طبيب : لماذا؟
مختار : لأنني أصبحت بلا أمل في الحياة، لا أمل في السعادة ولا أمل في حياة الأسرة، ولا أمل في الصحة والشباب.
طبيب : إنك لا تزال في مقتبل العمر.
مختار : أنت تعلم نهاية حياتي، وكيف يكون رجل مثلي بعد قليل كائنًا بغير فكر ولا إرادة. إنني أشعر من الآن كأن نور العقل ينطفئ شيئًا فشيئًا. أشعر كأن رأسي علبة فارغة من كل شيء، وأشعر في بعض الأحيان كأنها ممتلئة بأكثر ما تسع من الهواجس والمخاوف، وفي كثير من الأوقات أحاول الهرب من نفسي.
طبيب : كل هذه حالات تعتريك من الإدمان. لا أُخفي عليك، إنك مريض. ولكن لو اعتنيتَ بنفسك فلا تشعر بشيء مما تصف.
مختار : هل نسيت الكلام الذي قلتَه في عيادتك لعبد المجيد، هذا من سنة ونصف.
طبيب : ولو أنك قضيت السنة ونصف في مداراة الداء ومكافحته، لم تكن الآن لتشكو مما أنت فيه.
مختار : على أنني يا حضرة الدكتور قد قرأت … آلام ورتر وأعجبتني خاتمة ورتر المسكين. إنه كان مثلي.
طبيب : هذا لا دخل له في الطب.
مختار : قد لا يكون له دخل في طب الأجسام. ولكن له دخلًا في طب النفوس. إن النفس المريضة مثل نفسي كالزجاجة التي كُسِرَت. لقد صادفتني الخيبة في كل شيء.
طبيب (لعبد المجيد على انفراد) : إن ابن عمك مصمِّم على الانتحار.
عبد المجيد : إنك ابن عمي لم يصل بك الجهل والكُفْر إلى هذه الدرجة، ألا تخاف الله ألا تخشى يوم الحساب؟!
مختار : إنك يا ابن عمي مع سعة علمك واستقامتك لا تزال طفلًا في الحياة، إن الشاب الذي أصبح مثلي لا يخاف شيئًا؛ لأنه لا يعرف شيئًا لقد خبْتُ في كل شيء، في المدارس، وفي الحياة المنزلية، وفي الحب، وفي القمار، حتى الحب خبت فيه.
عبد المجيد : إن أختك لو علمت بهذا لا شك تموت حزنًا عليك وحينئذ …
مختار : لا يتم الزواج بينكما. كلُّ مَن في الوجود يطلب صيدًا، وأنا أطلب الخروج من هذا الوجود الذي كثرت فيه الحبائل والشباك.
طبيب : هدِّئ روعك واعلم أننا كلنا عرضة للسفر يا مختار بك، وحيث إنك تريد المحادثة هنا وفي هذا الوقت، فعبد المجيد يريد أن يخاطبك في موضوع الخطبة التي تمَّت بينه وبين شقيقتك المصونة.
مختار : أنا لست ممانعًا في شيء بل أريد لها السعادة.
طبيب : ولكن السيدة لا تريد أن يتمَّ قِرانها بدونك، وأنت لا تزور بيتك وهي لا تريد الخروج من البيت بالرغم من الخراب الذي حلَّ به، ولا يقوى أحد على إقناعها بغير ما تعتقد وتريد، وهي من فَرْط حزنها مرضت وأصبح على وجهها من آثار السقم والذبول ما لا يخفى على ناظرٍ، وقد يكون من وراء مرضها الموت السريع.
مختار : الموت السريع! الموت السريع كلمة ما أحلى وقعها في نفسي! وما أجمل رنينها في أذني! لأنها مجمع آمالي ومطمع مآربي. الموت السريع هو يا سيدي الطبيب الخروج من هذا العالم الضيق بآلامه وهمومه وأمراضه وغدره وخداعه إلى ذلك العالم الواسع الرحيب الذي هو الفناء.
طبيب : اسمع يا مختار بك، إنك متطرِّف في أحزانك مثل تطرُّفك في التماس مسراتك. الأفكار السوداء التي تجول في نفسك وليدة ساعتها، ولا تلبث أن تزول وأنا الكفيل بعلاجك وشفائك من جميع أدوائك إذا وثقت بي واعتمدت عليَّ.
مختار : تعالجني من هذا؟ أم من هذا؟ أم من ذلك؟ أم من هؤلاء؟ (يشير إلى الخمر وإلى رأسه وإلى علبة مورفين.)
طبيب : أعالجك منها جميعًا … ولكن الآن تذكر إن احتملت ما أنت فيه فإن أختك لا تحتمله؛ إنك رجل ذقْتَ من الحياة حلوها ومرها، ولكنها عذراء طاهرة بريئة، وقد نُكِبَت في أبيها وأمها، وفي سعادتها المنزلية بفقدك وهي لا شك تفكر في سوء حالتها وتتمنَّى لنفسها ما تجده في أمثالها الفتيات من لذة الصبابة وسعادة الحب والقِران. فماذا يضرك لو تكرَّمت عليها بهذه السعادة وسررتها بزهو الحب، وسهَّلت لها إتمام الزواج بخطيبها عبد المجيد، وهذا لا يكلفك شيئًا.
مختار (يبكي بصوت مكتَّم) : آه … لقد خسرت كل شيء حتى هذا الأمل الأخير. إنني سأموت قريبًا قريبًا جدًّا ولا أجد مَن يبكي عليَّ، ولأني اقترفت جناية كبرى؛ جناية على نفسي وعليها وخيانة لوالدي ولها.
عبد المجيد : إذن صحيح ما سمعنا؟
مختار (دون أن يرفع وجهَه) : ماذا سمعت؟
عبد المجيد : أنك ستزوج أختك من داود بك بدون رضاها؛ لأنك قبضت منه مبلغًا ضخمًا بدَّدته على مائدة القمار وفي حجر البغايا …
مختار : صحيح.
عبد المجيد : الخطبة التي عقدناها في حياة والدتك، هل نسيتها؟
مختار : نسيتها ونسيت نفسي.
عبد المجيد : أترضى أن تكون أختك بهية زوجةً لذلك الفاجر الذي بلغ أرذل العمر، وبنى بأكثر من ست نساء على ما بَلَغَنا.
مختار : ولكنه دفع مبلغًا ضخمًا بصفة نشان، وسيدفع مبلغًا أضخم.
عبد المجيد : إذن أختك سلعة تُباع وتُشترَى. ألم أكن أنا سأدفع مهرًا.
طبيب (بغيظ) : يا لها من جناية لا تُوصَف! ولكنها جناية لا تُعاقِب عليها القوانين.

المنظر الرابع

(يدخل داود بك رجل أشيب خليع متصابٍ وهو الذي كان بالفصل الأول.)

داود : بنصوار مختار (يرفع مختار نظره ولا يتكلم).
قدري (عن بعد) : داود بك، أسعد الله مساءك، كلمة من فضلك (يحاول داود الجلوس مع مختار بصفاقة).
مختار (لداود) : كلِّم قدري (بعد أن ينظر داود لوجه عبد المجيد والطبيب اللذينِ يبدو عليهما اشمئزاز ينصرف).
عبد المجيد : مِن هذا ستزوجها؟ وتقول لي يا دكتور حافظ إنَّ أمَلَكَ فيه لم يضِعْ. إذن أنا الذي فقدت كلَّ أمل في الحياة وينبغي لي أن أموت.
طبيب : تموت! ماذا تقول يا رجل؟ هل الحياة هيِّنة في نظرك إلى هذا الحد؟ أنت أيضًا ميال للانتحار، المسألة إذن وراثية.
عبد المجيد : أية حياة تعني بعد الذي ترى وتسمع؟!
مختار : جناية كبرى وخيانة عظمى.
عبد المجيد : هل وكَّلتك أختك عنها لتبيعها لهذا؟
قدري : انظروا إلى هذا الوغد … السافل المنحط (مشيرًا إلى داود).
طبيب : هيا بنا فإنهم يتشاجرون.
عبد المجيد : هيا بنا مختار! قم معنا.
مختار : انتظراني بالباب قريبًا (يخرجان متأثِّرينِ ويستمر قدري في المشاجرة).
قدري : يظن أنني أقترض منه نقودًا فيعلنني سلفًا بأنه «بطل التسليف» إنه كفَّ عن الاقتراض بالفوايظ الفاحشة بعد ظهور القانون الجديد. يا مُرابي! يا شيخ مُتصابي!

المنظر الخامس

داود : جارسون إسبيرو، ارميه بره (جرسون ينظر صامتًا).
نديم : هذا لا يليق إن الكمال لا يقتضي. إننا كلنا إخوة على بساط المساواة الأنيق الجاري على الشر ندمان مهما تكن الحال لا يصح جرح إحساس رجل أديب.
داود : عندك حق، ولكنه مفلوك ولحوح.
نديم : إن الفلاكة ليست عارًا، ولكن العار هو النَّصْب واقتناء الثروة الطائلة من الطرق الدنيئة.
داود : إنك تعرِّض بي.
نديم : ما تطولش لأن صدري ضيق وأنا حافظك تمام.
داود : إسبيرو ارمي ده بره (ينظر الجرسون صامتًا).
نديم : تعالى يا سي قدري عند سعادة البيك.
قدري (للشاعر الصامت) : هذا ذنبي لأنني رأيت بدرك في هذا الأفق ولم أجالسك. رزأني الله بهذا المذنب.
نديم : إنه أفظع من كوكب مذنب.
قدري : مع الفارق.
نديم : وما هو؟
قدري : الكوكب المذنب ينذر بالدمار وينير الأفق، ولكن هذا ينذر بالدمار من غير نور (ضحك شديد).

المنظر السادس

نصرت (لداود) : كل الناس تكرهك شايف!
داود : ومن تكون أنت أيضًا؟
نصرت : الآن تنكرني ولا تتذكرني.
داود : أمر غريب.
نصرت : ليس أغرب من السندات والصكوك المزوَّرة التي استغويتني حتى حصلت على توقيعي عليها.
داود : لاحظ يا أفندي إن كلامك يعرِّضك لعقاب القانون، هذا يُعَد قذفًا وخدشًا بالشرف يقلِّل من قدري في نظر أبناء وطني.
قدري : إحم.
شاكر : إحم إحم.
نصرت : لأنك يا حبيبي تحب دائمًا التقليل من ثروة أبناء وطنك لحساب خزانتك العامرة.
داود : ولكن يا أفندي هل خاطبتك الليلة؟
نصرت : لا ولكنه تارٌ قديم. كل صغير يكبر وكل مجنون يعقل.

المنظر السابع

شاكر : أظن سعادة البيك لا يتذكر سعادتك.
داود : أرجوك يا سي شاكر أن تتركني.
شاكر : فقط أذكِّرك أنك تقول إنك أحسن صديق للمرحوم والد سعادته.
نصرت : هذا يكون من شقائي.
داود : أبدًا والله، ما أعرفه ولا رأيت وجهه.
شاكر : يا داود بك ليلة أول سند في محل اللعب.
داود : أنت دائمًا ورائي.
نصرت : الآن لا تعرفني ولا تعرف والدي.
شاكر : حاجة في نفس داود قضاها.
داود : لو استشهدت بجميع الأحاديث والحكم والأمثال من جميع الكتب، لا يمكن أعطيك ولا دانق واحد.
شاكر (لنصرت) : أنا أشهد معك على كل ما جرى. الحمد لله ستجد شهودًا أصحاب ذمة، لا بدَّ من إحالة الدعوى على التحقيق.
نصرت : أنت الذي عرَّفتني به.
شاكر : بحسن نية. الواحد منا يأخذ أخاه أو ابنه للسفر فيدهمه القطار، وأنا كذلك قدمتك لهذا الوابور.
نصرت : بمجرد حصولي على المبلغ في أول هتور.
شاكر : في استطاعتي أن أجد لك حالًا مَن يقدِّم لك ما تحب.
نصرت : تفضل بنا ناخد شيء بسيط (يجلسان).

المنظر الثامن

(يدخل سمطان بحالة عرج وإفلاس.)

سمطان : هلو! شاكر بك حماتك تحبك، ذي ما بنقول عندنا بالشام.
شاكر : دا انت اللي حماتك تحبك لأنك داخل علينا اتفضل.
سمطان : باين عليك كسبان إن شاء الله.
شاكر : اجتهدت كتير ومع ذلك يا خواجة كل مساعيَّ ذهبت هباء، أنا طلعت عيني في تطبيق حسبتك على الروج ونوار مطلعتش مضبوطة أبدًا.
سمطان : شوف يا حبيبي دي مسألة سستيم. أنا دارس عنها كتير. وأعطيتك واحد كمينزون. يمكن يخل معك وما يخل معي ٨٢٤ في ٩ و٨٢٥ لازم يطلع ويمكن الشنص بتاعك تجي قبل العدد و٥ ولكن نادر والمسألة مع ذلك فيها سر.
شاكر : سر إيه ما دام المسألة حسبة بسيطة؟
سمطان : لا كل لعيب منَّا له لفتة يد ونظرة. حاجة زي ما تقول إلهام في الوقت المناسب أجت الشنص أو ما أجت أدي الكلام. ومع ذلك تقدر تقعد معاي شوية وأنا أعطيك كمنيزون آخر من السستيم نفسه.
شاكر : تأمر بأي مشروب؟
سمطان : ما بتحرز وسكي وكوفر الماركات التانية ماتوفقنيش.
شاكر : هات واحد وسكي وكوفر بالميه.
سمطان : لا من فضلك بالصودا. من فضلك ورقة وقلم رصاص (يُخرِجها له وينحني. نصرت وسمطان وشاكر على الطاولة للنظر في الرسومات التي يضعها سمطان ويتكلمون همسًا).

المنظر التاسع

مختار : عبد المجيد! خرج هو وصديقه الدكتور. ترك الطبيب أعظم مريض بدون معونة.
قدري : هل ينتقل الحَمَل في دور السرطان (يحضر إليه).
مختار : ما أحلى الحياة لمن يستطيع التمتُّع بها!
قدري : أي خير في هذه الحياة الدنيا وعلام تحب وترتمي؟! فيُفنِي المرء في التعلُّق بأهدابها ما يستطيع وما لا يستطيع من القوى، ويا ليته يبقى بها سعيدًا ولو إلى مدًى. إنما يمارس فيها الأذى، ويلبس فيها لباس الضنى، ويشرب كأس الحمام مرغمًا، ثم يسكن الأجداث كغيره ممن مضى.
مختار : أراك شديد اليأس والنفور من الحياة مثلي، على أنني كنت أحبها … الحياة فرقت بيننا في المسار وجمعتنا في الشقاء (إلى الساقي) إسبيرو دور كوكتيل باليبرمنت (يذهب ليعود بالمشروب).
قدري : إسبيرو في اسمه معنى الحياة أم معنى الأمل؟ (بصوت منخفض) إسبيرو ألا ترى لونًا للحروف الألف أصفر والسين بنفسجي والباء أحمر قاني والراء أخضر (يحضر إسبيرو بالكوكتيل ويضعه) الراء أخضر. وهذا العفريت أخضر أيضًا ولكنه مسجون في تلك الأقداح، حتى إذا انطلق وأسلم رجليه إلى أفواهنا ورءوسنا أغرب في الرقص والغناء.
مختار : طبعًا إنه عفريت أخضر ذو أجنحة، فلنبادِرْ إذن إلى قصِّ أجنحة هذا الشيطان (يشرب).
قدري (بعد أن يشرب نصف القدح) : انظر، عفوًا أيها المخلوق الناقص العاجز، إنك لا تستطيع النظر.
مختار : أنظر إلى أي شيء؟ (بذهول).
قدري : أنا لا أخاطبك إنما أخاطب الحظ، ولكنني تذكرت.
مختار : تذكرت ماذا؟
قدري (يشرب) : تذكرت أن الحظ كالعدل أعمى.
مختار : الحظ كالعدل أعمى! حقًّا الحظ أعمى.
قدري : فقد يرزق المستغني أقوات أمَّة ويحرم المحتاج قوت عيلة، وقد ينجو الهجام الأهوج ويهلك الحريص المتأني، وقد ينال الراقد سعي الجد ويجني المجد جزاء الخامد، وقد يفوتنا ما نرجو ويجيئنا القدر بما لا نشتهي.
مختار : القضاء والقدر والمقدور والمصادفة والحظ والدهر والزمان والأحداث.
قدري : تلك أسماء متعددة لقوة لا نعلمها، أما الاسم الأهم فهو إسبيرو كوكتيل!
مختار : لما كان أبي في النَّزْع دخلت عليه ليودعني الوداع الأخير … كلام … إن الميت لا يتكلم ولا يعي … أوهام … كيف ينصحني وهو في غيبوبة الموت؟!
قدري : غيبوبة الموت ليست ألذَّ من التي أنا بها الآن، غير أنني الآن أتكلم والميت لا يتكلم.
مختار : الغرفة كانت رائحتها لا تُطاق من كثرة الأدوية!
قدري : رائحة الموت (تعزف الموسيقى أنغام مُحزِنة).
مختار : ولكن الطبيب الاختصاصي أشار علينا بالمورفين؛ لأنه يقلل الآلام وكانت وجيدة قد حبَّبتني في المورفين لكن ليس بهذه الدرجة.
قدري : المورفين! لا تذكر حسناته لعدوٍّ ولا تكتمها عن حبيب. أعظم دواء لا سيما يا أنسي.
مختار : هذا ما قاله الطبيب إنه أعظم دواء لداء الحياة. وعلى هذا صمَّمت على تجربته.
قدري : ولكن لا بدَّ من مقدار كافٍ. جرام على الأقل.
مختار : جمعته البركة في بعض أصدقائي من الأطباء وبعض الصيادلة خمسة سنتي في خمسة سنتي.
قدري : يكون المجموع عشرة سنتي.
مختار : وهكذا يا حظ (ويخرج الحقنة ويملؤها جيدًا).
قدري : هل عقدت النية على التجربة الآن؟
مختار (يشرب خمرًا ويضحك) : ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوَّعت الأسباب والموت واحد (يحقن نفسه تبدو عليه علامة نشاط) اضربوا نغمة الوداع (ثم يسقط على الأرض ميتًا فيحدث اضطراب ويزدحم الجالسون حول مختار ويحضر صاحب المحل منزعجًا).

المنظر العاشر

(يدخل عبد المجيد والطبيب.)

عبد المجيد (يرى الازدحام) : ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
قدري : لقد خسرنا أظرف شاب.
عبد المجيد : مختار! ابن عمي أخي … دكتور انظر … اعمل جهدك لإفاقته … الأفضل نقله إلى المنزل لنمرِّضه.
حافظ (يدنو ويفحص مختارًا جيدًا وينهض وعليه علامة التأثُّر ظاهرة) : انقله إلى المنزل ولكنه لن يفيق.
عبد المجيد : اعمل جهدك.
حافظ : إنه جثَّة لا حراك بها (يبكي عبد المجيد ويأخذ الناس في الانصراف باضطراب ماعدا قدري فإنه يجلس بجواره ويبكي).
صاحب المحل : الليلة مسك شرب كتير من كل ليلة، مين يدفع الخساب؟ دي مش كويس يا ناس مش خرام عليكم تموتوا في مخلي وتخسروا الاسم بتاعي. مش عندكم بيت تموتوا فيه، دلوقت مش مختار بك بس اللي مات دي كمان قسطندي مافرو وإسفنكس بار.
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤