القَصَص وانْتِحَالُ الشِّعر١

عقد الدكتور طه حُسين فصلًا تحت هذا العنوان قال فيه:

«القَصَصُ في نفسه ليس من السياسة ولا من الدِّين، وإنَّما هو فنٌّ من فنون الأدب العربيِّ توسَّط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية؛ أزهر أيام بني أمية وصدرًا من أيام بني العباس، حتَّى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب، واستطاع النَّاس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلى مجالس القُصَّاص ضعُف أمر هذا الفن، وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية حتى ابتُذِل وانصرف عنه الناس.٢
كان قُصَّاص المسلمين يتحدثون إلى الناس في مساجد الأمصار فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتوصل بالنُّبُوَّات، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلى حيث يستطيع الخيالُ أن يذهب بهم لا إلى حيث يُلزمهم العلم والصدق أن يقفوا. وكان النَّاس كَلِفين بهؤلاء القُصَّاص، مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث. وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية، فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلُّوها استغلالًا شديدًا، وأصبح القصص أداة سياسيةً؛ فكانت الأحزابُ السياسية تصطنع القصاص ينشرون لها الدعوة، كما كانت تصطنع الشعراء يناضلون عنها.٣

وقد استمد القصص قوته من مصادر مختلفة أهمها أربعةٌ:

الأول: مصدرٌ عربيٌ هو القرآن، وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات، وما كانت تتحدث به العربُ في الأمصار من أخبارها وأساطيرها، وما كانت تروي من شعرٍ، وما كان يتحدث به الرُّواةُ من سيرة النبيِّ والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم.

الثاني: مصدرٌ يهوديٌّ نصرانيٌّ؛ وهو ما كان يأخذه القُصَّاصُ عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك.

الثالث: مصدرٌ فارسيٌّ؛ وهو هذا الذي كان يستقيه القُصَّاصُ في العراق خاصةً من الفرس ممَّا يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها.

ثم المصدر الرابع مصدرٌ مختلطٌ هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشام من الأنباط والسريان٤ ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط.٥
وأنت تعلم أنَّ القصص العربيَّ لا قيمة له إذا لم يَزِنْه الشعر من حين إلى حين. وإذن فقد كان القصاصُ أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يُزيِّنونَ بها قصصهم، وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون.٦
فقد كانوا يستعينون بأفرادٍ من النَّاس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظِمون لهم القصائد وينسِّقونها، حتَّى إذا استقام لهم مقدارٌ من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من رُوحهم وأذاعوه بين الناس.٧
وقد فطِن بعض العلماء إلى ما في هذا الشعر من تكلُّفٍ وسخفٍ وإسفاف، وإلى أنَّ بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين يُنسب إليهم. ومن هؤلاء العلماء محمد بن سلَّام، وكان ابن هشام يروي في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق حتى إذا فرغ من رواية القصيدة قال: وأكثر أهل العلم بالشعر أو بعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه. ولكن لم يكن صناع الشعر جميعًا ضعافًا ولا مُحَمَّقِينَ، بل كان منهم من يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه ويجتهد في إخفاء صنعته.٨
وهناك لونٌ آخر من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ويروون في الأكاذيب والأعاجيب، وهو أخبار المعمرين الذين مُدَّتْ لهم الحياة إلى أبعد مما أَلِفَ النَّاس. وقد رويت حول هؤلاء المعمَّرين أخبارٌ وأشعارٌ قَبِلَهَا العلماء الثقات في القرن الثالث للهجرة كأبي حاتم السجستاني وابن سلام نفسه.٩
والرواة أشد انخداعًا حين يتَّصِلُ الأمر بالبادية اتصالًا شديدًا؛ وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها «أيام العرب» أو «أيام الناس»، فقَبِلُوا ما كان يروى منها على أنه جدٌّ من الأمر، ورووه وفسَّروه وفسروا به الشعر، واستخلصوا منه تاريخ العرب، وليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصيَّ للحياة العربية القديمة، ذكره العرب بعد أن استقرُّوا في الأمصار فزادوا فيه وزيَّنُوه بالشعر كما ذكر اليونان قديمهم فأنشئوا فيه «الإلياذة» و«الأودسَّا» وغيرهما من الشعر القصصي.١٠
فكل ما يُروى عن عادٍ وثمود وطسم وجديس وجُرْهُم والعماليق وعن تُبَّع وحِمير وشعراء اليمن وأخبار الكُهَّان وما يتصل بسيل العرم وتفرُّق العرب البائدة؛ موضوعٌ لا أصل له.١١ وكلُّ ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر أكثره موضوعٌ من غير شك. وكل ما يروى من الأخبار والأشعار التي تتصل بما كان بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام — كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة — خليقٌ أن يكون موضوعًا وكثرته المطلقة موضوعةٌ من غير شك.»١٢

رأينا في هذا الكلام

إنَّ ما ذكره الدكتور طه حسين عن أخبار المعمَّرين وأيام العرب وما يروى عن عادٍ وثمود وطَسْمٍ وجديس وجرهم والعماليق وعن تُبَّع وحمير وشعراء اليمن وأخبار الكهان وما يتصل بسيل العرم من أنَّ كل ما ورد منه أو أكثره موضوعٌ ومبالغٌ فيه؛ صحيحٌ نوافقه عليه. وكلُّ من اتفق له مطالعةُ ما جاء من هذا كله في كتب الأدب، وكان له دربةٌ في النقد، وذوقٌ في تقدرير الحوادث يدرك معنا لأول وهلة أنَّه مختلقٌ مكذوبٌ أو بعيدٌ عن حقيقته بما حمل من التمويهات والتلفيقات، وما أحيط به من المبالغات والتهويلات.

وكيف لا يكون كذلك والعرب إنَّما التفتوا لتدوين شيء من تاريخهم الجاهلي بعد مُضِيِّ قرن من دخولهم في الإسلام، ولم يكن العرب الجاهليون على شيء من العلم بالخطِّ فيكتبوا حوادثهم؛ فلم يبقَ منها إلا ما كان يتحدث به الناس ويزيدون فيه أو ينقصون على ما يتَّفِق لهم؛ وهو الذي تلقفه الرواة من أفواههم وزادوا عليه ما زادوه من بضاعتهم، استكثارًا لمحصولهم، واستجلابًا للمنافع ممَّن كانوا يحرصون على الأخذ عنهم.

ولم يقف الاختلاق والتلفيق في نظرنا عند حد أخبار العصر الجاهلي؛ فإنَّ أكثر ما نقل لنا عن الخلفاء وعن لهوهم وقصفهم، وعن مجالسهم مع الشعراء والندمان، مختلقٌ أو مبالغٌ فيه مبالغةً منكرة، يدرك ذلك من أوتي خاصة النقد بأدنى تأمُّل؛ ولذلك أؤاخذ الدكتور طه حسين على اعتماده في تعيين أسباب الاختلاق في الشعر الجاهليِّ على الحكايات التي وردت في كتب المحاضرات، فإنَّه لو أتقن تسرية منهج ديكارت عليها لرمى بأكثرها عُرض الحائط، ولما استنتج منها ما استنتجه من الصورة المشوَّهة للحياة الاجتماعية والسياسية للمسلمين في عهدهم الأول، عهد الوحدة المحكمة التي ملكوا بها ناصية العالم في سنين معدودةٍ.

وما كان مذهبُ ديكارت مشكاةً يستهدي به الباحثون في ظلمات المسائل إلا لأنه جعل أساسه الشك، وهذه الحكايات التي وردت في كتب المحاضرات أولى بهذا الشكِّ من كل نوع آخر من أنواع الرواية عن الأقدمين؛ فإنَّها أُلِّفَتْ للتفكُّه والتسلي، وناهيك بما يؤلَّف لهذا الغرض قبل ألفٍ ومائتي سنة، بل وما يُؤلَّف منه أيضًا في القرن العشرين عصر التثبت والتحقيق.

أما ما ذكره الدكتور طه حسين عن القصص والقُصَّاص، فكلامٌ ثمينٌ من ناحية تحديد القصص وتصوير نفسية القُصَّاص. وكلُّ ما نلاحظه عليه أنَّ القارئ لما ذكره عنهم يخيل إليه أنَّهم من الطوائف ذات الاتصال الوثيق برجال الدين، وأنَّهم مالَئوهم على التأثير على عقول العامة من هذا الطريق. والحقيقة أنَّ بنية العالم الإسلامي لفظت القُصَّاص من يوم أن ظهروا بعد خلافة عمر بن الخطاب، وأنَّهم قد طوردوا كما تطارد المبتدِعة في كل الأجيال الإسلامية؛ ذلك لأنَّ هؤلاء القُصَّاص كانوا يخلطون بين الإسلاميات وبين ما يجمعونه من هنا وهناك من أخبار الأمم وأخبار الأفراد وبنيةُ العالم الإسلامي قامت على التثبُّت والتمحيص، حتى إنَّ المسلمين تولوا الأحاديث المروية عن النبي بالتَّفْلِيَة والتحقيق، فأقروا نحو عُشر ما كان متداولًا مشهورًا منها، واعتبروا نحو تسعة أعشارها مصنوعًا لا يؤخذ به. فبنيةٌ هذا شأنها من عدم الأخذ بغير الحق وإن كان دينًا، لا تحتمل القصص بوجهٍ من الوجوه؛ فكان يجب على الدكتور طه حسين — دفعًا لتوهم رضاء الدين أو أهله عنهم — أن يصور لقرائه مكانهم من الإسلام وذويه من عهد ظهورهم الأول إلى اليوم. وإذا كان هذا قد فات الدكتور طه حسين فنحن ننبِّه إليه وننقل ما ورد عنه في كتب أئمة المسلمين: قال العلامة أبو عبد الله محمد العبدري المتوفى سنة (٧٣٧ﻫ) في المجلد الأول والثاني من كتابه (المدخل):
جاء ابن عمر — رضي الله عنه — إلى مجلسه من المسجد فوجد قاصًّا يقص، فوجَّه إلى صاحب الشرطة (أي مدير البوليس) أن أخرجه من المسجد، فأخرجه.١٣

«وقال الإمام أبو طالب المكيُّ: كانوا يرون القصص بدعة، ويقولون: لم يُقَصَّ في زمن الرسول ، ولا في زمن أبي بكر، ولا في زمن عمر، حتى ظهرت الفتنة، فلما وقعت الفتنة ظهر القُصَّاصُ.»

«وروى الزُّهري عن سالم١٤ عن ابن عمر أنَّه خرج من المسجد وقال: ما أخرجني إلا القاصُّ، ولولاه ما خرجت.»
«وقال ضمرة:١٥ قلت للثوري:١٦ نستقبل القاصَّ بوجوهنا؟ فقال: وَلُّوا البدع ظهوركم.»

«ودخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مسجد البصرة فوجد به قُصَّاصًا، فوقف على كل منهم وسمع ما يقول، ثم طردهم من المسجد جميعًا إلا الحسن البصري فإنَّه أبقاه.» والحسن البصري سيد التابعين بالإجماع، وكان أعلم أهل زمانه وأورعهم.

«وقال تميمٌ الداري الصحابي لعمر بن الخطاب: دعني أدعو الله وأقص وأذكِّر النَّاس. فقال عمر: لا. فأعاد عليه. فقال: أنت تريد أن تقول: أنا تميمٌ الداريُّ فاعرفوني.»

«وقال أبو إدريس:١٧ لئن أرى في ناحية المسجد نارًا تأجَّج أحبُّ إليَّ من أن أرى في ناحيته قاصًّا يقصُّ.»
«وروى الطُّرطُوشي١٨ قال أبو معمر: رأيت يسارًا أبا الحكم يستاك على باب المسجد وقاصًّا يقصّ في المسجد، فقلت له: يا أبا الحكم، النَّاس ينظرون إليك. فقال: الذي أنا فيه خيرٌ مما [هم] فيه، أنا في سُنَّة وهم في بدعة.»

«قال ولما دخل سليمان بن مهران الأعمش البصرة فنظر إلى قاصٍّ يقص في المسجد، فقال: حدثنا الأعمش عن أبي إسحاقٍ عن أبي وائل. قال: فتوسَّط الأعمش الحلقة وجعل ينتف شعر إبطيه! فقال له القاص: يا شيخ ألا تستحي، نحن في علم وأنت تفعل مثل هذا؟! فقال له الأعمش: الذي أنا فيه خيرٌ من الذي أنت فيه. قال: كيف؟ قال: لأني في سُنَّةٍ وأنت في بدعةٍ، أنا الأعمش وما حدثتك مما تقول شيئًا. فلمَّا سمع النَّاس ذكر الأعمش انفضوا عن القاصِّ واجتمعوا حوله، وقالوا: حدثنا يا أبا محمد.»

هذه قيمة القُصَّاص وقيمة ما كانوا يُطرِفون الناس به من نثر وشعر؛ فإذا كان قد اعتمد عليهم بعض المغفَّلين من الزعماء والقادة في نشر دعوة أو بَثِّ فرية، فإنَّما هم قد اعتمدوا على غير معتمَدٍ، واستندوا إلى أوهى سندٍ.

١  شغل مضمون هذا العنوان في كتاب الدكتور طه حسين الصفحات من ٩٠ حتى ١٠٥.
٢  ينظر: في الشعر الجاهلي ص٩٠.
٣  ينظر السابق ص٩٢.
٤  ينظر في التعريف بالأنباط والسريان، المنجد في الأدب والعلوم ص٢٥٣ وص٥٣٠.
٥  ينظر: في الشعر الجاهلي ص٩٣، ٩٤.
٦  ينظر السابق ص٩٤، ٩٥.
٧  السابق ص٩٥.
٨  السابق ص٩٨، ٩٩.
٩  السابق ص١٠٢.
١٠  السابق ص١٠٣، ١٠٤.
١١  السابق نفسه.
١٢  السابق ص١٠٥.
١٣  هذا النص وما بعده ينظر في كتاب: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، لأبي طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي. فصل: ذكر وصف العلم وطريقة السلف … ج١ ص٤١٤، ٤١٥، ٤٢٠، ٤٢١، ط مكتبة التراث بالقاهرة، ت د. محمود إبراهيم الرضواني ط١، ١٤٢٢ﻫ/٢٠٠١م، وكتاب: المدخل، لابن الحاج، ج٢ ص١٤٤–١٤٦، ط مكتبة التراث بالقاهرة (د ت).
١٤  هو سالم بن عبد الله مولى ابن عمر — رضى الله عنهم.
١٥  هو ضمرة بن سعيد المازني.
١٦  هو سفيان الثوري [٩٧–١٦١ﻫ].
١٧  وأبو إدريس هو أبو إدريس الخولاني: عائذ الله بن عبد الله بن عمرو (٨–٨٠ﻫ).
١٨  هو الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي (٤٥١–٥٢٠ﻫ) له من المؤلفات «سراج الملوك» و«الفتن» و«الحوادث والبدع».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤