انتشار فن التمثيل في مصر

وقُبيلَ الحرب العالمية الأولى، يمكن القول بأن فنَّ التمثيل أخذ المصريون ينظرون إليه نظرة جدية، ففي سنة ١٩١٢م تحدِّثُنا جريدة الأهرام أن بعض الشبان قد عقدوا في أواخر ذلك العام اجتماعًا بمكتب الأستاذ محمود خيرت المحامي، وقرروا تأليف جمعية أنصار التمثيل، وإخراجَ رواية «دافيد جرك» المنقولة عن الإنجليزية، وكان من بين أعضاء هذه الجمعية الأستاذ عبد الرحمن رشدي والأستاذ سليمان نجيب، إلا أن الجمعية صادفت صعوباتٍ ماليةً كبيرة، لم تستطع التغلُّبَ عليها، فانسحب منها بعض الأعضاء في أوائل سنة ١٩١٤م، بينما انضم إليهم بعضُ الهُواةِ أمثال محمد عبد الرحيم ومحمد تيمور وأحمد رامي وعبد الحليم البيلي ومصطفى غزلان، وكان أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية رئيس شرف للجمعية، واهتم الأستاذ جورج أبيض بمجهودهم، وأشرف بنفسه على إخراج الرواية التي مثِّلت في أواخر سنة ١٩١٤م لأول مرة، كما أن الجمعية مثلت أمام السلطان حسين في سنة ١٩١٨م بمناسبة العيد السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية.

وفي أثناء الحرب فكَّرَ جماعة من الماليين في إنشاء شركة ترقية التمثيل العربي؛ لتقوم بتمثيل روايات من جميع الأنواع، غنائية وغير غنائية، على أن تكون كل رواياتها مؤلَّفة، ولها صبغة مصرية أو شرقية، وكان من أنجح التمثيليات التي قدمتْها — فيما تقول الأهرام — رواية «الراهب المتنكر» لكاتب متنكر، عُرِضت على مسرح الأوبرا ثلاث مرات في موسم سنة ١٩١٦م وكان كاتبها المتنكر هو الأستاذ أمين الخولي الذي كان عندئذٍ تلميذًا بمدرسة القضاء الشرعي، ولم تكن تقاليد تلك المدرسة تسمح بأن يكتب طلابها للمسرح.

وأنشئت الشركة في سنة ١٩٢١م، وبنَتْ مسرح حديقة الأزبكية الحالي، إلا أن الشركة كادت تنحلُّ لافتقارها إلى الرجل الفني الاختصاصي في فن التمثيل.

وإلى جوار نشاط هؤلاء الهواة، كانت تقوم عدة فرق متكاملة مثل فرقة عبد الرحمن رشدي التي نشأت في سنة ١٩١٧م، وكان جميع أعضائها من الشباب المتعلِّمِ، ومن أبناء الأسر الكريمة، وكان محمد بك تيمور يكتب لها رواياته الرائعة، فقدَّم لها رواية «العصفور في القفص» باكورة إنتاجه، فقامت بتمثيلها في أول مارس سنة ١٩١٨م على مسرح برنتانيا القديم.

وفي سنة ١٩١٦م بدأ نجيب الريحاني الذي كان موظفًا بشركة السكر عملَه في المسرح برأس مال قدره خمسة وعشرون جنيهًا، فلم يكن لديه فرقة ولا روايات يمثلها، ومع ذلك أخذ يشخص على مسرح الشانزلزيه بالفجالة، وكان يمثل الفودفيل الذي كان يترجمُه أمين صدقي، ولكنه ترك الفرقة؛ لأنه كان يميل إلى الدرام.

وابتكر في قهوة «روزاني» شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص، ونجح في رواياته الفرانكو آراب، ثم تعرف بعد ذلك بالأستاذ بديع خيري الذي كان يؤلِّفُ له أو معه الروايات، وظلَّا يعملان معًا في تأليف وإخراج الروايات المصرية ذات الطابع الاجتماعي حتى توفيَ الريحاني في سنة ١٩٤٩م، وترك بعد وفاته سمعةً طيبةً وفراغًا كبيرًا.

وعندما انحلت فرقة عبد الرحمن رشدي وتشتَّت أعضاؤها، وعجز جورج أبيض عن أن يثبت بفرقته، ظهر الأستاذ يوسف وهبي واتخذ مسرح رمسيس «مسرح الريحاني الآن» مكانًا له، واختار خير الممثلين والممثلات، ومال نحو تمثيل الروايات العنيفة «الميلودرام».

وبعد أن نالت هذه الفرقة إقبال الجمهور، اضطرَّت إلى الركود بسبب ازدهار السينما ومنافستها العاتية، ومن ذلك الحين جمع يوسف وهبي بين العمل في المسرح والسينما.

وقد لخَّصَ الأستاذ حسين شفيق المصري حالةَ المسرح في مقالٍ نُشرَ في الأهرام في يونية سنة ١٩٣٥م، فقال فيما يختَصُّ بالفترة ما بين سنة ١٩١٤ و١٩٣٥م:

ظهر عزيز عيد ومعه نجيب الريحاني وألَّفَ فرقة هزلية، ومثَّل روايات «خلي بالك من أميلي»، و«ضربة مفزعة»، و«ليلة زفاف» ونحوها، ثم انضم عزيز إلى عكاشة، ثم الشيخ سلامة.

وهنا ظهر نجيب الريحاني، وابتكر شخصية كشكش بك، وكانت السيدة منيرة المهدية قد جمعت لها جوقًا، وساعدها محمود جبر بماله وعبد العزيز خليل بفنه، ومن الروايات المُهمَّة التي مثلتها رواية «كرمن»، وبعد مُضي بضع سنوات مثلت السيدة منيرة جملة روايات أهمها «الغندورة» واشتركت مع الأستاذ عبد الوهاب في تمثيل رواية «كيلوباترة».

ثم ظهر مصطفى أمين ومعه علي الكسار وألَّفا جوقًا هزليًّا جديدًا، وكذلك فإن عمر وصفي ألف جوقًا كوميديًّا، ولكنه لم يمكث طويلًا.

وكان جورج أبيض قد ترك التمثيل ثم عاد إليه مع جماعة ألَّفها من المتأدبين عشاق التمثيل كعبد الرحمن رشدي ومحمد عبد القدوس.

وصار نجيب الريحاني وعلي الكسار هما بطلي التمثيل في مصر مدة طويلة، حتى ظهر يوسف وهبي وجوقه المعروف فخدم التمثيل سنين طويلة.

أمَّا شركة ترقية التمثيل العربي فقد خدمت التمثيل على مسرح حديقة الأزبكية، حتى دَبَّ الشقاق بين أولاد عكاشة فانحلت الشركة.

وانفصلت السيدة فاطمة رشدي عن يوسف وهبي وألفت جوقًا تقلِّدُ به الريحاني، وفوزي منيب جوقًا آخر يقلد به علي الكسار.

ثم انصرف عبد الرحمن رشدي وجورج أبيض والسيدة منيرة المهدية عن التمثيل، واستمرَّ الحال على ذلك حتى أيامنا هذه؛ إذ أغلق أغلب مديري المسارح مسارحهم، ولم يبق سوى علي الكسار يمثل طول العام، والريحاني يمثل شتاء!

وانصرف كثير من الممثلين إلى السينما.

ولا تَنسَ جهود جمعية أنصار التمثيل، وجماعات التمثيل في المدارس المختلفة، ثم قاعة محاضرات التمثيل التابعة لوزارة المعارف، والتي أغلقت أخيرًا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤