الفصل الأول

في نسبه وأوَّليته وإسلامه

هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي الهاشمي، عليه السلام، وأمه السيدة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي الله عنها)، كانت من السابقات إلى الإسلام، وهي التي ربَّت النبي وتعهَّدت برعايته لما كفله أبو طالب، وقد ولدت لأبي طالب خمسة أولاد: طالبًا، وعقيلًا، وجعفرًا، وعليًّا، وأم هانئ، وتوفيت بالمدينة، وشهد موتها الرسول الأعظم، وتولَّى دفنها وأشعرها قميصه، واضطجع في قبرها وبكى عليها وقال: جزاكِ الله من أم خيرًا؛ فقد كنتِ أحسن خلق الله صنيعًا إليَّ بعد أبي طالب وأمي رحمها الله ورضي عنها.

ولدت هذه السيدة الجليلة عليًّا قبل الهجرة بإحدى وعشرين سنة في الكعبة، وقال الذين وصفوه: كان علي ربعة من الرجال، أدعج العينَين عظيمهما، حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، عظيم البطن، عريض المنكبين، له مشاش كمشاش السبع الضاري، لا تبين عضده من ساعده، أدمج إدماجًا، شثن الكفين، عظيم الكراديس، أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كثير شعر اللحية أبيضها، لا يصبغها، وكان إذا مشى تكفَّأ، وإذا سار إلى الحرب هرول، وكان قويًّا؛ ما صارع أحدًا قط إلا صرعه.١

وكان علي هاشمي الأبوين، فورث عن بني هاشم كثيرًا من صفاتهم المعروفة بهم من نبل.

وقد سمته أمه حيدرة، وهو الأسد، تشبهًا له بأبيها وتأسِّيًا باسمه، ثم رأى أبوه أن يُغير الاسم فسماه عليًّا، وعُرف بالاسمين معًا، ولكنه اشتُهر بالثاني.

تربى علي في بيت النبي الكريم؛ فقد روى المؤرخون أن أبا طالب كان رقيق الحال ذا عيال، وأن النبي أراد أن يفي عمه أبا طالب ببعض حقه حين كفله وهو صغير، فطلب إلى عمه أن يُربِّي عليًّا في بيته، فقبل أبو طالب، ونشأ علي في حضانة النبي ورعايته، فعلَّمه الرسول مكارم الأخلاق، وخرَّجه أفضل تخريج، ولما ابتعث الله نبيه محمدًا كان علي من أوائل من أسلموا، وقد اختلف المؤرخون في سن علي وقت إسلامه، وقد أحصى ابن عبد البر روايات المؤرخين في ذلك فإذا هي خمس، أولها: رواية أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن الذي يقول إنه والزبير أسلما وهما ابنا ثماني سنين، والثانية: رواية ابن إسحاق، وهي أنه أسلم وله عشر سنين، والثالثة: رواية عبد الله بن عمر، وهي أنه أسلم وله ثلاث عشرة سنة، والرابعة والخامسة: هما روايتا الحسن الذي يتردد بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة.٢
وأقرب هذه الروايات إلى الصحة هي رواية المؤرخ ابن إسحاق؛ لأنها الأشهر والأقرب إلى تسلسل الحوادث التاريخية، وابن إسحاق أعلم بالنواحي التاريخية من غيره، وهو حُجَّة ثقة في أخبار السيرة النبوية وحوادث كبار رجالات الإسلام. قال ابن حجر في الإصابة: «أبو الحسن أول الناس إسلامًا في قول كثير من أهل العلم، وُلد قبل الهجرة بعشر سنين على الصحيح.»٣
وعلى هذا يكون علي هو أول من أسلم بعد السيدة خديجة، قال إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي روايةً عن أبيه عن جده: كنت امرأً تاجرًا، فقدمت للحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرأً تاجرًا، فوالله إني لعنده بمنى؛ إذ خرج رجل من خباءٍ قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت قام يُصلي، قال: ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام قد راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معهما يصلي، فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قلت: مَن هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: من هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمه، قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يُصلي، وهو يزعُم أنه نبي، ولم يتبعه فيما ادَّعى إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام، وهو يزعم أنه سيُفتَح عليه كنوز كسرى وقيصر. وكان عفيف يقول بعد أن أسلم وحسُن إسلامه: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذٍ فأكون ثانيًا مع علي.٤

ومهما يكن من أمر فإنه قد أسلم وقت ميلاد العقيدة الإسلامية؛ لأنه كان في حجر النبي الكريم حين إعلان الدعوة الجديدة، وكان النبي يرعاه خير رعاية، ويعلمه معالم الحنيفية، فملأ الدين قلبًا خاليًا إلا من الفطرة السليمة، طاهرًا لم يُكدِّره وضر الجاهلية، ولا أفسدته تقاليد الوثنية.

وهكذا نشأ الإمام علي عليه السلام في بيت النبي فأحسن تعهُّده، وغذَّاه بروح الإسلام السمحة، وخلَّقه بأخلاق النبوة الطاهرة، فتغذَّى بذلك أحسن تغذية، وتخلَّق به أمكن تخلُّق، وهكذا يثبُت ما يقال من أنه عليه السلام أول مسلم تمكن الإسلام من قلبه فلم يُخالطه أوضار الوثنية، وأنه أول مسلم تعشَّق الإيمان قلبه تعشُّقًا صادقًا عميقًا قويًّا، جعله يضحي بكل شيء في سبيله، ويبذل راحته وروحه وماله وولده، وتسلسلت التضحيات منه ومن بنيه في خدمة الإسلام والذب عن تعاليمه منذ فجر يومه الأول، وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إن في سيرة ابن أبي طالب وابنه الحسين — نضَّر الله وجهه — لعبرة لا تنفد، وهما كما قال فيلسوف الإسلام وشاعره أبو العلاء:

وعلى الأفق من دماء الشهيديـ
ـن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن وفي أولياته شفقان

وإن في تاريخ آل أبي طالب جميعًا سجلًّا للبطولات والتضحيات في سبيل هذه الأمة العربية المسلمة، تبلى الأيام والليالي ولا يبلى؛ لما يجد المتعمق في دراسته من معالم قوة الإيمان، وصدق الإحسان، والإخلاص الواضح، والتفاني في رفع شأن كلمة الله وخدمة العروبة خاصة والأمة الإسلامية عامة.

١  الرياض النضرة: ٢، ١٥٥-١٥٦.
٢  الاستيعاب لابن عبد البر: ٢، ٤٥٨.
٣  الإصابة: ٤، ٢٦٩.
٤  الاستيعاب لابن عبد البر: ٢، ٢٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤