الفصل الأول

في نسبه وأوَّليته في الجاهلية وثقافته

هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قُرط رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي العدوي القرشي، وكنيته أبو حفص، ولقبه الفاروق، لقَّبه بذلك سيدنا رسول الله ، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة المخزومية القُرشية.

وُلد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة،١ وروى ابن عبد البر عنه أنه قال: وُلدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين،٢ وكان ذلك حوالي سنة أربعين قبل الهجرة.
وقد وصفه مترجمون من الحجازيين بأنه كان أبيض أمهق — وهو الذي لا يكون له دم ظاهر — طويلًا جسيمًا، أصلع، أجلح — وهو الذي انحسر الشعر على جانبي رأسه — شديد حمرة العينين، خفيف العارضين، أعسر، يسر، كث اللحية، أشيبها.٣

وكان أبوه من أشراف قريش، وأكثرهم فضلًا وجاهًا وعقلًا، ولما ولد له عمر عُني به فأحسن تأديبه، وعلَّمه ما يتعلم أبناء الأشراف في زمانه من القراءة والكتابة وحفظ أخبار قومه، ونشأ على أفضل ما ينشأ عليه أبناء قريش من البراعة في الفروسية وحفظ أخبار الأولين، والعرب وأشعارهم، ورواية مناقبهم ومفاخرهم، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال بعد العشرين من العمر رأت قريش فيه مزايا النُّبل والفضل والعقل، فعهدت إليه بمنصب من أجلِّ مناصبها وهو «السفارة» للإصلاح بين القبائل، والتوسُّط في حل الخصومات التي تقع بينها وبين الآخرين لِما وهبه الله سبحانه — على حداثة سنه — من العقل الراجح والفضل الواضح؛ فقد كان من أفاضل قومه، وأصحاب الرأي فيهم، ونال ما نال عن جدارة واستحقاق لهذا المنصب الرفيع الذي هو أحد المناصب العشرة التي اختُصَّت بها قريش دون سائر العرب، يتولَّاه من تقدمه لينوب عنها في عقد المعاهدات والإصلاح بين القبائل، والتوسُّط في الخصومات، وسائر أحوال المنافرات والمفاخرات.

قال ابن عبد البر: كان عمر من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية؛ وذلك أن قريشًا كانت إذا وقعت بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرًا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرًا ومفاخرًا.٤
أما صناعته التي كان يتعاطاها بالإضافة إلى هذا العمل الرسمي — على حد تعبيرنا اليوم — فقد كانت في ضروب التجارة، وكان يذهب إلى الشام مع قريش في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء، ونُقل عنه أنه لم يكن من كبار التجار، بل كان مُقلًّا، ولكن ما عُرف عنه من الأمانة والشرف جعله يتاجر كأكبر التجار؛ فإن الأمانة وحُسن السمعة والشرف رأس مال عظيم.٥

أما ثقافته فقد كانت ثقافة لداته، وهي الإلمام بعلوم عصره من علم وأدب وبراعة بالشعر الجاهلي، أمثال الجاهلية وخطبها وأنسابها، وكان يحضُّ شباب قومه على حفظ أخبار أسلافهم وعلومهم وآدابهم. ويُروى عنه أنه قال لابنه عبد الرحمن: انسب نفسك تصل رحمك، واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه، ومن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤدِّ حقًّا ولم يقترف أدبًا. وكانت له آراء في نقد الشعر العربي القديم، وأحكامٌ صائبة في شعراء الجاهلية والمعاصرين له، وكان يُشجع الشعراء على قول الشعر الجزل الجامع لمكارم الأخلاق، كما يحض على تعلم تاريخ الجاهلية وأخبارها وأنسابها وأيامها، ويقول: تعلموا النسب، ولا تكونوا كنبيط السواد، إذا سئل أحدهم عن أهله قال: أنا من قرية كذا. ويقول أيضًا: عليكم بطرائف الأخبار فإنها من علم الملوك والسادة، وبها تنال المنزلة والحظوة عندهم.

ولما جاء الإسلام حفظ كثيرًا من آي القرآن وأحاديث الرسول، واستعمل في ذلك عقله وفهمه وبصيرته، حتى بلغ في الاجتهاد والتشريع مبلغًا لم يصل إليه أحد سوى كبار فقهاء عصره كأبي بكر وعلي، حتى قال عبد الله بن مسعود: كان عمر أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله. وقال: لو أن علم عمر بن الخطاب في كفة ميزان، ووُضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم. وكانت له توجيهاتٌ كثيرة وإرشاداتٌ صائبة لطلاب العلم ورُوَّاد الفقه وعلوم القرآن وأخبار الرسول وسننه، وسنرى تفصيل ذلك حين كلامنا عن صفاته ومزاياه فيما بعدُ.

١  أسد الغابة: ٤، ٥٣.
٢  الاستيعاب: ٢، ٤١٥، وانظر الطبري: ٥، ١٧.
٣  الرياض النضرة: ١، ١٩٠.
٤  ابن عبد البر في الاستيعاب: ٢، ٤١٥.
٥  محمد العربي القروي في «عمر بن الخطاب»، ص٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤