الفصل الثاني

في إجمال حياته وسيرته عليه السلام

وُلد علي عليه السلام في السنة الثانية والثلاثين من ميلاد الرسول؛ أي: سنة إحدى وعشرين ق.ﻫ. ولما بُعث الرسول بالنبوة كان علي دون سن البلوغ، وكان يساكنه في منزله كما أسلفنا، وقد كفله رسول الله وعُني بأمره، ونشَّأه في بيته نشأةً إسلامية، فلم يتدنَّس بدنس الجاهلية، وتهذَّب بآداب الديانة المحمدية، وكان ذا نفسٍ كريمة طاهرة، شجاعًا لا تلين قناته، ولما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة فداه عليٌّ بنفسه ونام في فراشه ليوهم أن الرسول لم يزل نائمًا فلا يتبعه المشركون المتآمرون عليه ويُفسدون خطة الهجرة إلى المدينة كما رسمها الرسول لنفسه، ثم لحقه بعد قليل إلى المدينة وشهد معه كل غزواته إلا غزوة تبوك، فإنه استخلفه فيها على أهل بيته، ولما رأى في وجهه كرهًا لذلك ولبقائه مع النساء والولدان قال له يُطيِّب نفسه: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي؟

وقد زوَّجه الرسول ابنته فاطمة عليها السلام في السنة الثانية من الهجرة، فوُلد له منها: الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، وأم كلثوم (رضي الله عنهم).

وناب عن الرسول في قراءة أوائل سورة التوبة في موسم الحج إيذانًا ببراءة الله ورسوله من المشركين، ولما تُوفي رسول الله وبويع أبو بكر، بايعه علي مع أنه كان يرى لنفسه حق الخلافة عن رسول الله لشدة قرابته منه، ولكنه كره انقسام المسلمين وتفريق كلمتهم.

ولما ولي عمر بايعه كذلك وزوَّجه ابنته، وكان عمر كثيرًا ما يستخلفه على المدينة إذا ما غاب عنها، ولما أحسَّ عمر بدنوِّ أجله — على ما أسلفناه — كان يحب أن يخلف عليًّا عليه السلام لما يعهده فيه من الحنكة والإخلاص وقوة الشكيمة، ولكنه لم يفعل ذلك؛ لأنه خشي فيما يظهر أن يفرض على المسلمين رأيه، وليته فعل، وإنما ترك للمسلمين أنفسهم يختارون من يشاءون لخلافة رسول الله، ووكل هذا الأمر إلى جماعة من أشراف المسلمين وعقلائهم، وبعد اجتماع هؤلاء وتداولهم في الأمر قرَّ رأيهم على انتخاب عثمان بن عفان كما سبق تفصيله فيما سلف.

وفي أيام عثمان ظهرت الاضطرابات السياسية، وقام الثوار على عثمان؛ لأنه عزل معظم العمال الذين كان عمر قد ولَّاهم واستعاض عنهم بعمال من أقربائه وعشيرته، وكان الإمام علي عليه السلام كثيرًا ما يُشير على عثمان ويُرشده إلى سبيل الخير وطرق الصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولكنه لم يسمع منه، فانصرف الإمام علي إلى تثقيف جمهور المسلمين هو وابن عمه عبد الله بن عباس، فكانا يقومان بوعظ الناس وتحليق الحلقات العلمية والدينية والأدبية، ولعل هذا هو أول نواة للحركة العلمية المنظمة في الإسلام على ما سنُبينه فيما بعدُ.

ولما حم القضاء وقُتل عثمان شهيدًا دعا المسلمون الإمام عليًّا إلى أن يلي الخلافة، فكره ذلك أول الأمر لما رأى من اضطراب الأمة وانتشار روح الفوضى والفتنة بين صفوفها، ولكنه عاد فرضي بذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة ٥٣ﻫ.

وقد نقل المؤرخ الهندي الثقة السيد أمير علي عن المؤرخ الفرنسي سديو أنه قال: يُخيَّل للمرء حينما بويع الإمام علي بن أبي طالب أن الكل سيُطأطئ هامته أمام هذه العظمة المتلألئة النقية، غير أنه قد كان قُدِّر غير ذلك،١ وقد علَّق السيد أمير علي على هذا الكلام بقوله: «فلقد أحاط به في بادئ الأمر أعداء بني أمية، ولكنه لم يحتط للدسائس، وأبى أن يُقر عمال عثمان مدفوعًا بشرف الغاية التي كانت من أبرز مميزاته، وبرغم النصائح التي أُسديت إليه لمسايرة الظروف فقد انتزع الأملاك التي أقطعها عثمان لأتباعه من بيت المال، وقسَّم الخراج طبقًا للقواعد التي سنَّها عمر، فجلبت عليه هذه الإجراءات الحازمة سخط من أثروا في العهد السابق، وقد تنازل بعض العمال عن مناصبهم دون مقاومة، بينما رفض آخرون النزول على أمر الخليفة الجديد، ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان.»٢
ولقد قام علي بأعباء الخلافة خمس سنوات، ولكن الاضطرابات لم تجعله يستريح يومًا واحدًا منها؛ فقد انقسم الناس في أمر بيعته، فقبل بعضهم بها، وتردد آخرون، كسعد بن أبي وقَّاص، وعبد الله بن عمر، وتخلَّف آخرون، كحسَّان بن ثابت الشاعر، وأبي سعيد الخدري، وهرب بعضٌ إلى الشام، كالمغيرة بن شعبة، ولكن البيعة تمت بالأغلبية الساحقة، وأول من بايعه عليه السلام هما: طلحة والزبير، ثم المهاجرون والأنصار، ثم بقية الناس.٣

وأول ما لقي عليه السلام من العقبات: خروج عائشة الصدِّيقة عليه للمطالبة بدم عثمان، وقد انضم إليها نفر من كبار المهاجرين، وفي طليعتهم طلحة والزبير، فخرجت بجمع إلى البصرة تستنجد بأهلها، ولحق بها الإمام عليه السلام، والتقى الجمعان في منتصف جمادى الآخرة سنة ٣٦ﻫ على ما نُفصِّله فيما بعدُ.

ثم إن الإمام بعث إلى معاوية في الشام يطلب إليه ألا يشق عصا الطاعة، فلما لم يُصغ لقوله سار إليه من الكوفة إلى صفِّين في تسعين ألف مقاتل لخمسٍ بقين من شوال سنة ٣٦ﻫ، وسار معاوية في خمسة وثمانين ألفًا،٤ والتقى الجيشان بصفين، وكادت الدائرة تدور على أهل الشام، وكاد معاوية أن يفر من المعركة لولا أنه — فيما يُروى عنه — تذكر أبيات ابن الإطنابة، وهي قوله:
أبَتْ لي عفتي وأبى بلائي
وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانكِ تحمدي أو تستريحي

وأدرك عمرو بن العاص خطورة الموقف، فأشار على معاوية برفع المصاحف على الرماح والسيوف، وأن ينادي: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فانخدع العراقيون بذلك، وكان أمر التحكيم على ما سنُفصِّله.

وبعد أن تم أمر التحكيم انصرف أهل الشام إلى معاوية يسلمون عليه بالخلافة، وانصرف العراقيون متفرقين واضطربوا على الإمام، بل خرجت منهم طائفة عليه تُحاربه.

وشتَّان بين أنصار الإمام وأنصار معاوية؛ فقد ذهب أولئك مشتتي الكلمة، وذهب هؤلاء صفًّا واحدًا، وقد أراد الإمام عليه السلام أن يعود ثانية لمحاربة معاوية، ولكن الخوارج أفسدوا عليه أمره؛ لأنهم ساروا نحو «المدائن» يفسدون الحرث والنسل ويحملون عليه، فاضطر إلى أن يلحق بهم ويحاربهم، ويقتل منهم مقتلةً كثيرة في النهروان، وكانت حوادث النهروان السبب في مقتل الإمام عليه السلام كما سنشرح ذلك بعد.

(١) مزاياه النبيلة عليه السلام

كان الإمام على جانبٍ عظيم من المزايا الخلقية والخُلُقية الرفيعة كما أسلفنا، وكانت الشجاعة أبرز تلك المزايا؛ فقد كانت جرأته مضرب الأمثال، وليس أدل على ذلك من مخاطرته بنفسه ليلة هجرة الرسول إلى المدينة كما رأينا، مع معرفته بأن قريشًا تريد قتل الرسول في تلك الليلة، وكان الإمام من أشد الناس وطأة على المشركين في الغزوات التي لم يتخلف عن واحدة منها، وعلى يدَيه الطاهرتَين فُتحت خيبر رغم شدة تحصينها، وكان زاهدًا عفيفًا، حريصًا على ألا يُضَيِّع أموال المسلمين، مؤثِرًا للخشونة، ومن أقواله في ذلك: تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه …

وروى هارون بن عنزة عن أبيه قال: دخلت على عليٍّ بالخورنق، والفصل شتاء، وعليه خلق قطيفة وهو يرعد منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبًا، وأنت تفعل هكذا بنفسك؟ فقال: والله ما أرزأكم شيئًا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.٥
وأما علمه؛ فقد كان في أسمى الدرجات، وكان على جانبٍ عظيم من الثقافة العربية الشائعة في ذلك الحين، وكان من أعلم الصحابة إن لم يكن أعلمهم بالقرآن والسنة وأحكام الدين، وقد رُويَ عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها.» وكان عبد الله بن مسعود يقول: «أفرض أهل المدينة وأقضاها علي.»٦ وكان أبو بكر وعمر وعثمان يرجعون إليه في المشاكل العلمية والقضائية، وفي كثير من معرفة أحكام الدين، وكان عبد الله بن عمر يقول: «أعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن.»٧
وأما فصاحته، فكانت في أعلى الدرجات، بل كانت مضرب الأمثال، وكان يلقي بالقول فيأخذ بمجامع القلوب، ويخطب الخطبة فيثير النفوس، كما كان أشعر الخلفاء الراشدين. روى السيوطي في «تاريخ الخلفاء» أن أبا بكر الصديق كان يقول الشعر، وأن عمر كان يقوله، وأن عثمان كان يقوله أيضًا، وكان علي عليه السلام أشعرهم،٨ وسنرى تفصيل هذا فيما بعدُ.
وأما أدبه فقد كان عليه السلام أفصح العرب؛ لأنه تربى في حجر الرسول ، وتأثر به وبالقرآن كل التأثير من نعومة أظفاره، زد على ذلك تلك الهبة الإلهية التي يصطفي الله بها من يشاء من خلقه، فتنفجر بذلك منهم ينابيع البلاغة؛ كل هذه الأسباب، وكذلك الأحوال السياسية جعلت منه خطيبًا فصيحًا، وإمامًا من أئمة البيان، وهو كما قال الشريف الرضي: مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائلٍ خطيب، وبكلامه استعان كل واعظٍ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا، ولأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.٩
وقد كان للفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية أثرها القوي في إنتاجه عليه السلام وشيعته إنتاجًا أدبيًّا عجيبًا، كما كان لها الأثر العظيم في إنتاج الأمويين وجماعتهم وإن شقي بها المسلمون دهرًا طويلًا، وإنك لترى مصداق هذا إذا ما قرأت في «نهج البلاغة» قوله في بني أمية: «ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنةٌ عمياءُ مظلمة، عمَّت خطتها، وخصَّت بليَّتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها، وايم الله لتجدن بني أمية بكم أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتَزْبِنُ برجلها، وتمنع درها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعًا لهم أو غير ضائر بهم، ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحد منكم إلا كانتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاءَ مخشية، وقطعًا جاهلية، ليس فيها منار هدى، ولا علم يُرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدُعاة، ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفًا، ويسوقهم عنفًا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف، ولا يُجلسهم إلا الخوف.»١٠
ومن ذلك قوله عليه السلام في عمرو بن العاص: «عجبًا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن فيَّ دُعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس، لقد قال بُطلًا، ونطق إثمًا، أما — وشر القول الكذب — إنه ليقول فيكذب، ويَعِدُ فيخلف، ويسأل فيلحف، ويُسأل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الإل، فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو؟! ما لم تأخذ السيوف مأخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سُبته، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيانه الآخرة، وإنه لم يبايع معاوية حتى شَرَطه أن يؤتيه أتيَّة، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.»١١

ففي هاتين الفقرتَين اللتين أوردناهما من كلامه عليه السلام نرى قدرةً عجيبة على البيان والخطابة، وانتقاء الألفاظ، ووضعها في مواضعها، وليس من شك في أن لصفاء ذهنه وسمو عقله وتربيته الأدبية الراقية أثرًا كبيرًا في ذلك، وليس أدل على صفاء ذهنه وسمو عقله مما يُروى عنه أنه كان يصف الناس وحالاتهم النفسية، ويقرأ ما تكنُّه صدورهم، ويدرك ما تخفيه نفوسهم، ولعل كثرة مرافقته للرسول وتأدبه بأدبه واقتباسه من نوره قد أثَّر فيه هذا التأثير الطيب؛ فأنت ترى في خطبه ومناقشاته ووعظه ورسائله روحًا جديدة كل الجدة عما كنت تراه في الآثار الأدبية العربية من قبلُ، وهو وراء هذا كله قد ضرب بسهمٍ وافر في كل شأن من شئون الحياة الاجتماعية إذ ذاك، فإذا تكلم عن الزهد كان أخبر المتكلمين فيه، وإذا قال في ذم الدنيا وأهلها جاءك بالقول الفصل، وإذا حرَّض على القتال ومحو الفتنة كان سيد القائلين، وإذا أوصى أو حذَّر كان خير المتحدثين، كل هذا قد جاءه من حسن خبرته بالحياة، ومن نفسه الصافية، وأدبه منبعث عن فصاحة وبيانٍ صادرَين عن قلبٍ عارف وعقليةٍ سامية، وثقافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ واسعة؛ فبينا هو يُحدثك بأسلوب عليه مسحة من القرآن وبلاغته إذا هو ينتقل بك طفرة إلى أسلوب فيه قوة الجاهلية وجزالتها وتشبيهاتها وصورها، وهذه قدرة على البيان والخطابة لا نعرفها في أحد من العرب قبله أو بعده إلا في الرسول .

وأما كتابته فلم تكن أقل إتقانًا من خطابته، وهو إذا كتب كان يسلُك مسلكًا فنيًّا، يطيل حين يكتب ما تنبغي الإطالة فيه من عهد أو تولية يذكر فيهما بإسهاب ما ينبغي أن يكون عليه العامل الوالي من حُسن السياسة وإدارة البلاد، ويوجز حين يرى الإيجاز أبلغ، وأنه لا فائدة من الإطالة، ودليلنا على ذلك أنك إذا قرأت له عهده الذي كتبه للأشتر النخعي حين ولَّاه مصر وأعمالها وقت اضطراب أمر محمد بن أبي بكر الصديق فيها،١٢ أو قرأت كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري،١٣ وجدت فيهما على طولهما طريقةً فنيةً عجيبة في الكتابة والخيال الرائع والسجع الجميل المقبول، وتضمين ذلك شعرًا وأمثالًا وحِكمًا، فالإمام عليه السلام في رأينا هو أول كاتب فني ظهر في الإسلام، ومنه استقى عبد الحميد بعده، وعلى غراره طبع ابن المقفع قوله، وعنه أخذا أسلوبهما، وبكلامه وطريقته الفنية تأثَّرا.
ولم يكن عليه السلام خطيبًا وكاتبًا وحسب، بل كان حكيمًا مفكرًا، بل لعله أول مفكر ظهر في الإسلام، وتبصَّر في الحياة، وقال فيها أقوالًا تدل على عقلٍ حكيم، وفكرٍ صائب، والحق أن حكمة الإمام تتجلى واضحة فيما أُثر عنه من الحكم والنصائح، ونحن إذا رحنا نستقصي ما صحَّ من آثاره نرى أن حكمته عليه السلام تنحصر في الموضوعات التالية:
  • (١)

    رأيه في الخالق سبحانه، وتقديسه وتنزيهه وتحليل صفاته.

  • (٢)

    رأيه في المؤمن، وما يجب أن يكون عليه من صفات ومزايا تقربه من الله تعالى.

  • (٣)

    إرشاداته للإنسان فيما ينبغي له عمله حتى يعيش بين إخوانه عيشةً سعيدة كلها إخاء ومحبة.

  • (٤)

    نصائحه للإنسان في تحديد واجباته نحو نفسه.

  • (٥)

    رأيه في السياسة والحكومة والقضاء.

  • (٦)

    رأيه في المرأة وأحوالها.

أما رأيه في الخالق فيتجلى في كثير من خطبه، فمن ذلك قوله: «الحمد لله الذي لا يبلغ حرمته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعدُ الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدٌّ محدود، ولا نعتٌ موجود، ولا وقتٌ معدود، ولا أجلٌ محدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتَّد بالصخور ميدان أرضه، أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه … كائن لا عن حدث، وموجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة.»١٤

هذا طرف من عقيدة الإمام عليه السلام في البارئ سبحانه وتنزيهه، وهي العقيدة التي جاء بها الإسلام، ولكن الإمام أرسل عليها قبسًا من بلاغته، وكان عليه السلام يكره البحث في حقيقة الإله، والقضاء والقدر، وغيرها من الأمور الغيبية؛ فقد سأله مرة أحد الناس أن يصف له الله — تعالى عن ذلك — فوبَّخه ونهاه عن البحث في أمثال هذه الأمور، وقال فيما قال له: «اعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم، عن اقتحام السدود المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب.» والحق أن رأي الإمام عليه السلام في هذه القضية لا يتجاوز عقيدة الإسلام وعقيدة أهل السنة والتوحيد المطلق، وآراؤه بهذا الصدد منثورة في ثنايا «نهج البلاغة». وأما رأيه في المؤمن وما يجب أن يتصف به ليتقرب من الله سبحانه فيمكن تلخيصه في:

البعد عن الهوى ومطاوعة الشيطان وطول الأمل، والزهد في الدنيا، مع القيام بجميع واجبات الله سبحانه. ومما ورد عنه في ذلك قوله في وصف قوم خرجوا على الحدود الدينية: «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكًا، واتخذهم له أشراكًا، فباض فيهم وفرَّخ في صدورهم، ودبَّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيَّن لهم الخَطَل، فِعْل من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه.»١٥
وأما إرشاداته ونصائحه للناس فيما يجب أن يتصفوا به ليعيشوا سعداء متآخين آمنين، فتتجلَّى في دعوته إلى فاضل الأخلاق وكريمها، كقوله: «واحذر كل عمل يُعمَل به في السر ويُستحى منه في العلانية.» وقوله: «إن أبغض الخلائق إلى الله جل جلاله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، ورجل قَمَشَ جهلًا مُوضِعٌ في جُهَّال الأمة، عادٍ في أغباش الفتنة، عَمٍ بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالمًا وليس به بكر، فاستكثر من جمعٍ ما قل منه خير مما كثر.»١٦

فأنت ترى من وراء هذه الكلمات نفسًا عرفت حقائق هذه الحياة وخبرتها، ففاض بها لسان الإمام ببيانٍ ساحر، ونظمٍ عجيب، ولو رحت تستقصي ما قاله في هذا الباب لرأيت أن النظريات الأخلاقية والمواعظ الاجتماعية والخطط العسكرية التي أوردها في خطبه هي ملاك الحياة، وتضم نظامًا اجتماعيًّا قويمًا نافعًا للناس في حالتَي: السلم والحرب.

وأما نصائحه للمرء في تحديد واجباته نحو نفسه ليعيش سعيدًا هانئًا، فهي كنصائحه إليه ليعيش مع الناس، وإن من أوجب ما حضَّ الإنسان عليه في هذا الموقف أن يخالف هوى النفس؛ لأنها أمارة بالسوء، قائدة إلى الشر: «من لم يُعَنْ على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ.» و«لا يعجب الإنسان بنفسه، ولا يغتر بشبابه وماله، فإن هذا كله عَرَضٌ فانٍ.» و«إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.»

وأما رأيه في السياسة والحكومة والقضاء فقد أكثر من الكلام فيه، ويمكننا تلخيص أقواله بالنقاط التالية:

إنه يرى أنه لا بد للمسلمين من أمير يُنصِّب نفسه لإقامة الحدود، وسياسة الدولة، و«لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر … ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويُستراح من فاجر.»١٧ أما صفات هذا الإمام عنده فتتجلى في قوله: «من نصَّب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بعلم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه.» وقوله: «أقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش.» وكان يرى أن لا بد من إطاعة الناس لإمامهم، وأنهم إن تفرقوا في ذلك شيعًا وأحزابًا ضلَّ سعيهم. وقد أكثر الإمام من بيان ضرر الخروج على جماعة المسلمين وعدم إطاعة الأمير؛ لأنه عليه السلام لاقى آثاره السيئة في خروج الناس عليه وعدم إطاعتهم إياه في كثير من المواطن، قال: «مُنِيتُ بمن لا يطيع إذا أمرتُ، ولا يُجيب إذا دعوتُ، لا أبا لكم ما تنتظرون ينصركم ربكم، أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحمسكم؟ أقوم فيكم مستصرِخًا، وأناديكم متغوِّثًا فلا تسمعون لي قولًا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام.»١٨
وكان يرى أن خير السياسة هي سياسة الشورى والمداولة مع أولي الحل والعقد من عقلاء الأمة، قال: «من استبد برأيه هلك، من شاور الرجال شاركها في عقولها.» وأما آراؤه في العمال والقُضاة فخلاصتها أنه يطلب إليهم أن يتخلقوا بالتواضع والمواساة والمساواة بين الناس، وأن يكون آثرهم عندهم أفضلهم وأقوَلُهم للحق وأبعدهم عن الأشرار، قال يوصي الأشتر النخعي لما ولاه على مصر: «إن شر وزرائك من كان للأشرار وزيرًا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكون لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد فيهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالمًا على ظلمه، ولا آثمًا على إثمه … فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقوَلُهم بمُرِّ الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه … ثم رُضْهُم على ألَّا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدِث الزهو.»١٩
وأما القضاة فكان له معهم شأنٌ عظيم، ومن أجمع وصاياه إليهم قوله في كتاب عهد الأشتر النخعي: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به أمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرُّمًا بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشُّف الأمور، وأحزمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثِر تعاهد قضائه، وأفسِح له في البذل ما يزيل علته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس، وأعطِهِ من المنزلة عندك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرًا بليغًا.»٢٠ فأنت ترى في هذه المقطوعة دستورًا من دساتير الفصاحة والقضاء لا يقل كمالًا عن أحدث ما وصلت إليه أرقى الأمم المتمدنة في عصرنا هذا.
أما رأيه في المرأة وأحوالها فهو شديدٌ قاسٍ عليها، وهو الذي قال: «المرأة شرٌّ كلها، وشرُّ ما فيها أنه لا بد منها.»، وقال: «خيار خصال النساء شرار خصال الرجال.» وقال: «يا معشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول، فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتَين كشهادة رجلٍ واحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال، فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر.»٢١ ولكنه مع هذه الشدة في الحكم على المرأة كان رحيمًا بها، مشفقًا عليها، راحمًا ضعفها؛ فقد قال من خطبته لجنده وهم بصفين: «لا تهيجوا النساء بأذًى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، وإن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالقهر أو الهراوة فيُعيَّر بها وعقبه من بعده.»٢٢

•••

هذه آراء الإمام عليه السلام في الدين والدنيا. أما آثاره في الحياة فجليلة، ومن أعظمها آثاره في الأدب العربي، فقد رأيت قبسًا من نور أدبه الذي لا يُضاهيه أي قبس حاشا القرآن الكريم والحديث النبوي؛ لأنه عليه السلام كان أفصح الناس بعد الرسول، وأشدهم قوة على التعبير الفصيح، وأبرعهم حُجَّة في الخطابة، وأملكهم لعنان اللغة واطِّلاعًا على مفرداتها، يتصرف بها كما يريد، وهو الذي تربَّى في حجر النبي فأفاد من البلاغة النبوية، والحكمة الإلهية، ووعى ما لم يعِه غيره من كلام الرسول وحالاته وحركاته في خطبه ومجالسه وأماليه، فلا غرو أن يصبح كعبة يحج إليها طلاب البيان الرفيع والفصاحة العالية، وهكذا قد كان؛ فقد تأثر الناس به في عصره وفي العصور التي جاءت بعده، فما من خطيب، وما من كاتب ولا من شاعر إلا نهل من معينه الصافي، وطبع على غراره السامي، وهذا عبد الحميد بن يحيى إمام الكُتَّاب يُجيب من سأله عن سر قدرته على الكتابة بقوله: «ضغط كلام الأصلع.» وهذا ابن المقفع يقول: «شربت الخطب العلوية ريًّا، ولم أضبط لها رويًّا، ففاضت ثم غاضت، فلا هي كلامًا وليس غيرها نظامًا.»

والحق أننا إذا فحصنا ما صحَّت نسبته إلى الإمام عليه السلام مما نجده في المصادر الموثوق بها ككتب الطبري والمسعودي والجاحظ والشيخ المفيد وابن قتيبة وجدنا لعلي عليه السلام أثرًا بارزًا في الأدب العربي.٢٣
١  مختصر تاريخ العرب، ص٤٤.
٢  المصدر السابق.
٣  الطبري: ٥، ١٥٢، المسعودي المروج: ٢-٢، الدينوري الأخبار الطوال، ص٤٢.
٤  مروج الذهب للمسعودي: ٢، ١٧.
٥  تاريخ ابن الأثير: ٣، ١٥٩.
٦  تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص١١٥، و«أفرض»: أي أعلمهم بعلم الفرائض، وهو علم تقسيم المواريث.
٧  الفخري في الآداب السلطانية، ص٨١.
٨  تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص١٢٢.
٩  نهج البلاغة: ٢ ص٢-٣.
١٠  النهج، ص١٩٣.
١١  النهج، ص١٥٢.
١٢  النهج: ٣، ٩٣.
١٣  النهج: ٣، ٧٨.
١٤  النهج: ١، ٧–٩.
١٥  النهج: ١، ٣٧.
١٦  النهج: ١، ٤٧.
١٧  النهج: ١، ٨٧.
١٨  النهج: ١، ٧٦.
١٩  النهج: ٣، ٩٧-٩٨.
٢٠  النهج: ٣، ١٠٤-١٠٥.
٢١  النهج: ١، ١٢٥.
٢٢  النهج: ٣، ١٦.
٢٣  راجع كتابنا: «الأدباء العشرة»: طبع دمشق ص٤٩–٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤