فنون المسرح الشعبية

خيال الظِّلِّ – الأراجوز – صُندوقُ الدنيا
لقد ظللنا حتى السنوات الأخيرة نشهد في البلاد المصرية فنونًا شعبيةً تُشبه المسرح أو السينما الحديثين، ومن أهمِّها خيال الظل الذي يسمونه بالإنجليزية Shadow Play أي مسرح الظل وبالفرنسية L’ombre chinoise أي الظل الصِّيني، وتُسمَّى التمثيليات التي يعرضها صاحب خيال الظل باسم «البابات» ومفرده «بابة».

ولم تكن البابات تمثل في دُورٍ ثابتةٍ مُعدَّةٍ لذلك، بل في خيام متنقلة من الخيش أو أحواش تُسوَّرُ بالخشب، وكان التَّمثيل يجري على ستار من القماش الأبيض الخفيف، الذي تنعكس عليه من الخلف ظِلالُ عرائس من الورق المقوى أو الجلد المضغوط، وقد وُضِعَ خلف تلك العرائس مصباحٌ يعكس ظلالها على الستار، والعرائس مُكوَّنة من أعضاء تتحرك بواسطة مفاصل، وقد علقت تلك العرائس واتصلت بها وبأجزائها المختلفة خيوط تتجمَّعُ في يد صاحب الخيال، وبفضلها يحرِّك تلك العرائس حسبما يشاء، ووفقًا لمقتضيات الحوار الذي يلقيه صاحب الخيال القابع خلف الستار فيسمعه المشاهدون، ويرَوْن الصور المتحركة التي تصاحبه، وأحيانًا كان صاحب البابة يلقي بمفرده الحوار كله مع تلوين صوته، وتغيير نغماته تبعًا لتغير الشخصيات، وأحيانًا أخرى كان يستعين بمساعد له يلقي جانبًا من الحوار.

ولقد عُرِفَ خيال الظل في مصر الإسلامية وفي غيرها من البلاد العربية والشرقية منذ زمن بعيد في القرون الوسطى، حتى ليزعم بعض المؤرخين أنه كان معروفًا في عصر الفاطميين، ولكننا لا نملك باباتٍ مكتوبةً إلا منذ عصر الظاهر بيبرس، وهي بابات محمد بن دانيال الموصلي التي يحتويها مخطوط في دار الكتب المصرية، اسمه: «كتاب طيف الخيال».

ولقد تناول بعض المستشرقين الألمان — وبخاصة جورج يعقوب وبول كاله — هذا الفن وهذا المخطوط بالبحث والدرس والنشر، كما تناوله غيرهما من الباحثين في تاريخ الفنون العربية والشرقية، وراحوا يستقصُون نشأته التاريخية ويتعقَّبونَ آثاره القديمة في بلاد الشرق المختلفة، فأرجعَه بعضهم إلى الصين، وربما كان هذا هو سبب تسميته في اللغة الفرنسية بالظل الصيني، بينما أرجعه البعض الآخر إلى الهند، بل وأخذ بعض علماء الآثار يبحثون له عن أصول في مصر الفرعونية القديمة.

وعلى أية حال، فإن الذي يعنينا من هذا الفن وتاريخه هو ما انتشر منه في مصر الإسلامية، لنرى إلى أي حد مَهَّدَ هذا الفن الجمهور المصري والعربي لمشاهدة التمثيليات؟ وما هي الفكرة التي يمكن أن يكون هذا الفن قد خلَّفها عند هذا الجمهور؟ وإلى أي حَدٍّ أثرت — ولا تزال تؤثر — على النظرة التي ينظر بها الجمهور المصري والعربي إلى فن التمثيل الحديث أو التشخيص كما كان يسميه العوام؟

هذا ولقد عرض الدكتور فؤاد حسنين علي في كتابه: «قصصنا الشعبي» لبابات ابن دانيال وتاريخه، وما يتَّصلُ به، مستعينًا بأبحاث المستشرقين الألمان الذين نَقَّبوا — كما قلنا — عن أصول هذا الفن التاريخية، كما حاولوا أن يثبتوا تأثُّره ببعض فنون الأدب العربي الفصيح، وبخاصة فن المقامة عند الحريري والهمذاني، وإن يكن يلوح لنا أن هذه الأبحاث لم تصل به إلى يقين؛ وذلك لتضارُبِ المصادر القديمة، حيث نرى بعضها يزعم أن محمد بن دانيال هذا قد توفي سنة ٦٠٨ﻫ، بينما يزعم البعض الآخر أن وفاته كانت في سنة ٧١٠ﻫ، وإن كانت نفس المصادر قد اتفقت على بعض الوقائع المتعلقة بحياة ابن دانيال، كقولهم إنه من أهل الموصل نشأة، وإنه رحل إلى مصر بعد غارة التتار على العراق، وإنه استقر في القاهرة؛ حيث فتح محلًّا للكحالة في باب الفتوح، وإلى جوار هذا العمل الطِّبِّي كان يزاول خيالَ الظل أو طيفَ الخيال كما كانوا يسمونه أحيانًا، وإنه قد خلَّفَ لنا بعض البابات، مثل: بابة «طيف الخيال أو الأمير وصال»، وبابة «عجيب وغريب»، وبابة «المتيم».

وبمراجعة ما نُشرَ من هذه البابات، أو نَصِّها الكامل في المخطوط، نجد أنها كانت مسرحيات أو بابات اجتماعية مرحة، فطيف الخيال أو الأمير وصال تدور حول مشكلة الزواج والخاطبة أم رشيد التي تتولَّى تزويج الأمير وصال، وبابة عجيب وغريب استعراضٌ لحياة ونشاط أرباب المهن المختلفة في أسواق القاهرة وطُرقاتِها ودُورها ابتداءً من عجيب الدين الواعظ وخطبته المنبرية، إلى حويش الحاوي وعواد الشرماط ضارب الرمل وصاحب المندل، وشبل السباع مروِّض الوحوش وزغبر الكلبي وغيرهم؛ حيث نرى كلًّا منهم يتحدَّث عن مهنته، ويُفاخر بها، ويدعو إليها، ويُظهر ما فيها من نُبْلٍ وتفوُّق، وذلك بينما تتحدث بابة المتيم كما ينمُّ اسمها عن الغرام، وما يصحبه من غِيرةٍ وخصام، يرمز له المؤلِّفُ بنقار الديكة ونطاح الكباش وصراع الثيران.

وإنه وإن يكن ابن دانيال يعتبر أكبرَ أصحابِ خيال الظل وأوسعهم شهرة، إلا أنه قد تلاه فنانون آخرون مثل الشيخ سعود، والشيخ علي النحلة، والشيخ داود مناوي العطار، الذين وصلنا مخطوط يضُمُّ بعض باباتهم وهو «كتاب الروض الوضاح في تهاني الأفراح»، أو «اجتماع الشمل في فن خيال الظل»، ومن باباته «لعب التمساح»، و«لعب المنار أو حرب العجم».

وهذه البابات كلها مكتوبة باللغة العامية نظمًا أو نثرًا مسجوعًا، وإنه لمن التجاوز الكبير أن نعتبرها داخلة في فن الأدب التمثيلي أو في فن المسرح؛ لأنها في الواقع لا تعدو الاستعراضات الفُكاهيَّةَ الشعبية، التي ربما كان الشعب يجد فيها شيئًا من الترويح والتنفيس عن مِحَنِه وشقاء حياته، ولكنها بدائية في فَنِّها.

وبالرغم من أن بعضها قد دُوِّنَ ووصل إلينا مخطوطًا، إلَّا أنها أَدْخَلُ في باب الفلكلور منها في الأدب وتاريخه، كما أن المخطوطات التي لدينا ربما كانت أقربَ إلى الوثائق التاريخية منها إلى المؤلَّفاتِ الأدبية الخليقة بأن تظل حيةً، وأن يعاد طبعها لتطالعها وتنتفع بها الأجيال المتعاقبة، كجزء من تراث الأمة الأدبي، الذي تتغذى به النفوس، وتصقل الأذواقُ، وتثقف العقول، على عكس ما سنراه في أدبنا المصري الحديث، كمسرحيات شوقي أو عزيز أباظة أو توفيق الحكيم أو محمود تيمور.

هذا هو خيال الظل كما عُرِفَ في مصر بنوع خاص، ولكن كان هناك خيال ظل تركي يختلف بعض الشيء عن خيال الظل المصري أو العربي في طريقة إخراجه، فلم يكن المشاهدون يرَوْن صورًا تنعكس على الستار من الخلف، بل كانت العرائس تَبْرزُ من أعلى الشاشة، وتقوم بحركاتها المُصاحِبةِ للحوار، وكانت وظيفة الستار — في هذه الحالة — هي مجرد إخفاء ما يجري وراءها حتى ليقرب فن خيال الظل في هذه الحالة مما كان يعرف بالقرجوز.

وكلمة قرجوز يختلف الباحثون في اشتقاقها ومدلولها الاصطلاحي، فيقول البعض إنها كلمة تركية مركبة من لفظين أولهما «قره» ومعناها «أسود» على نحو ما نجد في لفظة قرميدان التي يسمَّى بها في القاهرة الميدان الذي يقوم فيه السجن العام، ومعناها الميدان الأسود، وثانيهما لفظة «جوز» ومعناها «عين»، وعلى هذا التفسير يكون معنى «القرجوز» هو «العين السوداء»، ولكنهم يختلفون — بعد ذلك — في سبب تسميته بهذا الاسم، فيقول البعض إنه سمي بالعين السوداء؛ لأن الذين يقومون به من الغجر، والغجر سود العيون، بينما يرجِّحُ البعض الآخر أنه سمي بالعين السوداء؛ لأنه ينظر إلى الحياة بعين سوداء، أو من خلال منظار أسود، فالقرجوز يقوم على الشكوى من الحياة ومحنها ومُفاجآتها وتقلباتها ونقد أحوالها.

والراجح أن هذا الفهم الإنساني الأخير هو الذي أوحى إلى المستشرق الألماني الشهير «ليتمان» بأن يبحث لهذا الفن عن اشتقاق تاريخي آخر، فزعم أن لفظة «قرجوز» تحريف تَمَّ تحت تأثير اللغة التركية لاسم «قرقوش»، ومن المعلوم أن قرقوش هذا كان وزيرًا في عصر الأيوبيين، وأنه قد اشتهر بالظلم إن حقًّا وأن باطلًا، وساهم المؤرِّخُ ابن مماتي في وصمه بهذه الشهرة، حتى ذاع عند الجماهير أن قرقوش يمثِّلُ الظلم، وأن حكم قرقوش هو حكم الظلم، وبعد أن انقضى عصره أخذوا يتندرون به، وينتقمون بالسخرية من مظالمه وما يشبهها، وسموا الفن الذي يشخص هذه السخرية، وذلك الانتقام بقرقوش، التي تحرفت كما قلنا إلى قرجوز، حتى اختلطت بهذه اللفظة التركية المُركَّبة.

وعلى أية حال، فقد عُرفَ في مصر حتى السنوات الأخيرة فن القرجوز أو الأراجوز في لهجة المدن التي امتدَّت إلى الريف، بحكم قلب القاف الفصيحة همزة في لهجتنا الشعبية في المدن المصرية، وهذا الفن لا يقوم على الصور والأطياف، بل يمثَّلُ بواسطة دُمًى من الخشب أو الجصِّ، متحركة الأعضاء، وهي تتحرَّك بواسطة خيوط تُشدُّ من أسفل المنضدة الموضوعة عليها تلك الدمى، ويُصاحِب حركاتِها حوارٌ يُلقيه صاحب القرجوز الذي ينَغِّمُ صوتَه تبعًا لمقتضيات الموقف.

والقرجوز فنٌّ أقرب إلى التهريج الشعبي من خيال الظل، والظاهر أن تمثيلياتِه لم تكن إلَّا مُرتجلَةً أو محفوظة؛ ولذلك لا نظن أنه قد دُوِّنَ منها شيء أو أُلِّفت تمثيليات تكون كل منها وحدةً متماسكةً على نحو ما أشرْنا فيما سبق عند حديثنا عن بابات خيال الظل، وهو فنٌّ لم يكن يُثيرُ غير الضحك، ولا نظن أنه كان يسعى إلى أن يحرِّك مشاعر أو ينبه تفكيرًا.

وإذا كنا لم نَستطع أن نُدخِلَ خيال الظل وباباته في مجال المسرح أو الأدب التمثيلي، فإننا — من باب أولى — لا نستطيع أن نفعل ذلك مع تهريج القرجوز.

وأخيرًا يأتي صندوق الدنيا الذي كان يحملُه صاحبه على ظهره هو و«الدِّكَّة» التي يجلس عليها المشاهدون، ويطوف به الشوارع والحارات والقرى، وكلما لمح من قريب أو بعيد سربًا من الأطفال، أو أشباه الأطفال، وضع صندوقه على الحامل وأمامه «الدكة»، ونادى الأطفال وأشباههم لكي يسرعوا إلى رؤية «السفيرة عزيزة» وغيرها من عجائب الأرض، ويخِفُّ إليه المشاهدون بعد أن يدفعوا ملاليمهم، ويجلسون على الدكة، ويسدل على رءوسهم الستارة، حتى لا يختلس معهم أحد ممن لم يدفع الملاليم النظرَ إلى ما يُعرض من أعاجيب، ومن خلال فتحات زجاجية يرى المشاهدون عِدةَ صور ملونة تتعاقب أمام أبصارهم المشدوهة، وصاحب الصندوق يفسِّر ما يرَوْنه، ويعلِّق عليه تعليقاتٍ مثيرة، تستحثُّ المُتسكِّعينَ حول الصندوق؛ قائلًا: «شوف يا سيدي وادي السفيرة عزيزة اللي جمالها ما خطرشي وعينها اللي زي الفنجان وبقها اللي زي خاتم سليمان»، ثم «وادي يا سيدي كمان عنتر بن شداد اللي قتل الفرسان وأدهش الأنام وكل ده عشان عبلة ذات الدلال والجمال» … إلخ.

ومن الواضح أنه ليس هناك أي شبه بين صندوق الدنيا وفن المسرح، وهو إذا كان يشبه شيئًا فربما يصح أن يقالَ إنه يشبه السينما شبهًا بعيدًا.

وهكذا نخلُصُ إلى أن الفنون الشعبية التي قد تشبه فن المسرح، لم تخلق أدبًا ولا خلَّفَت تراثًا أدبيًّا، ولكنها — لا شك — قد مهدت العقول والحواسَّ للإقبال على فن التمثيل، بل والسينما اللذين أخذناهما عن الغرب، بعد أن اتصلْنا به، وتأثَّرْنا بثقافته وفنونه، وإن كنا نخشى أن يكون تأثير هذه الفنون الشعبية على نظرة الجمهور إلى المسرح ثم إلى السينما قد كان تأثيرًا سيئًا، وربما رجع إليه السبب في أن جمهورنا العربي والمصري لم يستطع — حتى الآن — أن يتخلَّص تخلصًا تامًّا من نظرة الاستخفاف وأحيانًا الازدراء لهذين الفنين، وذلك بينما نرى أن فن التمثيل قد نشأ عند اليونان تحت تأثير الدِّين وفي ظل الدِّين، وحتى عندما خرج من نطاق الدين إلى نطاق الحياة المدنية، ظل محتفظًا باحترام الجماهير والدولة، بل وأصبحت دُورهُ من المؤسسات الرسمية التي ترعاها الدولة، وتحرص على ارتياد جميع المواطنين لها حرصًا حمل الدولة على ألَّا تجعل مشاهدته مجانية فحسب، بل وأن تدفع للمواطنين مكافأة على حضورهم لتعوِّض بعضَ أو كلَّ ما يفوتهم من كسب، وبخاصةٍ وأن حفلات التمثيل كانت تُقامُ في مباريات تدوم ثلاثةَ أيام، يخصص كل يوم منها لشاعر، وتمثَّلُ له طوال النهار ثلاثة تراجيديات متتابعة، ثم مسرحية هزلية كانوا يسمونها Satyre.

ولربما كانت هذه الظروف التاريخية من الأسباب الأساسية التي تفسِّر تعثُّرَ فن التمثيل في بلادنا حتى اليوم، وعجزه عن أن يحظى بإقبال الجماهير، وعن أن يتأصَّل في أدبنا كفنٍّ جادٍّ رفيع، وإذا كانت الطبقات المثقفة المتطورة لم تعد تنظر إلى المسرح كتشخيص أو كدُورٍ للهو والعبث بل والفساد، فإنه لا تزال هناك طبقات كثيرة من المحافظين بالمُدنِ والأرياف لم تتغير نظرتها، أو لم تكد تتغير، وإلى الآن لا تزال ترى من العار أن يعمل أبناؤها — وبخاصة بناتها — في دُورِ المسارح أو السينما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤