مسرح توفيق الحكيم

لقد نشر الأستاذ توفيق الحكيم في الأيام الأخيرة مسرحيةً قال في مقدمتها: إنه كان قد كتبها في سنة ١٩٢٣م لفرقة عكاشة واسمها «المرأة الجديدة»، وفيها يعالج مشكلة السفور التي كانت لا تزال تثير اهتمام الناس ومناقشاتِهم في ذلك الوقت، وقد حاول الحكيم أن يعرض فيها ما تستهدف له الأسرة والأخلاق العامة من خطرٍ نتيجة للسفور، وخروج المرأة من البيت واختلاطها بالرجال، وهي مشكلة لم يكن يشعر بها شعورًا عميقًا غير الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها الحكيم؛ وذلك لأن السفور كان أمرًا مسلَّمًا به منذ زمن بعيد عند الطبقتين العليا والدنيا، فالاختلاط كان — ولا يزال — شائعًا مطردًا في الطبقة العليا، وبخاصةٍ بعد أن اتصلنا بالغرب وأخذنا بتقاليده، كما أن نساء الفلاحين كن ولا يزلن يخالطنَ الرجال، ويعملن معهم في الحقول منذ أقدم الأزمنة، بحيث يمكن القول بأن السفور لم يكن مشكلة إلا بالنسبة للطبقة الوسطى التي عبَّر عن مخاوفها توفيق الحكيم في مسرحيته، وجنح إلى تأييد تلك المخاوف، وإن يكن الزمن قد أثبت عدم صحتها، وانتهى الأمر بسفور هذه الطبقة من النساء، واشتراكهن في مختلف ميادين النشاط جنبًا إلى جنب مع الرجل، بحيث يمكن القول بأن هذه المشكلة قد حلت، ولم يَعُدْ لها وجود، وبالتالي فقدَت مسرحية الحكيم الكثير من أهميتها، ومن اهتمام الناس بها، وأصبحَت أشبه ما تكون بوثيقة من وثائق التاريخ، وإن كان ذلك لا يسلبها كل قيمتها إلا إذا جاز أن نقول إن كتابَي قاسم أمين مثلًا عن «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» قد فقدا كل قيمة لهما بحل مشكلة السفور.

وعلى أية حال، فإن نشر الحكيم لهذه المسرحية القديمة قد لفت النظر إلى أنه قد كان معنيًّا منذ نشأته الأولى، وقبل أن ترتفع شهرته ككاتب قصصي مسرحي بالمسائل الاجتماعية واتخاذها موضوعات لمسرحياته، وذلك بعد أن أخذَ يذيع عنه أنه صاحب المسرح الذهني الرمزي بفضل ما نشر من مسرحيات ذهنية رمزية كانت نقطة البدء في مجده الأدبي، وكانت مسرحية «أهل الكهف» هي أولى تلك المسرحيات، ثم تلتْها مسرحيات «بجماليون» و«شهرزاد» و«الملك أوديب» وأخيرًا «إيزيس».

ومع ذلك فإنه ليس بصحيحٍ القولُ بأن توفيق الحكيم قد تخصَّص بالمسرح الذهني ووفر عليه جهده، وهرب أو ترفع عن معالجة مشاكل مجتمعه فيما يكتبه من مسرحيات؛ وذلك لأن الحكيم قد مرت به فترة من حياته بين عامي ١٩٤٤ و١٩٥٠م ترك فيها خدمة الحكومة، وعمل صحفيًّا في مجلة «أخبار اليوم» الأسبوعية، وفي خلال تلك الفترة نشر بهذه المجلة عددًا كبيرًا من المسرحيات القصيرة والمتوسطة، جمعها فيما بعد تحت عنوان واحد هو «مسرح المجتمع»، الذي يضم إحدى وعشرين مسرحية غالبيتها العظمى من النوع الكوميدي، وفيها يعالج مشاكل اجتماعية وأخلاقية وسياسية كمشكلة المرأة واشتغالها بالحياة السياسية وعضوية البرلمان، كما يعالج طغيان النزعة المادية على الأخلاق والمثل العليا وفساد الحكم وضروبًا من الشذوذ في السلوك الفردي والاجتماعي، وبذلك يجمع الحكيم بين المسرح الذهني والمسرح الاجتماعي.

المسرح الاجتماعي

لقد أخذ المسرح — بل الأدب الاجتماعي كله — يُثير في العالم أجمع وبالعالم العربي خاصة مناقشات حامية بين الأدباء والنقاد، وذلك بعد ما أخذْنا نلاحظه من انتشار التفكير الاشتراكي في كل مكان، ودعوة هذا التفكير الأدب والأدباء إلى أن يضعوا مواهبهم في خدمة المجتمع، وألَّا يظلوا متوفرين على خلق القيم الجمالية فحسب، في الوقت الذي تسعى فيه الشعوب إلى التخلُّص من مشاكلها الاجتماعية، وضروب الشقاء والخوف والقلق التي تعانيه، وقد جاء المذهب الوجودي الذي انتشر انتشارًا واسعًا بعد الحرب العالمية الثانية مؤيدًا لهذا الاتجاه الاشتراكي في الأدب أو الواقعيَّة الاشتراكية، حتى لنرى الوجودية تنادي في الأدب بما يسمونه «الالتزام» أو «الأدب الهادف»، بمعنى أن يتحمل الأديب مسئوليته إزاء المجتمع، ويلتزم بهذه المسئولية، ويهدف في أدبه إلى أغراض اجتماعيَّة وإنسانيَّة نافعة يعتنقها ويلتزم بها، حتى لا يظلَّ الأدب والفنُّ ترفًا ينعم به الخواص أو تسلية يقطع بها المتسكعون فراغ حياتهم، وفي كتابٍ ألَّفه الكاتب الفرنسي الشاب «البيريس» عن «سارتر والوجودية»، ونقله إلى العربية الدكتور سهيل إدريس، يقول المؤلف: «إن الجمالية والفن يبدوان لسارتر كوسيلة يتعلَّل بها الكاتب كي لا يجابهَ وجهًا لوجهٍ قضايا زمنه، ولكنه مع ذلك لا ينكرهما، بل يحلهما في المحل الثاني، ويرى أن اللذة الجمالية في النثر ليست صافية، وإنما تأتي عرضًا، وهو يدعونا إلى أن نكتب أولًا بنية أن نقول شيئًا للأحياء، ولا يضيرنا بعد ذلك ألا يبقى لأحفادنا الذين لن يحسوا بقيمة الحوادث الراهنة إلا الإعجاب بأسلوبنا، ومع ذلك فلا يحسن بنا أن نتوخى الأسلوب لذاته؛ لأن المسئولية والصدق يأتيان أولًا والأسلوب والجمالية في المحل الثاني.

إن سارتر يعتقد أن الفكر ينبغي ألَّا يطفوَ فوق الأحداث، بل يجب أن ينخرطَ فيها، «والحالية» هي التي ينبغي أن تضفي على الآثار الأدبية قيمتَها، وكما أن طعم الموز يبدو أكثر لذة حين يُقْطف ناضجًا طازجًا، فكذلك آثار الفكر يجب أن تستهلك في مكانها.»

ومع ذلك فإن هذه النظرة الوجودية للأدب والفن، وهي نظرة تتفق تمام الاتفاق مع النظرة الاشتراكية — لا تزال تلقى مقاومة عنيفة من أنصار الفن للفن والأدب للجمال، ومن المعلوم أن كثيرًا من الأدباء والفنانين، يبلغ بهم ما يصح أن نسميه «مرض الخلود» حدًّا يجعلهم ينفرون من أدب الملابسات الذي يعالج المشكلات الراهنة في حياة مجتمعهم؛ خوفًا من أن يصيبهم الفناء بفناء أدبهم، الذي قد يموت بتغير تلك الملابسات، وفقد اهتمام الناس بالمشاكل التي تولَّدت عنها، على نحو ما سبق أن أوضحنا بالنسبة لمشكلة «السفور» التي عالجها توفيق الحكيم في أول مسرحية اجتماعية كتبها، وهي مسرحية «المرأة الجديدة».

ومعظم مسرحيات المجتمع التي كتبها توفيق الحكيم من نوع الكوميديا، وهو النوع الذي يُستخدم عادة في نقد العيوب والأخلاق الاجتماعية، ويحاول أن يُصلح تلك العيوب، وأن يقوِّم الأخلاق بواسطة إثارة الضحك والسخرية منها، وإن يكن معظم النُّقاد يرون أن الكوميديا لا تستطيع أن تعالج في الغالب غير العيوب والمثالب السطحية التي كثيرًا ما تقف عند العادات والتقاليد الاجتماعية والفردية، وأن أية مسرحية فكاهية تحاول أن تعالج المشاكل الأخلاقية العميقة المتأصِّلة في طبيعة الإنسان أو في ضميره، المتغلغلة في كيان المجتمع والضاربة بجذورها في أساسه، لا تلبث أن تنقلب إلى دراما بل إلى مأساة، ولا تحتفظ من الفكاهة إلا بمظهرها الخارجي، الذي يقف عنده السطحيون من القرَّاء أو المشاهدين، بينما تكمن المأساة في أغوارها، وقد رأت الإنسانية أمثلة رائعة لهذه المسرحيات الفكاهية في ظاهرها، المحزنة في جوهرها في الكثير من أفلام أكبر ممثل هزلي في العصر الحاضر وهو شارلي شابلن، وبخاصة في أفلامه الأخيرة، بعد أن اتضحت ونضجت فلسفته الاجتماعية القائمة على الاشتراكية، وذلك على نحو ما نلاحظ في أفلام «العصر الحديث» و«أضواء المدينة» و«أضواء المسرح».

ومن الواضح أن توفيق الحكيم بحكم ممارسته الطويلة لهذا الفن، وسَعة اطِّلاعه فيه، لم تغب عنه هذه الحقيقة؛ ولذلك نراه يتخذ المأساة صورة لإحدى هذه المسرحيات الاجتماعية التي تُعالج داءً أصيلًا في مصر عامةً وفي صعيدها خاصة، وهو داء الأخذ بالثأر، وذلك في مسرحية «أغنية الموت».

وإن يكن من الحق أن توفيق الحكيم قد استطاع بمهارة فائقة أن يعالج أحيانًا صفوة الغرائز البشرية ذاتها، وهي أشد العوامل الفعالة في سلوك الأفراد وأخلاقهم بالفن الفكاهي، وذلك على نحو ما نلاحظ في مسرحية «أريد أن أقتل»؛ حيث يعرض الحكيم رجلًا وزوجته يتبادلان عبارات الإخلاص والوفاء وفرط المحبة والإيثار حتى ليعلن كل منهما رغبته في أن يسبق رفيقة إلى الموت؛ حتى لا يفجع في أعز مخلوق لديه، وفي تلك الأثناء تقتحم المسكن فتاة مصابة بلوثة تسكن بجوارهما، وتدخل شاهرة مسدسًا، وتُنبئهما أنها لا بد أن تقتل أحدًا اليوم، وأنها تترك لهما الخيار في أن يختارا من بينهما من تقتله، وعندئذٍ ينسى الزوجان كل حديث الحب والإيثار الذي كان في ذهنهما، ويأخذ كل منهما يضرع إلى الفتاة لكي تقتل الشخص الآخر؛ وذلك لاستيقاظ غريزة «حب الحياة» أمام خطر الموت، وطغيانها على كل عاطفة، وفي النهاية تطلق الفتاة مسدسها، فإذا به محشو بالبارود بدلًا من الرصاص، وينجو الزوجان، ويبتسم القارئ، بينما قد تضج الصالة بالضحك إذا كانت المسرحية معروضة على خشبة المسرح بحكم أن ضحك الصالة ظاهرة جماعية.

ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نستعرض هنا جميع مسرحيات توفيق الحكيم الاجتماعية، ولا أن نحللها ونحكم عليها مسرحية بعد أخرى، إلا أننا نستطيع أن نقرر بوجه عام أن هذه المسرحيات الفكاهية القصيرة تعتبر — بلا ريب — من النوع الذي يصلح للعرض على جمهورنا المصري والعربي عرضًا ناجحًا؛ وذلك لأنها تعرض لوحات متنوعة من واقع حياة هذا الجمهور أليفة إليه، كما أن الحركة المسرحية متوفرة فيها في الغالب الأعم، وذلك بخلاف مسرحياته الرمزية الذهنية التي ربما كانت أكثر صلاحية للقراءة منها للتمثيل، وهي إذا مُثِّلت قد لا يُقبل على مشاهدتها غير الخواص من المثقفين الذين يستطيعون فهمها والاستمتاع بها، ويجدون المتعة في متابعة الحوار الذهبي، والذين يصح عندهم ما قال به أحد فلاسفة الإغريق القدماء من أن الفكر ضرب من الحركة، وأنه خليق بأن يبعث الحركة في كل شيء، وفي هذه الحركة ما يحقِّق وظيفة هامة من وظائف المسرح، وهي شغل المشاهد عن نفسه لفترة من الزمن، والاستحواذ على اهتمامه، فضلًا عن الاستمتاع بالقيمة الفكرية لمضمون الحوار إذا كانت الأفكار أصلية عميقة موجبة محركة للخيال، قادرة على تحويل السَّمعيَّات إلى بصريات والرموز إلى حقائق.

المسرح الذهني

بالرغم من أن توفيق الحكيم قد كتب — كما قلنا — إحدى وعشرين مسرحية اجتماعية، وبالرغم من أن بعضها قد مُثِّل وأصاب نجاحًا، إلا أن توفيق الحكيم قد اشتهر بنوع خاص بالمسرح الذهني الذي يعتبر ممهدًا له في أدبنا المعاصر.

ولقد يُظن أن نشر توفيق الحكيم لمسرحيات المجتمع في الصحف قبل جمعها في كتاب، قد كان من الأسباب التي حملت الأدباء والمخرجين والناقدين على أن ينصرفوا عنه إلى مسرح الحكيم الذهبي، وأن يظنوها أقرب إلى الصحافة منها إلى الأدب، وبخاصةٍ وأنها تعالج مشاكلَ اجتماعيةً راهنة عابرة، بينما تُعالج مسرحياتُه الذهنية مشاكلَ إنسانية خالدة … ولكن مقياس النشر في الصحف لا يصحُّ أن يعتبر فيصلًا في الحكم على القصص والمسرحيات التي تنشر في الصحف أولًا، وذلك بدليل أن أعظم قصة في الأدب الفرنسي وهي قصة «مدام بوفاري» لجوستاف فلوبير قد نُشِرت أول الأمر في مجلة ثقافية قبل أن تُجْمع في كتاب، دون أن يقدحَ ذلك في قيمتها، أو ينزلَ بها عن المكانة التي احتلتها في قمة الأدب الفرنسي كله.

ولكنه إذا كان مكان نشر الآثار الأدبية لا يؤثر في قيمتها الفنية والإنسانية مهما يكن هذا المكان، باعتبار أن اللآلئ لا يمكن أن تذوب في الأوحال — إلا أن طبيعة تلك القصص أو المسرحيات والصورة الفنيَّة التي تتخذها هي في الواقع الفيصل النهائي للحكم عليها، وفيما يُكتب لها من مجد أو سقوط ومن فناء أو خلود.

ولقد كانت مسرحية «أهل الكهف» أول عمل مسرحي كبير، لفت إلى توفيق الحكيم الأنظار، ولربما كان في إلف المسلمين لموضوع هذه المسرحية باعتبار أنها قد وردت في القرآن، بل وفي صورة جرى عرف المسلمين أو سنتهم على تلاوتها في الصلاة الجامعة كل يوم جمعة — ربما كان لكل ذلك دخل في لفت الأنظار إليها والإقبال على قراءتها، ثم تمثيلها عند أول ظهورها وإقبال المشاهدين عليها، وإن لم يتكرر هذا التمثيل.

ومع ذلك فإن هذه القصة لا تتعلق بالإسلام وتاريخه ورجاله، بل هي قصة مسيحية، ولم يتحدث عنها القرآن إلا لأنه يعترف بكافة الديانات السماوية التي سبقته كاليهودية والمسيحية وبأنبيائها وقديسيها، ويستشهد بأحداث تاريخها ليستخلص منها العبرة، ومن المؤكد أنه لو كانت هذه القصة مأخوذة من الإسلام وتاريخه، وكانت شخصياتها من الصحابة مثلًا للقيت الكثير من العقبات في سبيل تمثيلها؛ حيث لا يزال عدد كبير من المحافظين المسلمين يعترضون على ظهور نبي المسلمين أو الصحابة، وأحيانًا بعض الأنبياء الآخرين على خشبة المسرح أو شاشة السينما، وذلك بينما نرى العالم المسيحي الغربي يعرض على الجماهير لا في المسارح فحسب، بل وفي الساحات العامة أمام الكنائس منذ العصور الوسطى حتى الآن — السيد المسيح وهو حامل الصليب الخشبي الضخم فوق ظهره، أو مشدودًا على هذا الصليب، فضلًا عن كافة القديسين والحواريين والأحبار.

ولقد وُفِّق توفيق الحكيم توفيقًا كبيرًا في استخدام هذه القصة للتعبير عن كنه الحياة وحقيقتها الأولية، والحياة ليست جوهرًا يحرص عليه الناس لذاته، بل هي مجموعة من الروابط والعلاقات، بحيث إذا ضاعت تلك الروابط والعلاقات، وانمحت من تاريخ الإنسان لم يعد لهذه الحياة معنًى ولا قيمة … وهذا هو ما حدث لأهل الكهف في مسرحية الحكيم، فقد فروا كمسيحيين من اضطهاد الوثنية الرومانية، ولجئوا إلى كهف، رقدوا فيه مئات السنين، ثم بُعثوا إلى الحياة، وخرجوا من الكهف إلى المدينة، فإذا كل شيء قد تغير، فقطيع أغنام أحدهم قد باد، ومنزل الآخر قد تهدَّم وضاعت معالمه ونهض مكانه سوق، وثالثهم ماتت حبيبته منذ قرون، وإن شُبِّه له وظن فتاة أخرى حبيبته، فتعلق بهذا الوهم بعض الوقت، ولم يسارع بالعودة إلى الكهف وإيثار الموت على الحياة، كما فعل صاحباه اللذان لم يعد يربطهما بتلك الحياة حتى مجرد الوهم الذي داعب صاحبهما، ومع ذلك لم يلبث الوهم أن تبدد، فعاد ثالثهم هو الآخر إلى الكهف، وإن تكن الفتاة قد علقت بذلك الوهم، وصحبت الرجل إلى الكهف هي الأخرى، وبذلك استطاع الحكيم أن يصوغ من هذه القصة مسرحية عميقة موحية غزيرة الاحتمالات قابلة لضروب متباينة من التفسير، شأنها في ذلك شأن الأعمال الأدبية الكبيرة التي لا ينضب لها قط معين.

وبعد «أهل الكهف» حاول الحكيم أن يتابع نفس الاتجاه، فاختار أسطورة إغريقية قديمة هي أسطورة «بجماليون»، وصاغها في مسرحية تحمل هذا الاسم، والظاهر أن توفيق الحيكم عند كتابته لهذه المسرحية كانت قد تقدَّمَت به السن، وأخذت تتولَّد لديه عقدة نحو المنهج النهائي، الذي يجب أن يخططه في حياته، وقد أتى عليه حين من الزمن كان يشكو فيه من أن تركه لوظيفته الحكومية المحترمة في نظر المجتمع، وهي وظيفة وكيل النائب العام، واشتغاله بالأدب، قد أخذ يقوم عقبة في سبيل عثوره على المرأة التي يستطيع أن يرضاها زوجة وشريكة لحياته، حتى فكر جديًّا في أن يصرف النظر نهائيًّا عن الزواج، وأن يخصِّص حياته للأدب والفن لعله يجد فيهما ما يشغل حياته كلها، ولكن غرائز الحياة كانت تغالبه حتى حدث في حياته ما يُشبه الازدواج والمرض النفسي، فكان يحلو له أن يذيع عنه الناس أنه عدو للمرأة، بينما هو في حقيقة أمرِه شغوف بها كغيره من الرجال، ولكن الكبرياء تغالبه، ونزعة الفن توهمه بأنه يستطيع أن يستغنيَ بالفن عن المرأة، وفي هذه الفترة اهتدى إلى أسطورة بجماليون، فرأى فيها مادةً طيعةً لمعالجةِ تلك المشكلة، التي أخذت تُضنيه، وهي مشكلة التردُّد بين الفن والمرأة، أو على الأصح بين الفن والحياة … فالمثَّال الإغريقي الأسطوري بجماليون يصنع تمثالًا لفتاة جميلة من بنات خياله يُسمِّيها جالاتيا، ويأتي التمثال مصوِّرًا لمثله الأعلى في جمال المرأة، ويحب الفنان تمثاله باعتباره جزءًا من نفسه وثمرة لعبقريته، ولكن جمال التمثال لا يلبث أن يحرِّك غريزة الحياة في نفسه، فيضرع إلى كبير الآلهة زيوس أن ينفُثَ فيه الحياة، وأن يحيله إلى فتاة من لحم ودم، ويستجيب الإله لرغبته، ويتزوج الفنان من الفتاة، ولكن عوامل الغيرة ومتاعب العشرة لا تلبث أن تبدِّد أحلامه، وبخاصَّةٍ بعد أن انطفأ لهيبُ غرائزه، ويعود الفنان إلى الشقاء بحياته بعد سلسلة من الأحداث، فيطلب إلى كبير الآلهة من جديد أن يقلب فتاته تمثالًا حجريًّا كما كانت.

وبالرغم من افتعال بعض الأحداث التي تتخلل هذه المسرحية، وبالرغم من طابعها الذهني المفرط الذي يصيبها بشيء من جمود الفكر — إلا أن الحكيم قد استطاع بفضل هذه الأسطورة أن يرمز رمزًا عميقًا موحيًا لمشكلة حياته في تلك الفترة، وهي مشكلة قد لا تكون خاصة به وحده، ولعلها مشكلة كثيرين غيره من رجال الفكر والفن.

وبالرغم من أن مسرحية «بجماليون» تُعتبر — بلا ريب — أقل أصالة وصدقًا وحيوية من مسرحية «أهل الكهف» إلا أنها تعتبر — بلا شك — خيرًا من مسرحيته الذهنية الثالثة، وهي مسرحية «الملك أوديب»، التي تضاءل فيها توفيق الحكيم تضاؤلًا كبيرًا إلى جوار العملاق سفوكليس شاعر اليونان القدماء ومؤلف «أوديب ملكًا»، التي ترجمها إلى العربية الدكتور طه حسين، كما ترجم له أيضًا «أوديب في بولونا»، ومسرحية «أوديب» للكاتب الفرنسي المعاصر أندريه جيد.

ونحن لا نأخذ توفيق الحكيم في معالجته لهذه الأسطورة لتضاؤلِه إلى جوار سفوكليس، فقد تضاءل من قبله ومن بعده جميع من حاولوا علاج هذه الأسطورة من جديد بعد العملاق الإغريقي، الذي ربما كانت مسرحيته «أوديب ملكًا» في ذروة ما أنتجته البشرية في مجال فن المأساة.

وإنما الذي نأخذه على توفيق الحكيم في علاجه لهذه الأسطورة هو التناقض والهبوط الخلقي الجارح …

فتوفيق الحكيم يزعم في المقدمة الطويلة التي كتبها لمسرحيته أنه قد حاول أن يوفِّق بين الإسلام وأحداث هذه الأسطورة، وأن يعالجها وفقًا لتعاليم الإسلام وروحه، وأنه قد غيَّر لهذا السبب مصدر مأساة أوديب، فلم يجعلها نابعةً عن إرادة الآلهة، باعتبار أن الله لا يمكن أن يكون مصدرًا للشر الذي جعل أوديب يقتل أباه، ويتزوج من أمه، وإنما أرجع هذا الشر إلى عمل البشر وإلى دسائس الكاهن ترسياس، ونحن لا نريد أن نناقش الحكيم في هذه الفكرة التي جزم بأنها من تعاليم الإسلام، مع أن القرآن نفسه لم يجزم برأي في هذا الصدد، ففيه آيات يمكن أن يستفاد منها أن الشر مصدره البشر، بينما فيه آيات أخرى تُفيد أن الله هو الذي يلهم النفس البشرية فجورها وتقواها، مما كان سببًا في اختلاف طوائف المسلمين وتطاحنهم حول الجبر والاختيار والخير والشر، كما كان سببًا في تلك المناقشات الحامية التي دارت بين علماء الإسلام وفقهائه منذ عصر المعتزلة الذين قالوا بالاختيار وأهل السنة الذين قالوا بالجبر حتى الآن، ولكننا لا ندري كيف يستطيع الحكيم أن يوفِّق بين هذه النزعة الإسلامية التي حرص عليها فيما يتعلق بمصدر المأساة وبين تلك الخاتمة المخزية التي نطالعها في المشهد الأخير من مسرحيته، عندما نرى أوديب بعد أن اكتشف أن زوجته هي أمه، يحاول أن يغريها بالاستمرار في معاشرته معاشرة الأزواج، حتى ولو اضطرا أن يهاجرا من بلدهما طيبة إلى بلد آخر، وعندما ترفض أمه هذا العرض وتخنق نفسها، لا يفقأ أوديب عينيه — كما فعل عند سفوكليس — تكفيرًا عن الإثم الذي ارتكبه غير عامد — بل لكي يبكي زوجته المعشوقة بالدم بدلًا من الدموع! فهل هذا من الإسلام، أو من أي دين أو خُلق في شيء؟ فضلًا عن ضياع كل قيمة للمسرحية؛ إذ تؤدي هذه الخاتمةُ المخزيةُ إلى فقد بطلها أوديب لعطف القارئ أو المشاهد وانفعاله بمأساته، كما تطيح بعنصري الفزع والشفقة اللذين يرى فيهما أرسطو جوهر المأساة والعاملين الأساسيين في تحقيق وظيفتها التي سماها هذا الفيلسوف بتطهير النفوس، بل على العكس لا يظفر منا أوديب الحكيم إلا بالاحتقار والاشمئزاز؛ إذ نراه يتكالب على معاشرة أمه معاشرة الأزواج، ويتفجع لفقد زوجته المعشوقة، وكل ذلك مجاراة لذلك الصراع الوهمي غير المفهوم الذي عبر عنه الحكيم في مقدمته بعبارة الصراع بين الواقع والحقيقة، والواقع في مسرحيته هو زواج أوديب من أمه على غير علم بهويتها، والحقيقة هي ما تكشف له بعد ذلك من أنه قد تزوج من أمه بعد أن قتل أباه تنفيذًا لإرادة الآلهة في الأسطورة القديمة، ولتدبير ترسياس عند توفيق الحكيم.

ونحن لا نريد أن نتتبع هنا كافة مسرحيات توفيق الحكيم الذهنية مثل «شهرزاد» وغيرها، وهي جميعها لم ترتفع واحدة منها إلى مستوى «أهل الكهف»، التي تعتبر خير ما كتب الحكيم من مسرحيات، والتي لولا ما فيها من حشو لا مبرر له جاء من إقحام الحكيم لأسطورة يابانية مشابهة لقصة أهل الكهف على هذه المسرحية لجار أن نعتبرها في مستوى المسرحيات العالمية الكبرى.

ولكننا نحب أن نلاحظ أن مسرح توفيق الحكيم الذهني قد تعرض لنقدٍ شديد، واتُّهم بضعف الحركة أو فتورها، حتى رأى فيه بعضُ النقاد مجرد مناقشة حوارية لا تصلح للتمثيل، ونكاد نحسُّ بأن توفيق الحكيم قد سلم هو نفسه بوجاهة هذا النقد، فقرَّر في مقدمة بعض هذه المسرحيات أنَّه لا يتقيَّد بالصلاحية للتمثيل أو عدمها، وأنه يكتب أدبًا للقراءة قبل كل شيء، وإن يكن قد حاول في بعض مقالاته أن يُلقي التبعة على الجمهور وعلى التمثيل والممثلين؛ لأنهم لم يرتفعوا بعدُ إلى المستوى الثقافي اللازم لعرض مثل هذه التمثيليات واستساغتها.

ومهما يكن في هذه الآراء من صحة أو عدم صحة، ومهما يكن في استقامة أو عدم استقامة ما يزعمه الأستاذ الحكيم من أن جودة المسرحية لا تتوقَّف على صلاحيتها، أو عدم صلاحيتها للتمثيل، وبخاصةٍ وأن الكثيرين من النُّقاد يرفضون أن يدخلوا في الأدب التمثيلي أية مسرحية لا تصلح للتمثيل على خشبة المسرح — مهما يكن من أمر كل هذه الآراء، فالظاهر أن توفيق الحكيم نفسَه قد أخذ يغيِّر من اتجاهه الرمزي الذهني في معالجة الأساطير، محاولًا أن يقتربَ بها من الواقع الإنساني، وأن يوفر لها من الحركة المسرحية ما يضمن لها شيئًا من النجاح عند تمثيلها على المسرح، وهذا هو ما يمكن أن نستخلصَه بسهولة من آخر مسرحية أسطوريةٍ كتبها وهي مسرحية «إيزيس».

فهذه المسرحية — كما هو واضح من عنوانها — مستمدةٌ من الأسطورة المصرية القديمة المليئة بالرموز، فمن أحداثِها ما يرمز للصراع بين الخير والشر، وهو الصراع بين «أوزيريس» وأخيه «ست» أو «سخ»، ومنها ما يرمز إلى الخصب والنماء، وانتصاره على القحط والجدب ممثلًا في أوزيريس رمز الخضرة والنماء، والذي يكاد يتحد مع ماء النيل، ومنها ما يرمز إلى وفاء المرأة وإخلاصها وجهادها الإيجابي الشجاع في سبيل من تحب، وكل هذه المعاني تتمثَّل في شخصية إيزيس، التي حرص توفيق الحكيم في تعليقٍ ذيَّل به مسرحيته، على أن يشيرَ إلى إيجابية وفائها إذا قورنَت ببنلوب اليونانية، التي اكتفَتْ بجهاد سلبي في سبيل وفائها لزوجها، فكانت تطلب إلى خُطَّابها أن يُمهلوها حتى تفرغَ من تطريز ثوبٍ كانت تصنعه، وأخذَت تنقض في الليل ما تُطرِّزه في النهار حتى يطولَ بها الوقت، على أمل أن يعودَ زوجُها من غيبته الطويلة، فينقذَها من إلحاح أولئك الطامعين، وبالفعل تم لها ما أرادت، ولكن كفاحها كان في الواقع سلبيًّا، بينما كافحَت إيزيس المصرية وقاتلَت قتالًا مريرًا في سبيل زوجها الحبيب، حتى أنقذتْه من الهلاك مرة، وجمعت أشلاءه التي وزِّعت في أربع عشرة بقعة ترمز لأقاليم مصر الأربعة عشر.

وأراد توفيق الحكيم أن يدنوَ بالأسطورة من الواقع الإنساني، فغيَّر وحذف الكثير من وقائعها الأسطورية، وفسَّر بعضَ تلك الوقائع تفسيرًا مجازيًّا مثل تفسيره ما ورد في الأسطورة من أن أوزيريس قد أصبح شجرةً على ضفاف مدينة ببلوس، بأنه قد أصبح عامودًا من أعمدة قصر تلك المدينة، أي دعامة أساسية من دعائمها، كما أغفل واقعة تقطيع جسده إلى أربع عشرة قطعة، وجَمْع إيزيس لهذه القطع من أقاليم مصر المختلفة، كما نوَّع في أساليب الصراع بين الخير والشر، ورمز لأحد تلك الأساليب بشخصية توت، الذي جعله يدعو إلى محاربة الشر بالشر، والاحتيال على هزيمته بكافة الأساليب السياسية المخاتلة، بينما رمز للتمسك بالشرف ومبادئ الخُلُق والمثُل العليا بشخصية مسطاط.

ولكي يولد في المسرحية حركة دراماتيكية قوية جعل الشعب يعقد محكمة للفصل في الخصومة التي نشبت بين إيزيس وابنها حوريس من جهة، وطيفون وهو الاسم اليوناني ﻟ «ست» رمز الشر، وأنهى هذه الخصومة بتدخُّل دراماتيكي لملك ببلوس الذي خف لمؤازرة إيزيس وابنها اعترافًا بالفضل الذي قدَّمه إليه من قبل أوزيريس عندما هداه إلى سبل الزراعة أي الحضارة، وهو تدخُّل وإن يكن دراماتيكيًّا حقًّا إلا أنه يبدو مفتعلًا، وربما كان من الأفضل أن ينبع الحل بطريقة آلية منطقية من أحداث المسرحية ذاتها لا أن يفد عليها من الخارج.

ومن كل هذه التغييرات يظهر التطور الذي ظهر أخيرًا في معالجة توفيق الحكيم للأساطير، وهو ذلك التطوُّر الذي يتَّضح في أمرين:
  • أولهما: تخليص الأسطورة من الخوارق ومحاولة الدنوِّ بها من واقع الحياة الإنسانية.
  • وثانيهما: إدخال المفاجأة الدراماتيكية في خاتمة المسرحية؛ لكي ينفثَ فيها الحركة، وينجوَ بها من تلك الرتابة التي أخذَها عليه النُّقاد في مسرحياته الأخرى التي تكتفي بالحركة الذهنية، ويغلب عليها طابع المناقشة الفكرية التي قد لا يستسيغها — كما سبق أن قلنا — غير الخواص من المثقفين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤