الفصل الخامس

في الأحداث الكبرى في خلافته

(١) سقوط الخاتم النبوي من يد عثمان في «بئر أريس»

وهو بئر على ميلَين من المدينة؛ فقد روى المؤرخون أن رسول الله لما أراد أن يكتب إلى الأعاجم كتبًا يدعوهم فيها إلى الإسلام قيل له: إنهم لا يقبلون الكتاب إلا أن يكون مختومًا، فأمر رسول الله أن يُعمل له خاتم من فضة نُقش عليه: «محمد رسول الله»، فجعله في إصبعه، وكان هذا الخاتم في يده حتى قبضه الله إليه، ثم استُخلف أبو بكر فتختَّم به حتى مات، فلما ولي عمر جعل يتختم به حتى مات، فلما ولي عثمان تختم به ست سنوات، ولما كانت سنة ٣٠ للهجرة حفر «بئر أريس» للمسلمين، فقعد على رأس البئر، فجعل يعبث بالخاتم ويديره بأصبعه فانسلَّ من يده ووقع في البئر، فطلبوه منها ونزحوا ما فيها من ماء، وجعل فيه مالًا عظيمًا لمن وجده، فلم يجدوه، واغتمَّ لذلك غمًّا شديدًا، فلما يئس منه أمر فصُنع له خاتمٌ آخر من فضة على مثاله، فلما قُتل ذهب الخاتم من يده، فلم يُدْرَ من أخذه.

(٢) فتنة أهل الكوفة

اجتمع نفر من سراة أهل الكوفة ووجوههم إلى أميرهم سعيد بن العاص، وعاتبوه على أمور ظهرت في عهد عثمان، منها: استبداد قريش بأموال السواد العراقي، وتملكها لأطايب الأرض وخيراتها، وعظمت روح التمرد والفتنة بين صفوفهم، وأحس سعيد بن العاص ببادرة سوء فكتب بذلك إلى عثمان كما أسلفنا، فأجابه عثمان أن يبعث برؤساء أهل الفتنة إلى معاوية، فأتوه وهم بضعة عشر رجلًا، وكان عثمان قد كتب إليه: «إن أمير الكوفة قد أخرج إليك نفرًا خلقوا للفتنة، فرعهم وقُم عليهم، فإن آنست منهم رشدًا فاقبل منهم، وإن أعيوك فارددهم عليه، فلما دخلوا الشام رحَّب بهم معاوية وأنزلهم في كنيسة مريم، وأجرى عليهم ما كان يجري عليهم في العراق، وجعل لا يزال يتغدَّى ويتعشَّى معهم، وقال لهم يومًا: إنكم من العرب ولكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا، وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا، ولو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنَّة، لتنتهن أو ليبتلينكم بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلًا، أُعظِّم عليك أمر الإسلام وأُذكِّرك به وتُذكرني بالجاهلية وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقوامًا أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم، افقهوا ولا أظنكم تفقهون إن قريشًا لم تعز في الجاهلية ولا إسلام إلا بالله عز وجل، ولم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، وأمحضهم أنسابًا، وأعظمهم أخطارًا، وأكملهم مروءة.»١ وكتب معاوية إلى عثمان أنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثقلهم الإسلام وأضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم.
ثم خرج القوم من الشام ولم يذهبوا إلى الكوفة لئلَّا يشمت بهم الناس، بل تفرقوا في الجزيرة والشام.٢

(٣) الفتنة العظمى

تولى عثمان الخلافة وهو شيخ قد ناهز السبعين من عمره، وكان سهلًا ليِّنًا مداريًا، ولم يكن عنده حزم أبي بكر، ولا شدة عمر، وقد طمع المسلمون في لينه، وتنفسوا الصعداء من قوة عمر عليهم؛ فقد سمح لرجالات قريش وكبار الصحابة أن يخرجوا للأمصار ويتملَّكوا الدور والقصور والعقار، وترك للناس أمر زكاة أموالهم يتصرفون في إنفاقها بالطرق التي يرونها؛ فقد تدفقت الأموال على المدينة، واستغنى الناس كثيرًا، وبدأت الثروات تمدُّ أعناقها، فعمَّت حياة الترف وظهرت بعض الأمور المنكرة التي نهى عنها الإسلام. قال حكيم بن عباد بن حنيف: أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى وُسع الناس: طيران الحمام والرمي على الجلاهقات، فاستعمل عليها عثمان رجلًا من بني ليث سنة ثمانٍ فقصَّها وكسر الجلاهقات،٣ وأخذ عثمان يضرب على أيدي هؤلاء، فتذمروا منه، وأخذوا يعلنون استياءهم من سياسته، ونصرهم أبناء عمومتهم وأهليهم.

وانتهز هذه الفرصة نفر من الصحابة الذين لم تعجبهم سيرة عثمان وليونته، أمثال: عبد الله بن مسعود الهذلي، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، فأخذوا ينشرون في المجالس أقوالًا يتهجمون فيها على الخليفة عثمان ويبينون هنَّاته، وانتصرت بنو هذيل لعبد الله بن مسعود، وكذلك فعلت بنو غفار انتصارًا لأبي ذر، وأخذت بذور الثورة على حكم عثمان تُغرس في الحجاز ومصر، وخصوصًا حين أقدم عثمان على بعض الأمور التي لم يفعلها صاحباه أبو بكر وعمر من قبلُ، كإقطاع الأرضين، ومنح القطائع الكبيرة لبعض أقاربه، وهو أول من فعل ذلك، كما أنه أول من حمى الحمى، وأول من أخفض صوته في التكبير، وأول من أمر بالأذان الأول يوم الجمعة، وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من فوَّض إلى الناس إخراج زكاتهم، إلى أشياء أخرى أدَّاه اجتهاده إلى إباحتها للناس ولم يكن الرسول ولا أبو بكر ولا عمر قد أذنوا بها ولا فعلوها، فغضبت العامة وجمهور المسلمين من ذلك.

وقد استغل نفر من كبار رجالات قريش وزعماء العرب ليونة عثمان فأخذوا يجمعون الأموال ويبذخون، فتقوَّلت العامة عليهم وعلى عثمان، حتى قال المسعودي المؤرِّخ: «في أيام عثمان اقتنى جماعة من أصحابه الضياع والدور، منهم الزبير بن العوام؛ فقد بنى داره بالبصرة وهي المعروفة في هذا الوقت — وهو سنة ٣٢ — تنزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهات من البحرين وغيرهم، وابتنى أيضًا دورًا بمصر والكوفة والإسكندرية، وما ذكروه من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية، وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلَّف الزبير ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططًا بحيث ذكرنا من الأمصار.

وكذلك كان طلحة بن عبيد الله التيمي، ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت، وهي المعروفة بالكناس بدار الطلحتَين، وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية سراة أكثر مما ذكرنا، وشيَّد داره بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج.

وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ ريع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا. وابتنى سعد داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاءها، وجعل أعلاها شرفات. وذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلَّف من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفئوس، غير ما خلَّف من الضياع والأموال بقيمة مائة ألف دينار.

وابتنى المقداد بن الأسود داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف، وجعل أعلاها شرفات، وجعلها مجصصة الباطن والظاهر، ومات يعلى بن أمية وخلَّف خمسمائة ألف دينار وديونًا على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار.»٤ ويُعلق المسعودي على هذا بقوله: وهذا باب يتسع ذكره، ويكثر وصفه فيمن تملك من الأموال في أيامه، ولم يكن من ذلك في عصر عمر بن الخطاب، بل كانت جادةً واضحة وطريقةً بينة.

وكان إلى جانب هؤلاء الذين أثروا جماعات ظلوا فقراء كما كانوا في العهد السابق، يتحرجون من كنز الأموال، وعلى رأس هؤلاء: أبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر اللذان كانا يكرهان أن ينصرف رجال الإسلام عن الدعوة السامية التي جاء الرسول من أجلها، والتي سار عليها خليفتاه الراشدان من بعده أبو بكر ثم عمر؛ ولذلك حنقوا على عثمان وعلى طلحة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما ممن خرجوا إلى الأقاليم الإسلامية النائية عن الحجاز، وأنشئوا لأنفسهم وأهليهم أرستقراطياتٍ دينية تعتمد على الإسلام، وصحبة الرسول، وسابقة الإسلام، وتستغل ذلك لكنز الذهب والفضة وبناء القصور، واستغلال جماهير العامة لمصلحتهم الفردية.

وكان وراء هذين الفريقَين — المتمولين والزُّهَّاد — طبقة ثالثة قد حنقت لضيق ذات يدها وقلة الأموال التي وصلت إليها في الفتوح، وكان جل هذه الطبقة من البدو والأعراب الذين رأوا تمتع قريش وحدها بالمنافع فحقدوا عليها، وقد رأينا طرفًا من أحوالهم وأحاديثهم مع معاوية في كلامنا عن الفتنة في الكوفة، وقد كان هؤلاء الأعراب منتشرين في العراق والشام ومصر والحجاز، وكانوا يؤمنون بأن قريشًا هي المسئولة عن هذه الفوضى، وأن الخليفة عثمان هو المسئول الأول عن كل ذلك، فأخذوا يعلنون تذمرهم وينشرون فكرة إعلان الثورة والتمرد على الخليفة في المدينة وسائر الأقاليم، وانتهز بعض ذوي الأغراض الخبيثة هذه الفرصة لإثارة الرأي العام على الخلافة. وكان عبد الله بن سبأ على رأس هؤلاء المجرمين؛ فأخذ ينتقل في البلاد الإسلامية ويُحرِّض الناس على عثمان وعماله، ولقي من أبي ذر أذنًا صاغية فانساق وراء دعوة ابن سبأ ونشط في حركته، حتى اضطر معاوية أن يبعثه أسيرًا إلى الخليفة، فلم يرتدع عن الدعوة لفكرته الثائرة، واضطر الخليفة أن ينفيه إلى الربذة. ولا شك عندنا أن أبا ذر كان حسن النية، مخلصًا في فكرته، ولكن ابن سبأ الخبيث استغل طيبة قلبه فأثاره من حيث لا يدري ما هي أهدافه، إلى أن وقعت الفتنة الكبرى، وكانت البصرة ومصر أخصب الأرضين لنمو فكرة الثورة.

ولكن عبد الله بن عامر أمير البصرة تمكَّن من طرد ابن سبأ، فرحل عن البصرة إلى الكوفة، فأخذ يشتم عثمان وعماله جهارًا، فطرده أمير الكوفة، فأتى إلى الشام، ولكن معاوية كان له بالمرصاد، فهرب منها إلى مصر، فعشش فيها وفرخ، وأخذ يُكاتب ثوار البصرة والكوفة وينقل أخبارهم إلى المصريين، وينقل أخبار المصريين إليهم، وأخذوا يتكاتبون ويتبادلون الرسائل، فتزعَّم ابن سبأ الفتنة، وبث الدعاة في الأقاليم يدعون لعلي بن أبي طالب، وينشرون فكرة رجوع النبي محمد من جديد، ويتهمون أبا بكر وعمر وعثمان باغتصاب حق علي عليه السلام، ويؤلِّبون الناس على عثمان الغاصب للخلافة والمستهتر بها.

وكان ابن سبأ حين يبعث الدعاة يقول لهم: «أيها الناس، إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهذا علي وصي رسول الله ، فانهضوا في هذا الأمر وحرِّكوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهِروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوا إلى هذا الأمر.»٥ وقد انضم إلى هذه الفئة الحانقة جماعة من أبناء كبار الصحابة أمثال: محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، أما محمد بن أبي حذيفة فقد كان تربَّى في كنف عثمان بعد وفاة أبيه، فلما تولى عثمان طلب إليه أن يوليه بعض الولايات فلم يقبل عثمان؛ إذ بلغه أنه شرب الخمر مرة، ثم إنه قصد مصر وخرج في غزوة ذات السواري مع ابن أبي سرح، فوقعت خصومة بينه وبين ابن أبي سرح، فحقد عليه وعلى عثمان، ولما جاء ابن سبأ إلى مصر وأخذ يدعو لعلي انضم إلى هذه الدعوة كرهًا في عثمان وعماله.

وأما محمد بن أبي بكر فقد كان ربيب الإمام علي عليه السلام؛ لأنه كان تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة أبي بكر، وكان محمد بن أبي بكر والحسين بن علي عديلين؛ لأنهما تزوجا ابنتي يزدجرد الثالث ملك فارس، فلذلك انضم إلى الحركة العلوية، ولما علم محمد بن أبي بكر بأن مروان بن محمد كاتب عثمان قد كتب إلى عامل مصر ابن أبي سرح أن يقتل محمد بن أبي بكر ازدادت نقمته على عثمان، وأخذ يُحرض الناس عليه.

ولما بلغت عثمان أنباء هذه الاضطرابات والأقوال في مصر والبصرة والكوفة رأى أن يتحقق أسبابها بنفسه، فبعث محمد بن سلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، كما أراد أن يتبين حقيقة الحال في الشام فبعث عبد الله بن عمر إليها، وذهب كلٌّ إلى حيث بعث به، ورجع الجميع إلا عمَّارًا، فإن الثوار استمالوه إلى صفوفهم، وبيَّن كل من محمد بن سلمة، وأسامة بن زيد، وابن عمر، أسباب هذه الفتنة وما ينقمه الناس على عثمان، وأن سبب ذلك كله هو السخط الذي سببه ضعف الخليفة ولينه واستبداد قريش بالأمر، فأراد عثمان إصلاح الأمر، ولكن الوقت كان قد فات، فإن ابن سبأ قد اتفق هو وابن حذيفة على أن يكتب إلى ثوار العراق أن يشخصوا إلى المدينة، واتفقوا على وقتٍ معين على ذلك، فذهب ثوار مصر إلى الحجاز، واجتمعوا في الوقت المعين بثوار العراق خارج المدينة، وأخذوا يبحثون في الأمور، واتفقوا على وجوب خلع عثمان واستخلاف آخر مكانه، فقال الكوفيون: نوليها طلحة، وقال البصريون: نوليها الزبير، وقال المصريون: بل علي بن أبي طالب. ولكن عثمان بعث إليهم فاستدعاهم وفدًا وفدًا، فأما أهل مصر فإنه استدعاهم وألان لهم القول، واتفق وإياهم على تلبية كل ما طلبوه، فقفلوا راجعين إلى مصرهم، وبينما هم في الطريق رأوا راكبًا يتعرض لهم تارة ويفارقهم تارة أخرى، فتعقَّبوه وفتَّشوه فوجدوا معه كتابًا على لسان عثمان وعليه خاتمه إلى عامله على مصر يأمره فيه أن يستأصل شأفة هذا النفر من الثوار المصريين، وبخاصة محمد بن أبي بكر، وابن أبي حذيفة، فقفلوا راجعين إلى المدينة ودخلوا على عثمان وأروه الكتاب، فحلف أنه لا علم له به، فطلبوا منه أن يسلم إليهم كاتبه مروان بن محمد فأبى أن يسلمهم إيَّاه، فرجعوا إلى إخوانهم من ثوار الكوفة والبصرة، واتفقوا على خلع عثمان.

وأتى المصريون عليًّا وأعلموه بما عزموا عليه، فصاح بهم وطردهم، وقال لهم: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون على لسان محمد ، وكذلك فعل طلحة والزبير، فانصرف الجميع مظهرين الرجوع إلى بلادهم، وهم يبثون الثورة والفتك بعثمان، واتفق أمرهم على أن يُحاصروا عثمان في داره ويطلبوا منه الاستقالة وأن يخلع نفسه، فقال عثمان: لا أخلع قميصًا ألبسنيه الله عز وجل. وضيَّق الثوار الحصار عليه حتى منعوه من الصلاة في المسجد، فأرسل عثمان إلى الإمام علي وطلحة والزبير، فحضروا، فأشرف عليهم فقال: أيها القوم، اجلسوا، فجلسوا، ثم قال: «يا أهل المدينة، أستودعكم الله وأسأله أن يُحسن عليكم الخلافة بعدي، ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنكم عند مصاب عمر سألتم الله أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون إن الله لم يستجب لكم؟ وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون هان على الله دينه فلم يُبالِ من ولى، والدين لم يتفرَّق أهله يومئذٍ؟ أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة وإنما كان مكابرة، فوكل الله الأمة إذ عصته ولم يشاروا في الإمارة؟ أم تقولون إن الله لا يعلم عاقبة أمري؟ وأنشدكم الله، هل تعلمون أن لي من سابقة خير وقدم خير قدَّم الله لي بحق على كل من جاء منكم بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلًا، لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفسًا بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا.»

فقال الثوار: أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك فإن كل ما صنع الله خير، ولكن الله جعلك بَلِيَّة ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرتَ من قدمك وسابقتك مع رسول الله فقد كنتَ كذلك، وكنتَ أهلًا للولاية، ولكن أحدثتَ ما علمت، ولا نترك إقامة الحق عليك خوف الفتنة عامًا قابلًا، وأما قولك إنه لا يحق إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في دين الله غير الثلاثة الذين سميتَ، قتل من سعى في الأرض فسادًا، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك، وقد تمسَّكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنك لم تكابر عليها فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك.

فلم يجبهم عثمان إلى ما طلبوا، وأخذ ينصحهم ويهددهم، فلم يُجْدِ التهديد ولا النصح، وظلوا مصرِّين على طلب خلعه نفسه فلم يقبل، وقدم كثير من أهل المدينة يطلبون إليه أن يذبُّوا عنه، فأمرهم بالانصراف وعدم مقاتلة الثوار، فلعل عقولهم تحول دون إحداث الفتنة في حرم الله، وكان يُكثِر الخُطَب في الثوار، ويُرسل إليهم كبار الصحابة كالإمام علي، وطلحة، وعبد الله بن عباس وغيرهم يعدهم بإجابة مطالبهم، فيأبون إلا عنادًا وفسادًا، ثم عزموا أن يقطعوا عنه الماء والغذاء، فنهاهم الإمام علي بن أبي طالب عن ذلك فلم ينتهوا، وجاءته أم حبيبة بنت أبي سفيان بإداوة ماء فضربوا وجه بغلتها بالسيف ونفرت، وكادت أم المؤمنين أن تسقط عنها، ثم تراجعت، ولما اشتد العطش بأمير المؤمنين أشرف على الناس، فقال: أنشدكم الله، هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي يستعذب بها، وجعلت رشائي كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: فلِمَ تمنعوني أن أشرب الماء حتى أفطر على ماء البحر.

وحان موعد الحج وعثمان محصور، والمدينة في بلاء، فطلب عثمان من عبد الله بن العباس أن يحج بالناس، وكتب معه كتابًا أبان للناس فيه ظلم الثوار إيَّاه وبهتانهم عليه، وأنه إن كان قد أخطأ في أمر فإنه يتوب منه، والله يقبل التوبة من عباده، ويعتذر عما بدر من عماله، ويعد الناس بحسن السيرة والعدل وأنه لن يخلع نفسه، ولما قرأ ابن عباس كتاب عثمان يوم التروية وأراد نفرٌ من المسلمين نصرته منعهم الثوار، وخافوا إن طال الأمد أن تأتي الأمداد من الأقاليم إلى عثمان، فقصدوا الدخول عليه واغتياله، ولكن أبناء الصحابة وقفوا دونهم، واستطاع الثوار أن يحرقوا باب الدار، ودخلوا على عثمان فوجدوه يقرأ القرآن، فأحاطوا به وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، فأبى، فقتلوه، وكان ذلك في ثاني عشر ذي الحجة من سنة ٣٥ﻫ، وكان له من العمر ٨٢ عامًا، وكان القاتل له رومان بن سرحان، ضربه بحديدة على رأسه، وجاء آخر ليضربه بسيفه فأكبَّت عليه زوجته السيدة نائلة بنت الفرافصة لتدافع عنه فقُطع إصبعها، ثم قطعوا عنقه، وانتهبوا بيت المال، وكان مقتله يوم الأربعاء بعد العصر، فلم يُدفَن إلا يوم السبت وظل مطروحًا يومه إلى الليل، فحمله بعض الرجال ليدفنوه يومه فتعرض لهم الثوار ومنعوهم، فدفنوه ليلًا، وصلى عليه جبير بن مطعم وأخفي قبره.

هذه هي فصول مأساة الفتنة العظمى، ويظهر أن سكان المدينة قد تواكلوا عن نصرة الخليفة والدفاع عنه؛ لأنه من المستبعد جدًّا ألا يستطيع أهل المدينة كلها وفيهم الأبطال والفُضلاء وكبار الصحابة وأصحاب الرأي أن يقفوا أمام تلك الشرذمة من الثوار، ولكن تهاون الخليفة وتسليمه الأمر إلى نفر لا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة، وانصراف جماعة كبار الصحابة عن حل هذه المشكلة التي وقع بها الخليفة قد أدى إلى وقوع هذه الكارثة الكبرى التي مزَّقت الإسلام شرَّ ممزق، واستمر جرحها العميق في قلب الإسلام إلى مدًى بعيد.

(٤) تفصيل الأسباب التي تذرَّع بها الثوار في قيامهم في الفتنة

نقم الناس على عثمان في أمور تقدَّم إجمال بعضها، ونحب ها هنا أن نُفصِّل تلك الأمور بذكر النقاط التالية:
  • الأول: أول ما نقم الناس على عثمان أنه عزل جماعة من الصحابة من أعمالهم التي ولَّاهم إيَّاها عمر، وولَّى مكانهم أُناسًا مطعونًا فيهم، فمن ذلك أنه عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة، وتوليته إياها لعبد الله بن عمر، وعزله عمرو بن العاص عن مصر وتوليتها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد ارتد زمن النبي ولحق بالمشركين، فأهدر النبي دمه بعد الفتح إلى أن أخذ عثمان له الأمان ثم أسلم، وعزله عمار بن ياسر عن الكوفة، وعزله عبد الله بن مسعود عن الكوفة.
  • والثاني: زعموا أنه أسرف في إنفاق بيت أموال المسلمين في أمور منها أن الحكم بن العاص لما رده من الطائف إلى المدينة — وقد كان طرده النبي إلى الطائف — أعطاه من بيت المال مائة ألف درهم، وجعل لابنه الحارث سوق المدينة يأخذ منها عشور ما يُباع فيها، ومنها أنه وهب لمروان بن محمد خمس إفريقية، ومنها أنه أعطى عبد الله بن خالد بن أسد أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، ومنها ما حكاه أبو موسى الأشعري، قال: كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة لم يلبث أن يقسمه بين المسلمين حتى لا يبقي منه شيئًا، فلما ولي عثمان أتيت به، فكان يبعث به إلى نسائه وبناته، فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت.
  • والثالث: أنه حبس بعض كبار الصحابة، مثل: عبد الله بن مسعود، فإنه منعه وحبس عطاءه، ونفاه إلى الربذة إلى أن مات لا لذنب أذنبه، وفعل مثل ذلك مع أبي ذر الغفاري.
  • والرابع: رووا أنه حمى سوق المدينة، ومنع الناس أن يشروا منه حتى يشتري وكيله ما يحتاج إليه لعلف دوابه.
  • والخامس: أنه حمى بقيع المدينة، ومنع الناس منه، وزاد في الحمى أضعاف البقيع.
  • والسادس: أنه حمى البحر من أن تخرج منه سفينة إلا في تجارته.
  • والسابع: أنه أقطع أصحابه إقطاعاتٍ كثيرة في بلاد الإسلام لم يفعل مثلها مَن سبقه.
  • والثامن: أنه استدعى عبادة بن الصامت وعاتبه على فعله حين كتب إليه معاوية أنه قد تعرض إلى قطار جمال تحمل خمرًا فأراقها عبادة.
  • والتاسع: أنه قال عن عبد الرحمن بن عوف: إنه منافق. لما بلغه أنه ندم على توليته إيَّاه لما عاتبه بعض الصحابة على توليته، فلما بلغت كلمته عبد الرحمن حلف أنه لا يكلمه حتى يموت.
  • والعاشر: أنه ضرب عمار بن ياسر ووطئه حين حمل إليه كتاب الصحابة ينصحونه ويُخوِّفونه نتائج إهماله، فرمى بالكتاب وداس عليه حتى أُغمِيَ عليه.
  • والحادي عشر: أنهم زعموا أنه أحرق مصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أُبَي، وجمع الناس على مصحف زيد بن ثابت، فلما بلغ ذلك ابن مسعود وكان عند بعض أصحابه نسخة من مصحفه بالكوفة فأمرهم بحفظها وقال لهم: قرأت سبعين سورة وإن زيدًا لصبي.
  • والثاني عشر: أنه خالف الجماعة بإتمام الصلاة بمنى، مع أن رسول الله وأبا بكر وعمر قصروا بها الصلاة.

هذه هي التهم التي وُجِّهت، وما نحب أن نطيل الوقت في مناقشتها والدفاع عن الخليفة، فإن بعضها صحيح وبعضها هفوات، وقد أراد الخليفة أن يتراجع عنها في آخر وقت، وندم ولات ساعة مندم، كما سنبين ذلك في الفصل الآتي.

١  الطبري: ٥، ٧٥.
٢  انظر تفاصيل أخبارهم في: تاريخ الطبري، ١٥، ٨٩-٩٠.
٣  انظر أوليات عثمان في كتاب الأوائل للسيوطي الذي نشرناه ببغداد.
٤  مروج الذهب للمسعودي، ١، ٤٣٤.
٥  تاريخ الطبري: ١، ٢٩٤٢، ط. أوروبا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤