الفصل الأول

في نسبه وأوَّليته وإسلامه

هو أبو بكر عبد الله عقيق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب سعد بن تيم بن حرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر … بن معد بن عدنان. وأمه: هي أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن معد بن عدنان. وكان أبو قحافة من سادات قريش في الجاهلية، وُلد سنة ٨٣ قبل الهجرة، فنشأ سريًّا نبيلًا تاجرًا ذا مكانة رفيعة في قومه، فلما أعلن الرسول دعوته كان أبو بكر أول من أسلم، ولم يُسلم أبوه إلا عام فتح مكة، وبايع رسول الله وكان قد كُفَّ بصره فجاء به ابنه يقوده إلى رسول الله، فلما رآه الرسول قادمًا قال لأبي بكر: هلَّا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتٍ، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه. ثم مسح الرسول صدره، وكان رأس أبي قحافة أبيض كالثغامة، فقال: «غيروا هذا بشيء وجنِّبوه السواد»، فكان أبو قحافة أول مخضوب خضب في الإسلام. وأما أمه فهي ممن أسلمن قديمًا وبايعن النبي أيام الدعوة الأولى في دار الأرقم.١

وُلد أبو بكر لسنتين من مولد النبي ، وكانا صديقين حميمين، تصادقا ولأبي بكر ثمان عشرة سنة وللنبي عشرون في تجارة إلى الشام، وكان لا يُفارقه في أسفاره وحضره، وقد وُصِفَ أبو بكر بأنه كان أبيض البشرة نحيفًا خفيف العارضين، منحنيًا لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، معروقًا غائر العينين ناتئ الجبهة عاري الأشاجع (أصول الأصابع)، يخضب بالحناء، وشبَّ كما يشبُّ نُبلاء فتيان قريش كاتبًا عالمًا بأنساب قومه عاقلًا نبيلًا وجيهًا رئيسًا من رؤسائهم، وكانت إليه الأشناق، وهي من الديات، كان إذا تحمل شنقًا صدَّقَتهُ قريش وأمضت حمالته، وإذا حملها غيره خذلوه ولم يقبلوه، وكان يتاجر بالبزر والمنسوجات، وبلغ رأسماله أربعين ألف درهم، وكان مشهورًا بالعِفَّة والاستقامة والأمانة، ولم يشرب الخمر قط.

ولما كانت الإرهاصات تأتي النبي قبل البعثة كان يقصُّ ذلك على أبي بكر؛ فقد روى شرحبيل أن النبي كان إذا برز سمع من يناديه: «يا محمد»، فإذا سمع الصوت انطلق هاربًا، فأسرَّ ذلك إلى أبي بكر، وكان رسول الله قد قال لخديجة: «إني إذا خلوتُ سمعتُ نداءً، وقد والله خشيتُ أن يكون هذا أمرًا»، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك أمرًا؛ فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. ودخل أبو بكر مرة — وليس رسول الله موجودًا — فذكرت خديجة له حديثه ، وقالت: يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلما دخل رسول الله أخذ أبو بكر بيده فانطلق به إلى ورقة، فقصَّ عليه ما يسمع، فصار ورقة يُثَبِّتُهُ ويقول له: والله إن هذا هو الناموس الذي أنزله على نبيه موسى .

ولما بعث الله محمدًا برسالته كان أبو بكر أول من آمن به وصدَّقه، وأعلن إسلامه، وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، قال ابن إسحاق: لما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجلًا مؤلفًا لقومه محببًا سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا ذا خُلُق ومعروف، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه فيما بلغني: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله حين استجابوا له فأسلموا، وكان هؤلاء مع علي وزيد وأبي بكر النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام وصدَّقوا رسول الله.

وكان أبو بكر قد اتخذ مسجدًا بفناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن فيجتمع عليه الناس ويستمعون إلى قراءته وينظرون إلى صلاته وبكائه،٢ ولقد لقي أبو بكر على الرغم من مكانته كثيرًا من عنت جُهَّال قريش وسفهائها لإسلامه ولدفاعه عن النبي؛ فقد قالت أسماء بنت أبي بكر وقد قيل لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله ؟ فقالت: كان المشركون قعدوا في المسجد الحرام فتذاكروا رسول الله وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله المسجد، فقاموا إليه بأجمعهم يضربونه حتى غُشي عليه، فأتى الصريخ أبا بكر فخرج فوجد رسول الله والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم، أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! فتركوا الرسول وتناولوا أبا بكر يضربونه، فرجع إلى أهله وهو لا يحس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام،٣ ولما اشتد تعدِّي المشركين على رسول الله وأبي بكر أذن الرسول لصاحبه بالهجرة، فضاق بذلك أول الأمر، ثم قَبِلَ أن يُهاجر نحو الحبشة، فلما بلغ قارة «برك الغماد»٤ لقيه سيد القارة المعروف بابن الدغنة، فسأله: أين تريد؟ فقال: أخرَجَنِي قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، إنك لتكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتُعين على نوائب الحق، فارجع فاعبد ربك، فارتحل ابن الدغنة وأرجع أبا بكر، وكان ابن الدغنة في كفار قريش، وقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرَج، أتُخرِجون رجلًا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكَل ويقري الضيف ويُعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمَّنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر ليعبد ربه في داره وليُصَلِّ ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا.

فكان أبو بكر يُصلي في مسجد داره ويقرأ القرآن، فتقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يتعجَّبون منه وينظرون إليه، وكان يكاد لا يملك دموعه حين يتلو القرآن ويُرتِّله، فأفزع ذلك مشركي قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنَّا أجرنا لك أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، فأعلن الصلاة، وخشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره خفية، وإن أبى فليردَّ ذمَّتك. فأتى ابن الدغنة أبا بكر وطلب منه ما طلبته قريش، فقال أبو بكر: فإني أردُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله. ورجعت قريش تؤذيه، فتحمَّل ذلك صابرًا محتسبًا كل ما يلقاه في سبيل الله، إلى أن ضاق ذرعًا بما يلقاه من أذى قريش، فاستأذن النبي في الهجرة، فقال له الرسول: على رِسلك يا أبا بكر، فإني أرجو الله أن يأذن لي بها فنخرج معًا، ففرح أبو بكر وقال: أَوَترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ فقال الرسول: نعم، ففرح أبو بكر وأخذ يعد عدة السفر وعلف راحلتين كانتا عنده.

ورُوِيَ عن السيدة عائشة أنها قالت: بينما نحن جلوس يومًا في بيتنا في الظهيرة إذ قال قائل لأبي: هذا رسول الله مقبل متقبع، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبي: فداه أبي وأمي، إن به في هذه الساعة لأمرًا. قالت: فجاء الرسول فاستأذن فدخل فقال لأبي: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي وأمي أنت، فقال الرسول: قد أُذِنَ لي بالخروج، فقال أبو بكر: فالصُّحبَة بأبي وأمي أنت يا رسول الله، فقال الرسول: نعم، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، فخُذ إحدى راحلتَيَّ هاتين، فقال الرسول: بالثمن، قالت عائشة: فجهَّزناهما أحثَّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب، وقطعَت أسماء من نطاقها وأوكت به الجراب؛ ولذلك سُمِّيَت: ذات النطاقين، ودخل رسول الله بغار في جبل ثور، ولحق به أبو بكر فمكثا فيه ثلاث ليالٍ، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقِف لقِن، وكان يدلج من عندهما سحَرًا فيُصبحُ عند قريش كبائتٍ بينهم، فلا يسمع أمرًا يُكادان به إلا وَعَاهُ حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.٥

ولما قدم أبو بكر المدينة مع رسول الله كان عونه وعضده وسميره ووزيره، وكان لا يبخل عليه بماله، وينفق كل ما يملكه في سبيل الدعوة، وروى عروة بن الزبير قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا أنفقها كلها على رسول الله وفي سبيل الله. وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر كل ماله معه وهو خمسة آلاف درهم أو ستة خرج بها معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلَّا يا أبتِ إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا.

وقد تجلَّت بطولة أبي بكر في شجاعته وتفانيه في نصرة الدعوة الإسلامية وفي تنظيمه لشئون المسلمين في دار الهجرة وفي الغزوات التي رافق النبي وأظهر فيها كل ضروب النُّبل والإخلاص والمروءة، وفي معاونته للنبي وحله للمشاكل والمُعضلات التي كانت تعتوره، قال ابن خلدون: كان يُفاوض أصحابه ويُشاورهم في مهماته العامة والخاصة، ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى، فكان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في بلاد كسرى وقيصر والنجاشي يُسَمُّون أبا بكر وزيره.٦
١  الرياض النضرة ١، ٤٦.
٢  الرياض النضرة ١، ٥٧.
٣  الرياض النضرة ١، ٥١.
٤  بفتح الباء وكسرها، وضم الغين وكسرها، وهو موضع وراء مكة بخمس ليالٍ على طريق اليمن.
٥  الرياض النضرة ١، ٦٢.
٦  المقدمة ص٢٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤