المسرح عند قدماء المصريين

نشر الدكتور لويس عوض كُتيبًا عن «المسرح المصري»، جمع فيه سلسلةً من المقالات كان قد نشرها بجريدة الجمهورية، وقد لخَّصَ فيه وناقش مُجْملَ ما انتهى إليه علماء الآثار المصرية في تنقيبهم عن أصول الفن المسرحي عند المصريين القدماء، وكان اعتماده الأساسي على كتاب وضعه بالفرنسية «الأب دريوتون» الذي ظل سنواتٍ مديرًا لمصلحة الآثار المصرية وللمُتحفِ الفرعوني بالقاهرة، واسم هذا الكتاب: «المسرح المصري» وقد صدر في سنة ١٩٤٢م.

وعلماء الآثار مختلفون في حديثهم عن المسرح عند قدماء المصريين، وأولئك الذين يُرجِّحون معرفة المصريين القدماء لهذا الفن، وتبعية اليونان في ابتكاره، يعتمدون على بعض النصوص والنقوش التي اكتُشِفتْ على جدران المعابد، وهم يحاولون إظهار عنصر الدراما في ذلك المسرح العتيق القائم على الأساطير الدينية، ويركزون الصراع الذي هو عنصر الدراما فيما تحمله أسطورة «أوزوريس» من صراع بين الشر والخير، والحياة والموت، والجبر والاختيار، والجريمة والعقاب.

«فأوزوريس» إله الخير والحياة يدخل في صراع عنيف مع «ست» إله الشر والفناء وينتصر إله الشَّرِّ في بادئ الأمر، ولكن «حوريس» ابن «أوزوريس» ينتقم لأبيه، وتتضافر جهود «إيزيس» مع ابنها «حوريس» على الانتقام للحياة وللخير. وعلى هذا الأساس يؤكد هؤلاء العلماء أن الفراعنة قد عرفوا فن المسرح، واستقامت لهم أصوله باستقامة جوهره وهو الصراع، أي الدراما.

والواقع أن المصريين القدماء كان لهم دين، وكانت لهم أساطير، وأن عنصر الدراما قد وُجِدَ في تلك الأساطير، وبذلك وُجد ما يصلح مضمونًا للفن المسرحي، ولكن هل اتَّخذَ ذلك المضمون صورة هذا الفن؟ وهل استطاع أن يتطوَّر بحيث يتخلص من دائرة الدين الضيقة ويَدْلُف إلى حياة الإنسان والمجتمع كما حدث عند الإغريق القدماء الذين أخذ عنهم العالم الأوربي الحديث صور هذا الفن وأصوله؟

ذلك ما نشُكُّ فيه أكبر الشك؛ فأسطورة «إيزيس وأوزوريس» وغيرها من الأساطير يمكن أن تُقصَّ وأن ترتَّل في المعابد، ويتناوب قَصَّها وترتيلَها نفرٌ من الكُهَّانِ في دور العبادة المغلقة، كما كان يحدث عند المصريين القدماء، دون أن يتخذَ ذلك صورة المسرحية التي ظهرت عند اليونان.

وفي بلاد اليونان نفسِها نما فنُّ المسرح في أثينا كفن شعبي، بل كنظامٍ من نُظُمِ الدولة، إلى جوار أسرار الديانة في ضاحية «أيلوزيس» المجاورة لأثينا، وهذه الأسرار هي التي يعترف الإغريق بأنها نزحت إليهم من مصر، وأدَّت إلى اختلاط أسطورة «إيزيس» بأسطورة «ديميتر» ربة الخصب والإنتاج، ولم تتحوَّل تلك الأسرار قطُّ إلى فن مسرحي، ولا اتخذت صورته، بل ظلَّت ترتَّل أو تُقصُّ داخل المعابد المغلقة، وقد اكتُشفت بالفعل عِدَّة تماثيل ومعابد للآلهة المصرية «إيزيس» في أنحاء متفرقة من بلاد الإغريق ومن بينها جزيرة «ديلوس» الصغيرة التي تغطِّي المعابدُ سطحها كله.

وفي الحقِّ أن الصورة Forme هي التي تميز فنًّا أدبيًّا عن غيره، فتشهد بوجوده أو عدم وجوده؛ ولذلك لا يكفي أن نعلم أن المصريين القدماء قد كانت لهم أسطورة أو أساطير دراماتيكية لنستنتج أنهم قد عرفوا فن المسرح، وذلك ما لم نتأكد من أن هذه الأسطورة قد أخذت صورة المسرحية ومُثِّلت أمام جماهير الشعب دون أن يُكتفى بترتيل الكهان لها داخل المعابد المغلقة، على أثر موكب شعبي يضجُّ أمام المعبد أو حوله، ومسألة الصورة ليست أمرًا هينًا وبخاصة في فن المسرح الذي نعرف أنه لم يستقم للإغريق إلا بعد أن نما وازدهر فنَّا الشعر الغنائي والملاحم، وعندئذٍ أو بعد ذلك بقرونٍ ظهر عندهم واستقام — على مراحل — الشِّعرُ التمثيلي الذي يتخذ صورة المسرحية بكافة مُقوِّماتِها، وبُنيت المسارح وتعهَّدتَها الدولة كدُور تربية رسمية تنفق عليها، بل وتدفع للمواطنين مكافأة على حضورهم فيها تعويضًا لهم عمَّا يفوتهم من كَسْبٍ؛ نتيجةً لانقطاعهم لمشاهدة المسابقات المسرحية طوال النهار خلال ثلاثة أيام متتابعة في مواسم بعض الأعياد؛ حيث يتبارى الشعراء وتُنحتُ أسماء الفائزين فوق لوحات من الرخام وصل إلينا الكثير منها.

ولكنه إذا كان المصريون القدماء لم يصلوا إلى فن المسرح، ولم ينمُ عندهم هذا الفن، رغم وجود مضمونه الأسطوري حتى يصبح فنًّا إنسانيًّا واجتماعيًّا منفصلًا عن الدِّين وخارجًا عن نطاق الكهان والمعابد المغلقة … فإنه من الخير أن نبحث عن أسباب ذلك الجُمودِ وسر تقدُّم الإغريق القدماء في هذا المجال حتى أصبحوا رُوَّاد ذلك الفن وواضعي أسسِه، وحتى اضطررنا نحن المصريين المحدثين أن نأخذه عن الغرب الذي أخذه بدوره عن أولئك الإغريق القدماء.

والجواب على هذه الأسئلة لا نظنُّ أن باستطاعتنا أن نجده إلا بالمقارنة بين عقلية المصري القديم وطريقة تصوُّرِه لآلهته، وعقلية اليوناني القديم وطريقة تصوُّره هو الآخر لآلهته.

والواقع أن العقلية اليونانية قد تميزت بشيء خطير هو جماع ما يُسمَّى بالمعجزة الإغريقية، التي جعلت من ثقافتِهم الأساس العام للحضارة الحديثة، وهذا الشيء هو الولع بالإنسان والإيمان به، واتخاذه محورًا للحياة كلها بل وللآلهة نفسها، حتى سُمِّيت الثقافة الإغريقية القديمة — ولا تزال تسمى — بحقٍّ ﺑ: «الإنسانيات»، وتفرَّعَ عن هذه الحقيقة العامة أن رأينا الإغريقيَّ القديم يتصور آلهته على شاكلة الإنسان، حتى ليعتبر دينهم القديم الدين «الناسوتي» Anthroporphiste بأدق معاني الكلمة؛ فآلهتهم وإن تكن ترمز لبعض قوى الوجود … كالضوء الذي يشتق من اسمه لفظ «زيس» zeus كبير آلهتهم، كما يمثل «رع» الشمس عند قدماء المصريين، إلا أن البون واسعٌ بين تصوُّر الشعبين لتلك الآلهة، ﻓ «زيس» عند الإغريق كائن له كافة خصائص الإنسان وما فيه من فضائل ورذائل وعواطف ومشاعر ونزعات خير وشر، حتى لنراهم يقصُّون عنه أغرب القصص، كتنكره في شكل ثور رائع يُطامِن من ظهره لفتاة جميلة تسمى «أوروبا»، حتى إذا اطمأنت إليه الفتاة وامتطت ظهره، دلف بها إلى البحر، وخاض غِمارَه ليهربَ بها إلى الشاطئ الآخر؛ حيث يعود إلى أصله أي بشرًا سويًّا، يتزوج من الفتاة التي احتال لاغتصابها من ذويها … وكم له من مغامرات أشد جرأة حتى ملأ الدنيا أنصاف آلهة، يعقبهم من الفتيات الجميلات اللائي يغتصبهن … وإذا كان هذا هو شأن كبير آلهتهم، فما بالك بمن دونه من سكان الأوليمب!

وأمَّا المصريون القدماء — كمعظم الشرقيين — فقد تصوَّرُوا آلهتَهم كقوى خارجة عن مجال الحياة الإنسانية، مسيطرة على تلك الحياة، وإذا كانت ترمزُ لبعض قوى الطبيعة والحياة على نحو ما يرمز «ست» للشر و«أوزوريس» للخير و«إيزيس» للإنتاج، فإن هذه الرموز لم تتَّخِذ المعنى «الناسوتي» … ولذلك لم تتصف كل تلك الآلهة بصفة الإنسان الذي تتجمَّع فيه المتناقضات وتتصارع الفضائل والرذائل، وتتعدَّد المغامرات الدراماتيكية الإنسانية، ولم يشتبك البشر مع الآلهة كما لم يشتبك الاثنان مع قوة «الأنانكية»، أي الضرورة أو الجبر الكوني على نحو ما حدث عند اليونان.

وإذا صَحَّتْ هذه الحقائق — وهي صحيحة — كان من السهل أن نتصور كيف أمكن أن يتطور المسرح الإغريقي من مجال الدِّين والآلهة وأساطيرهم إلى مجال الإنسان وحياته ومجتمعه؛ وذلك لأن تلك الآلهة لم تكن في الواقع إلا بشرًا، وإن تضخَّمَت أبعادهم وفاقت قوتهم وذكاؤهم قوة البشر وذكائهم وأبعادهم، وأمَّا عند المصريين القدماء، فإن الهُوَّةَ كانت سحيقة بين عالم الآلهة وعالم الإنسان بحيث لم يستطع أن يتخطاها الفن المسرحي حتى يفرض وجوده في عالم الآلهة وعالم الأساطير.

وعلى أية حال، فإن المسيحية قد حطمت الديانة المصرية القديمة، وحلَّتْ محلها في نفوس كثير من المصريين، ثم جاء الإسلام فقضى على ما تبقى من آثار تلك الديانة، وأصبح دين الغالبية الساحقة للمصريين، وحمل الإسلام معه اللغة العربية والثقافة العربية بل والفنون العربية، وإذا صَحَّ أن الثقافة هي التي تصنع الإنسان كان من الحق أن نقرر أن مصر الحديثة عربية، وأن التراث الأدبي والثقافي الذي تتربى بفضله الأجيال المتعاقبة هو التراث العربي.

وتقرير هذه الحقيقة يقتضينا أن نترك مصر القديمة التي انفصلت عنها مصر الحديثة لتصبح عربية، ونأخذ في النظر فيما إذا كان العرب القدماء قد عرفوا شيئًا عن المسرح أو ما يُشبهُه، وهل خلَّفوا شيئًا يمُتُّ إلى هذا الفن بصلة في التراث الأدبي الذي تلقيناه عنهم أم لا؟ وإذا لم يكن فلماذا؟ وبخاصة إذا ذكرنا أنهم نقلوا إلى لغتهم في العصر العباسي الكثير من التراث العقلي لليونان كالفلسفة والعلوم، وكان من الممكن أن ينقلوا أيضًا الأدب اليوناني بما فيه الأدب التمثيلي ويؤصلوه عندهم، فنستمر في مزاولته بدلًا من أن نأخذه عن الغرب في القرن التاسع عشر، ونظل نتعثر فيه إلى يومنا هذا؛ لأنه فن دخيل على حياتنا العقلية والفنية، لم ينبعث عن حياتنا انبعاثًا تلقائيًّا، ولم يتأصَّل في تراثنا تأصُّلًا ثَبَّتَ الزمن جذوره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤