الشِّعرُ الجَاهِليُّ واللُّغَةُ١

ننتقل الآن إلى الفصل الرابع من فصول كتاب الشعر الجاهلي، ونلخصه فيما يلي مع المحافظة على عبارات المؤلِّف؛ قال:

«الشعر الذي رأينا أنَّه لا يُمثِّل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيدٌ كل البعد عن أن يُمثِّل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنَّه قيل فيه. فلنجتهد في تعرُّف اللغة الجاهلية هذه ما هي، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهليَّ هذا قد قيل فيه، أمَّا الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أنَّ العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز.٢
وهم متفقون على أنَّ القحطانية عربٌ منذ خلقهم الله؛ فُطِروا على العربية فهم العاربة، وعلى أنَّ العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا، كانوا يتكلمون لغةٌ أخرى هي العبرانية أو الكَلْدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة. وهم متفقون على أنَّ هذه العدنانية المستعْربة إنَّما يتصل نَسَبُهَا بإسماعيل بن إبراهيم.٣
ويتفق الرواة أيضًا على أنَّ هناك خلافًا قويًّا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة).٤
إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب العاربة؛ فكيف بَعُدَ ما بَيْنَ اللغة التي كان يصطنعها العربُ العاربةُ واللغةِ التي كان يصطنعها العربُ المستعربةُ حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء٥ أن يقول إنَّهما لغتان متمايزتان؟! وواضحٌ جدًّا لكل من له إلمامٌ بالبحث التاريخي عامةً وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصةً، أنَّ هذه النظرية متكلَّفةٌ مصطنعةٌ في عصورٍ متأخرة دعت إليها حاجةٌ دينيةٌ أو اقتصادية أو سياسية.٦

للتوراة أن تحدِّثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يُحدِّثنا عنهما أيضًا، ولكنَّ ورود هذين الاسميْن في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخيِّ، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدِّثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكةَ ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أنْ نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهةٍ أخرى. وأقدم عصرٍ يُمكن أن تكون نشأتْ فيه هذه الفكرة إنَّما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويَبُثُّون فيه المستعمرات. فنحن نعلم أنَّ حروبًا عنيفة شبَّت بين اليهود المستعمِرين وبين الذين كانوا يُقيمون في هذه البلاد، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة، فليس يبعُدُ أن يكون هذا الصُّلْحُ الذي استقرَّ بين المُغِيرِينَ وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام.

ولكنَّ الشيء الذي لا شك فيه هو أنَّ ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تَثبت الصلة الوثيقة بين الدِّين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود.

فأما الصلة الدينية فثابتةٌ واضحةٌ، ولكن هذه الصلة معنويةٌ عقليةٌ يَحسن أن تؤيِّدها صلةٌ أخرى ماديةٌ ملموسةٌ بين العرب وأهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تُسْتَغَلَّ هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود.

وقد كانت قريش مستعدةً لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح؛ فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلى حَظٍّ من النهضة السياسية والاقتصادية ضَمِن لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنويِّ على جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية. وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخرى.

فأمَّا التجارة فكانت قريش تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة.

وأمَّا الدِّين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العربُ المشركون في كل عام، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعًا من السلطان قويًّا، والتي أخذ العرب المشركون يجعلون منها رمزًا لدينٍ قويًّ كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية والمسيحية. فنحن نلمح في الأساطير أنَّ شيئًا من المنافسة الدينية كان قائمًا بين مكة ونجران، ونحن نُلمح في الأساطير أيضًا أنَّ هذه المنافسة بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلى حرب الفيل التي ذُكِرَتْ في القرآن.٧
فقريشٌ إذن كانت في هذا العصر ناهضةً نهضةً ماديةً تجاريةً ونهضةً دينيةً وثنيةً، وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجِد في البلاد العربية وحدةً سياسية وثنيةً مستقلةً تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية. فيكون من المعقول جدًّا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخيٍّ قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطيرُ، وإذن فليس ما يمنع قريشًا أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أنَّ الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم.٨
أمرُ هذه القصة إذن واضحٌ؛ فهي حديثة العهد ظهرت قُبيل الإسلام واستغلها الإسلامُ لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضًا. وإذن فنستطيع أنْ نقولَ: إنَّ الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية إنَّما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية، وإنَّ قصة العاربة والمستعربة وتعلُّم إسماعيل من جُرهمٍ كل ذلك حديثُ أساطير لا خطر له ولا غناء فيه.٩
والنتيجة من هذا البحث هي أنَّ الشِّعر الذي يُسمونه الجاهليِّ لا يُمثِّل اللغة الجاهلية ولا يُمكن أن يكون صحيحًا؛ ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الجاهليين قومًا ينتسبون إلى عرب اليمن التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن والتي أثبت البحث الحديث أنَّ لها لغةً أخرى غير العربية.١٠
ولكننا حين نقرأ الشِّعر الذي يُضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقًا بينه وبين شِعر العدنانية، بل لا نجد فرقًا بينه وبين لغة القرآن. فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويلُه؟ أمر ذلك يسيرٌ؛ وهو أنَّ هذا الشعر الذي يُضاف إلى القحطانية ليس منها في شيء، وإنَّما حُمِلَ على شعرائها بعد الإسلام لأسبابٍ مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب.»١١

رأينا في هذا الكلام

ذهب علماء العربية إلى أنَّ القحطانيين عربٌ خُلَّصٌ لغتهم العربية الفصحى، وأنَّ العدنانيين عربٌ، ولكن جدهم الأعلى إسماعيل بن إبراهيم، ويذهب الدكتور طه حسين إلى أنَّ لغة اليمن لغةٌ غير العربية اعتمادًا على قول اللغويِّ [أبي] عمرو بن العلاء وبعض الباحثين المحدَثين، وأنَّ الصلة بين العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية وبين اللغة التي كانت تتكلمها القحطانية إنَّما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية. ونحن لا نُوافقه على هذا الرأي، بل هو غير معقول أصلًا، وإليك البيان: الأصل في اللغات السامية البابليةُ، وقد اشتُقَّت منها العِبرانية والحبشية والسُّرْيانية والعربية؛ حتى إنَّ العارف بإحدى هذه اللغات يستطيع أنْ يعيشَ بين ظهراني أهل سائر هذه اللغات ويؤدي حاجاته الضرورية بلغته، ثم لا يلبث غير قليل حتى يصير في لغتهم كأحدهم. وقد كانت سُمِّيت اللغة التي يتكلم بها ساكنو الحبشة باللغة الحبشية، واللغة التي كان يتكلم بها ساكنو بابل باللغة البابلية؛ فمن الحق أن تُسمَّى اللغة التي يتكلمها أهل البلاد التي اصطلح على تسميتها قديمًا وحديثًا ببلاد العرب باللغة العربية. وقد أطلق مؤرخو الأقدمين على اليمن اسم البلاد العربية حتى سمَّاها اليونانيون — لِغِناها — ببلاد العرب السعيدة، وإذا كانت اليمن من بلاد العرب فمن العبث أنْ لا تُسمَّى لغتها باللغة العربية، وإذا ثبت أنَّ بين لغة اليمن ولغة نجد وتهامة اختلافًا فيجب أن نلتمس تعليلَ هذا الاختلاف في الأسباب السياسية والاقتصادية والجغرافية لا في غيرها، وإذا كُنَّا — رغمًا عن الخلاف الكبير بين اللغات الحبشية والعبرانية والسريانية والعربية — ندَّعي أنَّها كلها مُشتقة من البابلية؛ فمن العبث أنْ يحملنا الخلاف الموجود بين لُغَتَيْ شمال العرب وجنوبها على القول بأنَّهما لغتان متمايزتان مع وجود الصفة المميِّزة الوحيدة للغة العربية — وهي الإعراب — في كلتا اللهجتين العدنانية والقحطانية.

وإذا كان بين اللهجتين العدنانية والقحطانية خلافٌ، فبأي مرجِّح ندَّعي أنَّ العدنانية هي اللغة العربية الفصحى، وأنَّ اليمنية لغة أجنبية، مع أنَّ أهل هاتين اللغتين جميعًا يسكنون بلادًا أطلق عليها الناسُ من يوم خُلقت اسم البلاد العربية؟! ولا مُرجِّح لذلك لا من الوجهة الجغرافية ولا من الوجهة الدينية؛ فكلتا الطائفتين كانت تسكن بلادًا واحدةً وتحج إلى كعبة واحدة، وتجري في أخلاقها وعوائدها على سنَّة واحدة، وتعرفان أنَّهما أمة واحدة، وكلتاهما دخيلتان في البلاد العربية.

نعم، لك أنْ تقولَ: إنَّ لغة العدنانية كانت أرقَّ من اللغة القحطانية، وإنَّ لهجة قريش كانت أرق من سائر لهجات القبائل العدنانية التي كانت تتخالف فيما بينها تخالُفًا عظيمًا، حتي نزل القرآن بها. ولكن ليس لك أنْ تقولَ إنَّ القحطانية ليست بعربية بسبب الخلاف بينها وبين العدنانية.

أما هذا الخلاف بين اللغتين العدنانية والقحطانية فسببه يرجع إلى عوامل سياسيةٍ واقتصادية. فإنَّ اليمن — لِعِظَم مواردها الطبيعية — قد تعاوَرَها الفاتحون من زمانٍ بعيد؛ فاحتلها الفرس والأحباش آمادًا طويلة، وقصدها التجار من مختلف الأقطار؛ فتسربت إلى لغتها ألفاظٌ كثيرة من لغات الفاتحين والمتعاوضين١٢ باينت بها عربية شمال بلاد العرب كما باينت اللغة التركية التي يتكلمها أتراك الأناضول وتراقيا اللغةَ التركية الأصلية التي يتكلمها الأتراك الخُلَّص في التركستان وبلاد التتار؛ وذلك بسبب دخول ألفاظ عربية وفارسية وأوروبية إليها حتى صار التركي الأناضوليُّ لا يفهم لغة التركي التركستانيِّ أو التتاريِّ. وكما باينت اللغة الألمانية التي يتكلمها ألمان أمريكا لغة إخوانهم الألمان في وسط أوروبا.

•••

أما تقسيم اللغويين القدماء العرب إلى عاربةٍ لغتها الأصلية العربية، وإلى مستعربةٍ لغتها الأصلية العِبْرانية فليس بشيء؛ فإنَّ إسماعيل لمَّا سكن مكة كان غُلامًا صغيرًا كما يقولون، واختلط هنالك ببني جُرهمٍ، فالمعقول — وبخاصة مع تقارب اللغتين العبرانية والعربية — أنَّه لم يلبث معهم شهورًا حتى صار يتكلم العربية مثلهم، ثُمَّ لم تمضِ عليه بضع سنين حتى نَسِي لغته الأصلية. وقد رُوي أنَّه تزوج امرأة من جُرهم وَوُلد له أولاد منها، فكيف يُعقل أنَّ أولاده تكلموا العِبْرانية في تلك البيئة التي ليس فيها من يتكلمها حتى ولا أبوهم؛ لنسيانه إياها، أو لاستغنائه عنها؟!

فالمعقول أنَّ إسماعيل وبنيه نشئوا يتكلمون العربية لغة أمهم؛ فأية حاجةٍ بعد هذا لتقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة؟ أَلِأنَّ إسماعيل كان عبرانيًّا؟ إذن وجب قياسًا على هذا أن يكون بين العرب عربٌ مستعربةٌ لا يُحصى لهم عدد؛ فقد تزوج رجال من الزنوج والأحباش والفرس والروم في كل الأجيال نساءً عربياتٍ؛ فيجب أن يُطلق على أولادهم جريًا على هذه القاعدة اسم عرب مستعربة. هذا لم يحصل قط، فلماذا إذن خُصَّ أولاد إسماعيل بهذا الاسم إلى اليوم؟ وهل كان بقي من عبرانيتهم شيء من عهد إسماعيل إلى عهد النَّسَّابين الذين وضعوا هذا التقسيم في صدر الإسلام عن جهلٍ، وهذه المدة تُقدَّر بنحو سبعة وعشرين قرنًا؟

كان هذا التَّقْسِيمُ يكون له موضعٌ لو أنَّ قبيلةً عبرانيةً برُمَّتِهَا هاجرت من فلسطين إلى بلاد العرب، وحافظت على ديانتها وتقاليدها ومقوماتها ولكنَّها اتخذت اللغة العربية لغةً لها، فيصح أن يُطْلَقَ على هذه القبيلة أنَّها مُستعرِبةُ، ولكن تسمية نصف الأمة العربية بالمستعربة لأنَّ رجلًا واحدًا اندمج فيها منذ عشرات من القرون فهذا أغرب ما يُسمع من أنساب الأمم، وليس له نظيرٌ في العالم كله.

•••

يقول الدكتور طه حسين: «إنَّنا مضطرون أنْ نَرَى في قصة هجرة إسماعيل إلى مكة ونشوء العرب المستعربة بها نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدمُ عصرٍ يمكن أن تكون نشأت فيه هذه الفكرة إنَّما هو العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية؛ فنحن نعلم أنَّ حروبًا عنيفةً شبَّت بين اليهود وبين الذين كانوا يُقيمون في هذه البلاد وانتهت بشيء من المُسالمة والملاينة؛ فليس ببعيدٍ أن يكون هذا الصلح منشأ هذه القصة التي ستجعل اليهود والعرب أولاد أعمام.»

ثم قال: «أمرُ هذه القصة إذن واضحٌ فهي حديثة العهد ظهرت قُبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسببٍ ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضًا.»

ونحن نقول: إنَّ شمال بلاد العرب لا يسكنه العدنانيون من ذُرِّيَّةِ إسماعيل وحدهم، بل يُساكنهم فيه العرب القحطانيون؛ فكان بنو غسَّان في بادية الشام، وهم أول مَن لقيهم اليهود من العرب في طريق هجرتهم. وكانت قبيلتا الأوس والخزرج سكانُ المدينة الذين اختار اليهود جوارهم من القحطانيين أيضًا. وكان في شمال بلاد العرب من القبائل القحطانية بنو مَذْحِجٍ في أطراف الحجاز، وبنو الأزد في مِنًى، وبنو خزاعة بجوار مكة، وجلُّ هذه القبائل اشتركت في إصلاء اليهود نيران الحروب، وكانت أشدَّها عليهم، فإذا كانت قصة هجرة إسماعيل إلى مكة قد اخترعها اليهود لإثبات قرابتهم للعرب بقصد رد عاديتهم عنهم؛ فلماذا جعلوا هذه القرابة خاصة ببعض العرب دون البعض الآخر، وكلهم كانوا سواء في خصومتهم، بل كان أول من قابلهم في طريقهم القبائل اليمنية، وقد اختاروا أن يجاوروا تلك القبائل بقرب يثرب؟ وما دام أساس هذه القصة الخَدْع والتزوير وقد حدثت قُبيل ظهور الإسلام — أي بعد هجرة القبائل اليمنية إلى شمال بلاد العرب — فأي داعٍ جعلهم يَقْصُرُونَ الخدع على بعض القبائل دون البعض الآخر؟

ثم لو كانت هذه القصة حيلة من اليهود افتعلوها ليعيشوا مع العرب بسلام آمنين، لكانوا — حين أجمعوا على الهجرة إلى بلاد العرب — جعلوا ترويجها بين العرب باكورةَ أعمالهم، لا أن يبدءوا هجرتهم بالحروب العنيفة حتى إذا طحنتهم المعارك سنين ابتكروها لتكون سببًا في اجتلاب عطف خصومهم عليهم.

وهل ابتكارها بعد تلك المعارك الطاحنة لا يُثير في نفوس العرب الشكَّ في صحتها، بل الجزم بأنَّها حيلةٌ يراد بها خَضْدُ١٣ شوكتهم، وثَلْم حَمِيَّتهم؟!

وعلى أي أساسٍ طاف بمخيِّلة اليهود أنَّ هذه الحيلة تَرُدُّ عادية العرب عنهم؟ أنسُوا أنَّهم يُكْبِرُونَ شأنهم إلى حدِّ أنَّهم يفخرون بقرابتهم لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم، ليطردوهم من بلادهم؟!

أرأوا أنَّ العرب يباهون بالاعتزاء إلى أبٍ أجنبيٍّ عنهم فأتوهم من جهة ميلهم هذا وأوهموهم أنَّهم أبناء إسماعيل لا أبناء رجلٍ عربي صميم، وهم معروفون منذ أقدم أيامهم بكراهية الدُّخَلَاء، وتحقير الملحَقين والأدعياء، حتى إنَّهم ليُسَمُّونَ من كانت أمه عربية وأبوه أجنبيًّا بالهجين؛ تحقيرًا له؟

أشاهدوا أنَّ العرب يعظِّمون اليهوديةَ، ويعتبرونها دينًا سماويًّا صحيحًا فيسرهم أن يكرموا وفادة الآخذين به، فزوَّروا لهم هذه القرابة؟

أأحسوا أنَّ العرب يُعظِّمون إبراهيم ويعدونه نبيًّا ويسرهم أن ينتسبوا إليه فقاموا بتزوير هذه النسبة لهم توسلًا بها لنيل مرضاتهم؟

أعلموا أنَّ العرب كانوا يحبون التوحيد حبًّا جمًّا ويُحبِّون كل داعٍ إليه، ويسرهم أن يكونوا أقرباء زعمائه الأوَّلين، فاختلبوا ألبابهم بتمويه هذه الحيلة عليهم، وهم المعدِّدون للآلهة، القائلون لمحمد عليه الصلاة والسلام: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [سورة ص: ٥–٧] أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات: ٣٦].

•••

ثم إنَّنا نقول: إنَّ قريشًا لم تعمل قَطُّ على ترويج نسبتها إلى إبراهيم وإسماعيل؛ لعدم وجود أي دليل على ذلك، ولعلَّها امتنعت عن ذلك لثلاثة أسباب:
  • أولها: أنَّها لم تكن تأبَه بهذه النسبة؛ لأنَّ إسماعيل لم يكن في نظرها ممن يُؤبَهُ له، لا من الوجهة الدينية؛ فإنَّها كانت وثنيةً، ولا من الوجهة الدنيوية؛ فإنَّه لم يكن مَلِكًا عظيمًا، ولا فاتحًا خطيرًا، ولا فارسًا مغوارًا، ولا شيئًا ممَّا يَعتدُّ به الجاهليون ويفخرون به. ولو كانوا يرون في الانتساب إليه فخرًا لهم لأكثروا من تسمية أنفسهم بإبراهيم وإسماعيل، ولكانوا على دينهما متشدِّدينَ في التوحيد، متمسِّكين بآدابهما إلى مدًى بعيد.
  • ثانيها: أنَّ ترويج نسبة قريش إليهما لم يكن يُرجَى من ورائه فائدةٌ لها؛ ذلك لأنَّها لم تكن هي القبيلة الوحيدة التي تنتسب إليهما، فقد كان نحو نصف العرب ينتسبون إليهما، ويعرفون أنَّهما هما اللذان بنيا الكعبة.
  • ثالثها: لأنَّ هذا الترويج كان يُفضي إلى إضغان القبائل اليمنية عليها، وأنَّ تلك القبائل لم تكن تعتقد بنُبُوَّتِهِمَا حتى تخضع للمنتسِب إليهما، فكانت تعد ذلك من قريش فضولًا يُسقِط من كرامتها بدل أن يرفع من منزلتها.

ومما يدل دلالة تكاد تكون محسوسة على أنَّ قريشًا لم يَطُفْ بخيالها هذا الترويج قط: عدم عنايتها بتسمية أولادها بإبراهيم أو إسماعيل، وأنت خبيرٌ أنَّ هذه التسميات ذاتُ دلالاتٍ قويَّةٍ على تطور الحوادث الاجتماعية، حتى إنَّها وحدها لتشير إلى مبلغ تشيُّع الشعوب لبعض الأفراد الممتازين، أو إلى دور انتقالٍ جديدٍ، أو إلى اتجاه الأمة نحو مثلٍ أعلى في الحياة الأدبية.

أما الذي أحيا هذا التاريخَ القديم في البلاد العربية، ووصل بين حَلَقات الحوادث الخاصة به، وأشاد بذكر إبراهيم وإسماعيل فهو القرآن وَحْدَه؛ لأنَّه جاء بالتوحيد، وإبراهيم كان أشهر الدَّاعِين إليه في الأولين، وهو — مع هذا — الجد الأعلى لكثير من القبائل العربية، وباني الكعبة. فكان من مصلحة الدعوة الإسلامية ترويج هذا التاريخ الصحيح وإشاعتُه بكل ما في الوسع من بيانٍ وتأثيرٍ.

فالقرآن هو الذي أحيا اسمي إبراهيم وإسماعيل في بلاد العرب، ونوَّه بديانتهما الحنيفية القائمة على التوحيد والتنزيه، ودعا ذُرِّيَّتهما العرب إلى الأخذ بها ونشرها في العالمين؛ حتى إنَّ الدين قرن اسمه في التشهُّد في الصلاة باسم خاتم النبيين وهو: «اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّك حميدٌ مجيدٌ.»

وقد أنتج التنويه بإبراهيم وإسماعيل نتيجته الطبيعية، فأخذ الناس بدينهما، وأكثروا من التسمي باسميهما. هذا هو الترويج لتاريخهما ودينهما، وهذا أثره في حياةِ أمّةٍ برُمَّتها، لا ما كان عليه الحال في الجاهلية.

لهذا الترويج لزعماء المذاهب الكبرى فائدةٌ لا تُنكر؛ فهذا هو الدكتور طه حسين نفسه يُكْثِرُ من ذكر ديكارت ويروِّج أسلوبه في البحث ترويجًا رآه بعضهم — بغير حق — داعيًا إلى السخرية. فما ظنك لو كان ديكارت هذا جَدًّا أعلى للأمة المصرية، أكانت دعاية الدكتور طه حسين له تقف عند حَدٍّ؟ وهل كان يلومه عاقلٌ على استهتاره ذلك وبلوغه منه أقصى ما يحتمله الوُسع؟

•••

ويقول الدكتور طه حسين: «إنَّ قصة هجرة إسماعيل إلى مكة نوعٌ من الحيلة لإثبات الصلة بين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة.»

ونحن نسأله: أكان الإسلام — لأجل أن يقوم بما انتدب له من هداية العرب ورفعهم إلى مستوى الأمم الحية — في حاجة إلى انتحال الصلة بينه وبين اليهودية حتى يصح أنْ يُقال إنَّه استغل هذه القصة لمنفعته الشخصية؟!

إنَّ أساس اليهودية التوحيد؛ فهل كان العرب يُحبُّون التوحيد إلى حَدِّ أنَّهم لا يقبلون دينًا جديدًا لا يكون ذا صلة بالدِّين الذي يدعون إليه من زمانٍ بعيدٍ وهو اليهودية؟!

إنَّ العرب كانوا يكرهون اليهود واليهودية، ويعملون على طردهم وطردها من بلادهم بالسيف والرمح؛ فهل من حُسْنِ سياسة الدين الجديد الذي يعمل لأنْ يكونَ دين العرب كلهم أنْ يُثبت أنَّ بينه وبين اليهودية صلة وثيقة من بعض الوجوه؟!

وإذا قيل: إنَّ محمدًا استغل هذه القصة ليسوغ له ادِّعاءُ النُّبُوَّةِ باعتبار أنَّه من ولد إسماعيل بن إبراهيم؛ فهل كان هو وحده من بين جميع القبائل العدنانية من ذرية إسماعيل بن إبراهيم؟!

وهل كان من القواعد المقرَّرة عند العرب أنَّه لا ينال النبوَّة إلا رجلٌ من ذرية إسماعيل بن إبراهيم؟!

وهل كان العرب يعتقدون بنبوَّة إسماعيل وهو موحِّدٌ وهم معدِّدون؟!

إنَّ العرب العدنانية كانوا يُعرَفُونَ بأنَّهم ذرية إسماعيل بن إبراهيم، ولكنَّهم لم يكونوا يفخرون بذلك، ولو كانوا يفخرون به لمَلئوا الدنيا شعرًا في هذا الباب، ولاشتد التناظُر بينهم وبين العرب القحطانيين، ولامتنع هؤلاء عن الحج إلى مكة نِكايةً١٤ في العدنانية. والحقيقة أنَّ العرب — لاشتغالهم بتنازع البقاء، ولوقوعهم في التناحُر الشديد — كانوا بعيدين عن البحث في أمثال هذه المسائل الكمالية. فكل الذي كان يَعنيهم هو أن يحصلوا على القُوت والماء في تلك الصحاري والمهامِهِ القاحلة الماحلة التي تسع أنهار الدنيا مجتمعةً، ولم تُمنح منها بجدول يبل غُلَّةَ أهلها بشَبِمٍ زُلالٍ،١٥ ويُنبت لأهلها بعضَ ما تحتاج إليه من النباتات.

بقي القرآن فهل كان في حاجةٍ لأن يُثبت أنَّ بينه وبين التوراة صلةً، وهو يَنْعَى على أهل التوراة تحريفَهم للكلام، وصرفهم الأمور عن وجوهها، ويشنع عليهم بذكر تمرُّدهم على موسى وهارون، وعبادتهم العجل في دَوْرٍ من أدوارهم … إلخ إلخ؟! فهل ممَّا جرت به العادة أن يَعْمِدَ المُحتال على إثبات صله كتابٍ بكتابٍ إلى مهاجمة أهله هذه المهاجمة العنيفة، ويُؤلمهم هذا الإيلام الشديد، ليحملهم على العمل ضدَّه بكل ما في استطاعتهم، أم يُلاينهم ويُصانعهم، ويتوسلُ لإثبات تلك الصلة بوجوهٍ غايةٍ في المهارة وحسن الأسلوب؟!

ثم إنَّنا نسأل: هل كان عربُ الجاهلية يحترمون التوراة ويرونها كتابًا إلهيًّا ويتخذون منها تمائِمَ وطلاسم للتبرُّك بها، ويكتبون آياتها على جدران بيوتهم، ويحفظون نسخًا كاملة منه في معابدهم، فرأى محمدٌ أنَّ من حُسن التَّوسل إلى قومه أن يعمل جُهدَهُ على إثبات أنَّ بين كتابه وبين التوراة صلةً مؤكدةً ليأنسوا به ويُحبوه حبَّهم للتوراة أو أقلَّ قليلًا؟ وهم الذين كانوا يعملون على طرد اليهود من بلادهم بما حملوا من كتابهم وأساطيرهم بأقسى ما يتصوره العقل من حربٍ طاحنةٍ؟!

اللهم إنَّنا لا نرى وجهًا للحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية ولا بين القرآن والتوراة، فإنْ كان في القرآن ذِكْرٌ عن اليهودية والتوراة ففيه ذِكْرٌ عن النصارى والإنجيل، بل هو قد ذَكَر النصارى والإنجيل وعيسى والحواريِّين والرَّهَابِنَة بكثير من العطف فقال: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة: ٨٢]، وقد ذكر أيضًا الصابئة والمجوس والدَّهريِّين١٦ ومنكري البعث وغيرهم. وذلك لأنَّ الإسلام قد جاء بإصلاحٍ ديني عام للأمم كافةً، فكان لا بد من ذكر هذه الأديان والتنبيه على ما فيها من الانحراف عن جادة المنطق للتأثير في أهلها، كما يضطر الفيلسوف إلى ذكر مذاهب أسلافه ونقدها.

ويقول الدكتور طه حسين: «إنَّ قُريشًا كانت تُحاول أنْ تُوجِد في البلاد العربية وحدةً سياسيةً وثنيةً مستقلةً تقاوم تدخُّل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية؛ فيكون من المعقول جدًّا أنْ تبحث هذه المدنيةُ الجديدةُ لنفسها عن أصلٍ تاريخيٍّ قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تَحَدَّثُ عنها الأساطير، وإذن فليس ما يمنع قريشًا أنْ تقبل هذه الأسطورة التي تُفيد أنَّ الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم.»

ونحن نقول: إنْ كان هذا صحيحًا وكانت قريشٌ تحاول أن تُوجِد في البلاد العربية وحدةً سياسيةً وثنيةً، كانت بحثت لنفسها عن أصلٍ تاريخيٍّ يعُمُّ جميع العرب لا عن أصلٍ يشطرها شطرين فيجعل بعضها من ولد إسماعيل وبعضها لا أصل له، خصوصًا وأنَّ الجهات الواقعة تحت براثن الاستعمار الفارسي والروماني والحبشي، كُلُّ سكانها من القحطانيين؛ فاليمن — وهي بيئة القحطانيين — كانت تَئِنُّ تحت النِّير الحبشيِّ، والعراق الذي كان يسكنه بنو تنوخ كان تحت سلطان الفارسيين، وشمال بلاد العرب الذي كان يشغله الغَسَّانيون كان يَرْزَحُ تحت كَلاكِل١٧ الرومانيين، وكل هذه الأقطار كانت مأهولةً بالقبائل القحطانية التي لا تَمُتُّ إلى إسماعيل بسبب، فهل يُعقل أن تختار قريشٌ أصلًا يُخْرِجُ من حظيرتها هذه القبائل التي تُحاول تخليصها من نير الاستعمار الأجنبي، وهي أقوى العناصر العربية وأصلحها للوقوف في وجه الأجنبي لو توحَّدت كلمتها، وحسُنَتْ قيادتها؟!

ثم نقول: إنَّ الطائفة التي تنتحل أصلًا تاريخيًّا لمحاولة إيجاد وحدة سياسية تحت سلطانه، إنَّما تعمد إلى أصلٍ تُبَجِّلُهَ تلك الأمة كل التبجيل، وتفخر بالاعتزاء إليه، فهل كانت الأمة العربية وهي غَرْقَى في لُجَّةِ وَثَنِيَّتِها تعتد بنبَّوة إبراهيم وإسماعيل قبل تلفيق تلك النسبة ليَسُوغ القولُ بأنَّها في نظرها من الأصول الماجدة؟ وهل كانت تفخر بالانتساب إليهما وهي تطارد اليهودَ الذين يَمُتُّونَ إليهما بأسبابٍ شتى كما تطارد الوحوش الضاربة، وتأنف أن تجمعها وإياهم جامعةٌ؟!

ويقول الدكتور طه حسين: «إنَّ هذه القصة — قصة بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة وأنَّهما جَدَّا العرب العدنانية — أمرُها واضحٌ؛ فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب دينيٍّ، وقَبِلَتْهَا مكة لسببٍ دينيٍّ وسياسيٍّ أيضًا.»

ونحن نقول: إنَّ قول الدكتور طه: «قُبيل الإسلام»؛ يعني قبله بخمسين أو بمائة سنة على الأكثر؛ إذ لا نظن أنَّ «قُبيل» تحتمل أكثر من ذلك. وأنت تعلم أنَّ هذه الكعبة كان يُعظِّمها العدنانيون والقحطانيون على السواء؛ أي مَن كان منهم من ذرية إسماعيل ومن لم يكن من ذريته، فهل تكفي هذه المدة الوجيزة لترويج فِرْيَةٍ١٨ كهذه في مثل بلاد العرب الشاسعة الأرجاء حتى تُصبح الرمز الوحيد لديانتها الوثنية؟!
عُرِفَ العرب بأنَّهم من أشدِّ الأمم محافظةً على قديمهم، وترسُّمًا لخطوات أسلافهم؛ فلا يُعقل أنَّ فِرْيةً يختلقها اليهود للتمكُّن من البقاء في أرضٍ غير أرضهم تُنشر في بلاد العرب من أقصائها إلى أقصائها في مدى نصف قرن أو قرن، وتحمل الناس على ضرب آباط الإبل أيامًا وليالي في أشدِّ بلاد الله جدوبةً وقحولةً، ليحجوا معبدًا قيل: إنَّه قد بناه جَدُّ بعض قبائلهم. أتدري كم بين الشِّحْر وعُمان وَحَضْرَمَوت وعدنٍ وصنعاء والعراق وبين مكة من الأميال؟ وما طبيعة الأرض التي تسير فيها الجِمال، والعقبات التي تُصادفها في طرقها المتداخلة، والأخطار التي يتعرض لها النَّاس من المَنَاسِر١٩ الكامنة في الكهوف والمغاور؟ أتكفي — والحالة هذه — خمسون أو مائة سنة لنشر فِرْيَةٍ لا أساس لها في شعبٍ جاهليِّ عنيفٍ قليل الاهتمام بالدين؛ فيُصبح أفراده في جميع أصقاع البلاد العربية — لا فرق بين رجلٍ وامرأةٍ وطفلٍ — يعرفون البيت الحرام ويتمنى كلٌّ منهم أن يطوف به أو يجاوره تاركًا أهله وعمله سنين؟!

اللهم إنَّ هذا مُحالٌ، وإنْ قُدِّر لفريةٍ أن تَروج في العرب هذا الرواج الكبير فلا بد لها من زمانٍ طويلٍ، ولا تتناول إلا الطائفةَ التي يُجعل جدها الأعلى بطلًا للرواية، أما سواهم ممن لا ناقة لهم فيها ولا جمل كالقحطانيين فلا.

•••

يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ قريشًا في هذا العصر كانت ناهضةً نهضةً تجاريةً ماديةً ونهضةً دينيةً وثنيةً، وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تُحاول أن تُوجِد في البلاد العربية وحدةً سياسيةً وثنيةً تُقاوم تدخُّل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية.»

ونحن نقول: أمَّا أنَّ قُريشًا كانت قبيل البعثة المحمدية ناهضةً نهضةً تجاريةً ماديةً، فممَّا لا دليل عليه؛ فإنَّ آية: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش: ١، ٢] لا تدل على شيء أكثر من أنَّ قريشًا كانت لها رحلتان: رحلة في الصيف إلى بلاد الروم، ورحلة في الشتاء إلى اليمن. ولا نظن أنَّ طائفة من النَّاس يُقيمون في مدينة ولا يحتاجون إلى أشياء من محصولات ومصنوعات البلاد الخارجية. فإذا كان لسكَّان العريش ورفحٍ وسيوة والواحات رحلاتٌ إلى القاهرة لبيع بضائعهم وأخذِ بدلها ولا يدل ذلك على أنَّ هذه القرى في دور نهضة تجارية، ولا على وَشَك تكوين وحدة سياسية؛ فلا نظن أنَّ رحلَتَيْ أهل مكة تدلان على أكثرَ ممَّا تدل عليه رحلات أهل هذه القرى والواحات.

أما انتداب قريش لتكوين وحدةٍ سياسيةٍ وثنيةٍ لتخليص البلاد من مطامع الفرس والروم والحبشة فهذا هو الذي نُنازع الدكتور طه حسين فيه ونطلب منه الدليل عليه.

هل كان لقريش مركزٌ ممتازٌ بين العرب من ناحية القوى الحربية أو المالية أو العِلْمية أو الدينية فتحدِّثها نفسُها — ارتكانًا على شيء من ذلك — بإحداث أمرٍ جللٍ في جزيرة العرب لم يكن يحلم به سواها.

إن كان لها ذلك المركزُ من أيّة ناحية كانت، فهل من دلائل تاريخية، أو قرائن ظنية تسمح لنا أن نعزو إليها هذا المقصد العظيم؟

لم يكن لقريش مركزٌ ممتازٌ من أية ناحية من نواحي المميزات الاجتماعية غير سِدانتها للكعبة. وهذه السِّدانة٢٠ لم تكن حقًّا خالصًا لها غير متنازعٍ فيه، فإنَّها ليست القبيلة الوحيدة التي تعتزي إلى إسماعيل بن إبراهيم فتحتكر هذه الخطة. ولم يكن حق السِّدانة معتبرًا من نصيب ولد إسماعيل على وجهٍ عامٍّ أيضًا؛ فإنَّه لما نزحت بنو خُزاعة — وهم يمنيون لا ينتسبون لإسماعيل — إلى الحجاز نحو القرن الثاني للميلاد تسلَّطوا على مكة وأقصوا أهلها الأصليين وهم من بني إسماعيل عن سِدانة الكعبة، فلم تنازعهم العرب في ذلك، ولم نسمع أنَّه حدث لذلك حدثٌ بين القبائل، وبقيت سِدانة الكعبة في يد خزاعة إلى القرن الخامس حيث قويت كنانة — وهي من القبائل العدنانية — وتفرَّعت منها قريشٌ، فاتُّفق أنَّ سيد قريش كان في ذلك العهد قُصَيَّ بن كلاب بن مُرَّةَ فتزوج بابنة صاحب سِدانة الكعبة الخزاعي تذرُّعًا لوراثته فيها. فلما حضرت حماه الوفاة أوصى بسِدانة البيت لابنته زوجة قُصي، فاعتذرت لأبيها عن احتمال هذا العبء، فأوصى بها لابن له اسمه المحترش، فابتاع قصيٌّ هذا المنصب منه بعَرَضٍ قليلٍ، فشق ذلك على خزاعة، وحدثت بسببه حروبٌ بينها وبين قريش، ثم تداعَوْا إلى التحكيم، فحُكِم لقصي، فما زالت سِدانة الكعبة لقريش حتى جاء الإسلام.

هذا مجمل تاريخ سِدانة الكعبة، ومنه يرى القارئ أنَّ هذه السِّدانة لم تكن حقًّا صريحًا لقريش ولا للقبائل العدنانية؛ فإنَّ بقاءها في يد اليمنيين بضعة قرونٍ بلا منازع، ثم خُفوف بني خزاعة للمطالبة بها بالسيف، يدل على أنَّ المتغلبين كانوا يتداولونها طلبًا للشرف ليس غير.

ويدل هذا التاريخ أيضًا على أنَّ سِدانة الكعبة لم يكن أمرها عظيمًا عند العرب؛ فإنَّ إيصاء صاحبها الخزاعي بها لابنته ثم لابنٍ سفيهٍ له يبيعها بعَرَضٍ تافهٍ أمرٌ فيه نظر، ولا عبرة بقيام الحرب بين خزاعة وقريش من أجلها؛ فإنَّ القبائل العربية كانت تتناحر لأوهى الأسباب كسبق حصانٍ أو عَقْرِ ناقةٍ.

فإنْ قَال قائلٌ: إنَّ صحة هذا التاريخ مشكوكٌ فيها، قلنا: ذلك لا يضيِّع من قيمة حُكمِنَا على تلك السِّدانة من أنَّها لم تكن ذات خطر عند العرب؛ فإنَّهم هم الذين وضعوا هذا التاريخ، ولو كانت هذه الخطة ذاتَ خطر عندهم لما تَجرَّءوا على الحطِّ من قيمتها بوضع مثل هذه الأسطورة في شأنها.

ولو كان للسِّدانة شأنٌ كبيرٌ عند العرب لرأيناهم يحترمون قريشًا ويمنحونها مكانًا ممتازًا بينهم، ويجعلون لسادتها سَدَنَةِ البيت خطرًا عظيمًا، ولكنَّا رأينا من تاريخهم غيرَ ذلك، رأينا أنَّ الحروب كانت تقع بين قريش وغيرها من القبائل على حدٍّ سواءٍ. وقد حضر النبي نفسه «حرب الفجار» قبل أن يتشرَّف بالرسالة. وكان سبب هذه الحرب التي لم تكن الأولى من نوعها أنَّ رجلًا اسمه البراض٢١ قتل عروة بن عتبة٢٢ سيد هوازن، فأبت أن تقتل به البراض؛ لأنَّه كان رجلًا لا قيمة له، وطلبت أن تقتل سيدًا من قريش؛ فوقعت الحرب وهُزِمَتْ كنانة وقريشٌ معًا، وفي ذلك يقول خداش بن زهير٢٣ وهو من هوازن [من البسيط]:
يا شدَّةً ما شَدَدنا غيرَ كَاذِبَةٍ
عَلَى سَخِينةَ لَولَا اللَّيلُ والحَرَمُ
لمَّا رَأوْا خَيلَنَا تُزْجِي أوائلَها
آسادُ غِيلٍ حَمَى أشْبَالَهَا الْأَجَمُ
واسْتُقْبِلُوا بِضِرَابٍ لا كَفَاءَ لَهُ
يُبدِي مِنَ الغُوَلِ الأَكْفَالِ مَا كَتَمُوا
وَلَّوْا سِلالًا وعُظْمُ الخَيْلِ لَاحِقَةٌ
كَمَا تَخُبُّ إِلَى أَوْطَانِهَا النَّعَمُ
وَلَّتْ بِهمْ كُلُّ مِحْضَارٍ مُلَمْلَمَةٍ
كَأنَّها لَقْوَةٌ بِجَنْبِهَا حَزَمُ

ثُمَّ تلاقوا في السنة التالية في يوم سمَّوْه يوم شمطة، فجَمعت كنانة قريشها وعبد منافها والأحابيش ومن لَحِقَ بهم من بني أسد تحت قيادة حرب بن أمية فدارت الدائرة على كنانة وقريش واستَّحَرَّ فيهم القتل. وفي ذلك يقول خِدَاشُ بن زهير وهو من هوازن [من الوافر]:

أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا لَقَيَتْ قُرَيشٌ
وَحَيُّ بَنِي كِنَانَةَ إِذْ أُبِيرُوا٢٤
دَهَمْنَاهُمْ بِأَوْعَرَ مُكْفَهِرٌّ
فَظَلَّ لَنَا بِعَقْوَتِهمْ زَئِيرُ
ثُمَّ التقوا للمرة الثالثة في يوم يُقال له العَبلاء٢٥ فانهزمت فيه كنانة وقريشٌ أيضًا.
ثم تلاقَوا في يوم اسمه شَرْبٌ٢٦ فانتصرت فيه كنانة وقريشٌ على هوازن. ثم تصادموا في يومٍ اسمه يوم الحُرَيْرَة٢٧ فهزمت فيه هوازن كنانة وقريشًا.

فلو كانت لقريش مكانةٌ ممتازةٌ من الوجهة الدينية، لما اجترأ مجترئ على قتالها، ولو كان لرؤسائها خطرٌ يفوقون به سواهم لما طالبت هوازن بقتل أحدهم في ثأر.

قد يقول قائل — جريًا على طريقة التشكُّك الواجبة في هذه المواطن: إنَّ هذه الوقائع والأشعار موضوعةٌ مختلفةٌ، وضعها الأنصار للحطِّ من قيمة القرشيين.

نقول: يجوز ذلك، ولا مانع منه، ولكنَّ الواقع المحسوس الذي لا يمكن التماري فيه أنَّ قريشًا حين قصدها النبي عام فتح مكة لم تجد من يُنجدها من العرب المجاورين لها، ودخلها الجيش الفاتح بحركةٍ أشبه بِمُداورةٍ عسكريةٍ منها بوقعةٍ حربية، فلو كانت هذه القبيلة ذات مركزٍ ممتازٍ بين العرب لتسارع العرب لإنجادها خفاقًا وثقالًا، ولاحتشد حولها عشرات الألوف من المقاتِلة يذودون من يريد إذلالها والاستيلاء على الكعبة التي هي مجتمع أصنامهم وأنصابهم، ولم يتركوها لحمًا على وضمٍ٢٨ أمام الجيش الفاتح.

فلا يمكن أنْ يُقال في هذا المواطن: إنَّ العرب كانوا قد خُضِدَتْ شوكتهم، وخمدت حميتهم فلم يعودوا يقوون على إنجادٍ لئلَّا يصيبهم من جرَّاء عملهم ما هم في غِنًى عنه، لا يمكن أنْ يُقال مثلُ هذا القول؛ لأنَّ قبيلة هوازن العظيمة المجاورة لمكة، بعد أنْ تَمَّ للنبي التغلُّبُ على قريش خشيت أن يصيبها مثل ما أصابها؛ فحشدت رجالها وألقت منهم في ساحة الحرب عشرين ألفًا وقيل ثلاثين ألفًا وشنَّت على المسلمين حربًا ضروسًا لقي فيها المسلمون شدةً عظيمةً حتى انكشفوا عن رسول الله متقهقرين، وكاد التقهقر ينقلِب إلى هزيمة عامة لولا كَرُّ أهل السابقات الحسنة واستماتتهم في القتال.

فلو كان لقريش منزلةٌ ممتازةٌ عند العرب لتسارعت هوازنُ وغيرُها إلى إمدادها، ولوجد المسلمون أمامهم جيشًا عرمرمًا٢٩ قد لا يقل عن خمسين ألف مقاتل كما هي سُنَّة البشر قديمًا وحديثًا، ولاستعصى على المسلمين فتحُها. ولكن الذي حدث ولا سبيل إلى إنكاره أنَّ المسلمين لم يصادفوا أمامهم فيها إلا زعانف لا بصيرةَ لهم، يقودهم رجالٌ لا مَيْزَةَ لهم إلا أنَّهم صبروا على الباطل حتى أحيط بهم، ثم ترامَوْا على الإسلام لحماية حياتهم، لم يؤثَر عنهم أنّهم فعلوا كما يفعل الحُماة من الاستماتة في الدفاع والموت في ساحات القتال، أو اللَّجأ إلى القبائل المجاورة وإثارتها لصد التيار الجارف، كما فعل حماة التُّرك في العهد الحديث؛ إذ تسللوا إلى الأناضول بعد ضَيَاع عاصمتهم، وما زالوا يتقهقرون أمام المُغِيرِ الفاتح لا يُمَكِّنُونَهُ من ناصيتهم حتى رأوا الساعة مناسبةً لأن يحاكموه إلى الحديد والنار، ففعلوا وفازوا بالحُسْنَيَيْنِ معًا: الحياة المستقلة، والذِّكرى الخالدة.

أما من وجهة القُوَى الحربية؛ فلم يكن لقريش في الجاهلية ما يجعلها بمنزلةٍ ممتازة تحدِّثها معها نفسُها بزعامة العرب. يدل على ذلك ضعفُ مقاومتها للدعوة الإسلامية، وضعف انتقامها ممَّن كانوا يترصدون لتجارتها؛ فإنَّ القوة التي كانت ترمي بها إلى ساحات الحرب أمام المسلمين لم تزِدْ عن المئات عَدًّا.

وأما من النَّاحية المالية فلم تك قريشٌ في مثل ثروة المناذرة بالعراق، ولا الغساسنة بالشام، ولا التبابعة باليمن.

وأمّا من الوجهة العلمية فقد كانت دون كل الأقطار الواقعة تحت سلطان الدول المستعمِرة، ناهيك أنَّ النبي بُعِثَ ولم يكن في مكة غير رجلين أو ثلاثة يعرفون القراءة والكتابة؛ حتى سماهم القرآن بالأميين، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [الجمعة: ٢].

وبعد؛ فإنَّ قبيلةً لا امتياز لها من الوجهة الدينية، ولا خطر لها من النَّواحي المالية والحربية والعلمية، على أي سلطان تستند لتولِّي زعامة العرب، وإحداث وحدة سياسية وثنية تحرِّر بها بلادها من الرِّبقة٣٠ الاستعمارية؟

إن التظنِّي في مثل هذه المسائل الاجتماعية لا قيمة له؛ فكلُّ إنسان يستطيع أن يتخيَّل الأمور على ما يودُّه ويلائم هواه، ولكن هنالك أماراتٌ وقرائن يمكن الاستدلال منها على ما يراد الاستدلالُ عليه؛ فإن لم تُوجد هذه الأمارات والقرائن كان كل فرضٍ يمكن أن يقابَل بِضِدِّه.

فالدكتور طه حسين يقول: إنَّ قريشًا هذه كانت في نهضة، وإنّها كانت تحدِّث نفسها بإقامة دولة مستقلة وثنية تحرر بها البلاد العربية. فهل هناك أماراتٌ وقرائن تدل على ذلك؟ هل كانت تُبَثُّ لها دعوةٌ في القبائل القريبة منها والبعيدة عنها؟ هل أحدثت تغييرًا ما في شكل سِدانتها للكعبة، أو دوَّنت كتابًا يُفصِّل أمورها الدينية، أو سنَّت للحج والعبادة سننًا جديدة ممَّا يؤخذ منه أنها تتذرع بالعاطفة الدينية لقضاء مآربها الاجتماعية؟ هل أحدثت نظامًا للمبادَلَات وعملت على إيجاد روابط تجاريةٍ بين القبائل تتوسَّل بها إلى الوصول إلى مراميها من وجهةٍ اقتصاديةٍ؟ هل أرسَلَت بمن يثير حميَّة القبائل ويشعل فيها جذوة النَّعْرَةِ القومية تذرُّعًا إلى إيجاد وحدةٍ سياسية؟ هل حاولت أن تقتدي بنظام الحكومات التي كانت ترحل إلى بلادها للتجارة فشرعت في إقامةٍ حكومةٍ مركزيةٍ، واتخذت لمدنيتها شرطةً ومحاكم وجيشًا عاملًا، تحايُلًا على أن يصبح نواةً لهيئة اجتماعية؟

شيءٌ من هذا لم يكُن، فكيف يمكن أن يُدَّعَى أنَّها كانت في حالة نهضة سياسية، وأنَّها كانت ترمي إلى آمالٍ بعيدةٍ من تكوين وحدة دينية وثنية مستقلة تحرر بها البلاد العربية.

ولكنا نَدَّعي أنَّها كانت في حالة انحلالٍ أدبي واجتماعي وصل بها إلى نهاية أدواره، واستدللنا على ذلك بضعف وسائلها في مقاومة الدعوة الإسلامية، وبِوَهْنِ محاولاتها في الدفاع عن بيئتها الاجتماعية، وبتسارُعِ قادتها إلى إظهار الإسلام نفاقًا عندما دهمهم الخطرُ؛ استبقاء لحياتهم الشخصية.

•••

يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ ورود اسمَيْ إبراهيم وإسماعيل في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تُحدِّثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها.»

ونحن نقول: إنَّ قول الدكتور طه حسين: «إنَّ ورود اسمَيْ إبراهيم وإسماعيل في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي»، معناه أنَّه لا يُمكن إثبات وجودهما إذ جرى التَّاريخ على أسلوبه في إثبات وجود الرجال، وتحقيق الحوادث المَعْزُوَّةِ إليهم، مستقلًّا عن نصوص الكتب السماوية؛ لأنَّ التاريخ وسائر العلوم قد أعلنت استقلالها عن الأديان منذ نحو ثلاثة قرون. فالتَّاريخ يطلب في إثبات وجود الرجال أدلةً حسيةً، وآثارًا مادية فوق ما تذكره عنهم الكتب الدينية، وبخاصة بالنسبة للأفراد المتغلغلين في القِدَم كإبراهيم وإسماعيل، ونحن نرى أنَّ هذا الموقف من العلوم في الاستقلال عن النصوص الدينية ضروريٌّ لها؛ لتستطيع أن تُؤدِّيَ وظيفتها من التحرير والتمحيص مطلَقَة الحرية، في دائرة العِلَل الطبيعية، فلا يجوز لحفظة الأديان الصحيحة أن يكرهوا هذا الاستقلال لها؛ فإنَّها بما تتأدَّى إليه من نتائج علميةٍ محقَّقةٍ من طرق مادية محضة تؤيِّد الدين وتصدقه فتنساق النفوس لحبه والأخذ به، والتأدُّب بأدبِه، خلافًا لما إذا كانت العلوم تابعة للدين فإنَّها تقع تحت وصاية قادته؛ أي تحت وصاية رجالٍ ليسوا من أهلها، فيرون في كل حركة من حركاتها انحرافًا، وفي كل رأيٍ من آراء الباحثين فيها تطرُّفًا؛ فيقع التنازع بين الهيئتين؛ فإن انتصرَ رجالُ العلوم عملوا على ملاشاة الدِّين وأهله. فتفادِيًا من هذا التنازع الضارِّ بالأديان والعلوم معًا تراضَى الناس على أن يسير كلٌّ منهما مستقلًّا في طريقه.

والقول بأنَّ إبراهيم وإسماعيل لم يثبُت وجودهما تاريخيًّا ليس معناه أنَّ التاريخ قرَّر بأنَّهما لم يُوجَدَا، ولكن معناه أنَّه لا يستطيع إثبات وجودهما إثباتًا ينطبق على أسلوبه الحسيِّ، وهذا العجز من العِلم لا ينفي أنهما كانا موجودين، وأنَّهما بَنَيَا الكعبة.

فنحن نحترم هذا العَجْز من العلم، ونشجعه على الاعتراف به، بل ولا نقبل منه أن يدَّعيَ علم ما لا ينطبق أسلوبُه عليه، وإدراك ما لا تصل وسائله إليه.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أنْ نُلاحظ على الدكتور طه حسين أنه لم يُحسن التعبيرَ عن رأيه في هذه المسألة؛ فقد كان يستطيع أن يقولَ مثل ما قلنا فلا يُلومَه أحد.

وبعدُ فنقول: إذا لم يكن لدينا إلى اليوم آثارٌ محسوسةٌ تدل على أنَّ إبراهيم وإسماعيل كانا موجودَيْنِ، وعلى أنهما بَنَيَا الكعبة، فإنَّ المرجِّحات التاريخية على وجودهما وعلى صحة ما عُزِيَ إليهما تكاد تضع هذه المسائل في عداد المحسوسات:
  • أولها: لا مانِعَ من العقل يمنع من وجود إبراهيم وإسماعيل؛ فإنَّ القائلين بوجودهما لا يزعمون بأنهما كانا مَلَكَيْنِ، أو كائنَيْن فذَّيْن، بل يقولون إنَّهما كانا رجُلين كسائر الرجال؛ يأكلان الطعام ويمشيان في الأسواق. وكل ما عُزي إليهما من المَيزات أنَّهما كانا نبيين يدعوانِ النَّاس إلى توحيد الله وتنزيهه، والأخذ بالفضائل، وتجنب الرذائل، مَثَلُهُمَا في ذلك كَمَثَلِ جميع الأنبياء لا سبيل إلى إنكار وجودهم التاريخيِّ؛ كموسى وعيسى ومحمد.
  • ثانيها: أنَّهما مذكوران بالاسم في تاريخ أمة عظيمة هي الأمة الإسرائيلية، وقد اعتُبر أولهما جَدًّا أعلى لتلك الأمة وثانيهما أحد أبنائه. فإن لم يكن هو جَدَّها الأعلى لكان غيره، فأي مرجح يرجح أنَّه كان غيره؟
  • ثالثها: أنَّه لا يوجد مانعٌ تاريخيٌّ ولا جغرافيٌّ يمنع من أن يكون إبراهيم نشأ بالعراق ثم رحل إلى فلسطين.
  • رابعها: أنه لا يوجد مانعٌ تاريخيٌّ ولا جغرافيٌّ يمنع من أن يكون إبراهيم زار بلاد العرب مرَّة أو مراتٍ، وترك فيها ابنًا له مع أمه لسببٍ من الأسباب.
  • خامسها: أنَّه لا يوجد مانعٌ ماديٌّ يمنع من أنْ يكون إبراهيم لمَّا زار بلاد العرب بَنَى بمكة بيتًا للعبادة سُمِّي فيما بعدُ بالكعبة، وهي حجرةٌ واحدة قليلة الارتفاع مبنيةٌ بالأحجار والطين مناسبةٌ لمباني تلك الجهة، يقوم بعملها بناءٌ واحدٌ، وقد تهدَّمت مرارًا، وأُعِيدَ بناؤها وزِيدَتْ مساحتها، ولم يقُل أحد بأنَّها كانت معلقة في الهواء، أو من الاتِّساع بحيث تسع الألوف المؤلَّفة، ولا أنَّها أقيمت من ذهب وفضة، ورُصِفَتْ أرضها بالجواهر الكريمة.
  • سادسها: أنَّه لا يوجد مانعٌ — من أي نوع كان — يمنع من أن يكون إسماعيل قد شَبَّ وترعرع في مكة، ولما بلغ مَبْلَغَ الرِّجال تزوّج امرأة من قبيلة كانت هناك تُسمَّى بني جُرْهمٍ، وأنَّه رُزِق منها بأولاد.
  • سابعها: أنَّه لا يوجد مانعٌ يحمل العرب على انتحال جَدٍّ أجنبي عنهم وهم من أشد العرب فخرًا بخلوص عربيتهم. ولم يُنْحَلْ إسماعيل من المميزات الأدبية والمادية ما يجعل الانتساب إليه من المفاخر التالدة، ولم يُنقل عن العرب في الجاهلية أنَّهم كانوا يفخرون بانتسابهم إلى إسماعيل. وقد فضلوا أن يتلقَّبُوا بالعدنانية نسبة إلى واحدٍ من أجدادهم (عدنان) عن أن يتلقبوا بالإسماعيلية [نسبةً إلى] جدهم الأعلى.

كل هذه المرجِّحات ترجِّح أنَّ إبراهيم وإسماعيل كانا موجودَيْن، وأنَّ الثاني منهما شبَّ وترعرع ببلاد العرب وتزوَّج منهم، وامتاز نسله عن العرب القحطانية باسم العرب العدنانية.

ولو حذفنا من التاريخ كلَّ شخص لم تَرِدْ على وجوده أدلةٌ حسيةٌ وآثارٌ ماديةٌ لحذفنا أكثر رجاله المشهورين، ولم يبقَ منهم إلا أسماءٌ معدودةٌ!

على أنَّ إجماع أمة برُمَّتِهَا كاليهودية على تسمية نفسها بالإسرائيلية نسبة إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إبراهيم مُنذ وجودها، وإجماع أمة أخرى وهي العربية على اعتبار بعضها من ذرية إسماعيل؛ مما لا يصح أن يقابل بالتحفظ إلا إذا وُجِدَتْ قرائن تدل على غير ذلك. وقد رأيت أنَّ القرائن كلها ترجح صحة ذلك. أمَّا القول بأنَّ قصة إسماعيل حيلةٌ دَبَّرَها اليهود ليستعطفوا قلوب العرب عليهم؛ فمما لا يُسيغُه العقل للأسباب التي ذكرناها في محلها من الصحف التي سبقت. ونقول هنا زيادةً على ما تقدم: إنَّه إذا كان للعدنانية مصلحةٌ في قبول هذه الحيلة، فهل للعرب القحطانية من مصلحةٍ في مشايعتها على هذه الفِرْية؟!

١  شغل مضمون هذا العنوان في كتاب الدكتور طه حسين، من ص٢٤ حتى ص٣٠.
٢  ينظر: في الشعر الجاهلي ص٢٤.
٣  السابق ص٢٥.
٤  السابق نفسه.
٥  «زبَّان بن عمَّار التميمي [٧٠–١٥٤ﻫ].» الأعلام للزركلي ج٣ ص٤١.
٦  ينظر في الشعر الجاهلي ص٢٥، ٢٦.
٧  السابق ص٢٦–٢٨.
٨  السابق ص٢٨، ٢٩.
٩  السابق ص٢٩.
١٠  ينظر: في الشعر الجاهلي ص٢٩.
١١  السابق ص٣٠.
١٢  مَن يتاجرون مع بعضهم البعض.
١٣  خضد شوكة فلان: كسر حدته.
١٤  نكى العدوَّ، وفيه، نكاية: أوقع به، وهزمه وغلبه.
١٥  الشبم: البارد، والزلال: الماء العذب الصافي البارد السلس.
١٦  الصابئة: قومٌ يعبدون الكواكب. والمجوس: قومٌ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنار. والدهريُّون: ملحدون لا يؤمنون بالآخر، يقولون ببقاء الدهر.
١٧  يرزح: يعيش في قسوة وذل وإعياء … والكلاكل: جمع كلكل؛ وهو الصَّدر.
١٨  الفرية: الكذبة، جمعها: فِرًى.
١٩  جمع المِنْسَر؛ وهو ما يَنْسِر به الطائر الجارح الأشياء، وهو له كالمنقار لغير الجارح، والجماعة من الخيل، وقطعة من الجيش تسير أمامه «الطليعة». المعجم الوسيط [ن س ر].
٢٠  سدانة الكعبة: خدمتها.
٢١  هو البراض بن قيس، أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. ينظر الروض الأنف، قصة الفجار. ج١/ص٢٠٩ وما بعدها، ط دار المعرفة، بيروت، لبنان، ١٣٩٨ﻫ/١٩٧٨م، قدم لها وعلق عليها وضبطها: طه عبد الرءوف سعد.
٢٢  هو عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب.
٢٣  هو خداش بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة. وهو من شعراء قيس المجيدين في الجاهلية، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: خِدَاش بن زهير أشعر في عَظْمِ الشعر — يعني: نَفْسَ الشعر — من لبيد، إنما كان لبيدٌ صاحب صفاتٍ. ينظر: الشعر والشعراء، تحقيق وشرح الشيخ: أحمد محمد شاكر ص٦٤٥.
٢٤  أبيروا: أُهْلِكُوا.
٢٥  العبلاء: ثلاثة مواضع. القاموس [ع ب ل].
٢٦  موضع بقرب مكة. القاموس [ش ر ب].
٢٧  الحريرة كهريرة: موضع. القاموس [ح ر ر].
٢٨  الوضم: الخشبة التي يوضع عليها اللحم. وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنما النساء لحمٌ على وضمٍ.
٢٩  أي: كثيرًا.
٣٠  الرِّبقة: حبل ذو عرى، أو حلقة لربط الدواب، يقال: حل ربقته: فرَّج كربته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤